- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (040)سورة غافر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الأكارم، مع الدرس الرابع من سورة غافر، ومع الآية العاشرة وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ(10)﴾
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
1 ـ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا: كيف يكون الكافر حين يكشف الحقيقة يوم القيامة؟
يبدو أن الإنسان يوم القيامة حينما يرى مصيره الأبدي، وحينما يرى أنه خسر كل شيء، خسر نفسه التي هي أمانةٌ في عنقه، لم يزكها، بل دسَّاها، وقد قال الله عزَّ وجل:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10)﴾
حينما يرى الإنسان الحقيقة التي كان غافلاً عنها، حينما يصبح بصره حديداً أي نافذاً، حينما يُكشَف له الغِطاء، حينما تتّضح الحقائق، حينما يبدو ما كان خافياً عنه، يصيبه من الألم ما لا سبيل إلى وصفه، حتى إنه ورد في كتاب الجامع الصغير:
(( إن العار ليلزم المرء يوم القيامة حتى يقول: يا رب لإرسالك بي إلى النار أيسر إلي مما ألقى، وإنه ليعلم ما فيها من شدة العذاب. ))
فإضافةً إلى عذاب الحريق، وإلى عذاب النار المادي، هناك عذابٌ نفسي لا يحتمل، فهؤلاء الذين كفروا، معنى كفروا أي كذبوا بالحق لما جاءهم، كذبوا وأعرضوا، الإيمان: تصديق وإقبال، الكفر: تكذيب وإعراض، هؤلاء الذين كفروا يصيبهم من الألم ما لا سبيل إلى وصفه، حتى أن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَىٰ وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ ۚ
لا يحتمل الندم والخسارة أحدٌ:
أيها الإخوة، مشاعر الندم صعبة جداً، الإنسان إذا اكتشف فجأةً أنه خسر خسارةً كبيرة، الخسارة في الدنيا صعبة، خسارة المال صعبة، يكون التاجر يتمتع بصحةٍ تامَّة، وله بيت، وله مركبة، وله متجر، وله مستودعات، ومعه أموال طائلة، يعقد صفقة من الصفقات ويخسر أرباحها، وقد يخسر جزءاً من رأس ماله، تراه بأحوالٍ لا توصف، الخسارة مؤلمة، خسارة جزءٍ من المال مؤلمة فكيف خسارة المال كله؟
أطباء القلوب عندهم حالات كثيرة، أزمات قلبية حادة أساسها فقد المال، والإنسان يوم القيامة لم يفقد ماله، بل فقد نفسه، رأس ماله الوحيد لدخول الجنة تزكية نفسه، جاء إلى الدنيا وغفل عن الكون الذي سخَّره الله تسخير تعريف، استخدم عقله على خلاف ما خُلق له ـ كما قلت في الدرس السابق ـ استخدم عقله بخلاف ما خُلِق له، لم يعبأ بفطرته، نادته فطرته: لا تفعل، يا عبد الله لا تفعل، لم يستجب لنداء الفطرة، ولم يستمع لصرخة العقل، ولم ينظر إلى عظمة الكون، ولم يعبأ بهذا التشريع، ولم يستخدم حظوظه إلا في خلاف ما خُلِقت له، استخدم الشهوات لا ليرقى بها إلى رب الأرض والسماوات، بل ليهوي بها إلى أسفل السافلين.
هذا حينما يكتشف الحقيقة ماذا يحصل له؟ فتصور إنساناً باع بيته الذي في أرقى أحياء دمشق، وباع البُستان مع كل مستلزمات قضاء الإجازات، باع معمله، باع مركبته، باع المحلات، وقبض أثمانها عملةً، وذهب ليضعها في المصرف فإذا هي مزيَّفة، ففي هذه اللحظة بماذا يشعر؟ الصعقة لا تُحتَمل، الخسارة صعبة جداً، الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا.
هذا العمر ثمين، ربنا عزَّ وجل أقسم بالعصر، لأن الإنسان زمن، والإنسان يستهلكه الزمن، كلما مضت الأيام والأسابيع والشهور والسنوات استُهلك الإنسان، فإذا اكتشف بعد فوات الأوان أنه خسر كل شيء، خسر نفسه التي بين جنبيه، هذه النفس كان من الممكن أن يعرّفها بالله، كان من الممكن أن يحمِلها على طاعة الله، كان من الممكن أن يستخدم ماله، ووقته، وصحته، وعقله، ولسانه، وبيانه، وذكاءه، وخبرته في الأعمال الصالحة التي هي ثمن الجنة، كل هذا لم يحصل، جاء إلى الدنيا، وكان في غفلةٍ شديدة، انهمك في الشهوات، ثم فوجئ أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه عن كل شيء، الألم الذي يتحمله هذا الإنسان لا سبيل إلى وصفه، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول:
يا أيها الإخوة، الإنسان إذا صحا في الوقت المناسب فهذه نعمةٌ لا تُقدَّر بثمن، فما من نعمةٍ أثمن من أن تعرف الحقيقة قبل فوات الأوان، ما دمنا أحياء نُرْزَق، ما دام القلب ينبِض، ما دام في العمر فُسْحَة، فنحن مدعوون إلى معرفة خطر مهمتنا.
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا(72)﴾
ما كان ظلوماً جهولاً حينما حملها، أما إذا حملها، ولم يؤدِّها كان ظلوماً جهولاً.
يا أيها الإخوة، كل شيءٍ يعرّفنا بالله؛ الكون، القرآن، العقل، الفطرة، الحوادث، الحالة النفسية، كل شيءٍ يعرّفنا بالله عزَّ وجل، فإذا غفل الإنسان عن الله، وكذب بالحق لما جاءه، وأعرض عن الله عزَّ وجل.
الكفر بين المفهوم الواسع والمفهوم الضيق:
أيها الإخوة ما دام الحديث عن الكفر، الحقيقة أن الكفر مصطلح واسع جداً، له مفهوم واسع، ومفهوم ضيِّق.
توضيحاً لهذه الحقيقة: كلمة سيارة لها مدلول واسع، ولها مدلول ضيِّق، إذا قال واحد: أنا اشتريت سيارة، ماذا نفهم؟ أنه اشترى مركبة مصنوعة من الحديد لها محرك، تعمل على الوقود السائل، لها مقود، هذا معنى سيارة، فكيف ربنا قال:
﴿
هذه السيارة بالمعنى الواسع، أي شيءٍ يسير اسمه سيَّار، ومؤنثه سيارة، إذاً: الكلمة لها معنى واسع، ولها معنى ضيق.
الكفر الاعتقادي:
فكلمة الكفر معناها الضيِّق أن تكفر بوجود الله، أن تكذِّب بوجوده، أو أن تكذب بأحد أسمائه، أو أن تكذب بكماله، أو أن تكذب بوحدانيَّته، لا أعتقد على وجه الأرض إلا قلةٌ قليلة تنفي وجود الله عزَّ وجل، ومع ذلك في ضمائرهم، وفي عقلهم الباطن، وفي فطرتهم شعورٌ أن الله موجود، ولكن هذا الذي يؤمن بوجود الله، ولا يؤمن بوحدانيته؛ يرى آلهةً كثيرةً، كل شخص مهم يراه إلهاً، كل شخص قوي يراه إلهاً، يعبده من دون الله، فهذا أحد أنواع الكفر الذي أساسه الشِرك.
كفر، فما رأى أن الله سبحانه وتعالى إضافةً إلى أنه موجود هو واحد، إلهٌ في السماء، وإلهٌ في الأرض، ما رأى هذه الحقيقة، رأى آلهةً من دون الله، خاف منها، أطاعها في معصية الله، عبدها من دون الله، رجا رضاها، سعى إليها، ثم يكتشف فجأةً بعد فوات الأوان أنها لم تكن شيئاً، لم تكن شيئاً على الإطلاق، لا إله إلا الله، لا رافع ولا خافض، ولا معزَّ ولا مذل، ولا معطي ولا مانع، ولا قابض ولا باسط إلا الله، لذلك ما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد.
فهذا الكفر، الكفر بوجود الله، أو الإيمان بالله والكفر بوحدانيته، أو الإيمان بالله والكفر بكماله، أو الكفر ببعض أسمائه، هذا كله كفر، لكن الكفر يأخذ دائرة واسعة جداً، ودائرة أضيق، أحد أنواع الكفر أن يُعْرِضَ الإنسان عن ربه، أن يغفل عنه، قال تعالى:
﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ۚ
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ
هذه الآية تشير إلى معنى واسع جدا من معاني الكفر، الإعراض عن الله عزَّ وجل، أي أراد الدنيا ولم يرد الآخرة، أراد الشهوة ولم يرد نداء العقل، أراد المُتْعَة ولم يرد السعادة التي تتأتَّى من الاتصال بالله عزَّ وجل، فالكفر يُفهَم بشكلٍ ضيق من أنكر وجود الله، مَن أنكر وحدانيته، من أنكر كماله، من أنكر بعض أسمائه، من أنكر بعض أوامره، والإنسان إذا رأى أن الصلاة مضيعةٌ للوقت فهو كافر، إذا رأى أن للذكر مثل حظ الأنثيين شيء لا يتوافق مع روح العصر، أين العدالة؟ هذا كفر.
عندنا كفر اعتقادي، عندنا كفر سلوكي، لو أنه أمسك بالمصحف، وألقاه على الطاولة بشكلٍ مهين فقد كفر، هناك كفر اعتقادي، وكفر سلوكي، فموضوع الكفر يحتاج إلى تفصيل، وقد عولج في مدارج السالكين في بعض دروس جامع العثمان، الكفر له تعاريف، له حدود، له أنواع، له دوائر، له مستويات، على كلٍ أضيق تعاريفه أن يكفر الإنسان بوجود الله، أو أن يكفر بوحدانيته أو بكماله، أو أن يكفر ببعض أسمائه، أو أن يكفر بأوامره.
تارك الصلاة يسمى تارةً عاصياً، وتارةً يسمى كافراً، إذا ترك الصلاة إنكاراً لفرضيتها فهو كافر، وإذا ترك الصلاة تساهلاً وتقصيراً ونسياناً فهو عاصٍ، وشتان بين المرتبتين، فكلمة كفر لا ينبغي أن نستخدمها بلا تحفُّظ، كلمة كبيرة جداً، ومن أدق ما يفعله بعض الناس، أو من أبشع ما يفعله بعض الناس حينما يستخدمون هذه الكلمة من دون تحديد، فالتكفير سلوكٌ غوغائي، السرعة في تكفير الناس سلوكٌ لا يتَّسم بالمنطق ولا بالتؤدة، ولا بالتعقُّل، ولا بالموضوعية، فالكفر كلمة واسعة جداً، كما أن كلمة سيارة يمكن أن تطلق على كل شيءٍ يتحرك.
فلو فرضنا مدرِّساً ملء السمع والبصر، طويل القامة، عظيم الهامة، واضح النبرة، طليق اللسان، جذَّاب الشخصية، يقف ويشرح الدرس، وطالب يتلهَّى عن درسه، وعن شرحه، وعن بيانه بألعابٍ سخيفةٍ يجريها على ورقٍ أمامه، نقول: هذا الطالب المُتَلَهِّي عن هذا المدرس كافرٌ بقيمة درسه، لأنه لا يعبأ بهذا الدرس، وينصرف عنه إلى أعمالٍ أخرى، فهذا معنى واسعٌ جداً من معنى الكفر.
الإعراض عن الله عزَّ وجل والالتفات إلى الدنيا، عدم الاهتمام بأمر الله ونهيه ووعده ووعيده، عدم المبالاة بالحرام والحلال، عدم المبالاة بكسب المال، عدم المبالاة بإنفاق المال، عدم المبالاة بإقامة الحدود، عدم المبالاة بالائتمار بما أمر، وترك ما نهى الله عزَّ وجل، هذا معنى موسَّع من معاني الكفر.
المعنى الضيق الذي أنكر وجود الله، أو أنكر وحدانيته، أو أنكر كماله، أو أنكر أحد أسمائه، أو أنكر فرضية أحد أوامره.
عندما يقول لك الإنسان: لماذا نوزِّع الإرث بين الذكر والأنثى بنسبة واحد إلى اثنين؟ هذا شيء غير منطقي وغير عادل، هل تدري أن هذا الكلام يعني الكفر، لأن الله عزَّ وجل حينما يقول:
﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ۖ
هذا تشريع من قِبَل خالق الكون، وأنت تقول: هذا تشريع غير منطقي، وغير واقعي، ولا يتناسب مع العدالة الاجتماعية، ولا مع أن المرأة تشكِّل نصف المجتمع، هذا كفر.
الكفر العملي:
عندنا شيء آخر، هذا الكفر اعتقادي، وعندنا كفر قولي؛ فالإنسان أحياناً من دون أن ينبس ببنت شفة، من دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة، لو أنه يصلي، ويصوم، ويفعل كل الطاعات، لكن إذا اعتقد أن ما يجري في هذا الكون لا عدالة فيه، ولا رحمة فيه، وأن القوي يأكل الضعيف، وأن الضعيف لا مكان له في هذا العالم، إذا أصابته هذه الأفكار السوداوية بسماعه أخبار ما يجري في العالم، فاعتقد بوجود ظلم ما بعده ظلم، وأن المسلم مضطهد، المسلم لن تقوم له قائمة بعد اليوم، العالم كله يفعل ما يفعل ضد المسلمين، أين الله؟ أين رحمته؟ أين عدالته؟ أين وعده؟ أين كذا؟ إذا مشى في هذا الطريق، واعتقد هذا الاعتقاد فو الله الذي لا إله إلا هو هذا الاعتقاد نوعٌ من الكفر، كفرت بأنه إله، عددت أقوياء العالم هم الآلهة، كفرت بأن الله سبحانه وتعالى عادل، فعددت أن الحق ليس لصاحب الحق، ولكن للقوي، وأن الضعيف مقهور ومأكول.
لذلك هناك خطر شديد أن يتلقى الإنسان معلومات دون أن يعرضها على القرآن الكريم، دون أن يعرضها على الذكر الحكيم، دون أن يعرضها على كلام رب العالمين، فهناك خطر كبير أن يتصور الإنسان أن ليس في الكون عدالة، الله عزَّ وجل قال:
﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ
(( ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يغفر الله أكثر. ))
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ(30)﴾
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42)﴾
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)﴾
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
﴿
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ
هذا الإيمان، هذا القرآن.
(( لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.))
(( احرِص على ما ينفعُكَ واستعِنْ باللَّهِ ولا تعجزنَّ وإن أصابَك شيءٌ فلا تقُلْ: لو أنِّي فعَلتُ لَكانَ كذا وَكذا ولَكن قُلْ: قدَّرَ اللَّهُ وما شاءَ فعلَ فإنَّ لو تفتحُ عملَ الشَّيطانِ.))
معنى الكفر معنى خطير، يضيق حتى ينصب على من ينكر وجود الله، أو ينكر وحدانيته، أو ينكر أسماءه، أو ينكر كماله، أو ينكر بعض أوامره، هذا كفر اعتقادي.
وهناك كفر قولي، فما قولكم عن الذي يقول: الله عزَّ وجل يعطي الحلاوة للذي ليس له أضراس، هذه كلمة يقولها معظم الناس، هل تصدقون أن هذه الكلمة كفر؟ إنك تتهم عدالة الله، تتهم حكمة الله، تتهم عِلم الله،
الكفر السلوكي:
وهناك نوعٌ من أنواع الكفر هو من أخطرها ومن أخفاها، هو الكفر السلوكي، وأوضح مثل عليه: لو أنك زرت طبيباً، وعالجك، وشخّص المرض، وكتب الدواء، ووقفت معه موقفاً في غاية الأدب والاحترام والشكر والعرفان، ولكن في قرارة نفسك لم تعبأ بعلمه، ولا بمهارته، فامتنعت عن شراء الدواء، هل تصدق أن عدم شراء الدواء نوعٌ من أنواع الكفر بهذا الطبيب، ما قلت شيئاً، ولم تنطق بكلمة، ولم تنبس ببنت شفة، بل امتنعت عن شراء الدواء، فإلهنا وربنا، وخالقنا يقول:
﴿ وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ
عبد مؤمن، ولا يوجد الآن عبد، أي لو جاءك إنسان فقير، إنسان أخلاقه عالية، إيمانه عالٍ، وخطب ابنتك، لم تعبأ لا بأخلاقه، ولا بإيمانه، ولا باستقامته؛ بل أردت المال، فلما جاءك خاطبٌ آخر رأيت عنده المال الكثير، والجاه العريض، ولم تعبأ برقة دينه، ولا بتركه للصلاة، فزوَّجته، هل تدري أنك لم تقل: صدق الله العظيم، الله عزَّ وجل ينبّئك أن المؤمن ولو كان عبداً خيرٌ من الكافر ولو كان غنياً، لم تعبأ بهذا، فكيف تقول: صدق الله العظيم؟ فحينما يقول الله عزَّ وجل:
﴿
فإذا قلت: أين أذهب بعيني؟ ألم تقرأ قوله تعالى:
﴿
كأن الله سبحانه وتعالى كلَّفك ما لا تطيق، وكأنك تكذّب هذه الآية:
تقرأ نظرية داروين، تقرأ نظرية فرويد تجده يقول لك: الجنس هو كل شيء، ونظريَّات الماديين: المادة كل شيء، وما سواها سراب، فإذا قرأ الإنسان كتباً في المذاهب، وفي المعتقدات، كتباً في علم النفس، فلو أن طبيباً في علم النفس، بعض الأطباء النفسيين يرون الصحة النفسية أن يكون لهذا الشاب صديقة ـ رفيقة ـ فينصحه أن ينطلق، أن يكون له صديقة، أن يذهب إلى السينما، أن يفعل، وأن يترك، فهذا الطبيب ماذا يفعل؟ طبيب مختص بالنواحي النفسية، ينصح مرضاه المصابين باضطرابات نفسية أن ينطلقوا في الحياة كما يفعل أهل الغرب، فأين الدين؟ أين القرآن؟ أين الحديث الشريف؟ فهذا الطبيبٌ النفساني الذي ينصح مرضاه بالانطلاق في الحياة، وبارتياد دُور اللهو، وباصطحاب الفتيات لكي يتوازن، لكي يمتلك الصحة النفسية، هذا الطبيب يكفر بكلام الله عزَّ وجل، فأين غض البصر؟ أين عدم الاختلاط؟ أين أداء الصلوات؟
والله البارحة سمعت عن طبيبٍ مؤمن يعالج مريضاً نفسياً قال له: أنت بحاجة إلى مجلس علم، وإلى حفظ القرآن، وإلى أن تصحب إخوة مؤمنين، وإلى أن تعمل الصَّالحات، وإلى أن تخرج من عزَّلتك، والله بقيت ساعات وأنا أثني على هذه الطبيب المؤمن، هذه هي الصحة النفسية؛ أن تعرف الله عزَّ وجل، أن تعرف منهجه، أن تندفع إلى طاعته، أن ترتاد بيوت الله عزَّ وجل، أن تطلب العلم، أن تقرأ القرآن، أن تحفظ القرآن.
كلمة كفر واسعة جداً، يكفي ألاَ تعتقد بصواب آيةً، أو بصواب تشريعٍ إلهي، أو بصواب توجيهٍ إلهي، أو بصواب حقيقةٍ في القرآن قد وردت، فهذا نوعٌ من أنواع الكفر.
لذلك ليس معنى أن فلانا كافر أي علمه قليل، فكلمة كفر كلمة كبيرة جداً، حينما تعتقد أن هذه الآية غير مناسبة لهذا الزمان فهذا كفر، إلا أنه كفرٌ من النوع الواسع، مثلاً: حينما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ(106)﴾
أي شركٍ هذا؟ هذا الشرك الخفي الذي لم ينجُ منه إلا القليل، كما أن هناك شركاً خفياً يمكن أن يتلبَّس ببعض المؤمنين، كذلك هناك كفرٌ خفي، كأن يكون هذا الأمر لست قابضه بالتعبير الدارج، لم تقتنع كثيراً به، ليس معقولاً، هذا نوعٌ من أنواع الكفر، ولكن ليس الكفر الأكبر الذي يصح أن نقول لصاحبه: كافر.
مرة سئل رجل يحبِّذ التعليم المختلط، وهو محسوبٌ على أنه داعية، قال: هذا التعليم يهذِّب المشاعر، ويزيل هذه الحواجز، وهذا الشيء الكبير يصبح صغيراً، هو لا يدري ما يقول، هذا كله مخالفٌ لكلام الله عزَّ وجل، هذا أحد أنواع الكفر، وعندما تفكر تفكيراً خلاف كلام الله عزَّ وجل قطعي الثبوت، هذا اتجاه فيه كفر، ولكن لا يسمى صاحبه كافرًا، لكن هذا الكلام فيه كفر، فكما أن هناك شركاً أكبر، وهو أن تعبد بوذا من دون الله، هناك شرك أصغر، وهو أن تعتمد على زيد من دون الله عزَّ وجل، هذا شرك، كذلك إنكار وجود الله عزَّ وجل كفر، إنكار وحدانيته كفر، إنكار كماله كفر، إنكار أحد أسمائه كفر، إنكار أحقية أوامره كفر، ولكن إذا لم تفهم شيئًا، لم تقنع به، هذا تفكير فيه كفر، ولكن لا يسمى صاحبه كافراً. هؤلاء الذين ماتوا وهم كفار.
بالمناسبة الله عزَّ وجل قال:
﴿
حتى هذه الآية أوَّلها المفسرون: ما لم يتب، إذا تاب يُغفَر له الشرك، الذي وردت فيه آياتٌ كثيرة من أن الله لا يغفره، كيف لا يغفره؟ إذا مات مشركاً، فالإنسان قد يفكر فيكفر بتفكيره، قد يتكلَّم فيكفر بكلامه، هذا الصحابي ـ الذي كان صحابياً ـ ودُعي إلى المشاركة في الجهاد، وكان ابن زوجته غلاماً صغيراً يافعاً ممتلئاً حماساً، ورأى أن عمه تقاعس عن الإعداد للجهاد، فذكر له قصة سيدنا عبد الرحمن بن عوف، ذكر له ما فعله عثمان بن عفان، ماذا فعل أصحاب رسول الله؟ فما كان من هذا الذي كان صحابياً إلا أن قال ـ دققوا بما قال ـ قال: لو أن محمداً صادقٌ فيما يقول لكنا شراً من الحُمُر.
هذه الكلمة كلمة كفر، فابن زوجته عمير قال له:
﴿
قال كلمة، فهناك اعتقاد كفر، وكلام كفر، وسلوك كفر، فهذا الذي يحتقر المقدَّسات، أو يحتقر كتاب الله عزَّ وجل؛ يضعه في مكانٍ غير لائق، فهذا سلوك فيه كفر، نحن مهمتنا أن نلتمس عذراً للناس، وأن ننصحهم، لا أن نوزع عليهم ألقاب الكفر، فهذه ليست مهمَّتُنا، وأحد العلماء قال: "نحن لسنا قضاةً، ولكننا دعاة"، لسنا أوصياء على الناس، لا تفكر أبداً أن توزِّع هذا اللقب على الناس، هذا من أكبر الكبائر، من كفَّرَ مؤمناً فقد كفر، هذا ليس من شأن الناس، هذا من شأن الله، أما إذا تحدَّثنا عن أنواع الكفر؛ الاعتقادي، والسلوكي، والقولي، فمن أجل أنفسنا، لا من أجل أن نقيّم الناس بهذا، أنت عليك من نفسك، لذلك ما من مرضٍ استشرى بين المسلمين كتقاذف هذه التُهَم، وتراشق كلمة كفر، حتى إن بعض المتطرفين كفّروا المجتمع الإسلامي كله، هكذا بلا تؤدة، وبلا تعقُّل.
2 ـ يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ
هؤلاء الذين ماتوا كفاراً ـ حديثنا الآن ليس على أنواع الكفر المُخفَّفة، والمفاهيم المُوسّعة ـ الذين ماتوا كفاراً، أي خُتِم عمله وهو كافر، هذه هي المشكلة، هؤلاء حينما تنكشف لهم الحقائق، وحينما يبدو لهم حجم الخسارة التي مُنُوا بها، حينما يرون مصيرهم الأبدي، حينما يرون أن الدنيا مرَّت كلمح البصر، ساعة، الدنيا ساعة جعلها معصية، جعلها كفراً، جعلها شركاً، جعلها جريمةً، جعلها انحرافاً، ساعة مضت كلمح البصر، والأبد لا ينتهي، هؤلاء يُصابون بآلامٍ لا حدود لها، يُنادَون وهم في النار، هم ماذا فعلوا؟ مقتوا أنفسهم.
فتصور إنسان له محل تجاري، له بيت، عنده أولاد، عنده زوجة، عنده مركبة، مستور، يعيش حياة هادئة مستقرة، جاء إنسان فأغراه بأن يتاجر بالمخدرات، فقال له: ماذا تريد من كل هذه الأشغال، فمليون ليرة تحصل عليها في خلال أسبوع، فاقتنع، فسلك معه هذا الطريق، أُلقي القبض عليه وحوكم، فحُكِم بالإعدام، أو حُكِم عليه فرضاً بالسجن ثلاثين عاماً، وهو في السجن ماذا يتمنى أن يفعل بهذا الذي دلَّه على هذه التجارة؟ يتمنى أن يمزقه إرْباً إِرْباً، يتمنى أن يقطّعه قطعاً قطعاً، هذا المقت، هذا الألم الشديد.
لكن لو أن إنساناً لم يدله أحد على هذا، فهو ومن بنات أفكاره، فكّر أن هذا العمل مربح، فسلك به، ثم وقع في مغبَّة عمله.
بالمناسبة، وإن كان هذا التعليق خارج الدرس، صدر قانون جديد للمخدارت، يحكم بالإعدام على من يتَّجر بالمخدرات، لو أن إنساناً لم يدله أحد، بل هو اختار هذا السلوك، فألقي القبض عليه، ودفع ثمن خطئه، ألا يتألَّم من نفسه؟ ألا يشعر بغبائه؟ ألا يشعر بجريمته؟ ألا يشعر بأن الشيطان قد تلبَّسه؟
حينما تكره نفسك إذا فعلت عملاً سيئاً، هذا الألم الشديد الذي لا حدود له من الذات، أو من الإنسان الذي أضلَّك قال: هذا الألم الشديد، هذا المَقت، هذه الكراهية، هذا البُغض الذي لا حدود له.
أحياناً يقول لك واحد: والله أتمنى أن أفرمه فرماً، لأنه قد سبّب له مشكلة كبيرة.
مرة أحدهم عنده صانع، هذا الصانع وقع في مشكلة، فطرده شر طردة، أخبر بعض الجهات على مستودعاته، فجاؤوا، وجعلوه يدفع مبلغ ستمائة أو سبعمائة ألف، والقصة من عشرين سنة، فما كان منه إلا أن أطلق النار على هذا الموظَّف عنده، وارتكب جريمة من شدة الحقد الذي نشأ في نفسه تجاه هذا الموظف، معنى ذلك أن الإنسان إذا شعر أن هذه الجهة، أو هذا الإنسان سبّب له متاعب كبيرة جداً لا حدود لها، يتألم، يتمنى أن يقطِّعه إرباً إرباً، انظر إلى الآية:
3 ـ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ(10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ(11)﴾
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ
الموت الأول موت العدم.
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)﴾
والموت الثاني بعد المجيء إلى الدنيا، والحياة الأولى حياة الولادة، والحياة الثانية البعث يوم القيامة.
﴿
ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ
أي ما أنتم فيه من عذاب، ما أنتم فيه من عذاب الحريق، ما أنتم تعانون من آلامٍ لا تُوصَف
1 ـ التفسير الأرضي للحوادث ينافي التوحيد:
أي شيء إذا سمع التفسير على أن الله فعل ولم يفعل، هذا التفسير لا يعجبه، يعجبه أن زيداً فعل، وزيد لم يفعل، فإذا الأمور كلها فسرتها تفسيراً أرضياً؛ الدول العظمى، والدول الصغرى، وفلان وعلان، وزيد وعبيد، إذا فسرت الأمور على أن أشخاصاً يتحركون، وأن الأمر كله بيدهم، وأنهم يغضبون، وأن يرضون، وأنهم يرفعون ويخفضون، يعطون ويمنعون، يصلون ويقطعون، إذا رأيت الأمر كذلك ترضى وتؤمن، أما إذا فُسِّرت لك الأمور تفسيراً توحيدياً إلهياً، الأمر كله بيد الله، لم تكن ترضى، تقول: هذا التفسير غيبي، هذا التفسير قديم لا يتفق مع معطيات العصر ـ شيء جميل ـ قال:
القدرة على التفسير هي من أعظم منجزات المؤمن، تفسيره الصحيح لما يجري، هذا التفسير التوحيدي المبني على كلام الله وكلام رسوله هذا يريح، يريح الإنسان من الضغط، من الحيرة، يريحه من الشرك، يريحه من القهر، يريحه من الشعور بالظلم، كل هذه المشاعر تزول عن المؤمن.
2 ـ الشرك سبب للأمراض النفسية:
الشيء الثابت الآن ما من مرضٍ عضويٍ إلا وله أسباب نفسية، وما من ألمٍ نفسيٍ أشد من أن ترى أن أمرك بيد عدوك، وأنه لن يرحمك، ولن يعطيك سؤلك، هذا الاعتقاد وحده يسبب أشد الأمراض فتكاً، أما المؤمن فيرى أن الأمر كله بيد الله، وأن عليه أن يطيعه، وليس عليه شيءٌ آخر.
﴿ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(66)﴾
﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(144)﴾
انتهى الأمر، أنا علي بعد أن عرفت أن الله موجود، وأن الله كامل، وأن الله واحد، عليَّ أن أتعرف إلى أمره ونهيه، فإذا طَبَّقت الأمر انتهى الأمر.
أنا أتأَلَّم لِمَا يصيب المسلمين، أتأَلَّم لكن لا أملك إلا أن أشعر أن الله سبحانه وتعالى أرحم مني، الأمر بيده، عليَّ أن أعمل، وأن أسعى، وأن أقدّم كل معونة؛ ولكن لا عليّ أن أنقم على الله عزَّ وجل، هذا دليل الجهل، ويمكن لك أن تقدم مساعدة لإنسان مصاب، أما أن ترى أن هذا المرض شيء يتنافى مع الرحمة الإلهية فهذا هو الجهل بعينه.
الملخص: ما من إنسان على وجه الأرض إلا وبإمكانه أن يعلم ما يحدث، لكن المؤمن يتميَّز بأنه يفسر ما يحدث تفسيراً صحيحاً، العبرة بالتفسير، فأقرب مثل لنا، بعض البلاد التي بجوارنا عانت من الحروب الأهلية ما عانت، يمكن أن تفسِّر ما عانت تفسيرات كثيرة لا تنتهي، ولكن التفسير الصحيح الوحيد:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾
هذا تفسير خالق الكون، وفي ألف تفسير؛ تفسير عربي، تفسير دولي، تفسير طائفي، وأخيراً هناك تفسير نسواني أصابتها عين ـ هذه تفاسير كثيرة جداً، البطولة أن تعرف تفسير القرآن
﴿ وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا(59)﴾
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)﴾
لا يعجِز اللهَ شيءٌ:
أقرب شيء لنا الآن مرض الإيدز، اقرأ عنه، تجد أن كل العلماء يبحثون عن مصلٍ لهذا المرض، بينما ربنا عزَّ وجل أراد من هذا المرض أن يكون عقاباً إلَهيَّاً للمنحرفين، فالعلاج ليس في المصول، بل في التوبة إلى الله عزَّ وجل، فالمهم أن تعرف حكمة الله من هذا المرض الذي تحدَّى العصر كله، عشرون مليون إنساناً يحمل هذا المرض في أمريكا وحدها، والنتائج مخيفة جداً، هذا عقاب السماء للأرض.
باخرة من أعظم البواخر في العالم ـ اسمها تيتانيك ـ بُنِيَت بناءً لا سبيل إلى وصفه، بُنيت على طبقتين، وحواجز عرضية، فأي خلل أصابها يكفي القبطان أن يغلق المنافذ، وانتهى الأمر، لذلك قيل في نشرة صنعها: "إن هذه السفينة لا يستطيع القدر أن يغرقها"، هكذا كتبوا، وشاءت حكمة الله أن يركب في هذه السفينة أغنياء أوروبا، وقدروا قيمة الحلي التي على نساء الأثرياء بأرقام فلكية، فيها كل شيء، فحضارة أوروبا كلها في هذه السفينة؛ المسابح، المطاعم، دور اللهو، المنتجعات، غرف النوم الفخمة، وفي أول رحلةٍ لها بين أوروبا وأمريكا ارتطمت بجبلٍ ثلجي شطرها شطرين، استغاثت، كل السفن التي حولها ظنوا أنها تحتفل، فلم ينجدوها، فغرقت، وقبل سنة عرفوا مكانها، فقال أحد القساوسة وقتها: هذا درسٌ بليغ من السماء إلى الأرض.
أرسلوا مركبة حديثة جداً في رحلة فضائية ـ مركبة فضائية حديثة جداً اسمها "المتحدي" بعد أن انطلقت بسبعين ثانية أصبحت كتلةً من اللهب، يجب أن تفهم على الله عزَّ وجل، من تتحدون؟ الأحداث لا ينبغي أن تفهمها فهماً أرضياً، البطولة أن تفهمها فهماً توحيدياً، البطولة أن ترى أن الله بيده كل شيء، وأن هؤلاء الذين تراهم على السطح ما هم إلا دمى الله عزَّ وجل يحركهم، والدليل قوله تعالى:
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ(55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)﴾
علاقتك فقط مع الله.
إذاً:
أخطر شيء على الإنسان أن يشرك، وطبعاً
مرة ضربت مثلاً، ويجب أن أعيده الآن: لو أن إنساناً له مبلغ كبير جداً في حلب، يجب أن يكون الساعة الثانية عشرة كي يقبضه، فإن لم يكن في هذا الوقت ضاع منه المبلغ، مبلغ كبير بالملايين، ذهب إلى محطة القطارات، ركب قطار حلب، فمن الممكن له أن يرتكب مائة غلطة في هذا القطار، ممكن أن يقطع درجة أولى، ويجلس درجة ثالثة، ليس منتبهاً، ممكن يجلس في جهة معاكسة للقطار يدوخ، يختار غرفة فيها رُكَّاب سيِّئو الأخلاق، ممكن، يغيب عنه أن المركبة فيها طعام، وهو يتلوى من الجوع طوال الطريق، ممكن، لكن كل هذه الأغلاط تُغفَر لأنه في طريقه إلى حلب، وسيقبض المبلغ، أما إذا اتجه إلى محطة القطارات، وركب قطاراً متجهاً إلى درعا مثلاً، هذه غلطة لا تُغفَر، لأنه يمشي بعكس اتجاهه، ولو كان القطار فخماً، لو كان فيه أرقى أنواع الفخامة، لكنه ارتكب غلطة لا تُغفَر.
عندما يتجه الإنسان إلى الله عزَّ وجل الله يحل له كل مشاكله، أما إذا اتجه لغيره فلا يوجد شيء عند غيره،
3 ـ فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ
نجم يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، وبينهما مئة وستة وخمسون مليون كيلو متراً!! نجم يكبر الشمس بمئة مليون مرة، والشمس تكبُر الأرض بمليون وثلاثمائة ألف مرة!! مسافات، الأرض بحجمها الحقيقي إذا دخلت في ثقبٍ أسود في الفضاء يصبح حجمها كالبيضة، والوزن نفسه، الأرض كلُّها يمكن أن تُضغَط بحجم بيضة، كم هي الفراغات البينية في المادة؟
إذاً:
﴿
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ
الناس بالبديهة والفطرة يقولون لك: الله كبير، لأنه رأى آية، نحن لو نظرنا إلى ما حولنا فحياتنا الدنيا طافحة بالآيات؛ آيات كونية، آيات قرآنية، آيات تكونية، فالبحران:
﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ(19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ(20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(21)﴾
هذه الآية حيَّرت المفسرين خلال ألف عام، أين البرزخ؟ فهذا البحر الأحمر، وهذا المحيط الهادي، فأين البرزخ؟ الآن اكتُشف بالمراكب الفضائية حينما رأوا خطاً بين البحرين ـ خط لونياً ـ اكتشفوا أن كل بحر له مكوِّناته، له كثافته، له ملوحته، له خصائصه، وأن مياه هذا البحر لا تبغي على البحر الآخر، وبينهما حاجز وهمي لم يُعرَف حتى الآن طبيعته، بين الأحمر والعربي، بين الأبيض والأطلسي، بين الأسود والأبيض بالبوسفور، بمضيق باب المندب، وبمضيق جبل طارق.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.