- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (040)سورة غافر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثاني من سورة غافر، ومع الآية الرابعة وهي قوله تعالى:
﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ(3)﴾
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ
1 ـ الجدال نشاط عقلي:
الجدال نشاطٌ عقلي، العقل في الأصل أودعه الله في الإنسان ليكون أداة معرفة الله، فلو أن الإنسان أعرض عن الله عزَّ وجل، واتبع طريق الدنيا، وطريق الملذات والشهوات، فلديه عقل وقوة إدراكية، وبإمكانه أن يستغل هذا العقل ويسخره لشهواته، ولمآربه، من هنا يأتي الجِدال، لماذا قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ
لأن الإنسان في الأصل أُعطِي قوة إدراكية، أُعطِي فكراً، بهذا الفِكر يسأل ويجيب، يستفهم، يدرك، يوازن، يقارن، يحاكم، يتصور، يتخيَّل، وهذا الفكر قوة إدراكية كبيرة جداً، بل لست مبالغاً إذا قلت: إن أعظم شيءٍ مخلوقٍ في الكون هو العقل البشري، لأنه عاجزٌ عن فهم ذاته.
هذا الفكر البشري في الأصل زوّد الله به الإنسان مِن أجل أن يتعرف إلى الله، فماذا فعل المعرض عن الله؟ ماذا فعل الذي أراد الدنيا؟ أحب الدنيا، وأراد شهوات الدنيا، وأراد أن ينغمس في الملذات والمتع الرخيصة، رأى معه فكراً، وهذا الفكر بإمكانه أن يفلسف انحرافه، وبإمكانه أن يغطي عدوانه بكلامٍ معسول، الكافر متفلسف دائماً، يرتكب أكبر الجرائم، ويقنعك أن عمله هذا مشروع، ويدّعي أنه عمل مشروع، فكيف أتيح له أن يغطي انحرافه؟ كيف أُتيح له أن ينفي رسالات الأنبياء؟ عن طريق الفكر.
ربنا عزَّ وجل أشار في آيات أخرى إلى أن الفكر قد يضل، وقد يغتر، وقد يطغى، قال:
﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ(18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ(20) ثُمَّ نَظَرَ(21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ(22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ(23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ(24) إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ(25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ(26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ(27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ(28)﴾
2 ـ العقل البشري يجادل حين يسيء الإنسان استخدامه:
إلى آخر الآيات، إذاً الفكر البشري متى يجادل؟ إذا أساء الإنسان استخدامه، الفكر من أجل أن يرقى بك إلى الله، من أجل أن تتعرف إلى الله به، ولكن الإنسان أراد الدنيا، أراد الشهوات، أراد المُتَع الرَخيصة، ثم هو يفكر فيستخدم فكره لفلسفة المعصية، لتغطية المعاصي، للإيقاع بأعدائه، لتكذيب رسل الله عزَّ وجل، للطعن بإخلاص الأنبياء والمرسلين، للتشكيك بآياتهم التي جاؤوا بها، للتقليل من أهمية الآيات الكونية التي تدل على عظمة الله عزَّ وجل، للطعن بكل داعيةٍ مخلصٍ أراد نشر الحق من خلال سلوكه ومن خلال علمه.
هذا الفكر البشري أداةٌ خطيرةٌ جداً، إما أن تُوظَّف للوصول إلى أسمى هدفٍ وغاية، وإما أن تودي بصاحبها إلى الدركات السُفلى في النار، كهذا المحرك الذي يُوضَع في المركبة، إنه يوضَع في الأصل ليدفعها إلى أهداف صاحبها المشروعة، فإذا أراد صاحب المركبة أن ينحرف، فهذا المحرك يزيده هلاكاً، لو خرج عن الطريق الصحيح، فيصير المحرك أداة هلاك.
3 ـ الجدال تشكيك في القيم الدينية:
فيا أيها الإخوة كلمة الجدل عندما يشكك الإنسان في القيم الدينية، فمثلاً: يقول لك عن الإنسان: إن الإنسانَ أخلاقي إذا كان ضعيفًا، أما إذا كان قويًا فلن يكون أخلاقياً، يطعن كذلك بكل القيم الدينية، يقول لك: هذا الدين شعور الضعف أمام قِوى الطبيعة، والشعوب المتخلفة كلها تؤمن بالدين، أما الشعوب المتقدمة التي اتخذت العلم ديناً لها فلا تعبأ بالدين، فهذا الكلام كلام فيه جدل، فيه قلب الحق إلى باطل، فيه قلب الباطل إلى حق، كل شهواته غير المشروعة العقل البشري إذا ضل وانحرف، ولم يعمله صاحبه فيما خُلِقَ له يصبح أداة لتغطية كل انحرافٍ وكل جريمة.
4 ـ آيَات اللَّهِ:
إذاً:
إذاً: كلمة الآيات تعني الآيات الكونية، وكلمة الآيات تعني الآيات القرآنية، وتعني كذلك الآيات التكوينية، أي أفعال الله عزَّ وجل، فكلها تدل على عظمة الله، فالذي يشكك بمصداقيتها، والذي يشكك بدلالتها، والذي يشكك بقيمتها، والذي لا يعبأ بها، والذي لا يلتفت إليها:
5 ـ الكافر هو المجادِل في آيات الله:
هذه الآية دقيقة جداً تعرّفنا أن أصل الدين معرفة الله، فالذي يكفر بالله شيءٌ طبيعيٌ جداً ومن لوازم الكفر بالله أنْ يستخف بآياته؛ إنِ الكونية، وإنِ القرآنية، وإنِ التكوينية، فأنت الآن أمام مؤشر، مؤشر دقيق، فالذي يعظم آيات الله فهذا التعظيم علامة إيمانه، والذي لا يبالي بها، ويقلّل أهميتها، يجعلها خارج اهتمامه، فهذا من لوازم الكفر.
والكفر كما تعلمون أيها الإخوة تكذيبٌ وإعراضٌ، وبشكل أو بآخر يعني عدم رؤية عظمة الله عزَّ وجل.
ما الذي يملأ عين الكافر وقلبه؟ أشخاص أقوياء، أو أشخاص أغنياء، أو أشخاص يتمتَّعون بقدرٍ عالٍ من الجمال، فإما أنه يؤلّه الأشخاص الذين نالوا حظوظاً كبرى من الله عزَّ وجل، أو يؤله أشخاصاً آتاهم الله قوةً، أو يؤله أشخاصاً أتاهم الله مالاً، فهو ذائبٌ في هؤلاء، أما أن يرى من خلال هؤلاء أن الله سبحانه وتعالى هو القوي، وهو الغني، وهو الجميل، هذا هو الإيمان.
الإيمان أن تتجاوز الخَلق إلى الخالق، أن تتجاوز النعمة إلى المُنعِم، أن تتجاوز النظام إلى المنظِّم، أن تتجاوز التسيير إلى المُسيِّر.
الفرق بين المؤمن والكافر:
وإذًا فما الفرق بين المؤمن والكافر؟ الكافر أمام شمس، يقول لك: هذه شمس، وهذا قمر، وهذه جبال، وهذه نجوم، وهذه أزهار، وهذه أطيار، وهذه أسماك، فهل يستطيع الكافر أن ينكر هذا الكون وما فيه من عظمةٍ، ومن جمالٍ، ومن نفعٍ، ومن خيراتٍ لا يحصيها إلا الله عزَّ وجل؟ لا يستطيع، ولكن الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، أن المؤمن يخترق الكون إلى المكوِّن، يخترق النعمة إلى المُنعم، يخترق النظام إلى المُنَظِّم، يخترق التسيير إلى المسيِّر؛ أما الكافر فيقف عند الكون، وهذا مبلغه من العلم، هو مع النعمة لا مع المُنعم، هو مع الكون لا مع المُكوِّن، هو مع النظام لا مع المنظِّم.
الله سبحانه وتعالى أخبرنا وقال:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا(103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا(104)﴾
وقال الله عزَّ وجل يصف أهل الكفر:
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ(7)﴾
فأبسط مثل: قد يستمع الكافر لنشرة جوية، فيقول لك مثلا: سيتعرض القطر إلى منخفض جوي متمركز فوق قبرص، وسيصل بعد عشرين ساعة، سرعته كذا، وهو منخفض مُمْطِر، لا يخطر في باله أبداً إلا أنه مُنْخَفَض، وبعد أيام هناك أمطار، ولكن المؤمن يرى من خلال هذه النشرة الجوية أن هذا المنخفض رحمة الله عزَّ وجل، وأن الله هو الرزَّاق، هو الذي ساق الأمطار لينبت النبات، ليكون متاعاً لنا ولأنعامنا.
فالفرق فرق رؤية، فالكون هو كون، لا أحد بإمكانه أن ينكر وجود الكون، ولا مظاهر الكون، ولا خصائص الكون، ولكن الفرق الدقيق بين المؤمن وبين غير المؤمن هو أن المؤمن انتقل من الكون إلى المكوِّن، من النعمة إلى المُنعم، من التسيير إلى المسيِّر، من النظام إلى المنظِّم، من الربوبية إلى الرب.
هناك نقطة مهمة جداً، ألا وهي أن الإنسان إذا أراد أن يفعل ما يشاء، إذا أراد أن يقتنص الشهوات كلها، هذا الاتجاه نحو التمتع في الدنيا والانكباب على شهواتها لا يتناسب مع معرفة الله، ومع الانضباط بشرعه، فلما يصر على المعاصي تجده يقلل من قيمة الدين.
﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2)﴾
هو نفسه، كأن هناك علاقة ترابطية، إن كذَّبت بالدين فعملك سيِّئ، وإن كان عملك سيِّئاً فلابد من أن تكذب بالدين
﴿
فالمرءُ بين حالين؛ إما أن تتبع الهوى، وإما أن تتبع الله عزَّ وجل فيما أمر ونهى، أي إما أنّ الإنسان رحماني، وهذا فضلٌ كبير، أو أنه شيطاني، وهو إما أن يتحرَّك بوحيٍ من إلهامات الملائكة، وتوجيهات الأنبياء، وكلام الله عزَّ وجل؛ أو يتحرك بوسوسةٍ من الشياطين، وبدافعٍ من شهواته وغرائزه،
فلسفة الكفار في الدنيا:
إن الإنسان حينما آتاه الله عقلاً ليتعرف من خلاله إلى الله، ليرقى به إلى الله، أما حينما اتجه إلى الدنيا، وأصر على شهواتها، وجد أن عقله يمكن أن يعنيه على فلسفة معصيته، وعلى إسكات خصومه، وعلى التحلّل أو التحرر من كل قيدٍ أخلاقي، ومن كل قيدٍ اجتماعي، ومن كل قيدٍ ديني، يقول لك: الأخلاق نسبية، بذكاء يقول لك: يا أخي، ما تجده هنا حراماً أو عيباً، تجده في مكان آخر مقبولاً، إذاً الأخلاق عبارة عن أعراف.
حينما ينفي الإنسان القيم الثابتة في المجتمع البشري على مدى العصور والدهور فهذه أخطر فكرة، إنها فكرة خطيرة جداً، ليس هناك شيء ثابت، أي كل مجتمع الذي ألف أن هذا عيب، وهذا مقبول، بينما تجد مجتمعًا آخر يرفض ما أقره المجتمع الأول، فالفكر البشري حينما يعمل ببرمجة الشهوات؛ لا ببرمجة الحقائق، حينما يتحرك الفكر البشري ليغطي الانحرافات والمعاصي يكون الجدل.
مثلاً: إنسان يحب الاختلاط، اسمعه ماذا يقول لك؟ يتفنن في البحث عن ميزات الاختلاط، فيقول لك: يهذب المشاعر، والمجتمع الذي فيه امرأة يصبح كل فرد فيه ينتقي كلماته اللطيفة، ويتحلى بأناقة خاصة، ويلهث وراء التنقيب عن ميزات الاختلاط، ولا يقول لك: إن هناك آلاف اللقطاء الذين لا آباء لهم من نتائج الاختلاط، هذا يغفله، اللقطاء يغفل أمرهم، أما التهذيب وانتقاء العبارات هذه يبرزها، وهذه هي المجادلة، فهو يبحث عن منافع موهومة للمعاصي ويبرزها، يقول لك: الدين يجعل الإنسان متخلفًا، كل شيء حرام في حياة المسلم!! بيت المسلم مثل القبر، لأنّ كل شيء حرام، فهذه هي المجادلة.
إذا ضبط الأب أولاده يقول عنه: قمعهم قمعًا، وإذا أرخى الحبل لهم، وأطلق الحرية لبناته، يقول لك: هذا أب ديموقراطي، إذا قد أطلق الحرية للبنات أصبح ديموقراطيًا، أما إذا ضبطهم بالأخلاق، وتابعهم صار قمعيًا، وبين قمعي وبين ديموقراطي مسافة كبيرة، هذه فلسفة الكفار.
هو يفلسف لك الزنا فيقول لك: هي راضية، يفلسف لك الربا، فيقول لك: هل من المعقول أن أجمِّد المال، ولا أربح منه؟ يفلسف لك كل المعاصي.
دائماً المجتمع الكافر فيه كلام مزخرف يغطي فيه كل المعاصي، هذه المجادلة، فهو يشكك بالقيم الدينية، وإذا كان انحرافه كبيراً فليس له إلا أن يشكك بوجود الله عزَّ وجل، فيأتي لك بشُبَه مثل: فمَنْ الذي مات ورجع، وقال لك: هناك آخرة، فقد قال المعري:
زعم المنجم والطبيب كلاهمـا لا تُبعَثُ الأموات قلت إليكمـــا
إن صح قولكما فلست بخاسرٍ أو صح قولي فالخَسَار عليكما
قال أحدهم لآخر: المصيبة ألا نجد جنة في الآخرة، ونكون قد تعبنا بهذه الدنيا على غير شيء، هذه المجادلة، أي أنّها سخريةٌ، وتشكيك، وعبث، واستهزاء بكلام الله إذْ لم يصدقه، فإذا قلتَ له: الله عزَّ وجل يقول لك:
﴿
يقول لك: أين أذهب بعيوني؟ هذا كلام لا يسمع، ألم يقل الله عزَّ وجل:
﴿
فتجده يضعك بزوايا ضيقة: وماذا عليّ أن أفعل؟ لا بد من الربا، ولابد من إطلاق البصر، ولابد من الاختلاط، لابد من فعل كذا وكذا، نحن يجب أن نعيش واقعنا، يجب أن نتفاعل مع الواقع، يجب أن نُدرك معطيات البيئة.
أحياناً يقول لك: بيئة، وأحياناً واقع، وأحياناً يقول: تفاعل، وحيناً آخر علاقة ترابطية، هذه هي المجادلة، فلسفة عقيمة، لكنّ الله عزَّ وجل أعطانا منهجًا، وهذا كلام خالق الكون.
أذكر لكم واقعةً هي صغيرة جداً، ولكن لها معنى كبير، إنسان يعمل في إصلاح السيارات، أمسك بشيء مما وضعته الوكالة أو المصنع لمحرك السيارة، ونزعه، وألقاه في الأرض، وقال: هذا ليس له لزوم، قلت له وقتها: ليس عندي استعداد أن استمع إليك إطلاقاً، شركة عمرها مئة سنة، وعندها خمسة آلاف مهندس، ويمكن أن تكون أنت على صواب، وهي على غلط؟ مستحيل، فأنت لا تقبل من إنسان يعمل حديثاً في تصليح السيارات، ويلغي شيئًا بالسيارة كان المعمل قد وضعه، إنّ المعمل مبني على خبرة، مبني على علم، مبني على تجارب، لديه متابعة، مجموعة من المهندسين، فهل من الممكن لهذا العامل البسيط أن يكون رأيه أصوب؟
الحَذرَ الحَذَرَ من الإيمان الإبليسي
لتعلم أيها الإنسان أنّ هذا كلام الله عزَّ وجل، كلام خالق الكون، إذا كان ليس عندك هذا اليقين، فقف، وابحث عن دليل قطعي على أن هذا الكلام كلام الله عزَّ وجل، فاسلك الطريق الذي لا بد منه، إذ لابد من معرفة الله، هذه المعرفة السطحية التي لا تثمر استقامةً، أعجبني إنسان والله، وأدهشني إذ سمّى إيمان أولئك الناس:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)﴾
إبليس هل أنكر وجود الله عزَّ وجل؟ لا، خاطب الله عزَّ وجل وقال له: رب، وقال له: فبعزتك، ومع ذلك هو إبليس، ماذا يفعل؟ يرتكب كل المعاصي والموبقات.
كل إنسان لم يفضِ به إيمانه إلى طاعة الله فهذا إيمان إبليسي، ليس له قيمة إطلاقاً، الإيمان الصحيح هو الذي ينقلك إلى الطاعة، هو الذي يُترجَم بسلوك، هو الذي يفضي إلى مواقف، إلى عطاء، إلى منع، إلى غضب، أن تغضب لله، أن ترضى لله، أن تُعطي لله، أن تمنع لله.
لو أن إنسانًا رأى الشمس ساطعة في كبد السماء، وفكر، وفكر، وفكر، وفكر، ثم قال: الشمس ساطعة، خيرًا إن شاء الله، فهي ساطعة، أقررت بها أم لم تقر فهي ساطعة، إن قلت: ساطعة فهي ساطعة، وإن قلت: الشمس ليست ساطعة، فكلامك لا قيمة له لأنها ساطعة، فالذي يكتفي بالإيمان بلسانه فقط ماذا فعل؟ نقول له: أنت ماذا فعلت؟ اكتفيت أن تؤمن، وهذا الإيمان لم يترجم إلى سلوك؛ بيتك غير إسلامي، عملك غير إسلامي، جوارحك غير منضبطة، لسانك غير منضبط، بيتك غير منضبط. هذا انطبق عليه الحديث الشريف:
(( وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني. ))
المجادلة استخدام العقل في غير ما خُلِقَ له:
إذاً: المجادلة عملية استخدام الفكر في غير ما خُلِقَ له، بينما خُلِقَ، وأودِع في الإنسان ليكون أداة معرفة الله، فإذا استخدمته للطعن بالتشريع الإلهي، للطعن بمصداقية القرآن، للتشيكيك بقيمة الوحي، للتشكيك بكمال الأنبياء، للتشكيك بالدُّعاة الصادقين، إذا أردْت أن تستخدم الفكر للتشكيك وللطعن فهذه هي المجادلة، قال تعالى:
المؤمن على سبيل المثال، فالمؤمن ليس معصوماً، ولكن يغلب عليه الإيمان، يغلب عليه الورع، يغلب عليه حب الله عزَّ وجل، إذا كان له قريبان؛ قريب مؤمن وقريب غير مؤمن، تجد أن القريب المؤمن لا يرى من هذا المؤمن إلا الفضائل، القريب غير المؤمن إذا عثر على زلةٍ صغيرة، أو على غلطٍ قليل، أو على تقصير طفيف، هذا التقصير الطفيف يكبِّره ويكبّره، ويبالغ به ليجعله مجرماً، حتى يستعيد توازنه، لأن المؤمن حجة على غير المؤمن، فإذا أخطأ المؤمن، تجد أن أهل الدنيا يسارعون إلى نشر هذا الغلط، وإلى تكبيره والمبالغة فيه، فما الدافع إلى ذلك؟ الدافع إلى ذلك أن الكافر عنده قلق عميق، وعنده شعور بالذنب مستمر، فإذا رأى المؤمن يغلط، فهذا الغلط يتخذه حجةً، فيقول على الفور: ألم أقل: إنّ كل أصحاب الدين هكذا، يكون له قريب له التزام ديني قليل، إذا غلط معه قريبه يتهم كل أهل الدين بالخطأ، هذه المجادلة؛ دائماً يطعن بدينك، وبمذهبك، أما إذا أخطأ المسلم كما أخطأ هو يقول لك هذا مسلم، أهكذا الإسلام! هذا ما علموك إياه بالمسجد؟ أهل الدنيا دائماً عندهم قاعدة، أن المسلم عنده حاسة سادسة، مشكلته مع هذا الإنسان أين تُحل؟ بالقضاء يقول نحن لدينا نظام ودولة وقصر عدل، أريد المحاكم، أما إذا كانت تحل عند رجال الدين يقول لك أريد الشرع، أي شرع هذا؟ أنت لم تطبق شيئاً من الشرع، أين تحل قضيته يذهب، يبحث عن مصلحته فقط، هذه مجادلة.
يستخدم الإنسان الفكر لغير ما خُلق له، يستخدمه أداة لتبرير الغلط، يستخدمه أداة لفلسفة المعصية، وتستخدمه كأداةٍ لتغطية الانحراف، إذا غَطَّيْتَ بالفكر الانحراف، وفلسفتَ المعصية، وبررت التقصير، فهذه هي المجادلة، ولا يستطيع ذلك إلا أن يطعن بالأنبياء، أن يطعن بالوحي، يقول لك: الوحي منام، هكذا تراءى للنبي، أو أن يُسبِغ أهل الكفر على الأنبياء طابع العبقرية ليقللوا من شأن الوحي، فيقولون: يا أخي هذا محمد عبقري، لا، محمد رسول الله، هو عبقري، وهذا بحث آخر، لكنه رسولُ الله، يوحى إليه، لا ينطق عن الهوى، هذا وصف الله له، أما الكافر يبذل الوصف الإلهي له! قال تعالى:
﴿
قال:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(4)﴾
الله عزَّ وجل يصف النبي بأنه يوحى إليه، وبأنه لا ينطق عن الهوى، وبأنه معصوم، ومع ذلك يرغب المجادلون بإسباغ صفة العبقرية على النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليقللوا من قيمة الوحي، ومن قيمة العِصمة، ومن قيمة التشريع.
أو يقولون لك: إنّ النبي عليه الصلاة والسلام تعلم كل هذا العلم من بَحِيرَة ـ هذا الراهب الذي التقى به في الشام ـ فهل يعقل لطفل صغير خلال ساعة أن يتعلَّم علمًا غزيرًا؟ أو يُعقل أنّ هذا الإسلام العظيم، وكل ما فيه من علمٍ جاءنا عن طريق النبي بلقاء تم خلال هذه الساعة؟ هذا شيءٌ مضحك.
حدثني أخ كريم، وهو أستاذٌ في الجامعة ـ دكتور في التاريخ ـ قال لي: "قصة بحيرة بقضها وقضيضها، جملةً وتفصيلاً لا أصل لها في التاريخ إطلاقاً"، وهذا رأي عالم باحث محقِّق.
التفسير العلمي المحض للظواهر الكونية نوع من الجدال:
إذا استمعت لأهل الدنيا كيف يتحدثون، في محور واحد، الطعن والتشكيك والتقليل من أهمية الآيات الكونية، والآيات القرآنية، والآيات التكوينية.
مثلاً: لو قلت له: هذا الزلزال الذي حدث في بلد يعج بالفجور والفسق، وإلى حدّ أنّ فيه نواديَ للعراة، وصناعة السياحة متفوقة جداً فيها، ما معنى صناعة السياحة؟ أي انحراف ما بعده انحراف، يقول لك: لا، فالزلزال عبارة اضطراب يحدث في القشرة الأرضية، كما يفسره العلم، ونقول بدورنا: لا يمنع أن تفسِّر الزلزال تفسيرًا علميًا، وأن يكون هذا التفسير العلمي مُوظَّفاً كآيةً من آيات الله الدالة على أنه شديد العقاب.
المجادلة، أي أنه يطعن في الآيات الكونية، أو يقلل من قيمتها، أو يطمسها، أو يغفلها، أو لا يعجبه التفسير الذي تطرحه أنت من خلالها، هذه هي المجادلة.
أما الآيات القرآنية فيقول لك: إنّ الصحابة اختلفوا في بعض الروايات في قراءات القرآن الكريم، فلماذا هناك قراءات؟ ويرى أنّ في القراءات مجالاً للطعن، أو يدَّعي أنّ القرآن ليست موضوعاتُهُ موحدة، فيقول لك: عجيب يا أخي، فالآيات في سورة واحدة ذات موضوعات متنوعة، يتمنى أن يكون هذا الكتاب منظمًا، فصل عن بني إسرائيل، فصل عن الكونيات، فصل عن الساعة، فصل عن الجنة، فصل عن النار، من قال لك: إن هذا الكتاب كتابٌ علمي؟ هو كتابٌ هدايةٍ ورَشَد، وهو مرتب ترتيبًا يسمونه بالتعبير المعاصر: سيكولوجي ـ نفسي ـ مرتب ترتيبًا نفسيًا، الإنسان في السورة بحاجة إلى آية كونية، وخبر عن أمة سابقة، ومشهد من مشاهد يوم القيامة، وحكم شرعي، فيه تكامل، فالقرآن الكريم مرتَّب لا على أساس الموضوعات، بل على أساس حركة النفس، فالنفس تحتاج إلى شيء مُقْنِع، وإلى ردع، وإلى مخاطبة الوجدان، وإلى مخاطبة العقل، وإلى الأخبار الصادقة، والتفسير التاريخي الصحيح، فالنفس بحاجة إلى هذا كله، لذلك كانت السورة من السور، وكأنها سور تحيط بالآيات، إحاطة سور البستان بالأشجار، فالبستان فيه أشجار مثمرة، وفيه خضروات، وفيه أزهار، فالزَّهرُ ليس للأكل بل للتمتع بمنظره، والفواكه للطعام، والقمح قُوت، والماء للشرب، فهذا هو البستان، فلماذا لا يوجد بستان كله ماء؟ يقول لك: فلماذا لا تجد بستانًا كله أشجار حور، أو بستان كله زيتون؟
أما البستان فيه زيتون، وفيه تفاح، وعنب، وجداول الماء السلسبيل، هكذا السورة، فأساس المجادلة هي عملية طعن بالآيات؛ كل الآيات سواء منها: الآيات الكونية، والقرآنية، والتكونينة، حتى الزلازل والبراكين والحروب الأهلية لا يقبل إلا أن تُفسَّر تفسيرًا أرضيًا، لا يقبل أن تكون آياتٍ دالةً على عظمة الله وعلى عدالته، كلما علّلت الأحداث الكبرى التي تجري في العالم على أن الله عزَّ وجل بيده كل شيء وأن:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
والله عزَّ وجل خبير، وهؤلاء كلهم عباده، يعاملهم وفق حكمةٍ مطلقةٍ، وفق ميزان عدلٍ كبير، فهذا التفسير لا يعجبه، بل يطعن بهذا التفسير:
من أصول الدعوة: لا تناقش الكافر في الفروع:
لذلك إذا كان الإنسان كافرًا بالله فلا تحاول إطلاقاً أن تدخل معه بموضوعات فرعية، فهو كافر بالأصل، أصل الدين معرفة الله، هو لا يعرف الله، إذا كان لا يبالي بكل الآيات الدالة على عظمة الله ولا يعطيها قيمةً فهذا من باب أولى إهماله.
وكأَنَّ هذه الآية فيها توجيه لنا، فأنت قبل أن تناقشه في التعدُّد، فدائماً أعداء الدين لا يذكرون سوى التعدد: أنتم عندكم تعدُّد زوجات، لا تناقشه في تعدد الزوجات، ناقشه في وجود الله، وإذا آمن بوجود الله ناقشه في الكتاب، إذا آمن في الكتاب فعندئذ من الممكن مناقشته.
لدينا في الإسلام تسلسل وترتيب: أوّلا، لا جدوى من الإيمان بالأنبياء قبل أن نؤمن بالله، ولا جدوى من الإيمان بالكتاب قبل أن نؤمن بالله، فإذا آمنا بوجود الله؛ آمنا به خالقاً، آمنا به رباً، آمنا به مسيِّراً إلهاً، ثم آمنا بأن هذا القرآن كلامه من خلال الإعجاز، وآمنا بأن الذي جاء بهذا القرآن المُعْجِز هو رسول الله، إذا سرنا بهذا الترتيب، الإيمان بالله أولاً؛ الإيمان بالله موجوداً، والإيمان بالله كاملاً:
﴿
ابحث في الإعجاز العلمي:
والإيمان بالله واحداً، هو واحدٌ في ذاته، وواحدٌ في صفاته، وواحدٌ في أفعاله، إذا آمنا بالله؛ بوجوده وكماله ووحدانيته، ذاتاً وأفعالاً وصفاتٍ، فقد بات ممكنًا أن نؤمن بكلامه من خلال الإعجاز، وابحث فهناك إعجاز لا حصر له، قال تعالى:
﴿
أدنى يقابلها أعلى، أدنى وأعلى، الروم التقت مع الفُرس في غَوْر فلسطين، وقبل مئات السنين فقط عُرِف أن أخفضَ نقطة في الأرض هي غور فلسطين، الآن معروف أنّ أخفض نقطة في البحر هي خليج مِرْيَانة في المحيط الهادي، وأخفض نقطة في اليابسة غور فلسطين، والتاريخ يؤكِّد أن المعركة التي جرت بين الفُرس وبين الروم كانت في غور فلسطين، ولم يكن معروفاً قبل مئة عام أن هذا المكان هو أخفض نقطةٍ في الأرض، فالله عزَّ وجل قال:
﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ(44)﴾
من أين جاء النبي عليه الصلاة والسلام بهذه القصص؟ قصة سيدنا يوسف وردت فيها كلمة فرعون إلا في علاقة يوسف لم ترد:
﴿
اسأل المؤرخين يخبروك أنّ الذين حكموا مصر هم الفراعنة، إلا في حقبةٍ يسيرة حكمها المُلوك، وحينما التقى سيدنا يوسف بملك مصر، لم يكن فرعون بل كان ملكاً؛ فانظر إلى دقة القرآن الكريم.
مثلا: قال الله سبحانه وتعالى في سورة الحج:
﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا
الله لم يقل: بعيد، بل قال: عميق، لأن الأرض كرة، فكلما ابتعدت عن إحدى نقاطها صار الخط منحنيًا، وصار هناك بعدٌ وصار هناك عمق، واللهُ قال:
﴿
لا تأخذ دينك إلا من أهله الموثوقين:
هو آدم، إذاً نظرية داروين صارت تحت قدمك، لأنها خلاف القرآن، وإذا لم تكن متأكداً فارجع وجدد إيمانك بالقرآن الكريم، فإذا شككت بشيء جاء به القرآن فاعلم أنّ إيمانك بهذا الكتاب لم يكمل، ولا يزال ضعيفًا، أما إذا بلغ إيمانك بأن هذا القرآن كلام الله فأي شيءٍ آخر يتناقض معه تشعر أنه تحت قدمك، لأنه مناقضٌ لكلام خالق الكون.
الأمر تماماً كما لو أنك جئت بجهاز حاسب إلكتروني ثمنه ثلاثون مليونًا، ومعه تعليمات تقدر بألف صفحة ورسوم، ولك جار يعمل في بيع الألبان، وقال لك: هكذا يعمل، وكان كلامه خلاف التعليمات، فمن تصدق؟ مهما كنت تحب هذا الإنسان، قد يكون أخاك، قد يكون قريبًا منك، والمودة بالغة بينك وبينه، فإنك في موضوع تصليح الجهاز وتشغيله تقول له: لا، فهذه ليست من اختصاصك، هذا شيءٌ لا تعرفه أنت، بل يحتاج إلى ذوي اختصاص، فهل يعقل أن أسلِّم جهازًا ثمنه ثلاثون مليونًا وكله صمامات وكله دارات، وشيء معقد جداً، أفأُسلمه لإنسان لا خبرة له بهذا الجهاز ولا بأمثاله، و لو كان أخًا أو صديقا حميمًا؟
فأنت عندما تعرف أن للكون إلهًا عظيمًا، وهذا كتابه، وهذه تعليماته، وأنت كائن بالغ التعقيد، وتعيش حياة في الدنيا محدودة، وفي الآخرة أبدٌ، فإنك لا تسلم نفسك إلا إلى منهج الله عزَّ وجل وتلتزم به.
(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم ))
(( يا ابن عمر، دينَك، دينَك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا. ))
ما قولك أنك إذا صدَّقت إنساناً، ولم تطالبه بالدليل في أمر دينك، واتبعت طريقاً غير صحيح، فلو كان دخلك حراماً مثلاً، أو لو مارست هوايةً لا ترضى الله عزَّ وجل على أنها مشروعة، بزعم زيد ودليل عُبيد، ثم فوجئت يوم القيامة أن زيدًا وعبيدًا لا يفقهان شيئاً، وأنهما ليسا مُخوَّلين أن يوجِّهاك التوجيه الصحيح، وأنك تركت كتاب الله وراء ظهرك، واتبعت أمر أناسٍ جهلاء، أليست هذه خسارةٌ كبيرة؟
فأنا متأكِّد أنك لا تسلم ساعتك لإنسان غير خبير، ساعة لا تسلمها، بل تحرص عليها، وتخاف أن يخربها، فكيف نفسك التي بين جَنْبَيك، كيف هذه النفس التي لا تملك أثمن منها؟ لذلك أكبر خسارةٍ تحيق بك أن تخسر نفسك التي بين جنبيك؛ أن تبقيها جاهلة، أن تبقيها عاصية، أن تحجبها عن أنوار الله عزَّ وجل، وتنأى بها عن رضوانه، هؤلاء الذين تفوقوا في الدنيا، وغابوا عن معرفة الله ما نالوا شيئاً، لذلك أجمل دعاء أنا أكرره:
إذًا عليك أولاً أن تؤمن بالله من خلال آياته الكونية، والتكوينية والقرآنية، فإذا آمنت بالله يجب أن تؤمن بكتابه، إذا آمنت بكتابه تؤمن برسوله، لأنه سيضع بين يديك السُنَّة بتفصيلاتها، فإذا آمنت بالله وكتابه ورسوله من الممكن أن تدخل في فروع الدين، أما أن تدخل في فروع الدين قبل أن تؤمن بأصل الدين، هذا طريقٌ مسدود.
الشيء الذي يلفت النظر قوله تعالى:
﴿ فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ ﴾
1 ـ لا يغرنّك التقلُّبُ في النِّعم:
أحياناً تجد الإنسان من قِصَر بصره إذا رأى إنسانًا لا يصلي، أو لا يعتد بقيم الدين، ولا يعبأ بها، ومع ذلك تراه غنياً، وقوياً، ووسيماً، وذكياً، وطليق اللسان، ويستخدم ذكاءه للتشكيك بالدين، يستخدم وسامته لإغواء الطرف الآخر، يستخدم ماله مثلاً للانغماس في المتع الرخيصة، فالمرء يحتار ويتساءل: يا رب هذا يعصيك، وهو ذو شكل وسيم فما أجمله؟ والمال بين يديه وافرٌ طائل، وقد كلَّف عرسهم ثلاثة عشر مليوناً، ورغم ذلك ليس لديه دِين، قال:
﴿ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(79)﴾
هنيئاً له، إذا رأيت شخصًا عمره خمس وثلاثون سنة محكوم بالإعدام، وسيُنفَّذ فيه بعد أسبوع، ورأيت معه زجاجة عطر ثمنها ثلاثة آلاف ليرة، فهل تقول: هنيئاً له على هذه الزجاجة، إذا كان كذلك فأنت مغفل حقًّا.
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ
والله أيها الإخوة ـ هذا كلام ربما وجدتموه قاسياً ـ إذا كنت مستقيمًا، وقّافًا عند حدود الله، ضابطًا جوارحك، ضابطًا دخلك وإنفاقك، ترضي الله، تؤدِّي الصلوات، تصوم رمضان، تحج البيت، تؤدي زكاة مالك، تغض بصرك، بيتك إسلامي، عملك إسلامي، ورأيت كافرًا فاسقًا فاجرًا على مستوى رفيع من الغنى والثراء، قلت: هنيئاً له ولو بقلبك فأنت غفلت عن الصواب والحقيقة، يقولون لك: والله يا أخي وضعه فوق الريح، ثراؤه فاحش، وهو يعرف كيف يعيش، فهذا القول عنه خطير عليك، خطير على كل من يسمعه.
﴿
فهو غافل عن هذه الآية، إنه ينظف سيارته الساعة الثانية عشرة تهيئةً للنزهة، َصلَّى أم لم يصلِّ سيان، الاختلاط وعدمه عنده يستويان، دخل حرام، دخل حلال يقول لك: لا تدقّق فالله غفور رحيم، فهذا جاهل كل الجهل، وإنّ الذين كفروا حينما يخرجون عن دائرة معالجة الله يُعطَوْن الدنيا، بالتعبير العامي: "خذوها وانمحقوا"، حينما يصرّون على كفرهم، وحينما ينكبّون على شهواتهم، وحينما يؤثرون الدنيا على مرضاة ربهم، عندئذٍ يُعطَوْن الدنيا:
﴿ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ(196)﴾
هذه آية في أواخر سورة آل عمران.
﴿ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ(197)﴾
وهذه آية ثالثة:
﴿
2 ـ المسلم المستقيم أسعدُ الناس:
والله أيها الأخ الكريم، أيها المستقيم، أيها المصلي، أيها الصائم، يا من تغضُّ بصرك، يا من تحرر دخلك، يا من تضبط أعضاءك وجوارحك، يا من تجعل بيتك إسلامياً، وعملك إسلامياً، أيها الأخ الكريم يجب أن تشعر أنك أسعد الناس، وأن طاعة الله أكبر نعمةٍ أنعم الله بها عليك، وأن نعمة الهُدى لا تعدلُها نعمةٌ على وجه الأرض، أن تكون مهتدياً، فالله عزَّ وجل يقول:
﴿ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(22)﴾
شخص أغمض عينيه، و يمشي في الطريق، وفي الطريق حفر فوقع في إحداها، وفي الطريق أكمات ارتطم فيها، وفيه مزالق انزلق فيها، فهل يستوي مع إنسانٍ مبصر يقظ يرى كل شيء؟
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ(18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)﴾
إنّ شابًا نشأ في طاعة الله، يخشى الله، يؤدِّي صلواته، له مجلس علم، يسعى لهداية الخلق؛ فهل هذا كشابٍ آخر من بيتٍ إلى بيت، ومن انحرافٍ إلى انحراف، ومن فيلمٍ إلى فيلم، ومن مسلسل إلى مسلسل، كلامه بذيء، منحرف السلوك والأخلاق، يختلط بالفتيات، ويفعل كل الموبقات، أهذا كهذا؟
﴿ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(36)﴾
هذا مؤمن موعود وعدًا حسنًا من الله عزَّ وجل.
﴿
أنا أشعر أن الأخ الكريم يجب أن يقول إذا سألته عن أحواله: الحمد لله على نعمة الهدى، على نعمة معرفة الله، على نعمة طاعته، على نعمة السَيْر على منهجه، على نعمة البيت المسلم، لك زوجة مؤمنة هذه لا تُقَدَّر بثمن، تعينك على طاعة الله، فهذه النِعَم العظمى، هذه نعم، لأنها سببُ الحياة الأبدية؛ أما تلك التي سماها الله نَعمة ـ بفتح النون.
﴿ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ(27)﴾
هذا المال، وهذا الجمال، وهذا الغنى، وهذه القوة، هذه إن لم تُوظَّف في طاعة الله كانت دركاتٍ إلى جهنَّم، حظوظ النفس إما أنها درجاتٌ إلى الجنة، أو دركاتٌ إلى النار، هي حيادية.
لذلك سيدنا عمر كان إذا أصابته مصيبة يقول:
نحن من باب أولى؛ إذا كان دينك سليمًا، دخلك حلالًا، زوجتك محجَّبة، أولادك أبرارًا، عملك مشروعاً، وليس لديك غلط، وليس عندك مادة محرمة في تجارتك، وليس لديك طريقة محرمة بالتعامل، فإذا كانت هناك أزمات تواجهك في حياتك، فهذا مما لا بد منه مع كل الناس، مرحباً بقضاء الله وقدره، فالإنسانُ يمتحن بالبحبوحة وبالضيق، لم أسمع أحدًا جرّب سيارة في طريق نازل، بل يجرّبها في طريق صاعد، وأنت مؤمن لابد من أن تمتحن بالشدة أحياناً.
ألا تحب أن تكون على رؤوس الأشهاد يوم القيامة مؤمناً صادقاً؟ ألم يخطر ببالك ذات مرة أن الله عزَّ وجل قادرٌ أن يخلق النبي وأصحابه المحبين له وحدهم في بلد، دون أن يكون معهم أحد؟ كل أصحابه؛ سيدنا الصديق وسيدنا عمر، وسيدنا عثمان وسيدنا علي، وطلحة والزبير، والحسن والحسين، ولا أحد يعاديهم أو يعارضهم، أجل كان ذلك ممكنًا، فالله على كل شيء قدير، لكن إذا لم تكن هناك معارضة ولا متاعب، ولا جهاد، فالحياة عندئذٍ تصبح لا معنى لها، وأنت عندئذ لا ترقى إلى الله عزَّ وجل.
3 ـ الهناء بعد التعب:
إنّ شخصًا تعب في دراسته إلى أن نال الدكتوراه، يقول لك فيما بعد: أنا في كل حياتي هانئ، فقد تعبت في الأيام السابقة، فلولا هذا التعب لم أبلغ هذه الراحة، هذه الراحة أساسها التعب، والجنة التي وعد الله بها المتَّقين لن يستحقها الإنسان، ولن يشعر بطعمها إلا إذا ابتليَ في الدنيا، وامتُحِن ودفع الثمن، ولذلك فالمؤمن كلما ارتقى سلّم الإيمان واجهه الابتلاء، ويشعر أن الله سبحانه وتعالى لابُدَّ من أن يرقِّيه، ولكن مرة بالرخاء ومرة بالشدة.
4 ـ ما هو الغرور ؟
﴿ إِ
يا رب ارزق المؤمنين فقط، فالله عزَّ وجل قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ(38)﴾
يا عبدي أأنت راضٍ بها؟ أعجبتك وكفتك؟ ألا تطمع بما عندي من جنة؟
خاتمة:
يا أيها الإخوة الكرام، أعظم نعمةٍ أنعم الله بها علينا أنه هدانا إليه، وعرّفنا بذاته، وأعاننا على طاعته، فهذه نعمةٌ ما بعدها نعمة، وما سوى ذلك فكل مصيبةٍ تهون أمام هذه النعمة، كل ضائقةٍ تزول، كل كربٍ ينتهي، كل مرضٍ إلى شفاء إن شاء الله، فالإنسان لا يجعل الدنيا أكبر همه، يجعل معرفة الله أكبر همه، بل يجعل طاعة الله عزَّ وجل أكبر همه، فإذا فعل ذلك كان في رضوان الله عزَّ وجل.
فالله عزَّ وجل ما منح النبي الكريم وأصحابه الكرام النصر والعز إلا بعد أن دفعوا الثمن، فالإنسان أحياناً يجد متاعب في بيته، متاعب في عمله، متاعب في كسب الرزق، متاعب في الاستقامة في عمله، يقول لك: وقعت في حرج، فهذا لا بدّ منه، هذا الإحراج هو الذي يرقى بك إلى الله عزَّ وجل، هذا الإحراج هو الذي يظهر شرفك عند الله وعند الناس، لكن هناك من يرضي الناس كلهم، قالوا:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.