- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (040)سورة غافر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثالث من سورة غافر، ومع الآية الرابعة من هذه السورة، يقول الله سبحانه و تعالى:
﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ(4)﴾
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَاد
1 ـ العقل أداة بحسب الاستعمال:
ذكرت لكم في الدرس الماضي أن العقل البشري أعظم شيءٍ خلقه الله في الكَون، إنما خلقه من أجل أن يكون أداةً لمعرفة الله، فكيف يستخدمه الإنسان أداةً لتغطية الانحراف، وفلسفة الشرك، وترويج الباطل، وتبرير الخطيئة؟ ذكرت مثلاً لعلَّه يوضِّح تلك الآية:
لو أن جهازاً طابعاً ـ آلة طباعة ملوَّنةً ـ أي أنها تُعَدُّ قمَّةً في بابها، لو أُعطيت لمهندسٍ فاستخدمها في اختصاصه لقفزت أعماله قفزةً نوعيَّة، ولكانت هذه الآلة الطابعة الملوَّنة التي تُظهر أدقَّ الألوان معواناً له في عمله، ولارتقى عمله درجاتٍ كبيرة؛ ولو أن إنساناً اشترى هذه الآلة، واستخدمها في تزوير النَقد، ووقع تحت طائلة القانون والعقوبات، فأودِعَ في السجن، فالآلة هي هِي، عندما استخدِمَت لما صُنِعَت له، فارتقى َمن استخدمها، وحقَّق أرباحاً طائلةً، ولمع اسمه، واستخدمها إنسانٌ سيئ بأبشعِ استغلال، واستخدمها لغير ما صُنِعَت له، فأودِعَ في السجن وصُودرت أمواله كلها، فالآلة رفعت الأول، والآلة أهلكت الثاني.
فكيف يستخدم الإنسان عقله الذي هو في الأصل من أجل معرفة الله، من أجل أن يرقى إلى الله، من أجل أن يصل إلى الله، من أجل أن يتفنَّن في خدمة الخلق، من أجل أن يُعْمِلَهُ في الأعمال الصالحة، من أجل أن يكون العقل أداةً لسعادةٍ أبديَّة، العقل هوَ هو نفسه إذا استُخْدِمَ لغير ما صُنِعَ له، لغير ما خُلِقَ له، يغدو أداة شرٍ مستطير، وينحدر بصاحبه دركاتٍ في جهنَّم.
إذاً: حيثما ورددت كلمة مجادلة فاعلم أنّه إنسان سيئ، اختار الدنيا، واختار الشهوة، فوجِئ أو رأى أن بيده عقلاً، بإمكان هذا العقل أن يقلِب الحق إلى باطل، والخير إلى شر، فاستخدم العقل في فلسفة الشرك، وفي تبرير الخطيئة، وفي تغطية الانحراف، فكانت المجادلة، فالمجادل إنسان ذكي، لكن يستخدم عقله لغير ما صُنع له، يستخدمه في وظيفةٍ لم يُخْلَقْ من أجلها. هذه الآلة الطابعة الملوَّنة، الغالية جداً، حدَّثني عنها أخ فقال لي: إن ثمنها مليون ليرة، آلة طابعة ملوَّنة تظهر أدقَّ الأوان، لو أن مهندساً يعمل في تصميم الأشكال عن طريق الأجهزة الحاسبة، فهذه التصاميم يتم إنجازها في دقائق، ثم إن أرسلها إلى تلك الطابعة يغْدُ هذا التصميم مُجسَّداً ملوَّناً، فبهذا يكون المهندس قد ارتقى عمله، وقفز قفزات سريعة جداً، فحقَّق أرباحًا طائلة، وحقَّق اسمًا في البلد، وتألَّق نجمه من خلال هذا الجهاز البالغ التعقيد، بينما هذا الجهاز نفسه لو استخدمه مزوِّر عملةٍ، وأتقن التزوير، وضُبِطَ متلبِّساً بجرمه، وأُودِعَ السجن، كانت هذه الآلة التي أعانته على التزوير سبباً لهلاكه.
2 ـ المنحرف يفلسف انحرافه بعقله:
فإذا رأيت في القرآن الكريم آيات تشير إلى المجادلة والمشاحنة، هؤلاء الذين يقلبون الحق إلى باطل، هؤلاء الذي يبرِّرون أغلاطهم بذكاءٍ بارع، هؤلاء الذين يفلسفون المعاصي ويعطونها أسماء غير أسمائها، فإذا نافق الإنسان يسمَّى مرنًا، وإذا كان متفلِّتًا يسمى حضارة وحرية، وإذا كانت له أساليب ملتوية في جمع الأموال يسمَّى ذكيًا ماهرًا، وإذا كان مجتمع فيه اختلاط يقول لك: هذا مجتمع راقٍ مخملي، فهذه كلُّها أسماء من ابتداع العقل البشري، وأحياناً يعطونك فلسفة لكل معصية، وتبريرًا لكل خطيئة، وتغطية لكل انحراف، هذا الذي يجادل، هذا الذي يتحرَّك بعقله حركةً معاكسةً للقرآن الكريم هذا مجادل، هذا إنسان منحرف كمزوِّر العملة، عثر على آلة تصوير ملوَّنة رفيعة المستوى، فأعانته على عمله الإجرامي، فلمَّا ضُبِط كانت هذه الآلة سبيلاً إلى دخوله السجن، لهذا قال الله عزَّ وجل:
3 ـ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا
هو كَفَر بالله، وكفر باليوم الآخر، وآمن بالدنيا، وآمن بالمادَّة، وآمن بالمال فقط، واتخذ سبيل الشهوة طريقاً له، وجعل إلهه هواه، ولديه عقل، معه عقل مبدع خلاق، فاستخدم العقل لغير ما خُلِقَ له، استخدم العقل لجمع الأموال عن طريقٍ غير مشروع، استخدم العقل للوصول إلى رغباته الدنيئة؛ فنصَب الحيل، ونصَب الشباك. إذاً العقل يُستخدم استخداماً مشروعاً فيرقى بصاحبه، ويُستخدَم استخداماً غير مشروعٍ فيهْوي بصاحبه. العقل صار درجاتٌ إلى الجنَّة، أو دركاتٌ إلى النار، سلَّمٌ ترقى به، أو منزلقٌ تهوي به، والعقل هوَ هو.
الحظوظ الدنيوية حيادية:
وهذا يذكِّرنا مرَّةً ثانية بأن كل الحظوظ التي آتاك الله إيَّاها في الدنيا؛ كحظِّ العقل الراجح، وحظ المال، وحظ الجاه، وحظ القوَّة، وحظ الذكاء، وحظ الوسامة، كل هذه الحظوظ حياديَّة ترقى بها أو تهوي بها، طريقٌ إلى الجنَّة، أو منزلقٌ إلى النار، ولذلك فالإنسان مخيَّر.
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)﴾
بل إن من المعاني الدقيقة التي أكرم الله بها المؤمنين، أن كلمة (الشكر) من معانيها: أنْ تستخدم النعمة في الحق، فأنت إنسان لك ميِّزات كثيرة، لأنك إنسان عاقل، إنسان قوي في مقتبل حياتك، إنسان ذو مال، إنسان ذو جاه، إنسان ذو ذكاء، إنسان ذو بيان، طليق اللسان، قويُّ الحجَّة، دقيق البيان، كل هذه الحظوظ التي أكرمك الله بها بإمكانك أن ترقى بها إلى الجنة، والجنة تحتاج إلى عمل، والعمل هو استخدام الحظوظ؛ فهذا إنسان يرقى إلى الله بإتقان صنعته، هذا يرقى إلى الله بإنفاق ماله، هذا يرقى بإنتاجه العقلي، يستخدم عقله في التعريف بالله عزَّ وجل، هذا يستخدم قلمه الأدبي في تأليف كتبٍ تدلُّ على الله عزَّ وجل، فهذه نقطة مهمَّة جداً، فليس في الوجود إنسان بلا حظوظ.
الأصح من ذلك أن مجموع الحظوظ متفاوتة، الحظوظ منوَّعة، هي متفاوتة بين الناس، لكن لو أجريت دراسة دقيقَة دقيقة، متأنيَّة متأنية، صابرة أو صبورة، لرأيت أن الإنسان في مجموعِ حظوظه يكافئ مجموع أي إنسانٍ آخر؛ فراحة البال حظ، والدخل حظ، فإذا ارتفع الدخل قلَّت معه راحة البال، وإذا انخفض الدخل ارتفعت معه راحة البال، فلو أعطينا راحة البال درجات، وأعطينا الدخل درجات، وجمعنا هذه الدرجات، لكان المجموع واحداً عند معظم الناس.
ربنا عزَّ وجل جعل الدنيا دار ابتلاء، ولم يَجعلها دار جزاء، لو جعلها دار جزاء لكان هيناً عليه أن يعطي كل إنسان كل الحظوظ في أعلى درجاتها، في درجاتها المُطْلَقَة، فأحياناً تجد امرأةً تجمع بين النسب، والجمال، والغنى، وربَّما كان اجتماع هذه الحظوظ لديها وبالاً عليها، فأن يصل الإنسان إلى المُطْلَق في الدنيا ربَّما كان هذا سبب البلاء، فربنا عزَّ وجل هو الذي وزَّع الحظوظ.
الحظوظ الدنيوية موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء، ويوم القيامة توزَّع توزيع جزاء:
ولكن هذا يعطينا معنىً آخر، وهو أن الحظوظ في الدنيا موزَّعة، لكن توزيعها توزيع ابتلاء، وسوف تُوزَّع في الآخرة، لكن توزيع الآخرة توزيع جزاء، وأوضح مَثَلٍ الغنى والفقر، إنسان عاش ثمانين سنة، وهو عمر عالٍ، بينما النموذجي ستون سنة، الواقعي خمسة وخمسون سنة، سنأخذ إذًا عمر ستين سنة لمثالنا هذا ـ إنسانان غنيٌ وفقير، عاش كل منهما ستين عاما ًوتزامنا في فترة واحدة، واحد منهما تمتَّع بالغنى الذي لا حدود له، فأكل ما لذَّ وطاب، وسكن أفخر البيوت، وركب أجمل المراكب، وسافر، وتجوَّل، أعطى نفسه كل شهواته؛ وإنسان عاش في حرمانٍ وفقرٍ مدقع، فحياته خشنةٌ، طعامه خشن، بيته قميء، ثيابه رثَّة.
إنسانان، الأول امتُحِن بالغنى، والثاني امتُحِن بالفقر، الغنى في حق الأول ابتلاء، والفقر في حق الثاني ابتلاء، لو تصوَّرنا أن الغنيّ امتُحن بالغنى فلم ينجح، فتاهَى بماله على عباد الله، وأنفق ماله على شهواتٍ لا ترضي الله، ومنعه أهلهَ ومستحقيه، والمال جعل صاحبه يزهو على عباد الله؛ والفقير رضي بقسمة الله له، واستقام على أمر الله، واتَّقى الله في كل حياته، إلى أن وافت المنيَّة الرجلين.
ففي الآخرة ستنعكس الآية، الذي كان فقيراً، ونجح سيغدو غنياً إلى أبد الآبدين؛ والذي كان غنياً فرسب سيغدو فقيراً إلى أبد الآبدين، هذا معنى قول سيدنا علي:
لكن ما الذي يمنع أن ينجح الغني في غناه في الدنيا فيغدو غنياً إلى أبد الآبدين؟ ما الذي يمنعه؟ ليس الفقير الصابر بأعظم أجراً من الغني الشاكر.
الإنسان يحتاج إلى تفكير، إلى أن يُعْمِلَ عقله، سيدنا نُعَيْم بن مسعود ـ نحن نقول: سيدنا من دون أن نشعر، جاء مع جيش أبي سفيان ليحارب المسلمين في المدينة، ثم أسلم، وصار صحابيًا جليلاً، وإنسانًا عظيمًا ـ إذًا: جاء مع الأحزاب ليقاتل النبي يوم الخندق، وقد بقي الحصار مستمرًّا عشرين ليلةً، وفي إحدى الليالي أصابه أرقٌ، فخاطب نفسه، أجرى حوارًا ذاتيًا، قال:
معركة الخندق من دون مبالغة تمَّ فيها النصر على يدِ نُعيم بن مسعود، كان ذكياً عاقلاً استخدم ذكاءه في أعلى درجة، فرَّق الأحزاب وأوقع بينهم، وجعل بعضهم يشك ببعض، وجاءت الرياح فقلبت القدور، واقتلعت الخيام، وأطفأت النار، وكفى الله المؤمنين القتال.
لذلك هذا العقل الذي نتحدَّث عنه به تسعد، وبه تشقى، تذكَّر مثل الآلة، آلة غالية جداً، وفيها ألوان دقيقة جداً، يمكن أن تجني منها مئات الألوف بل والملايين، ويمكن أن تودعك السجن، والآلة هي نفسها، إن استخدمتها فيما صُنعت له ارتقيت، وإن استخدمتها فيما لم تُصنع له، فزوَّرت بها العملة، ربَّما أودى بك هذا العمل إلى السجن والهلاك.
﴿ مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ(4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(5)﴾
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ
1 ـ معركة الحق والباطل قديمة مستمرة:
الحقيقة معركة الحق مع الباطل معركةٌ قديمةٌ ومستمرَّة، الإنسان لا يُفاجأ، فبالحياة حقٌ وباطل، هناك حٌّق اعتقادي، وحق سلوكي، وباطل اعتقادي؛ آراء، ومذاهب، ونظريَّات، وفلسفات كلُّها باطلة، وهناك سلوك أساسه الحق والاستقامة، وسلوك أساسه الانحراف، هناك معركةٌ قديمةٌ ومستمرَّةٌ وأبديَّةٌ بين الحق والباطل، فإذا كذَّب كفَّار قريش النبيَّ عليه الصلاة والسلام، ينبغي ألاّ يحزن النبي، فالله سبحانه وتعالى يواسيه، قال:
2 ـ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ
﴿
3 ـ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ
4 ـ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ
لو أن إنسانًا تيسّر له أن يطَّلع على تاريخ الفِرَق الضالَّة في التاريخ الإسلامي، لرأى أنها أكثر من أن تُعَد، وأكثر من أن تحصى، وكل فرقة بنت اعتقادها على فلسفة معيَّنة، وعلى أدلَّة معيَّنة، وعلى كلام مُزَخْرَف، ونمَّقوا، وزخرفوا، وأفْسَدوا، وفي النهاية بقي الحق شامخاً، وكل هذه الفرق تداعت كبيت العنكبوت، الباطل باطل:
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ
كان زهوقاً، بمعنى أن من شأن الباطل أنه زهوق، ما قال: كان زاهِقاً، بل
﴿ قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)﴾
فأين أنا؟ معكما أسمع و أرى؛ هذه الكلمة مطمئنة، الله موجود.
﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ(46)﴾
جبالٌ بأكملها تزول من مكرهم
﴿ وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ(42)﴾
حتى إن بعض الآيات التي وردَت في القرآن الكريم من أن الناس جميعاً بمن فيهم المؤمنون سوف يَرِدون النار، ورود النار لا يعني دخولها، الورود أن تقترب منها لترى مَن فيها، مِن أجل أن يتحقَّق اسم الحق، فالإنسان كان في الدنيا، ورأى من اعتدى على حقوق الآخرين، من اعتدى على حياة الآخرين، من اعتدى على أعراض الآخرين، ربَّما لم يُحاسَب في الدنيا، لكن اسم الله هو الحق، وهذا مثل بسيط: لو أنك قرأت قصَّة، أو شهدتَ عملاً مُمَثَّلاً، ففي أول فصل قُتِل إنسان، وتمَّت مشكلة، ووقعت جريمة، وأُرخي الستار، هل تعتقد أن المسرحيَّة انتهت؟ فماذا حلَّ بالقاتل؟ ماذا حلَّ بهذا الذي فعل هذه الجريمة؟ المسرحيَّة ناقصة، لو أن الستار أُرخِي فهذا فصل واحد، وبقيت فصول، فالحياة تمثِّل فصلًا واحدًا، والفصل الثاني يوم القيامة من أجل أن تُسوَّى الحقوق، أن يُعطى كل ذي حقٍ حقَّه، أن يُؤخَذ للمظلوم من الظالم، وللمُعتدَى عليه من المعتدي، وأن ينال كل مظلومٍ حقَّه، لذلك فالله سبحانه وتعالى بدأ الخلق، ثم يعيده لتُجزى كل نفسٍ بما تسعى، فإعادة الخلق من أجل الجزاء.
5 ـ نيَّة الكافر شرٌ من عمله:
لا تيأس مهما عظُم العدو وطغى:
ربنا عزَّ وجل علّمنا من خلال قصة سيدنا موسى مع سيدنا الخضر، فسيدنا موسى يحمل الأمر التكليفي، بينما سيدنا الخضر أعطاه الله سرَّ الأمر التكويني، فالله عزَّ وجل له أمر ونهي، وله أفعال، فبعض أفعاله أطلعَ سيدنا الخضر على سرِّها، وعلَّم سيدنا موسى الأمر التكليفي؛ افعل ولا تفعل، الحلال والحرام، فربنا عزَّ وجل أطلعنا على أن هذا الذي خُرِقَت سفينته، فهذا الخرق شرٌ في نظره، لكن بعد حين تكشَّف أن هذا الشر النسبي هو خيرٌ مطلق، نجت من المصادرة، فيا حبَّذا هذا الخرق كي تنجو من المصادرة، وهذا الذي أنشأ بناءً من دون أن يأخذ أجرةً كان هذا هو الخير، والقصَّة بين أيديكم في سورة الكهف، تُعَلِّمنا أن الفعل التكويني خيرٌ مطلق، لكن قد يبدو للإنسان شرَّاً نسبياً، هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ
فالمؤمن مستسلم لله عزَّ وجل، فعليه أن يتقصَّى أمر الله عزَّ وجل، وهو راضٍ بقضاء الله وقدره.
أريد من هذه الآية أنك مهما سمعت عن كيد الكافرين، وعن خططهم الجهنَّميَّة، وعن نيّاتهم الشريرة، وعن أعمالهم الفظيعة، مهما سمعت لا ينبغي أن تضعف همَّتك، ولا ينبغي أن تشعر بالوَهن، يقول لك: يا أخي انتهينا، لن تقوم للمسلمين قائمةٌ بعد اليوم، وتسمع منه: المستقبل مظلم، وأعداؤنا تملَّكوا زمام الأمور، أمورنا بيدهم، هذا الكلام يُلقى، هذا من عمل الشيطان.
﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(175)﴾
فهذا الذي حدث في شرق الأرض، من كان يظن أنه يحدث قبل خمسة أعوام؟ والله لو أنّ أحدًا تنبَّأ بحدوثه لأُودِع مستشفى المجانين، ثمَّ حدث ما حدث، معنى هذا أن الله عزَّ وجل موجود.
﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا(15) وَأَكِيدُ كَيْدًا(16)﴾
﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ
مكرُ الله عزَّ وجل يسمونه في البلاغة "مشاكلة"، ليس هذا مكراً، لكنه تدبير حكيم، لكنَّه تدبيرٌ يردُّ على مكرهم، تدبيرٌ يوقفهم عند حدِّهم، تدبيرٌ يعلِّمهم أنه لا إله إلا الله.
وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ
إخوة يوسف ماذا فعلوا؟ بخطَّةٍ جهنَّميَّةٍ أرادوا أن يتخلَّصوا من أخيهم يوسف، طفلٌ صغير كالوردة أُودِعَ في جُبٍّ ليموت، احتمال الموت محقَّق.
﴿
إلى أن أصبح هذا الطفل المقهور عزيزَ مصر.
﴿ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ ۖ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَٰذَا أَخِي ۖ قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا ۖ إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)﴾
ربُّنا عزَّ وجل علَّمنا فقال:
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ
هذه آية يجب أن تكون شعار كل مسلم
(( لعلَّه يا عدي إنما يمنعك من دخولٍ في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، وايم الله ليوشكنَّ أن تسمع بالمرأة البابلية تحجُّ البيت على بعيرها هذا لا تخاف، لعلَّه إنما يمنعك يا عدي من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوِّهم، وايم الله ليوشكنَّ أن ترى القصور البابليَّة مفتَّحةً لهم، لعلَّه إنما يمنعك يا عدي من دخولٍ في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ـ أناس فقراء ـ وايم الله ليوشكنَّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه. ))
الحقيقة أن الخط البياني للدعوة الإسلاميَّة كان في الحضيض لما قدم الرسول إلى الطائف، فالنبي ذهب ماشيًا على رجليه، وقطع ثمانين كيلو متراً ليدعو أهل الطائف، فكذَّبوه، وسخروا منه، وتهجَّموا عليه، واعتدوا عليه. "إن الله ناصر نبيِّه" في الهجرة، ونحن في ذكرى الهجرة.
(( كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى. ))
فبربِّكم إنسان في دولة من دول العالم الخامس وليس الثالث، دولة متخلِّفة جداً جِداً، ليس فيها شيء، صحراء وخيام، لو قلنا لأحد أفرادها: كيف بك أن تتصدَّر البيت الأبيض ـ في واشنطن ـ بماذا يتَّهمك؟ بالجنون، النبي عليه الصلاة والسلام وهو مطارد، دمه مباح، مئتا ناقة لمن يأتِ به حياً أو ميِّتاً، يلتقي بسراقة فيقول له:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا ۖ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ۚ
فإذا اللهُ عزَّ وجل وعد المؤمنين بالنصر فنحن علينا أن نطيعه فقط،، فهذه مهمَّتي، أنا لا أملك أن أمنع قِوى الشر أن تفعل ما تفعل، هذه بيد الله عزَّ وجل، ولكني أملك أن أطيعه أولاً، فإذا أطعته ألهمني رُشْدِي، وأعانني، وقلبَ الموازين أمامي، أما إذا لم أطعْه، وبقيت على مستوى العواطف، والثقافة الإسلاميَّة، والعاطفة الإسلاميّة، ولكن ليس هناك تطبيق إسلامي، عندئذٍ لا نستحق النصر.
هكذا ينتقم الله من أدائه وينتصر لأوليائه:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112)﴾
ألا ترى مدناً فسقت وفَجَرَتْ فأصابها زلزالٌ فهزَّ أركانها؟ ألم ترَ الأعاصير تجتاح أجمل الولايات في بعض البلاد؟ يقول لك: الخسارة بلغت ثلاثين ملياراً في يومين، لم يبقَ شيءٌ على الساحل إلا وقد هُدِّم، إعصار واحد، ترى الكوارث الطبيعيَّة، الزلازل، البراكين، الحروب الأهليَّة، بأس الإنسان، كلها عقاب إلهيّ.
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)﴾
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ
هذه معيَّة خاصَّة أيها الإخوة، أي أنّه معك بالتأييد، معك بالحفظ، معك بالنصر، واللهِ هذه آية لا أشبع من تكرارها:
﴿
مَن منكم يحب المرض يا أيها الإخوة؟ مَن يحب القهر؟ من يحب الذل؟ من يحب التعذيب؟ من يحب الفقر المُدْقِع؟ من يحب الشقاء الزوجي؟ من يحب أولادًا عاقِّين؟ هذا كله لا يحتمل، ربنا سبحانه قال:
﴿ وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(6)﴾
وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ
1 ـ معنى: حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
قد يفهم بعضهم الآية فهماً ما أراده الله أبداً، فنحن قد قررنا في النظام الداخلي للمدارس أنّ كلّ من يتغيَّب أسبوعين عن المدرسة يُفصَل، المادة رقم ثلاثة في النظام الداخلي للمدارس، فقد يغيب طالب يومًا، يومين، ثلاثة، خمسة، اثني عشر، ثلاثة عشر، أربع عشرة، لكن إذا غاب خمسة عشر انطبقت عليه المادَّة الثالثة من النظام الداخلي فاستحقَّ الفصل، هذا هو المعنى بالضبط، هذا المعنى الذي يليق بجلال الله عزَّ وجل.
(( إنَّ العَرقَ ليلزمُ المرءَ في الموقِفِ؛ حتَّى يقولَ: يا ربِّ إرْسالُك بي إلى النَّارِ أَهوَنُ عليَّ مِمَّا أجدُ وَهوَ يعلمُ ما فيها من شدَّةِ العذابِ. ))
2 ـ العذاب الدنيوي للكافر:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(126)﴾
هناك إنسان في بعض المدن كان ثَمِلاً ـ شرب الخمرة حتى ثَمِل ـ فلمَّا دخل البيت قتل زوجته وأولاده الخمسة، فلمَّا صحا سأل نفسه: ماذا فعلت؟ فقتل نفسه، لأنه ما تحمَّل هذه الجريمة، نفسك لها قوانين.
حدَّثني رجل عن إنسان يقود مركبته الساعة الثانية ليلاً، وأب أرسل ابنه ليشتري له حاجة من البقاليَّة تفتح إلى ساعة متأخِّرة من الليل، فسائق السيارة دهس هذا الطفل الصغير، وأرداه قتيلاً، وعدا لا يلوي على شيء، ما أحد عرف من القاتل، ولم يُكتب ضبط، ولم يُلاحق من قِبَل الشرطة، يقول هذا الذي دهس الغلام: بقيت عشرين يوماً لم أذق طعم النوم، إلى أن اتصل بطبيب نفسي، الطبيب أدرك المشكلة ـ الشعور بالذنب ـ طفل وديع، يصبح تحت عجلات السيارة، وبالطبع ما أحد أدانه، وما أحد ضبطه، هذا الطبيب كان حكيماً فقال له: لن ترتاح نفسك إلا إذا أرسلت لأهل القتيل الديَّة الكبيرة، لعلَّك إذا دفعت هذا المبلغ الكبير أن تنام الليل ـ فلا أحد أحياناً يعذّب المعتدي أو المخطئ، ولكنه يعذِّب نفسه.
هناك عذاب في جهنَّم، عذاب الحريق وهذا ثابت ويضاف إليه العذاب النفسي كذلك، أجل يضاف إلى عذاب الحريق، إلى عذاب النار التي تشوي الجلود عذاب النفس وهو شديد
﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا(14)﴾
﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(7)﴾
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ
1 ـ الملائكةُ أنصحُ خلقِ الله إلى البشر، وأغشُّ خلق الله إلى البشر الشياطين:
هؤلاء مَنْ؟ الملائكة، أنصح خلق الله إلى البشر الملائكة، وأغشُّ خلق الله إلى البشر الشياطين، من غير الإنس أنصح مخلوقٍ لك المَلَك، وأغشُّ مخلوقٍ لك الشيطان، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أن لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60) وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(64)﴾
كلَّما رأيت إنسانًا يُشْنَق، أقول: هذا من عمل الشيطان، سار مع الشيطان فكان هذا مصيره، كلَّما رأيت إنسانًا مودعًا في السجن لاقترافه الجرائم، المخدِّرات، القتل، السرقة، أقول: هذا من عمل الشيطان، الشيطان سوَّل له هذه المعاصي فاستحقَّ هذا المصير، كلَّما وجدت شِقاقًا زوجيًا غير محتمل أقول: أحد الزوجين مع الشيطان يسلك سلوك الشيطان، والشيطان يأتينا عن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن أمامنا، ومن ورائنا، عن أيماننا بالغلوِّ في الدين، غلو الإفراط، وغلو التفريط، وغلو التعصُّب، غُلوّ المنافسة، غُلوّ الحسد، غُلو الطَعْن، غلو الاعتقاد إلى درجة أن يقولوا: إننا وحدنا على حق، هذا غلو عن أيمانهم، وعن شمائلهم المعاصي، ومن بين أيديهم التجديد والتحديث، ومن خلفهم التمسُّك بالتقاليد غير الإسلاميَّة، أربع جهات، لكن جهة العلو ـ جهة الاتصال بالله عزَّ وجل ـ فهذه طريقٌ آمنةٌ وسالكة، وكذلك جهة العبوديَّة لله جهةٌ آمنةٌ وسالكة.
2 ـ العرش:
فهؤلاء الملائكة
بعضهم قال:
على كلٍ الملائكة
الموقف الأول الصحيح: فوّضوا أمر تفسيرها إلى الله، العرش معلوم، والكيف مجهول، لأن هذه مُغيَّبات، فالله أخبرنا أنه يوجد عرش في السماء، فليست لدينا إمكانيَّة أن نصل له، ما عندنا إمكانيَّة أن نعمل له تنظيرًا، مثلاً بالأشعَّة نصوِّره، بالطيف نصوَّره، لا مجال لذلك، علمُنا قاصرٌ عن إدراك العرش، وأي تفسير للعرش لم يرد في الحديث الصحيح هو غير صحيح، فنحن في مثل هذه الكلمات الغيبيَّة لا نملك إلاَّ التصديق، لأن الله عزَّ وجل:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ
السلف فوَّضوا أمر هذه الآيات إلى الله، الخلف أوَّلوها ـ وهذا شيءٌ جميل ـ قالوا: وجاء ربُّك؛ أيْ جاء أمره، يد الله؛ أيْ قدرته، سمعه وبصره؛ أيْ علمه، نفسه؛ أيْ ذاته، نزل بمعنى أن الله سبحانه وتعالى سمح لهذا العبد أن يُناجيه، هذا هو المعنى، فإما أن تفوِّض، وإما أن تؤوِّل.
أما الذين عطَّلوا هذه الآيات، وأما الذين جسَّدوها، جسَّدوا، وعطَّلوا فهم فرقتان ضالتان، نحن مع التفويض أو مع التأويل، ولسنا مع التعطيل ولا مع التجسيد.
إذاً الملائكة:
3 ـ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا
﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ(78)﴾
فبقدر ما هو عظيم بقدر ما هو كامل، فعند الله تجد رحمةً وعلماً، بقدر ما هو عليم هو رحيم، أفعال الله كلها تنِظُمَها رحمته وعلمه.
دعاء الملائكة للمؤمنين:
لا يسعد الأبُ إلا إذا رأى ابنه سعيداً:
﴿ رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(8)﴾
وهذه بشارة للمؤمن إذا ربَّى أبناءه تربيَّةً صالحة:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ
والأب لا يسعد إلا إذا رأى ابنه سعيداً
﴿ وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ
معنى هذا.
﴿ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(8) وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)﴾
كل مصائب الدنيا تهون، لكن احذر المعصية:
فإذا وصل الإنسان إلى دار السلام بسلام، إذا انتهت حياته إلى الجنَّة، فقد فاز فوزاً عظيماً، وما فاته شيئاً من الدنيا، لذلك سيدنا الصديق كُتِبَ عنه أشياء كثيرة، لفت نظري مرَّة هذه العبارة: "ما ندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط"، فإذا أنت عرفت الله عزَّ وجل، واستقمت على أمره، وسلكت الطريق إليه، وكان دخلك محدودًا، فلا بأس، إنا لله وإنا إليه راجعون، زواجك غير ناجح، لا مانع، الأولاد من الدرجة الوسطى، لا بأس، خمس أو ست علل في جسمك، أفوض أمري إلى الله، ما فاتك شيء من دنياك أبداً، فقد وصلت أخيرًا إلى جوهر الحياة.
أما الذي أعطاه الله كل شيء، وحجب عنه معرفته، حجب عنه شرعه، حجب عنه الكمال، ما ربح شيئاً، هذا معنى القول الثابت: "يا رب ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك".
من هنا كان سيدنا عمر إذا أصابته مصيبةٌ قال:
هذه المرأة الأنصاريَّة التي رأت ابنها قتيلاً في أرض أُحد، وبعد قليل رأت زوجها قتيلاً، ثم رأت أباها قتيلاً، رأت أخاها كذلك قتيلاً - هذا شيء فوق طاقة البشر، الزوج والابن والأب والأخ ـ قالت: "ما فعل رسول الله؟" قالوا: "هو بخير"، قالت:
الإنسان إذا كان دينه سليمًا فالمشكلة يسيرة، هو مثلاً ساكن في بيت عالٍ، أو قبو بأجرة، ملك، كبير، صغير، ضمن المدينة، خارج المدينة، هذه ليست مشكلة، أجل، ليست هذه المشكلة، المشكلة أن تعصي الله، المشكلة أن يكون الطريق مسدودًا، المشكلة أن يصل الطريق إلى النار فهذه هي المشكلة، بل هذه مشكلة المشاكل.
أما الأمور كلها تمضي، والموت يسوي بين جميع الناس، فالرياضي يموت، والإنسان الذي أهمل في نفسه يموت، والغني يموت، والفقير يموت، والقوي يموت، والضعيف يموت، والحاكم يموت، والمحكوم يموت، والظالم يموت، والمظلوم يموت، كلهم يموتون ـ سبحان من قهر عباده بالموت ـ كل مخلوقٍ يموت، ولا يبقى إلا ذو العزَّة والجبروت، المشكلة أن تقع في معصية، فقط هذه هي المُشكلة، لذلك: كفاك على عدوِّك نصراً أنه في معصية الله، إذا كنت مستقيمًا فأنت الفائز الأول، أنت الرابح، أنت المفلح، أنت الناجح، أنت المتفوِّق.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.