- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (040)سورة غافر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس من سورة غافر، ومع الآية الرابعة عشرَ، وهي قوله تعالى:
﴿ فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(14)﴾
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
1 ـ الإخلاص أساس العمل:
الآية الكريمة تشير إلى الإخلاص، والإخلاص أساس العمل، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. ))
أي أن قيمة العمل من خلال نيَّته فقط، وليس من خلال شيءٍ آخر، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام قال لمعاذ:
(( أخلص دينك يكفك القليل من العمل. ))
وقد قيل:
﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا(23)﴾
وقالوا: الله عزَّ وجل لا يتقبَّل من العمل إلا ما كان خالصاً وصواباً، خالصاً: ما ابتغي به وجه الله، وصواباً: ما وافق السُنَّة.
والإنسان أيها الإخوة، بفطرته يشعر ما إذا كان مخلِصاً أو غير مخلِص، إن كان مخلصاً شعر أن الله قد قَبِلَه، وأن الله عاد عليه بالسكينة، وعاد عليه بالتجلي، وكأن ثمن إخلاصه يقبضه عاجلاً لا آجلاً، أما إذا صلَّى الإنسان، وعمل الصالحات، وقرأ القرآن، ودعا إلى الله، وما شعر بشيء، ففي عمله خللٌ خطير، وفي إخلاصه نقصٌ كبير، إذا صليت، وصمت، وقرأت القرآن، وعملت الصالحات، وما شعرت بشيء، ما شعرت بالقُرب، ما شعرت بالطمأنينة، فهذه علامةٌ خطيرة؛ إمَّا على خلل العمل، أو على ضعف الإخلاص.
قد يكون العمل صحيحاً، وفق الكتاب والسُنَّة، ولكن لا تشعر بسعادةٍ معه، إذاً: هناك خللٌ أو نقصٌ في الإخلاص، قد يكون الإخلاص جيداً، ولكن العمل ليس كاملاً، فلن تقطف ثمار العمل إلا بشرطين؛ أن يكون العمل موافقاً للكتاب والسُنَّة، ومعنى هذا أنه لا تعفيك نيَّتك الحسنة من محاسبة الله عزَّ وجل، فالله عزَّ وجل أنزل هذا الكتاب، وشرَّع لنا الشرائع من أجل أن نطبِّقها، لا من أجل أن نلقيها وراء ظهورنا، ونقول: نيّاتنا طيِّبة، هذا كلام غير مقبول، فلذلك ربنا عزَّ وجل يقول:
2 ـ قد يكون دعاء الإنسان ربَّه بغير إخلاص:
مخلصين: حال، معنى ذلك أننا قد ندعو الله عزَّ وجل، ولسنا مخلصين، قد ندعو الله ونتَّكئ على أموالنا، قد ندعو الله ونتكئ على مكانتنا، قد ندعو الله ونعتمد على زيد أو على عُبَيد، هذه دعوةٌ ليست مخلِصةً لله عزَّ وجل، ما دام هناك جهات أرضيَّة تعتمد عليها فأنت في دعوتك لست مخلصاً، لذلك أن تقول: يا رب، مهما قلت: يا رب، الله عزَّ وجل ناظرٌ إلى قلبك، القلب كما قالوا: منظر الرب، فإذا نظر الله إلى قلبك فرآه فارغاً إلا منه، فارغاً إلا من الاعتماد عليه، والتوجُّه له قَبِلَ عملك.
فيا أيها الإخوة الأكارم لا تنسَوا هذه الآية:
﴿ بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾
هو يعلم ما إذا كان مخلصاً أو غير مخلص، هو يعلم ما إذا كان يدعو الله وحده، أم يدعو الله بلسانه، وقلبُه معتمدٌ على زيدٍ أو عُبَيد.
أحياناً الإنسان يعتمد على عمله، إذا اعتمد على عمله، ورآه مُنجِّياً له من عذاب الدنيا والآخرة، هذا الاعتماد على العمل يُضعِف الإخلاص لله عزَّ وجل، لذلك قد يرى عمله قليلاً لا يغنيه، ولا يسمنه من جوع.
ما طريق الإخلاص؟ التركيز اليوم على الإخلاص، فقد تحدَّثنا في الدرس الماضي عن موضوع الكفر؛ الكفر الاعتقادي، والكفر القولي، والكفر العملي، والكفر بمعناه الواسع، ومعناه الضيِّق، أمّا الإخلاص، كيف أُخْلِصْ؟
3 ـ كيف أُخْلِصْ؟
أيها الإخوة الأكارم، لا تستطيع أن تُخلِص ما لم توحِّد، إذا رأيت أن الله وحده بيده كل شيء، وأنه لا رازق إلا الله، لا معطي إلا الله، لا مانع إلا الله، لا معزَّ إلا الله، لا مذلَّ إلا الله، لا باسط إلا الله، لا قابض إلا الله، أمره كلُّه بيده، كأن مؤشِّر الإخلاص يتحرَّك مع مؤشِّر التوحيد، فكلَّما ارتفع مستوى توحيدك ارتفع مستوى إخلاصك.
فكلمة إخلاص من أين تأتي بها؟ السوق فيه كل شيء، فهل بإمكانك أن تشتري الإخلاص من السوق؟ الإخلاص محصِّلة التوحيد، أي أن حجم إخلاصك بحجم توحيدك، كلما ازددت توحيداً ازددت إخلاصاً، إذاً: العمل لا يُقْبَل إلا إذا كان خالصاً.
الرياء مدخلٌ من مداخل الشيطان:
الحقيقة كما قلت لكم في درسٍ سابق: الإنسان قد يُؤتَى عن يمينه، الشيطان حينما ييأس أن يأتيك من أمامك بدعوى التجديد، والتحلل من القيم الدينيَّة، وحينما يخفق من أن يأتيك من ورائك؛ التمسُّك بالتقاليد البالية غير الإسلاميَّة، وحينما يخفق من أن يأتيك من شمالك في دعوته إلى المعاصي والآثام، ليس له إلا جانبٌ واحد، وهو أن يأتيك من يمينك.
إذاً: في حلقات المؤمنين، في تجمُّعات المسلمين، وأنت في المسجد، وأنت بين إخوانك، وأنت تصلي، وتقرأ القرآن، وتحجُّ لبيت الله الحرام، تصوم رمضان، وأنت في عباداتك، وأنت في طاعاتك، قد يؤتَى الإنسان من الشيطان.
من أين يأتي؟ من الرياء، الرياء أحد مداخل الشيطان على الإنسان، قال عن شخص أنه خلال أربعين سنة ما ترك الصفَّ الأول خلف الإمام، في يوم من الأيَّام لم يُدرِك الصف الأول، فقال: ماذا يقول الناس عني، وقد صليت في الصف الثاني؟ ففُهِم أن هذه الأعوام الأربعين التي صلَّى فيها في الصف الأول لا مخلصاً لله عزَّ وجل، ولكن لينتزع إعجاب الناس.
نحن إذا تحدَّثنا لإخوتنا المؤمنين عن الإخلاص، أن نقول لهم: إياكم أن تسرقوا، إياكم أن تزنوا، هذا كلام لا معنى له إطلاقاً في بيوت الله، لأن الذي يرتاد المساجد مسلم يجتنب الكبائر، ولكن من أن يؤتى؟ من الصغائر، يؤتى من ضعف الإخلاص، ألا تذكرون أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( إن الشيطان يئس أن يُعْبَد في أرضكم، ولكن رضي بما دون ذلك مما تحقرون من أعمالكم ))
وفي رواية أخرى:
(( إن الشَّيطان قد يَئِسَ أن يَعْبُدَه المُصَلُّون في جَزيرة العَرب،
الشيطان لا يستطيع أن يصل إلى المؤمن إلا عن يمينه، من عن يمينه من جانب دينه، إما بوساوس، وإما بمبالغات، وإما بالغُلوّ في الدين، وإما بالرياء، وإما بضعف الإخلاص، وإما بالخوف من الناس، وإما برغبته الجامحة في انتزاع إعجاب الناس.
4 ـ الإخلاص أن لا ترى مع الله أحداً:
هناك مزلقٌ خطير أيها الإخوة.
عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ فَهُوَ فِي النَّارِ. ))
فكل ما أرجوه في هذا الدرس التركيز على الإخلاص، فأنت لماذا تأتي إلى بيت الله؟ لئلا يقال عنك أنك تخلَّفت عن درس الجمعة؟ هذا ضعفٌ في إخلاصك، ليرضى عنك زيد؟ ليراك عُبَيد؟ ليقال إنك من روَّاد هذا المسجد؟ يجب أن تحرِّر النيَّة.
﴿ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا(9)﴾
كلَّما ارتفع مستوى الإخلاص يئس المؤمن من رضى الناس، لا يعنيه رضاهم، ولا غضبهم، ولا سخطهم، ولا قربهم، ولا بعدهم، والإنسان حينما يستجدي الثناء والمديح فهذا ضعفٌ في إخلاصه، أما حينما يرى أن الله الذي خلقه راضٍ عنه.
فليتك تحلو و الحياة مريــــرةٌ وليتك ترضى والأنامُ غِضابُ
وليت الذي بيني وبينك عامـرٌ وبيني وبين العالمين خـــراب
الإخلاص أن لا ترى مع الله أحداً، أن لا ترجو غير الله، الإخلاص بتعاريفه الدقيقة: أن لا ترجو غير الله، أن لا تخاف غير الله، أن لا تطمع في غير فضل الله، أن لا ترجو قرب غير الله، أن لا تخشى غير الله، أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليك مما سواهما، فلذلك من ضعف الإخلاص أن تؤثر خلقه عليه، لهذا قال الله عزَّ وجل:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(24)﴾
يا أيها الإخوة، الإنسان حينما تستهلكه الدنيا يأتي إلى المسجد، ينطلق إلى عمله، يبيع ويشتري، يداوم في مكتبه، يمارس نشاطاته، يجلس مع أهله، ينطلق إلى نزهة، ينطلق إلى سهرة، إلى لقاء، ولا يجلس ليتأمَّل نفسه، ليراجع حساباته، ليفحص عمله، ليعتني بقلبه، هذا الإنسان الذي يستهلكه الوقت، وتستهلكه المشاغل، هذا في الأعمِّ الأغلب يضعف إخلاصه، لأنه دخل في دوَّامة، دخل في متاهة الانشغال، واللقاءات، والعمل، فلابدَّ للإنسان من ساعةٍ يخلو بها مع ربِّه، يفحص عمله، يتأمَّل نواياه، يفحص إخلاصه، يتَبَيَّنَ مقاصده، هل هي مقاصد نبيلة؟ لأنه: "درهمٌ أُنْفِقَ في إخلاص خيرٌ من ألف مئة درهمٍ أُنفق في رياء" فربنا سبحانه وتعالى يقول في الآية الرابعة عشرة:
5 ـ لَهُ الدِّينَ
كلمة له الدين، إذا قلنا: "الدين له" معنى، وإذا قلنا: "له الدين" لها معنى آخر، إذا قُدِّم الخبر على المبتدأ فهذا يفيد القصر، أي أن الدين وحده له، أو الدين له وحده، أي أنك لا ينبغي أن تخضع لغير الله، لأنك إنسان مكرَّم؛ أنت المخلوق الأول، الماء للتراب، والتراب للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، والإنسان لمن؟ لله عزَّ وجل، أنت المخلوق المكرَّم، أنت المخلوق المكلَّف، أنت المخلوق الذي سخَّر الله لك السماوات والأرض، أنت المخلوق الذي حملت الأمانة، لا يليق بك، ولا يحسن بك، ولا ينبغي لك أن تكون خاضعاً لغير الله، أن تدين بالولاء لغير الله، أن تدين بالخضوع لغير الله، أن تدين بالحبِّ لغير الله.
الخضوع لله، الحب لله، الطاعة لله، الإخلاص لله، لذلك الإنسان أحياناً يصبر، ولكن لا يصبر لله، يكون فوقه شخص ظالم قوي جبَّار، يسحقه سحقاً، يقول لك: ماذا نفعل؟ فهذا ليس صبراً تؤجَر عليه، لكن الصبر الذي تؤجر عليه كما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ(7)﴾
أن تكون في أعلى درجات القوَّة، وبإمكانك أن تسحق خصمك، ومع ذلك تصبر لله عزَّ وجل. إذاً:
لذلك كل الناس تقريباً لو أنه لم يعدل يحبُّ العدل، لو أنه لم يرحم يحبُّ الرحمة، لو أنه لم يحسن يحبُّ الإحسان، بل إنّ أفسق الرجال إذا أرادوا الزواج يبحثون عن امرأةٍ عفيفةٍ طاهرة ليتزوَّجوها، لأن هذه فطرة، فالإنسان في الأصل لا يدين إلا للحق، لا يخضع إلا للعلم، لا يخضع إلا للكمال، لا يقبل إلا الدليل، لا يقبل إلا التعليل، فهذا الدين دين الله.
لا تخضع لمخلوق مثلك:
والله عزَّ وجل هو الذي خلق العقل، فهل دينه غير معقول؟ هو الذي خلق المنطق، فهل دينه غير منطقي؟ هو الذي خلق الكون فهل دينه غير واقعي؟ هو الذي فطر النفس البشريَّة، فهل دينه يتناقض مع الفطرة؟ هذا مستحيل، ما دام هذا الدين دين الله، وما دام الذي خلق الإنسان هو الله، ما دام الذي ركَّب الفطرة في الإنسان هو الله، ما دام الذي أودع العقل في الإنسان هو الله، إذاً من باب أولى، ومن اليقين القطعي أن يتطابق دين الله مع بنية النفس؛ مع فطرة النفس، ومع عقل الإنسان، ومع الواقع، ومع المنطق، إذاً الدين هو دين الله، والإنسان ينبغي أن يخضع لله، وأيّ خضوع لغير الله فهذا ضعفٌ في الدين.
لذلك أيها الإخوة، بالكلام الواضح، أنت أيها الإنسان لا يليق بك، ولا ينبغي لك، ولا يحسن بك أن تُجيَّرَ لغير الله، أن تخضع لغير الله، أن تُحْسَب على غير الله، أن تكون تبَعاً لغير الله، أن تكون ذنباً لإنسان، أن تكون أداةً بيد إنسان، أنت حر "متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟" أنت حر، فإياك أن تخضع لمخلوقٍ في معصية الله، إياك أن تكون امتداداً لإنسان، ظلاً لإنسان، أداةً بيد إنسان، أداة رخيصة، فهناك أشخاص كما أقول كالمنديل، تُمْسَحُ به أقذر عمليَّة، ثمَّ يُلقى في سلة المُهْمَلات، إياك أن تكون ذلك، كن حراً، اربط نفسك بالحق، لا تخضع إلا لله، لا تطع مخلوقاً في معصية الله، لا تلِن إلا لله، لا تمرِّغ جبهتك إلا في أعتاب الله، لا تذلَّ لإنسان.
وقد قيل: "من جلس إلى غنيٍ فتضعضع له ذهب ثًلُثا دينه"
﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ
إذاً:
كان الحسن البصري عند أحد ولاة البصرة، وقد جاءه توجيهٌ لتوِّه من يزيد، من خليفة المسلمين فهذا التوجيه يبدو أنه يتعارض مع حكم شرعي، لو نفَّذ هذا التوجيه لوقع في الظلم، فسأل الإمام الحسن البصري: ماذا أفعل، هذا كتاب يزيد، وتنفيذه لا يرضي الله، ماذا أفعل؟ أجابه إجابةً جامعةً، قاطعةً، مانعة، قال له:
أي ضغط يأتيك، هذا الذي يضغط عليك عبدٌ لله، في قبضة الله، بيدِ الله، الله جلَّ جلاله يمنعه منك، لكنَّك إذا أطعته، ولم تكن مخلصاً لله لا يمنعك من الله، إذا أراد الله أن يعالج، إذا أراد أن يؤدِّب، إذا أراد أن يردَّك إليه لا يستطيع أحدٌ أن يمنعك منه، هذه القصَّة على قصرها وعلى إيجازها احفظوها،
فأي إنسان ضغط عليك، أي إنسان لوَّح لك بالعقاب إذا لم تفعل، أو أي إنسان أغراك بالمال على شرط أن تعصي الله، المؤمن الصادق لا تُرهبه سِياط الجلاَّدين اللاذعة، ولا تغريه سبائك الذهب اللامعة، لا سبائك الذهب اللامعة يضعف أمامها، ولا سياط الجلادين اللاذعة يذلُّ أمامها، لا يخضع إلا لله كما فعل بلال رضي الله عنه:
هذه الآية دقيقة جداً:
أحد العارفين بالله توفَّاه الله عزَّ وجل، رآه أحد تلامذته فقال: يا سيدي، ما فعل الله بك؟ قال:
الإخلاص الإخْلاص، مع الإخلاص ينفع قليل العمل، ومن دون الإخلاص لا ينفعك لا قليل العمل ولا كثيره، درهمٌ أُنْفِقَ في إخلاص خيرٌ من ألف مئة درهمٍ أُنفق في رياء.
إذاً:
لا تعدُّدَ في الحقِّ:
مخلصين، لأن الدين له وحده، لأنه ينبغي أن يكون الدين وحده لله، لأنه خالق، وأنت مخلوق، هل يليق بك أن تخضع لمخلوقٍ آخر مثلك؟ هل يليق بك أن تكون تبعاً لمخلوقٍ ضعيفٍ جاهل، لئيمٍ، شهوانيٍ، أنانيٍ؟ لا، فأشقى الناس الذين ربطوا مصيرهم بمصير بشَرٍ، لكن أسعد الناس هم الذين ربطوا مصيرهم بالله عزَّ وجل وبالحق، فأي مبدأ غير مبدأ الدين مبدأ غير صحيح، لأن الحق ليس فيه تعدُّد، نقطتان ووصلت بينهما بخطٍ مستقيم، هذا الحق، نريد خطاً مستقيماً آخر بين هاتين النقطتين ينطبق على الأول، خط ثالث ينطبق على الثاني، خط رابع ينطبق على الثالث، فالحق لا يتعدَّد، والدليل:
﴿
مفرد
﴿ فَذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ۖ
لا حل وسط، إما أن تكون مع الحق؛ وإما أن تكون مع الباطل، أما الباطل فيتعدَّد، بين نقطتين يمر مليون خط منحنٍ، ومليون خط متعرِّج، ومليون خط منكسِر، ولا حدود لعدد الخطوط المُنكسرة والمنحنية التي تمرُّ بين نقطتين، إذاً الباطل يتعدَّد، الحق واحد، لذلك قالوا: لا يمكن أن تنشِب معركةٌ بين حقين، لأنهما متطابقان، أما إذا نشبت معركةٌ بين حقٍ وباطل فسُرعان ما تنتهي، لأن الله مع الحق، وإذا كان الله مع أحد الأطراف قلبَ كل الموازين.
أما إذا كانت المعركة بين باطلَين فما أطولها! عندئذٍ تتحدَّث عن الأقوى، وعن الأذكى، وعن الأكثر خداعاً، وعن الأكثر حكمةً، وعن الأكثر ممارسةً وتدريباً، وقيادةً، واستعداداً، وقوَّةً، وصموداً.
المعركة بين الحق والحق لا تكون؛ لأنهما متطابقان، وبين الحق والباطل لا تطول؛ لأن الله مع الحق، أما إذا نشبت معركةٌ بين باطلين فما أطولها، عندئذٍ تتحدَّث عن كل شيء، إلا عن أن الله سبحانه وتعالى ليس مع أحد الطرفين، لأنهما ليسا على حق.
إذاً: ما دام الدين له وحده؛ لأنه خالق، لأنه رب، لأنه مسيِّر، إذاً أي دينٍ آخر قطعاً باطل.
﴿
ولو تتبَّعتم كلمة الإسلام في القرآن الكريم، لوجدتم أن الأنبياء جميعاً مسلمون، نبيٌّ نبيّ –دقِّقوا- افتحوا المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الأنبياء جميعاً مسلمون، بل إن فرعون مات مسلماً، بمعنى أنه آمن بالذي آمنت به بنو إسرائيل، معنى هذا أن الدين عند الله الإسلام، لا دين إلا دين واحد، هو الحق، أيّ دينٍ آخر، أيّ ولاءٍ آخر، أيّ اتجاهٍ آخر، أيّ عقيدةٍ أخرى، أيّ سلوكٍ آخر هو باطل، وليس حقًّا.
إذاً:
6 ـ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ
لا تحسبوا حساباً للكافر، الكافر لا يستطيع أن يفعل معكم شيئاً، لأن الله عزَّ وجل مع المؤمنين، كلكم يذكر أن سيدنا سُراقة حينما تَبِعَ النبي عليه الصلاة والسلام في أثناء الهجرة، حينما رأى النبي وكان من أوائل الذين يقتفون الآثار، فلمَّا أدرك النبي وصاحبه، أمسك بيده على رمحه ليرمي النبي ويأخذ الجائزة، ساخت قدما فرسه في الرمل، فعرف أنه ممنوع.
﴿
قال:
(( يا سراقة، كيف بك إذا لبست سواري كسرى. ))
ما هذا الكلام؟ النبي مطارد، النبي شريد، طريد، مهدورٌ دمه، خائفٌ على نفسه من القتل ويقول لسراقة:
﴿
ماذا قال؟
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(59)﴾
إذاً:
﴿ مِن دُونِهِ ۖ
﴿
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ
أي أن أسماءه حسنى، صفاته فضلى.
ثلاث حقائق في الإيمان:
أقول لكم دائماً: الإيمان يرتكز على ثلاث حقائق:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2)﴾
هذه أول حقيقة، حقيقة الوجود، الله موجود، وجوده قديم، ووجوده لا نهاية له، مستمر، وجوده ليس متعلِّقاً بغيره، وجوده ذاتي، هذه أول حقيقة.
إذاً:
ذُو الْعَرْشِ
﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3 (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)﴾
في حالات سروره، وفي حالات غضبه لا ينطق إلا بالحق،
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ، وَقَالُوا: أَتَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَرٌ يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا؟ فَأَمْسَكْتُ عَنْ الْكِتَابِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْمَأَ بِأُصْبُعِهِ إِلَى فِيهِ فَقَالَ:
اكْتُبْ، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ. ))
لأنه مكلَّف بتبليغ الرسالة، ولأن الله كلَّفه بإبلاغ الرسالة عصمه من أن يخطئ، فكلامه تشريع، عمله تشريع، صمته تشريع، بعضهم قال: النبي عليه الصلاة والسلام مشرِّعٌ وهو ساكت، لأنه مرَّة كان عند أحد صحابته الذين ماتوا، وهو مسجَّى على السرير سمع النبي عليه الصلاة والسلام امرأةً تقول:
(( عن خَارِجَة بْن زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ بَايَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهُ اقْتُسِمَ الْمُهَاجِرُونَ قُرْعَةً فَطَارَ لَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، فَأَنْزَلْنَاهُ فِي أَبْيَاتِنَا، فَوَجِعَ وَجَعَهُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ، وَغُسِّلَ، وَكُفِّنَ فِي أَثْوَابِهِ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ مَا يُفْعَلُ بِي، قَالَتْ: فَوَ اللَّهِ لَا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا. ))
إذاً: الجزم ليس من صفات الموحِّدين، كيف فلان؟ والله يبدو أنه صالح، والله أعلم، هذا ليس طعناً فيه، كل إنسان يتألَّم، وينزعج من هذا الوصف يكون جاهلا، يبدو لي أنه صالحٌ، والله أعلم.
ألم تسمعوا يوم الاثنين الماضي أن رملة بنت أبي سفيان، أم حبيبة زوج عبيد الله بن جحش، الصحابي الجليل، الذي هاجر إلى الحبشة، ماذا فعل هناك؟ ارتدَّ عن دينه، وعاقر الخمرة حتَّى مات، وخيَّرها بين أن يطلِّقها وبين أن تتنصَّر.
إذاً: القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن، أما على وجه الجزم لا ينبغي أن تقول: فلان من أهل الجنَّة. هذا تألٍّ على الله.
إذاً:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33)﴾
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ
الأنبياء صفوة البشر:
الأنبياء صفوة الله من خلقه، تعريف النبوَّة سهل: النبي إنسانٌ لا ينقطع عن الله طرفة عين، المؤمن ساعة وساعة، والقصَّة المعروفة لما قال:
(( إِنَّا معشرَ الأنبياءِ تنامُ أعيُنُنَا، ولَا تنامُ قلوبُنا. ))
(( عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ قَالَ:
لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا ذَاكَ ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ نَسِينَا كَثِيرًا،
لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ
﴿
يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ
كلُّ إنسان يبدو يوم القيامة على حقيقته:
الإنسان في الدنيا يتجمَّل، له حقيقة وله مظهر، له مخبر وله مظهر، بإمكانه أن يتظاهر بالغنى وهو فقير، يتظاهر بالعلم وهو جاهل، يتظاهر بالصلاح وهو مُجْرِم، في الدنيا ممكن، لكن يوم القامة تبدو على حقيقتك من دون زيفٍ أو تزوير.
﴿
فالإنسان مهما طلى نفسه بطلاءٍ مزيَّف، مهما تظاهر في الدنيا، مهما تظاهر بالصلاح، مهما تظاهر بالورع، مهما حَسَّنَ سمعته، مهما كان منضبطاً أمام الناس، إذا كان له خلوة لا ترضي الله هو ساقطٌ من عين الله، لا تنسوا هذين القولين: "من لم يكن له ورعٌ يصدُّه عن معصية الله إذا خلا، لم يعبأ الله بشيءٍ من عمله".
وقد قيل:
لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ
والله لو علموا قبيح سريرتــــي لأبى السلام عليَّ من يلقاني
ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كـرامـة بهــوانِ
1 ـ الحقيقة المهمة أن تكون عند الله كبيرا ولو كنت في الدنيا صغيرا:
من رحمة الله بنا في الدنيا أن ولحكمةٍ بليغةٍ ورحمةٍ عميمةٍ يظهر من الإنسان الجميل، ويستر القبيح، الله من أسمائه الستّير، الإنسان يبدو للناس بأجمل مظهر، يبدو للناس بأنعم طريق، سلوك متوازن، هادئ، فيه اتِّزان، فيه قَبول، لكن الإنسان قد يكون له حقيقة ثانية لا ترضي الله عزَّ وجل، هذا ساقطٌ من عين الله.
بالمناسبة أيها الإخوة، لأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنحطم أضلاعه خيرٌ له من أن يسقط من عين الله.
قد تكون فقيراً، هذه ليست مشكلة، لكنك عند الله كبير، قد تكون ضعيفاً، عاملاً على آلة كاتبة، موظَّفاً صغيراً في الدرجة العاشرة، وراء الباب، وضِعْتَ تحت الدرج، لكن قد تكون عند الله كبيراً.
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. ))
قد يكون لك منزل في أطراف المدينة، غرفة واحدة، لكنك عند الله كبير، لكن المشكلة أن يسقط الإنسان من عين الله، الإنسان يتقرَّب إلى الله بالطاعة، بالاستقامة، بخدمة الخلق، بالنيات الطيبة، بحب الخير، بسلامة الطويَّة، ببراءة السَجِيَّة، بهذا يتقرَّب، أما إذا كان له مظهر فخم وهو خبيث الطويَّة، سيئ النيَّة، يغدر، يتآمر، يتحايل، له وجهان؛ وجهٌ يرضي، ووجهٌ لا يرضي، فهذا ساقطٌ من عين الله، لا تبحث عن قيمتك عند الناس لا قيمة لها إطلاقاً.
أنا أقول هذا المثل دائماً: لو أن معك كيلو معدن، وكنت أذكى الأذكياء، وأوهمت الناس أنه ذهب، وهو من أرخص المعادن "حديد" لو أوهمت الناس بطلاقة لسان، وبذكاءٍ بارع، وباحتيالٍ، وبحنكةٍ أنه ذهب، فصدَّق الناس أنه ذهب، وهو ليس ذهباً، من هو الخاسر؟ أنت، ماذا ينفعك أن يظنَّ الناس أن هذا المعدن ذهب، وهو ليس ذهباً؟
لو أن هذا المعدن كان ذهباً خالصاً، واتهمك الناس جميعاً بأنك لا تملك إلا هذا المعدن الخَسيس، هل يهمُّك ذلك؟ قيمته فيه، أي أن خيرك منك وشرُّك منك، سعادتك منك وشقاؤك منك، لا تلتفت لأقوال الناس فيك، والذي يهتم كثيراً بالمظاهر هذا إنسان شقي، فالعظماء يحتاطون، رحم الله عبداً جَبَّ المغيبة عن نفسه، ولكن أن تؤلِّه الناس، وتخشى ذمَّهم، وتخشى انتقادهم، ولا تنام الليل إذا هُزَّت سُمْعَتُكَ، هذه المبالغة الشديدة هذه ضعفٌ في إخلاصك، فإذا كان الله راضٌ عنك فهو القصد الأخير والأول، ثم ليقُل الناس ما شاؤوا أن يقولوا، وقد قيل:
إذاً:
2 ـ لا ينفعك شيء بغير استقامة وعمل صالح:
أقول لكم هذه الكلمة والله من قلبٍ مخلص لكم: مهما تكلَّمت أنا أحاسَب حساباً خاصاً، أُحاسَب هل أنت مطبق لما تقول؟ فمهما بدوت لكم متكلِّماً بارعاً، لا قيمة لها عند الله ما لم أطبِّق ما أقول، وأنتم مهما أصغيتم، وداومتم، والتزمتم لا قيمة لسماعكم ما لم تلتزموا، أنا سوف أُحاسب، المتكلِّم سوف يُحاسَب، والمستمع سوف يُحاسَب، المتكلِّم لا ينفعه أن يكون كلامه فصيحاً، بل ينفعه أن يكون عمله مستقيماً، والمستمع لا ينفعه إصغاؤه، بل ينفعه تطبيقه، فلا يكفي أن تنضمَّ إلى المسجد، ولا يكفي أن تحضر مجالس العلم، لابدَّ من التطبيق، وأنا أيضاً معكم لا يكفيني أن أنطلق في الحديث عن الله عزَّ وجل، لابدَّ من أن أكون عند مستوى القول، وإلا سيندم الإنسان يوم القيامة ندماً شديداً.
إذاً:
في بعض التفاسير: ينادي منادٍ يوم القيامة:
3 ـ الإيمان خيارُ وقتٍ:
أيها الإخوة، واليوم الحالي قبل يوم القيامة، ونحن في هذا العالَم، ونحن في هذا الواقع، لمن الملك اليوم؟ ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾، لكن هذه الحقيقة يراها المؤمنون، ولا يراها الكفَّار، الكفَّار يرون فلاناً صاحب البيت الأبيض هو أقوى الأقوياء، يرون فلاناً صاحب الأسلحة الفتَّاكة، هذه الحقيقة، ولكن يراها المؤمنون في الدنيا ولا يراها الكفَّار، أما هذه الحقيقة نفسها يوم القيامة يراها جميع الخلق، هذا هو الفرق.
نعود إلى القول: إن قضية الإيمان قضية وقتٍ ليس غير، فإن لم تؤمن الآن فلابدَّ أن تؤمن بعد فوات الأوان، ليس لك خيار، مهما عتا الإنسان وطغى وبغى أيكون كفرعون الذي قال:
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24)﴾
ومع ذلك حينما أدركه الغرق قال:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ
أسلم، معنى هذا أن الإيمان قضية وقت، هذا هو الذكاء، هذا هو العقل، إن لم تؤمن الآن لابدَّ من أن تؤمن، ولكن الحسرة إن آمنت بعد فوات الأوان لا ينفعك هذا الإيمان شيئاً.
فالسؤال إما أن تعرف جوابه وأنت على طاولة الامتحان، أو أن تعرف الجواب بعد الامتحان، تخرج، وتأخذ الكتاب، وتقرأ، وإذا عرفت هذا بعد الامتحان فلا قيمة لهذه المعرفة، أما البطولة أن تعرف هذا وأنت على طاولة الامتحان، إذاً القضيَّة قضيَّة وقت.
إذا كان الشيء متعلِّقًا بالوقت فالعقل، والمنطق، والذكاء، والحِنْكة، والتفوُّق، والفوز، والنجاح يأمرك أن تفعله الآن، لا تقل: سوف، سوف سلاح إبليس، وقيل: هلك المسوِّفون، والشيطان إذا أراد أن يأتيك عن يمينك يقول لك: سوف تتوب، وكل إنسان يعلِّق توبته على حدث قادم إنسان جاهل، قد لا يبلغ هذا الحدث.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.