وضع داكن
04-06-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 042 - الرضا
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الرضا:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والأربعين من دروسِ مدارج السالكين، في مراتب إيّاكَ نعبد وإيّاكَ نستعين، ومنزلةُ اليوم هيَ منزلةُ الرِّضا.
كُلكُم يعلم أنَّ الإنسانَ بينَ حالتين؛ بينَ حالة رِضا وبينَ حالةِ سُخطٍ، فالرِّضا من لوازِمِ الإيمان والسُّخطُ من لوازِمِ الكُفر، أجمعَ العُلماءُ على أنَّ الرِّضا مُستحب بل إنهُ مستحبٌ مؤكّد، ربُنا سبحانُهُ وتعالى في بعضِ الأحاديث القُدسيّة يقول: من لم يصبِر على بلائي، ولم يرض بقضائي، فليتخذّ ربّاً سِواي، أي نحنُ عبيدٌ للهِ عزّ وجل، وليسَ لنا إلا قضاء الله وقَدرُه، والدُّعاء الذي تدعونَ بهِ دائماً: اللهمَّ إني عبدُكَ وابنُ عبدِكَ وابنُ أَمتِكَ، ماضٍ فيَّ قضاؤك، نافذٌ فيَّ حُكمُك، أي بشكل واقعي ليسَ لنا إلا الله عزّ وجل.
 

الفرق بين الحال والمقام:


على كُلٍّ العُلماء يُفرّقون بينَ الحال وبينَ المقام، المقام كسبيّ والحال وهبيّ، بعضُهم يرى أنَّ الرِّضا حال، وما دامَ حالاً فهوَ وهبيٌّ؛ أيّ أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى يُلقي في روعِكَ الرِّضا أو السُّخط، فإن رآكَ مستقيماً، إن رآكَ مُخلِصاً، إن رآكَ مُنيباً، إن رآكَ مُحِبّاً، ألقى في قلبِكَ الرِّضا بقضائِهِ وقَدَرِه، على كُلٍّ؛ الرِّضا بالقضاء والقدر لهُ جانب كسبيّ، أي أنتَ إذا عرفتَ اللهَ عزّ وجل، وعَرفتَ حِكمَتَهُ، وعَرفتَ عدله، وعرفت رحمتَهُ، تستنبط استنباطاً ثابِتاً أنَّ الذي أصابَكَ محضُ حِكمةٍ، ومحضُ رحمةٍ، ومحضُ عدلٍ، فجانب من الرِّضا كسبيّ وجانب مِنهُ وهبيّ، جانب مِنهُ مقام وجانب مِنهُ حال، على كُلٍّ؛ الجمعُ بينَ المعنيين يتمُّ على الشكل التالي: إنكَ إذا بذلتَ ما كُلّفتَ بِهِ من معرِفة اللهِ، ومن فهمِ كتابِهِ، ومن الاستقامةِ على أمرِهِ، جاءكَ الرِّضا الوهبيّ، وهوَ أنَّ اللهَ عزّ وجل يُلقي في قلبِكَ السكينةَ والرِّضا. 
 

العِلمَ وحدَهُ طريقُ الرِّضا وطريقُ المعرِفة:


أقول لكم هذه الكلمة: لو أنَّ إنساناً كانَ في أعلى مستوياتِ الحياة، ولم يكُن راضيّاً عن اللهِ عزّ وجل فهوَ في حالةٍ تعيسةٍ وشقيّةٍ لا توصف، ولو أنكَ  في أدنى درجات الحياة، وكُنتَ راضيّاً عن اللهِ عزّ وجل، فأنتَ في أسعدِ الحالات، فالعِبرةُ ليست في كميّة المال بل العِبرةُ في الرِّضا، أي النقطة الدقيقة كميّة المال والصِّحة والحظوظ التي يتفضّلُ الله بِها على عِبادِهِ هذهِ ثابتة، ولكن مُنعكسها هوَ المُهم، إذا جاءتكَ الحظوظ من كُلِّ جانب ولم تكُن راضيّاً عن الله عزّ وجل فهذا شقاء، وإن فاتَكَ أشياء وأشياء من الدُّنيا وكُنتَ معَ ذلكَ راضياً عن الله عزّ وجل فهذه سعادة، ما الذي يجعَلُكَ ترضى؟
مثلاً طفل على كُرسي طبيب الأسنان، وفي سِنّهِ ألمٌ شديد، ولابُدَّ من قلعِ هذا السِّن، ولابُدَّ قبلَ قلعِ هذا السِّنِ من مُخدّر، ولابُدَّ لهذا المُخدّر من حِقنة، إذاً حينما يتألمُ الطفلُ يرفضُ أن يبقى جالساً، ويبكي، وقد يصيح، وقد يتكلّم كلاماً غيرَ أصولي، لماذا؟ لأنهُ لا يعرِفُ أنَّ الطبيبَ يعملُ لِصالِحهِ، ولا يعرِفُ أنَّ هذه الإبرة بعدَ قليل سوفَ تُنسيهِ الألمَ الطويل، إذاً ماذا يُساوي الرِّضا؟ العِلم، كُلما كانَ عِلمُكَ باللهِ أكبر كانَ رِضاكَ عنهُ أشد، وكُلما كانَ هُناكَ جهلٌ باللهِ عزّ وجل كانَ معَ الجهلِ سُخط، إذاً يُمكن أن نجمعَ بينَ العِلم والرِّضا، وبينَ الجهلِ والسُّخط، والإنسان حينما تُكشفُ لهُ الحقائق، وحينما يظهرُ لهُ أنَّ كُلَّ أفعالِ اللهِ حكيمةٌ ورحيمةٌ وعادِلةٌ، وأنهُ لم يرضَها في حينِهِ، وأنهُ سَخِطَ على اللهِ مِنها، عندئذٍ يتألّمُ أشدَّ الألم.
لذلك أيها الإخوة؛ عليكم بالعِلم، لأنَّ العِلمَ وحدَهُ طريقُ الرِّضا، وطريقُ المعرِفة، وطريقُ السكينة، وطريقُ كُلِّ ثمراتِ الإيمان التي نصَّ عليها القرآن.
 

ضرورة الإيمان بالله لأن من أكبرِ الكبائر أن تيأسَ من رَوحِ الله:


النبي عليهِ الصلاة والسلام يقولُ في حديثٍ صحيح

(( عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا. ))

[ صحيح مسلم ]

((بِاللَّهِ رَبًّا)) تجد أشخاصاً كثيرين عِندَهم حالةُ سُخطٍ صعبةٍ جدّاً، هذه الحالة سببها الجهل، قد يرى أنَّ الأرض يَعمُّ فيها الظُّلم، وأنَّ القوي يأكلُ الضعيف، وأنَّ الأرض مُقبلةٌ على جفافٍ في المياه، ونقصٍ في الغذاء، وأنًّ البشرَ سوفَ يذوقونَ الأمرّين، هكذا يقرأ في المقالات، كُلّ هذه المقالات التي تُسطّر تُسطّرُ في غفلةٍ عن اللهِ عزّ وجل، كاتِبُها غافل، كاتِبُها لم يقرأ القرآن، كاتِبُها لا يعرف الله عزّ وجل، لذلك مرَّ بِنا البارحة في أحاديث درسِ الفجرِ أنَّ من أكبرِ الكبائر أن تيأسَ من رَوحِ الله، من أكبر الكبائر، اليأسُ من رُوحِ الله كُفر.
فبالمناسبة الإنسان حينما يستمع إلى أهلِ الضلال، إلى أهلِ الدُّنيا، إلى المُشككين، إلى المتشائمين، إلى السوداويين، حينما يرسمون لكَ مستقبل العالم على أنهُ مُظلم، وعلى أنَّ القوي سيأكُلُ الضعيف، وعلى أنَّ الفقير سيزدادُ فقراً، وعلى أنَّ الحروبَ القادمة حروب مياه، وعلى أنَّ النبات لن يُطعِمَ أهلَ الأرض، هذا كُلُّهُ كلام أهل الدُّنيا وأهل الكُفر، هذا الكلام يبعثُ في النفسِ السُّخط والضيق والقلق، لكنكَ إذا آمنتَ باللهِ ربّاً، ما معنى ربّ؟ ربّ بيدهِ كُلُّ شيء، آمنتَ بِهِ إلهاً، هوَ المُسيّر، وهوَ الذي يستحقُ العِبادة، وآمنتَ بهِ ربّاً، هوَ المُمِد، وهوَ الحكيم الذي يُربّي كُلَّ شيء، ومن ضِمنِ تربيتهِ النفوس البشريّة يُربيها.
 

مفاجآت الرب للعباد:


أنا في العيد الماضي زارنا في المسجد رجل من أهل العِلم الدنيوي طبعاً، فقالَ لي كلاماً والله أيها الأخوة إذا استوعبتُهُ كما أراد ليسَ بإمكاني أن أقف على قدميّ، يتحدّثُ عن الجفاف الذي أصابَ مِنطقة دمشق، وأنَّ منسوبَ المياه قد تدنّى كثيراً، وأننا مُقبِلونَ على جفافٍ عام، وأنَّ حوضَ دِمشق آيلُ إلى اليبس، وجاءني بإحصائيات، وأدلّة، وأرقام، ودراسات، ومتوسط الأمطار، فكيفَ فوجِئنا في العام الماضي بأمطارٍ تزيدُ عن ثلاثمئة وسبعين ميليمتراً مقابل ثمانين أو مئة وعشرين ميليمتراً في الأعوام الماضية؟ أينَ كانت هذه؟ هذه مُفاجآت ربُنا عزّ وجل، هذا التشاؤم والسوداوية والنظرة غير المُتأنيّة هذه ربُنا عزّ وجل يُبددُها:

﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)﴾

[ سورة لقمان ]

وأمطارُ العام من آيات الله الدالّة على عظمَتِهِ، لكنّكَ إذا ظننت أنَّ المطرَ وحدَهُ حلَّ كُلَّ المُشكلات، يأتيكَ مطرٌ في وقتٍ غيرِ مُناسب فيُتلِفُ المحاصيل، لا تعبُدِ المطرَ من دونِ الله، اعبُد اللهَ عزّ وجل، فالمطر في غيرِ وقتِهِ يُتلِفُ كُلَّ المحاصيل، فلذلك اسأل اللهَ السلامة والرِّزق، فهل رضيتَ باللهِ ربّاً؟ أحياناً تستمع إلى أنَّ هذه الجِهة مَلَكت العالَمَ كُلَّهُ، وسوفَ تُذِلّهُ جميعاً، من قال لكَ: إنَّ هذا يدوم؟ هذا خِلاف السُّنّة: 

﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)﴾

[ سورة البقرة ]

وضع استثنائي لا يستمر، أنَّ جِهةً واحدة في الأرض تتحكمُ بالعالمِ كُلّهِ، وتُذِلّ العالمَ كُلَهُ، هذا شيء لا يستمر، لكن امتحان، كُلُّ إناءٍ ينضحُ بما فيه، ((ذاقَ طعمَ الإيمانِ من رضيَّ باللهِ ربّاً وبالإسلامِ ديناً)) .  
 

أحدُ علاماتِ إيمانِك أن ترضى باللهِ ربّاً وبالإسلامِ ديناً وبمحمدٍ رسولاً:


أحياناً الإنسان هل يستحيي بإسلامِهِ؟ هل يرى أنَّ إسلامهُ ناقص؟ هناك أشياء صعب تطبيقُها يا أخي، مُحرِجة، لا تُصافح، أنا موظف، كيف لا اصافحها، ماذا أقول لها أنا متوضئ؟ لمّا أنتَ تستحي بأوامر ربنا عزّ وجل، عندما تستحي بالنواهي، تستحي بالتشريع، لا تراهُ كامِلاً، لا تراهُ تامّاً، لا تراهُ يتناسبُ معَ هذا العصر، معنى هذا أنكَ لم ترض بالإسلامِ ديناً، يجبُ أن ترضى باللهِ ربّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيّاً ورسولاً، أي هل رضيتَ بسُنتِهِ؟ هل تعتزُّ بسُنتِهِ؟ أي أمَرَكَ أن تفعلَ كذا، وأن تفعلَ كذا، وأن تجتنبَ كذا، وأن تجتنبَ كذا، هل أنتَ في مستوى سُنتِهِ؟ إذاً أحدُ علاماتِ إيمانِك أن ترضى باللهِ ربّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً.
لي عِندكم سؤال؛ ترضى بالله رباً، تذوقُ طعمَ الإيمانِ فترضى باللهِ ربّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولاً، أم ماذا؟ أيُّهُما أول؟ انظر، ((ذاقَ طعمَ الإيمانِ من رضي باللهِ ربّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولا)) يوجد حدثان، حَدَث الرِّضا وحَدَث ذوق طعم الإيمان؛ أيُّهُما أول؟ الذوق أولاً أم الرّضا أولاً؟ إذا رضيتَ باللهِ رباً، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمدٍ صلى اللهُ عليه وسلم نبيّاً ورسولاً، عندئذٍ تذوقُ طعمَ الإيمان، صار معنى الحديث: من رضي باللهِ ربّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبمحمدٍ نبياً ورسولاً ذاقَ طعمَ الإيمان، فجاءَ النبي بصيغةٍ فيها تقديم وتأخير، وطبعاً التقديم والتأخير في العربيّة وارد، وهوَ من البلاغة التقديم والتأخير، وقالَ عليهِ الصلاةُ والسلام في حديثٍ رواهُ مُسلم،

(( عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ الْمُؤَذِّنَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، رَضِيتُ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ.  ))

[ صحيح مسلم ]

الحقيقة عندما يرضى بالله رباً يستقيمُ على أمرِهِ، وبالإسلامِ ديناً يتبّعُ أحكامَهُ، وبمحمدٍ نبيّاً يقتدي بِسُنتِهِ، إذاً: ليست لهُ ذنوب، عندئذٍ تُمحى ذنوبُهُ وتُقبَلُ توبته.
 

الرِّضا كسبيّ:


يوجد نقطة دقيقة في الموضوع، الرِّضا كسبيّ كما قُلت قبلَ قليل، أي أنتَ إذا عرفتَ اللهَ رضيتَ عنه، أي إذا كان طفل صغير رأى صديقَهُ يتلقّى ضرباتٍ من والِدهِ، يقول هذا الطفل الصغير: هذا الأب ظالم، أمّا إذا كُنتَ أنت أباً، وتعرِفُ مشاعِرَ الأب تجاهَ ابنِهِ، وحِرصَهُ على أخلاق ابنِهِ، وحِرصَهُ على مستقبل ابنهِ، ورأى ابنَهُ منحرِفاً قليلاً فأدّبَهُ، الأب يُفسّر التأديب لا على أنهُ ظُلم، يفسّرُهُ على أنهُ رحمة وحِكمة وعدل وحُب وتربية، فكُلما ارتقى مستواكَ الإيمانيّ ارتقى مع مستواكَ الإيمانيّ رِضاكَ عن الله عزّ وجل، لذلك قالوا: من رضي عن ربِهِ فقد عَرَفَهُ، ومن عَرَفَ ربَهُ رضي عن ربِهِ. أي الرضا عن الله علامة معرِفة، ومعرِفةُ الله عزّ وجل تُثمِرُ الرِّضا، علاقة متقابِلة.
 

الله تعالى خلق العباد ليسعدهم:


هناك نقطة دقيقة هوَ أنَّ اللهَ سبحانهُ وتعالى حينما خلقَ العِباد خلقَهم ليُسعِدَهُم، إذاً: هوَ أحبَّهُم، لكن حينما هُم يستقيمونَ على أمرِهِ، ويعبدونَهُ حقَّ العِبادة، ويُحبونَهُ يُحِبهُم محبةً أُخرى، شحص كرّمَ ابنَه، دليل محبته، أمّا حينما يكونُ هذا الابنُ بارّاً بأبيه يأتي حُبٌّ آخر، حُبُّ البِرّ، هُناكَ حُبُّ النبوة وهُناكَ حُبُّ البِرّ، لذلك أنتَ حينما ترضى عن اللهِ عزّ وجل يرضى اللهُ عنك، لأنكَ رضيتَ عنه، أي أجمل موقف أن عبداً مؤمناً تأتيهِ مُصيبة، فيُخاطِبُ اللهَ عزّ وجل، يقول: يارب إني راضٍ عنك.
 

موقف المؤمن إذا جاءه ما يكرهه:


حدثني أخ بمستشفى، جاء مريض معهُ ورم خبيث في أمعائه، وقد سمِعتُ أنَّ لهذا المرضِ آلاماً لا تُطاق، لأن آلام الأمعاء آلام ضغط:

﴿ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)﴾

[ سورة محمد ]

آلام الأمعاء لا تُطاق، فإذا كان في الأمعاء ورم خبيث، فإنهُ يُسببُ آلاماً لا يحتملُها أشدُّ الرِجالِ جَلَداً، فجاء مريض مؤمن إلى مستشفى، وقد أُصيب بمرضٍ خبيثٍ في أمعائِهِ، والآلامُ التي يُعانيها لا تُطاق، وصفَ أحدهم حالتهُ، كانَ يُمسك بِكِلتا يديه على أطراف السرير، لِئلا يصيح، لأنهُ يرى في الصياحِ تبرّماً بقضاءِ اللهِ وقدرهِ، فكُلما دخلَ عليهِ من يعودُهُ أو الطبيب أو المُمرض، يقول لهُ: اشهد أني راضٍ عن الله، أي أكمل موقف يقفُهُ المؤمن إذا جاءهُ ما يكرهُهُ، يقول: يا رب أنا راضٍ بقضائِك، يا ربي لكَ الحمدُ والشُّكرُ والنِّعمةَ والرِضا، فلذلك الصبرُ عِندَ الصدمةِ الأولى، بينَ الساخط والراضي زمن فقط، لأنَّ الساخط بعدئذٍ سوفَ يرضى شاء أم أبى، لكنَّ البطولة أن ترضى عن اللهِ عزّ وجل عِندَ الصدمةِ الأولى، حينما يتلقّى نبأ الرسوب، وكانَ قد بذلَ جُهدَهُ الجهيد، يا ربي لكَ الحمد، هكذا اخترتَ لي، حينما يتلقى نبأ أنَّ اسمهُ لم يُدرج بين الناجحين في هذه المُسابقة لهذهِ الوظيفة، يقول: يا رب رضيتُ بِكَ ربّاً وبِقضائِكَ وبقدرِك.
 

الرِّضا بابُ اللهِ الأعظم:


العُلماء قالوا: الرِّضا بابُ اللهِ الأعظم، أي أنتَ بالرِّضا تدخُلُ على الله، وبالسُّخطِ تحتجبُ عنه، وراقبوا أنفسَكم، إذا الإنسان جاءتهُ قضية مُزعجة، فرأى أنَّ الله قد ظلمهُ بِها، يجب أن يُيسر له إياها، فلم ييسرها له، لم تصح له، الله حرمهُ إياها، أي الله أهانهُ، هذا الشعور يحجُبُهُ عن الله عزّ وجل، لهذا الله عزّ وجل يقول:

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17)﴾

[ سورة الفجر ]

أي يا عِبادي ليسَ عطائي إكراماً، ولا منعي حِرماناً، عطائي ابتلاء وحِرماني دواء.
الذي أرجوهُ من إخوتنا الأكارم، إذا شيء لم يصح لكَ، الله عزّ وجل صَرَفَ عنك شيئاً تبتغيه، لا تحسّ أنكَ مُهان عِندَ الله عزّ وجل، هذا شعور شيطاني، الله لا يحبُني، لم يُعطني، حَرَمَني، أعطى فُلاناً وحَرَمَني، هذا الشعور شعور شيطاني، قيل: إنَّ اللهَ ليحمي صفيّهُ من الدُّنيا كما يحمي أحدُكم مريضَهُ من الطعام، وهناك رواية: إنَّ اللهَ ليحمي عبدَهُ من الدُّنيا كما يحمي الراعي الشفيق غَنَمَهُ من مراتع الهَلَكة، ولن تعرِف اللهَ عزّ وجل إلا إذا استوى عِندَكَ أن تأتيكَ الدُّنيا أو أن تُزوى عنك، لذلك أجمل دُعاء دعاهُ النبي عليه الصلاة والسلام في هذا الموطن، يقولُ عليه الصلاة والسلام:

(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الْخَطْمِيِّ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُنِي حُبُّهُ عِنْدَكَ، اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ، فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ، فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ. ))

[ الترمذي: خلاصة حكم المحدث : رجاله ثقات ؛ غير سفيان بن وكيع ؛ وهو ضعيف متهم: هداية الرواة ]

أعطاك مالاً، ليكُن هذا المال مبذولاً في الحق، زوى عنكَ المال، ليكن الفراغ الذي نشأَ من حِرمانِكَ من المال في سبيل الله، أحياناً الإنسان يكون زواجُهُ ناجحاً جداً، طبعاً أكثر وقته يجلس مع زوجته، أحياناً يكون زواجُهُ غير ناجح، يصبحَ عِندَهُ فراغ، يجلس في الغرفة وحده، مثلاً، فإذا كان عِندُهُ فراغ ناتجاً من زواج غير ناجح، يا ربي اجعل هذا الفراغ في سبيلك، أنتَ مثل المنشار على الحالتين رابح، إن أعطاكَ اللهُ ما تبتغي فهوَ في سبيلِ الله، وإن زوى عنكَ ما تُحب فهوَ في سبيل الله، هذه حالة المؤمن. 

(( حَدَّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيْبٍ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَاعِدٌ مَعَ أَصْحَابِهِ إِذْ ضَحِكَ، فَقَالَ: أَلا تَسْأَلُونِي مِمَّ أَضْحَكُ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَمِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: عَجِبْتُ لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَهُ مَا يُحِبُّ حَمِدَ اللَّهَ وَكَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَإِنْ أَصَابَهُ مَا يَكْرَهُ فَصَبَرَ كَانَ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَمْرُهُ كُلُّهُ لَهُ خَيْرٌ إِلا الْمُؤْمِنُ. ))

[ صحيح مسلم ]

والحمد المشهور: الحمدُ للهِ الذي لا يُحمدُ على مكروهٍ سِواه، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول:

(( عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى مَا يُحِبُّ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ، وَإِذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.  ))

[ صحيح الجامع، أخرجه ابن ماجة في سننه ]

إذا جاءت الأمور كما يحب يشكر، فإن جاءت على خلاف ما يحب يقول: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ)) .
 

متى يبلغ العبد مقام الرّضا؟


قيل لأحد العارفين بالله: متى يبلُغُ العبدُ مقامَ الرِّضا؟ قالَ: إذا أقامَ نفسَهُ على أربعةِ أُصول: يا ربي إن أعطيتني قَبِلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتَني أجبت، هذا مقام العبوديّة، أعطاك راضٍ، زوى عنكَ راضٍ، دعاك تستجيب، تركَكَ تعبُدُهُ.
أي يوجد أشخاص ليسوا عبيداً لله بل عبيداً للأحوال، فإذا كان بالصلاة مسروراً يُصلي، إذا حصل عدم سرور يترك الصلاة، يقولون: لا يوجد شيء بالصلاة، هذا جاهل جهلاً كبيراً، أنا أُصلي إن تجلّى اللهُ عليّ أو لم يتجلّ، إن تجلّى هذهِ نفحة من نفحات الله، الحمدُ لله، وإذا لم يتجلّ أُصلي، أجلس للذكر، إن وجدت في الذِّكر تجلّياً، الحمدُ لله، لم يحدث تجلّ، أنا واجبي جلست:

أخلِق بذي الصبرِ أن يحظى بحاجتِهِ                    ومُدمن القرعِ للأبوبِ أن يَلِجَا

[ أحمد بن بشير الحماسي ]

* * *

إذا ربُنا عزّ وجل رآكَ جلستَ الصُّبح لتذكُر، أو تقرأ القُرآن، أو تُفكّر، فلم يظهر معكَ شيء، في اليوم التالي لا تجلس، يقول لكَ: مُقفلة، أمّا المؤمن يجلس، يوجد نفحة الحمدُ لله، لا يوجد نفحة أنا أديتُ واجبي، إذا الله رأى إلحاحكَ وثباتك وإصرارك عندئذٍ يفتحُ لكَ أبوابَ رحمتِه، لذلك اللهُ عزّ وجل عزيز، على أول طلب لا يُجيبك:

﴿ مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)﴾

[ سورة العنكبوت ]

لآت: هذهِ للمستقبل، أنتَ طلبت، وألحيت، واتّخذت الأسباب، وفعلتَ موجِبات الرحمة، وعلى اللهِ الباقي، هذا الذي عليّ قد أنجزتُهُ. 
 

الجلسة الصباحية مع الله لا يعلمُ ثِمارَها في أثناء اليوم إلا الله:


إخواننا الكِرام؛ أنا أقول لكم هذا الكلام إن شاء الله بإخلاص، إذا إنسان ألزم نفسهُ بجلسة صباحية مع الله عزّ وجل، لا يجعل الجلسة متعلّقة بالحال، أخي لم أشعر بشيء، اجلس هذه الجلسة في كُلِّ الأحوال، لكَ جلسة ذِكر ولو ربع ساعة، قل ألفين مرة الله، لكَ جلسة قرآن ولو خمس صفحات أو عشر أو خمس عشرة أو عشرون، لكَ ركعتا قيام الليل قبل الفجر، أنتَ اثبت على هذا أياماً وأياماً، أسابيع وأسابيع، بعدَ أن يراكَ اللهُ ثابِتاً، وبعدَ أن يراكَ اللهُ صادِقاً ومُتشبثاً ومُصرّاً ومُلحّاً وصابِراً عندئذٍ يفتحُ عليك، الفتح لا يأتي من أول لحظة، من أول جلسة، وحينما تقبَعُ صباحاً في جلسةٍ معَ اللهِ عزّ وجل، والله أيها الإخوة الأكارم؛ لا يعلمُ إلا الله ثِمارَها في أثناء اليوم، أول ثَمَرةَ تُحسّ أنكَ في حصن حصين، ، بينكَ وبينَ المُخالفات مسافات بعيدة جداً، أمّا إذا لم يكُن لكَ جلسة مع الله صباحاً، تُحسّ أنكَ على الحافة، ممكن أن تغلط دائماً بكلامك، بنظراتك، بحركاتك، بسكناتِك، كأنكَ على الحافّة، على حرف، أمّا إذا كان لكَ معَ الله جلسة ذِكر، جلسة تِلاوة، جلسة تفكُّر، جلسة صلاة، هذه الجلسة تنعكِسُ على نهارِكَ كُلّهِ، أولاً: الحفظ، ثانياً: سداد في التفكير، سلامة في القول، حصافة في القرار: 

﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)﴾

[ سورة الطور ]

لذلك لا تعجز ابنَ آدم عن ركعتين قبلَ الفجرِ أكفِكَ النهارَ كُلَّهُ، إن أعطيتني قبِلت، وإن منعتني رضيت، وإن تركتني عبدت، وإن دعوتني أجبت. 
 

علامة الرّضا العلم:


الإمام الجُنيد يقول: الرِّضا هوَ صحةُ العِلمِ، كما قُلت قبلَ قليل، علامة الرِّضا العِلم، تعلم، انظر للراشد عِندَ طبيب الأسنان طبعاً يتألم جداً حينما يتلقى المُخدّر، ومع ذلك يسكت ويشكُر الطبيب ويُعطيهِ الأجر، لأنهُ موقن أنَّ عملَ الطبيب لِصالِحهِ، فكُلما ارتقى عِلمُك ارتقى رِضاك.
 

الرضا والمحبة ليست كالرجاءِ والخوف يوم القيامة:


الآن الرِّضا والمحبة ليست كالرجاءِ والخوف يومَ القيامة، الرجاء والخوف يزول يوم القيامة، يوجد رجاء يوم القيامة؟ شخص دخل الجنة كانَ يرجوها في الدُّنيا فدخلَها، انتهى الرجاء، كانَ يخافُ النار فوقاهُ اللهُ مِنها، انتهى الخوف، فالخوف والرجاء حالانِ من أحوالِ أهلِ الدُّنيا، لكنَّ الرِّضا والمحبّة حالانِ مستمران إلى الآخرة، إلى الجنة، الرجاء والخوف في الدنيا فقط، فإذا نجاك الله من النار فقد انتهى خوفك، وإذا دخلت الجنة فقد انتهى رجاؤك، لكن الرِّضا والمحبّة من صفات أهل الجنة، أي هذان الحالان يستمران إلى الجنة.
 

ليست البطولةُ أن تنجوَ من كُلِّ مصائبِ الدُّنيا لأن الدُّنيا محفوفة بالمكاره:


يوجد نقطة مهمة هي وهم كبير، يظُنُّ بعض إخواننا أنَّ المؤمن العالي الذي إيمانُهُ كبير لا يتألّم للمصيبة، هذا كلام غير واقعي، هوَ يتألّم لكن لا يسخَطُ على الله، شخص ابنهُ مَرِض، أخي أنتَ لو كان إيمانك قوياً تفرح، لا، هذا الكلام غير واقعي، المرض مؤلم، الألم ألم، النبي عليه الصلاة والسلام حينما ماتَ ابنُهُ ابراهيم ذرفت بعضُ دموعِهِ، فقالَ أحدُ أصحابِهِ: يا رسولَ الله أتبكي؟ فقالَ عليه الصلاة والسلام بواقعيّة:

(( عن أنس بن مالك : دَخَلْنَا مع رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ علَى أَبِي سَيْفٍ القَيْنِ، وكانَ ظِئْرًا لِإِبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ، فأخَذَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إبْرَاهِيمَ، فَقَبَّلَهُ، وشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عليه بَعْدَ ذلكَ وإبْرَاهِيمُ يَجُودُ بنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقالَ له عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْه: وأَنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ؟ فَقالَ: يا ابْنَ عَوْفٍ إنَّهَا رَحْمَةٌ، ثُمَّ أَتْبَعَهَا بأُخْرَى، فَقالَ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. ))

[  صحيح البخاري ]

فحتى الشخص يتوازن ليسَ معنى الرِّضا ألا تتألمَ من المصيبة، المُصيبةُ مُصيبة، والمُصيبة مؤلِمة، والذي يتألّم ما فعلَ شيئاً خِلافَ الشرع، لكن هُناك ألم محفوف بالرِّضا والتسليم لقضاء الله وقدرِهِ، وهُناك ألم محفوف بالسُّخط، فالعالِم يتألّم ويرضى، والجاهل يتألّم ويسخَط، أمّا التألّم شيء واقعي، أنا كنت أقول لإخواننا دائماً: ليست البطولةُ أن تنجوَ من كُلِّ مصائبِ الدُّنيا، لا، لأنَّ اللهَ عزّ وجل شاءت حِكمتَهُ أن تكونَ الدُّنيا محفوفةً بالمكاره.
تكلّمت البارحة في درس الجُمعة: شخص كان في بيت فيهِ رطوبة كبيرة جداً، تحت الأرض، وشمالي، فاشترى بيتاً في الطابق الثالث وقِبلي، فقال: الحمدُ لله الذي نجانا من الرطوبة والظلام، هوَ هذا الكلام كلام حمد، لكن فيهِ وصف لِما كانَ عليهِ من قبل، عندما قال أهل الجنة:

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34)﴾

[ سورة فاطر ]

ما معنى كلامِهم هذا؟ أنَّ الدُّنيا مُركّبةٌ على الحَزَن، أساسُها الحُزن، لا يوجد مرحلة إلا فيها مشكلات، دخل طالب المرحلة الابتدائية، أحياناً يُعاقب بالضرب لعدم كتابته الوظيفة، بالإعدادي يزحف، بالجامعة يُرسّبونهُ، بالزواج؛ يوجد متاعب بالزواج، لا يوجد إنسان خطب إلا صار هناك تشويش في زواجه، لا ينام أحياناً، حتى الصباح لا ينام، أنجب أولاداً، ابنهُ حرارتهُ إحدى وأربعين درجة، يا ترى التهاب السحايا؟! لا ينام الليل، لاحظ حياتنا كُلُّها سلسلة متاعب، هكذا شاءَ اللهَ عزّ وجل، لأنَّ الدُّنيا أساسُها ابتلاء، إنَّ هذهِ الدُّنيا دار التواء لا دارُ استواء. 
لاحظ الناس أنت، أحدهم الله رزقهُ زوجة صالحة، لكن أولاده ليسوا أبراراً، وواحد بالعكس، أولادُهُ أبرار وزوجتُهُ سيئة، واحد أولادُهُ أبرار وزوجتهُ صالحة لكن دخله قليل، واحد دخلُهُ كثير لكن ليسَ عِندَهُ أولاد، عقيم، واحد عِندَهُ أولاد كُثُر لكن فقير، يأكل همّ رزقه، واحد أولادُهُ أبرار وزوجتُهُ جيدة وغني وعِندَهُ عِلل في جِسمه، طبيعة الحياة الدُّنيا مُركبّةٌ على الابتلاء: 

﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾

[ سورة المؤمنون ]

هكذا طبيعة الدُّنيا، الإنسان متى يسعَدُ في الدُّنيا؟ إذا عَرَفَ أنها مُركبّةٌ على الحُزن، فصار حُزنُهُ متوقّعاً، هكذا الحياة. 
 

ليس من شرط الرضا أن تسعد بالمصائب:


مرة جاؤوا بطيّار وقد قصفَ مدينةً، فأروهُ نتائجَ عملِهِ، فاجأب إجابة ذكيّة جداً، قال: هكذا الحرب، هل الحرب إلقاء ورود؟ الحرب إلقاء قنابل، فلمّا قيلَ لهُ: هكذا فعلت؟ انظر إلى جريمتِكَ؟ انظر إلى هذهِ الأبنية؟ قال: هكذا الحرب، أحياناً أجد أخاً يعمل في التجارة مهموماً وخسائر، أقول لهُ: هكذا التجارة، من قال لكَ: التجارة كُلُّها أرباح؟ من قال لكَ؟ هذا كلام ساذج، كلام مُضحك، هكذا التجارة فيها متاعب، بالوظيفة متضايق، هكذا الوظيفة فيها قيود، لكن معها راحة بال إذا كان الدخل كافياً، هذهِ فيها راحة بال مع قيود، هذهِ فيها قلق وخوف وهمّ مع دخل غير محدود، كُل شيء لهُ ميزات ولهُ مساوئ.
ضربت مثلاً اليوم قلت لهم: إنسان عِندك مركبة وزنها ثلاثة طن، مريحة جداً في السفر، لكن كُل خمسين كيلو تحتاج إلى صفيحة بنزين، ثلاثمئة وخمسة، والثاني عنده مركبة وزنُها خمسمئة كيلو تعمل بالصفيحة ثلاثمئة وخمسين، ففكر قال: لا، أنا أحتاج إلى سيارة وزنُها ثلاثة طن وتعمل بالصفيحة ثلاثمئة وخمسين، قال له: أنتَ حالم، هذا شيء غير موجود في عالم السيارات، إذا أردتَ أن تتمتع بوزنها الشديد، مصروفها كبير، تتحمل الوزن الخفيف توفّر بالوقود، هكذا الدُّنيا، من أحبَّ دُنياهُ أضرَّ بآخرته، ومن أحبَّ آخرتهُ أضرَّ بدُنياه.
إذاً ليسَ من شرطِ الرِّضا أن تسعَد بالمصائب، يكون الإنسان غير عاقل، شخص محروم، شخص له ابن توفي، أخي أنا فرحان، ما هذا الكلام؟ الابن غالٍ، لكن أنتَ تتألم، ولا تقول ما يُسخِطُ الرب، هذهِ حال الرِّضا.
 

ثمرات الرضا:


عندنا بعض ثمرات الرِّضا، قيل للحُسين بنِ علي رضي اللهُ عنهُما: إنَّ أبا ذرٍ رضي اللهُ عنهُ يقول: الفقرُ أحبُّ إليَّ من الغِنى، والسَّقَمُ أي المرض أحبُّ إليَّ من الصِّحة، فقالَ: رَحِمَ اللهُ أبا ذر، أمّا أنا فأقول: من اتّكلَ على حُسن اختيارِ اللهِ لهُ لم يتمنّ غيرَ ما اختارَ اللهُ لَهُ، هذه راقية جداً.
اللهُ أقامَكَ بوظيفة، يا ربي هذا اختيارُك، أنتَ أعلم وأرحم وتعلمُ ما يُصلِحُنُي وما لا يُصلِحُنُي، حالة المؤمن مع الله عزّ وجل استسلام، الله اختاركَ بعمل شاق، أخي أنا طبيب أعمل ليلاً نهاراً، أسعى في الساعة الثانية والساعة الثالثة والساعة الرابعة والساعة الثانية عشرة، ومحروم أهلي وأولادي، اللهُ أقامَكَ طبيباً، اختارَ لكَ أن تكونَ طبيباً، فأدِّ هذه المُهمّة كما أراد الله، فالإنسان كلمة احفظوها أيها الإخوة؛ من اتّكلَ على حُسنِ اختيارِ اللهِ لَهُ لم يتمنّ غيرَ ما اختارَ اللهُ لهُ.
بعضُهم قال: طريقتي الفرح باللهِ والسرور بهِ بقضائِهِ وقدَرِهِ.
قيلَ لِبِشر الحافي: الرِّضا أفضلُ من الزُّهد في الدُّنيا، لأنَّ الراضي لا يتمنى فوقَ منزِلته، الراضي رضي بما قضاهُ اللهُ لَهُ.
أبو عثمان سُئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: اللهمَّ إني أسألُكَ الرِّضا بعدَ القضاء، فقالَ المسؤول: إنَّ الرِّضا قبلَ القضاء عزمٌ على الرِّضا، لكنهُ بعدَ القضاءِ هوَ الرِّضا الحقيقي.
 

من اتّكل على ماله ضلّ ومن اتّكل على قوته ذلّ ومن اتّكل على الله لا ضلّ ولا ذلّ:


أحياناً الإنسان يتوهّم أنا لو أصابني مكروه أنا راضٍ، هذا افتراض، أمّا إذا أصابَكَ المكروهُ فِعلاً، هُنا المِحك، قبل أن أحضر للدرس، زارني إخوان من الميدان مهنئين بالحج، قُلت لهم: اللهُ عزّ وجل ضمن الحج يُعالج الحُجاج، قال: كيف؟ قُلت: أحياناً يكون هناك حاج معتمداً على ماله، فطلب خيمة مُكيّفة، مع ثلاث وجبات، ومشروبات ساخنة وباردة، وخدمة ممتازة، وباص مُكيّف، هذا كيفَ يُعالج؟ يتوهُ عن خيمتهِ يومين، يكون هناك حاج آخر انطلقَ إلى الحج وهوَ يرى مكانتَهُ في بلدِهِ، لهُ اسم، اسم علمي، اسم مالي، اقتصادي، رُتبة مثلاً، وظيفة، اللهُ يُلهم موظفاً صغيراً جداً في المطار أن يزدريهُ، الله عالج الحاج بهذهِ الطريقة، أحياناً يكون الحاج مُفتقراً إلى الله عزّ وجل فتجد الأمور تيسّرت، أكرموه، ورحبوا فيه، والطريق سهل، والوقوف قليل، والبيت جاهز، والطواف سهل، والله ألهمَهُ بوقت ليسَ فيهِ ازدحام، الله عزّ وجل حتى الحُجاج يُعالِجُهم في الحج، هناك شخص قال: أنا لا أحُج إلا بأرقى مستوى، شخص معهُ مال، يجب أن تظهر نِعم اللهُ عليه، فاختار بِمِنى بدل أن يختار خيمة، حر، اختار فندقاً فخماً، أقسَمَ بالله تاهَ عنهُ ثلاثةَ أيام، كُلُّكم يعلم بالحج موضوع التيه بالحج وارد، تاهَ عنهُ ثلاثة أيام، فمن اتّكلَ على مالِهِ ضلّ، ومن اتّكلَ على قوتهِ ذلّ، ومن اتّكلَ على اللهِ لا ضلَّ ولا ذلّ.
الواحد لمجرد أن يتّكِلَ على غير الله عزّ وجل، اللهُ عزّ وجل يسحبُ من تحتِ قدمهِ البِساط محبةً لهُ.
ذهب أحدهم إلى الحج، هوَ في بلدهِ أحوال وإقبال وأوراد وأذكار وقيام ليل وإنفاق وخدمة الناس، هو متوقّع أنهُ سيجد بالحج تجليّات ونفحات ربانيّة بشكل غير معقول، وفق أعماله في بلده، لكنه ذهبَ إلى هُناك، واعتدَّ بأحوالِهِ، فحُجِبَ عن الأحوالِ كُلِّها في الحج، طاف، سعى، لا يوجد شيء، عرفات لا يوجد شيء،عادي، أينَ أحوالُهُ؟ عالجهُ الله بأن حَجَبَهُ عن الأحوال تأديباً لهُ، فممكن الإنسان أن يتعالج بأن يحجُبَ الله عنهُ الأحوال، إذا كان قد ظنَّ بأنَّ مكانتهُ كبيرة يتعالج عِندَ شخص يزدريهِ أحياناً، إذا كان مُعتمداً على ماله يضعَهُ بمُشكلة المال لا يحُلُّها، يوجد في الحياة آلاف المشاكل. 
أنا مرة أذكر شخصاً قال كلمة، قُلتُ والله في نفسي: نجّاهُ اللهُ من عقابيلِها، قال: كُلّ شيء بالمال يُحلّ، هذهِ كلمة كبيرة جداً، اللهُ يوجد عِندَهُ مليون مصيبة، مليار مصيبة، لو معك ألف مليون لا يساوي هذا المبلغ شيئاً، أنا كُنت عِند طبيب صديق، جاءهُ هاتف، يقولون بالحرف الواحد: أيّ مكان بالعالم مهما كان الرقم بالملايين، قالَ لي: والله لا يوجد أمل، الورم الخبيث بلغ الدرجة الخامسة، لا تُتعبوا أنفسكم، أيّ مكان بالعالم مهما كان المبلغ كبيراً، فإذا الإنسان قال: كُل شيء يُحلّ بالمال، هذهِ كلمة كبيرة، أنا أقول: نجّاهُ اللهُ من عقابيلِها، عقابيلها التأديب، فالرِّضا الحقيقي متى؟ قبل أم بعد؟ بعد، قبل توقّع، هذا رِضا افتراضي، أمّا الحقيقي بعد.
 

تعاريف الرضا:


من تعاريفِ الرِّضا قال: الرِّضا ارتفاعُ الجزعِ في أيِّ حُكمٍ كان.
من تعاريف الرِّضا: رفعُ الاختيار، اللهمَّ خِر لي واختر لي، الراضي يعيش بسعادة كبيرة جداً، أي يتمثّل قولَهُ تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾

[ سورة التوبة ]

أحدهم باع البيت، المشتري أحبَّ أن يُزيل حائطاً، لماذا تُزيل الحائط؟ ألم تبع أنتَ البيت؟ ما دام بِعت فالشاري حُر، فأنتَ بِعت واللهُ اشترى، أحبَّ أن يُعطيك، أحبَّ أن يمنعك، أحبَّ أن يُسرِّك، إذا أنتَ فعلاً بعت، فالبائع ليسَ لهُ حق أن يتدخّل مع الشاري، الله اشترى.
تعاريف الرِّضا: استقبالُ الأحكامِ بالفرح.
ومن تعاريف الرِّضا: سكونُ القلب تحتَ مجاري الأحكام، وكتبَ عُمرُ بنُ الخطاب رضي اللهُ عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي اللهُ عنهُما: أمّا بعدُ؛ فإنَّ الخيرَ كُلَّهُ في الرِّضا، فإن استطعتَ أن ترضى وإلا فاصبر.
 

أقسام الرضا:


آخر شيء بالرِّضا، الرِّضا أقسامٌ ثلاث؛ رِضا العوام بِما قَسَمَهُ اللهُ وأعطاه، ورِضا الخواص بِما قدّرَهُ وقضاه، ورِضا خواصّ الخواص بهِ بدلاً عن كُلِّ ما سِواه. 
سيدنا الصِدّيق ما نَدِمَ على شيء فاتَهُ من الدُّنيا قط، فينبغي أن ترضى بِما قَسَمَهُ الله لك، وينبغي أن ترضى بقضاءِ اللهِ وقَدَرِه، وينبغي أن ترضى باللهِ بدلاً عن كُلِّ ما سِواه، إلهي أنتَ مقصودي ورِضاكَ مطلوبي.

الملف مدقق

والحمدُ لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور