- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
مقدمة :
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الرابع والثلاثين من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الثالثة بعد المئة، وهي قوله تعالى :
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ(103) ﴾
1 ـ الأنبياء قدوة للبشر :
أيها الإخوة، في القرآن الكريم قصص الأنبياء، هؤلاء الأنبياء هم قِمم البشر، وقد تخلّقوا بالكمال البشري، وهم في الحقيقة قدوة لنا نحن البشر، هؤلاء الأنبياء لا يغفلون عن الله لحظة.
هؤلاء الذين عرفوا الحقيقة، عرفوا ربهم، عرفوا سر وجودهم، عرفوا غاية وجودهم، استناروا بنور ربهم، حملوا هموم البشر، نقلوا رسالة الله لخلقه .
2 ـ قصصُ الأنبياء فيها دروسٌ وعِبرٌ :
الله عز وجل يقص علينا قصصهم لتكون هذه القصص عبرة لنا :
﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ
بل إن الله سبحانه وتعالى لعل في رواية قصصهم موعظة لأنبيائه أنفسهم، الآية الكريمة :
﴿ وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ
فإذا كان قلب سيد الخلق، وحبيب الحق، يزداد ثبوتاً بسماع قصة نبي دونه فلأن يمتلئ قلبنا إيماناً بسماع قصة سيد الأنبياء.
يعني أنت كمؤمن، الحياة فيها صعوبات، فيها مصائب، فيها ابتلاءات، فيها قهر، فيها فقر، فيها مرض، فإذا قرأت قصة سيدنا يونس، حينما وجد نفسه فجأة في بطن حوت، هل من مصيبة أكبر من هذه المصيبة؟ الأمل معدوم، لا أمل بمعطيات الواقع ولا واحد بالمليار، وهو في بطن الحوت :
﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ
في ظلمة بطن الحوت، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة البحر:
﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ
لكن أنت كمؤمن، الذي يعطيك صعقة إيمانية التعقيبُ: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذه لسيدنا يونس، ولكل مؤمن، فلا تقلق، ولا تحزن، كن مع الله ولا تُبَالِ، كن مع الله ترَ الله معك، اسأل الله حاجتك، توسل إليه بعمل صالح، بصدقة، ناجِه في الليل، اعرض أمامه مشكلتك، ليكن حوار بينك وبين الله عز وجل، لتكن مناجاة بينك وبينه، اشكُ له ما تعاني، اسأله مِلْحَ طعامك، اسأله شِسعَ نعلك إذا انقطع، هذه كلها أحاديث شريفة، اسأله حاجتك كلها .
هذه قصص الأنبياء ليست لأخذ العلم، ولكن للاقتداء، إياك أن تقرأ قصة نبي على أنها قصة، لا، هي درس لك، توجيه لك، منهج لك، طريق إلى الله .
فيا أيها الإخوة: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى﴾
الآن نحن أمام قصة طويلة جداً، لكن هذه القصة فيها من المواعظ والدروس والاستنباطات، والحقائق والقوانين والقواعد ما يملأ حياتنا أمناً وطمأنينة، واستنارة وطريقاً ترسمه هذه القصص إلى الله عز وجل، فبعد أن حدّث الله عز وجل عن الأنبياء السابقين جاء دور سيدنا موسى مع قومه:
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى
1 ـ الحقُّ قديمٌ ، كلما انطمس بعث الله نبيًّا ليظهره مِن جديد :
2 ـ معنى الآيات :
الآيات الكونية :
أيها الإخوة، لا شك أنكم تعلمون أن الآيات أنواع ثلاث، آيات كونية، هذا الكون هو الثابت الأول، الكون كله ينطق بوجود الله، ووحدانيته، وكماله، كل شيء في الكون يدلك على الله، كل شيء في الكون ينطق بوجود الله، كل شيء في الكون ينطق بكمال الله، كل شيء في الكون ينطق بوحدانية الله، فالكون من آيات الله الخَلقية، آياته الكونية، أو آياته الخلقية.
الآيات التكوينية :
لكن أفعاله، أفعاله آيات أُخَر، لكنها آيات تكوينية، يعني حينما نجّى الله سيدنا موسى من فرعون فهذه آية كبيرة :
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61( قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ
كيف نجّى الله عز وجل سيدنا موسى؟ كيف نجّى سيدنا إبراهيم؟ كيف نجّى سيدنا محمد في الهجرة؟ نجّاه في الغار، ونجّاه في الطائف، ونجّاه في الهجرة، ونجّاه في معركة الخندق، فهذه القصص دروس لنا.
الذي أتمناه ثانية: ألّا تقرأ قصة في القرآن على أنها قصة، إنها درس بليغ، إنها رسالة من الله، فهناك آيات كونية، هي خَلق الله، هناك آيات تكوينية هي أفعاله .
وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ
أنتقل إلى موضوع يخص كل واحد منكم، ما من الإخوة المستمعين واحد إلا وله مع الله أيام، قال تعالى :
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ
مرة كان في أزمة شديدة جداً، الله عز وجل فرّجها عنه، أو شبح مصيبة مخيف الله عز وجل صرفها عنه، أو عدو قوي عنيد حاقد الله عز وجل نصره عليه .
أحياناً أن تنجو من مصيبة، أن يستجيب الله لك دعاءك، أن يرحمك، أن يوفقك، أن يعطيك، أن يزوجك، أن يطلق لسانك في الدعوة إلى الله، هذه أيام الله، قال تعالى: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾
وأنت أيها الأخ المؤمن، إذا كان لك علاقات مع الله رائعة، علاقات توفيق، علاقات تأييد، علاقات نصر، علاقات اتصال، علاقات حميمة مع الله عز وجل، هذه الأيام اذكرها ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾
يعني مرة أحد الملوك في الأندلس هو ابن عباد، كان يمشي في حديقة قصره، فرأى بركة ماء، وقد أثّرت فيها الرياح، فكأن سطح الماء سلسلة، فقال وهو شاعر:
صَنَعَ الريحُ من الماءِ زَرَد
* * *
يعني كالسلاسل، فلم يستطع إكمال البيت، فسمع جارية وراءه تقول:
أَيُّ درعٍ لقتالٍ لو جمدْ
* * *
فأعجب بهذه الجارية، وتزوجها، وأكرمها إكراماً ما بعده إكرام، أكرمها إكراماً يفوق حد الخيال، مرة حنّت إلى حياتها الفقيرة، فأحبّت أن تمشي في الطين، فجاء لها بالمسك والعنبر، وجَبَلَه بماء الزهر، وقال لها: هذا هو الطين، دوسي فيه، ثم عُزل عن ملكه، ودخل السجن، وفي ساعة علاقة سيئة بينه وبينها قالت له: ما رأيت منك خيراً قط! فعاتبها، وقال لها: ولا يوم الطين ؟!
يعني أحياناً تشعر الأمور ليست كما ينبغي، فتتضايق، ذكّر نفسك بأيام الله، يوم وفقك في الدراسة، وفقك في الزواج، عرّفك بذاته العلية، ساقك إلى أهل الحق، وما مِن إنسان ما له أيام مع الله، فالإنسان البطل لا ينسى هذه الأيام، من باب الوفاء: ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾
إذاً: الله عز وجل له آيات كونية، وله آيات تكوينية، وله آيات قرآنية، يعني خَلقه آية، وأفعاله آية، وكلامه آية، وهذه الآيات هي الطرائق إلى الله عز وجل، بما أنّ أصل الدين معرفة الله، الله تعرفه من خَلقه، من أفعاله، من كلامه .
إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ
معنى الملأ :
بعضهم قال: الملأ الرجال الذين يملؤون العين، شكل، جسم، ذكاء، فصاحة، بيان، منطق، قوة شخصية، هؤلاء الملأ، فمن معاني كلمة ملأ أنهم يملؤون العين والسمع،
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
إن تطّلع عليهم يملؤون عينك مهابة.
يعني هناك رواية أنه دخل إنسان يملأ العين على أبي حنيفة، وكان يلقي درساً، ويبدو أن في رِجل أبي حنيفة ألماً، فاضطر أن يمدها، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رُئِي مادّاً رجليه قط، لكن المعذور معذور، فدخل إنسان عظيم الهيئة، عريض المنكبين، يرتدي جُبّة وعِمامة، وجلس في الدرس، فاستحيا منه، ورفع رجله، والحديث كان عن صلاة الصبح، وشرح أبو حنيفة، وبعد نهاية الشرح سأله هذا الإنسان الذي يملأ العين والسمع، قال له: ماذا نفعل إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ قال له: عندئذ يمد أبو حنيفة رِجله. الأصل أن الملأ رجال يملؤون العين والسمع.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ﴾
فَظَلَمُوا بِهَا
1 – الحديث عن الدنيا تكون الآذان له مصغية :
حينما تستمع لآية كونية، ولا تعبأ بها، ظلمتها وكانت هذه الآية مُهيَّأة كي تنقلك من الظلمات إلى النور، كانت هذه الآية مُهيَّأة أن تأخذ بيدك إلى الله، كانت هذه الآية كفيلة أن تهتدي بهدي الله عز وجل، فإذا لم تعبأ بها فأنت ظالم .
لاحظ الناس في عصور التخلف، إذا تكلمت في الدنيا تجد الآذان صاغية، يُرهِفون السمع، يحاورونك، تتألق عيونهم، تتوّرد وجناتهم، وإن حدَّثتهم في أمر الدين رأيتَهم ينامون، ويتثاءبون، ويعتذرون، هذه مشكلة كبيرة جداً:
2 – الحديث عن الله واليوم الآخر لا يلقى له آذانا مصغية :
فإذا جاء الحديث عن الله عز وجل، وعن رسله، وعن جنته، وعن الدار الآخرة، كأن هذا الموضوع لا يعنيه، يعني ظلم هذه الآية، لم يعطِها حقَّها .
تصور شيكًا بمئة مليون دولار موضوع على الطاولة على ظهره، يبدو للعين ورقة بيضاء، فأنت اضطررت أن تكتب عملية حسابية: 7 × 9 ، كم عملية، أجريتَ على هذه الورقة المستطيلة كم عملية حسابية، ثم مزقته، ثم اكتشفت بعد حين أن هذا شيك بمئة مليون دولار، وكان يحل لك كل مشاكلك، تشتري به بيتًا، ومركبة، وبيتًا بالمصيف، وتنشئ معملاً، كم تندم؟ لا تنسَ هذا المثل في معنى قوله تعالى :
﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلً
3 – كلمة لها مدلول الظلم : ماذا قال آنفاً ؟
تسمع درسَ علم، درسًا في الإعجاز العلمي، درسًا في تفسير القرآن الكريم، ماذا قال آنفاً؟ يقول لك: والله الخطبة رائعة، ماذا قال؟ والله لا أتذكر شيئًا فلا تؤاخذني، قال: خطبة رائعة، لكن ما تذكر منها شيئًا إطلاقاً، لأنه ليس مع الخطيب، ولا مع المدرس، مع همومه، مع شهواته، هذه معنى: ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾
فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ
يعني مرة كنت في أمريكا، وألقيتُ درسًا بمدينة اسمها توليدو، بعد نهاية الدرس قال لي رجل: أنا فلان، أخي فلان، أنا أعرف أخاه الطبيب، قال لي: هل تعلم كم ميلاً قطعت حتى آتي لأستمع لهذا الدرس؟ قلت له: كم؟ قال لي: 600 ميلاً، أي ألف كيلومتر، نحن في الشام في نعمة كبيرة، نسمع دروس العلم، والتفسير، والحديث، والسيرة، وأسماء الله الحسنى، أَقسم لي بالله أنه قطع 600 ميلاً ليستمع لهذا الدرس، فإذا كان في بلد الإنسان دروس متوافرة، ويسهل عليه أن يحضر الدرس، ويستمع للدرس، ويكتب بعض الفقرات بالدرس، فهذه نِعم كبيرة جداً لا يعرفها إلا مَن فقدها.
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾
﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ
1 – فرعون مدَّعي الألوهية والربوبية :
فرعون ادّعى الألوهية، وقال :
﴿ فَقَال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24)﴾
﴿
وكان في عصر فرعون يعتقدون أن للخير إلهًا، وللشر إلهًا، وللشمس إلهًا، وللقمر إلهًا، ولليل إلهًا، وللنهار إلهًا، يعني آلهة متعددة، وفرعون قال:
2 – الله إلهٌ واحد ، وهو ربُّ العالمين :
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ
﴿
رسُلُ الله لا تقول إلا الحقَّ :
يعني لا يليق برسول الله الذي أرسله الله لهداية خلقه أن يتكلم بغير الحق:
أذكر لكم قصة سريعة؛ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال قبيل موقعة بدر:
(( قال ابن إسحاق-رحمه الله-: "وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله، عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه يومئذ يوم بدر: إني قد عرفت أن رجالًا من بني هاشم وغيرهم قد أُخرجوا كرهًا، لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدًا من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عمّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يقتله فإنه إنما خرج مستكرهًا
النبي الكريم لما مات ابنه إبراهيم الصحابة من باب محبتهم للنبي توهموا، وقد كُسفت الشمس أن الشمس كُسفت لموت إبراهيم، فأيّ إنسان إذا كانت له دعوة متواضعة، وأحد التلامذة ظن أن هذا الحدث الكبير من أجل شيخه، فيبقى الشيخ ساكتًا، ويقول: هذه جيدة، إنها مفيدة جداً، ولا يتكلم بشيء، لأنها تدعم مركزه، لا، لقد وقف النبي عليه الصلاة والسلام خطيباً، وقال :
(( إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ ))
هذا الموقف العلمي، لابد أن تكون رجلاً علميًّا، لا تعشْ في الوهم، المؤمن أمين على هذه الدعوة، لا يجيّر شيئًا لمصلحته، ولا يوهّم، ولا يبالغ، ولا يبرز شخصه، المؤمن الصادق في التعتيم يبرز حقيقة هذا الدين، وحقيقة هذا النبي الكريم .
كطرفة: مرة أردت أن أشتري ستارة لغرفة الضيوف، فسألت أحد الباعة، قال لي: يا أستاذ، يجب أن نقطع من الثوب ضعف عرض الحائط، زائد متر، حتى تأتي الستارة مثنّات تكون جميلة جداً، أقنعني بعد شبهِ محاضرة، عرض الحائط ثلاثة أمتار، ضرب اثنين، ستة، زائد متر واحد سبعة، أنا اخترت ثوبًا، لمّا قاسه وجده أقلّ من الضعف، خمسة أمتار، قال لي: هذا المطرز بهذا القياس أحلى، فوراً أعطاني حقيقة ثانية، هو ينطق عن الهوى لمصلحته، أعجبني هذا الثوب، لكنه أعطى قاعدة أخرى، ما دام مطرزاً فهو بهذا القياس أجمل.
صدقوا أيها الإخوة، إن تسعة أعشارِ كلامِ الناس عن هوى، إن قال لك: اختر لي لوناً، تختار له أسوأ لون، لون كاسد، هذا أجمل شيء، عن هوى، أما النبي عليه الصلاة والسلام:
﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(4) ﴾
قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
﴿ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾
1 – قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُم
معي دليل، معي بينة، معي آية، معي معجزة .
2 – فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ
لأن فرعون توهم فيما تروي بعض الروايات: إنسان رأى أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على ملكه ، فأُخبر فرعون بهذه الرؤيا، أو بهذا المنام، وفرعون جبار، طاغية، سفّاح، فأمر أن يُقتَل أبناء بني إسرائيل، وأية قابلة لا تخبر عن ولادة طفل ذكر تُقتل مكانه، المشكلة هذا حلها عند فرعون، أما هذا الطفل الذي سيقضي على ملكه رباه في قصره، أنت تريد، وأنا أريد، والله يفعل ما يريد .
ابن آدم ، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، ابن آدم، إذا سلّمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ثم لا يكون إلا ما أريد.
مع الله عز وجل ليس هناك إنسان ذكي إطلاقاً، يُؤتَى الحذِرُ من مَأمَنِه، عرفت الله من نقض العزائم .
﴿ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ(106) ﴾
قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ
يعني بيننا، إنسان يقتل بلا حساب، وقتل الإنسان أهون عليه من قتل ذبابة، لمَ لم يقتل سيدنا موسى؟ لأن فرعون بيد الله عز وجل، هذا الإيمان، هذا التوحيد، إذا كان الله معك فمن عليك؟ حتى إن كلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرّب أجلاً، قال فرعون: ﴿قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴾
المعجزة الأولى لموسى : فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ
سيدنا موسى :
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107) ﴾
1 – قصة عصا موسى :
لكن لحكمة بالغةٍ بالغة في المناجاة قال الله عز وجل لسيدنا موسى :
﴿ وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17) ﴾
ألا يعلم اللهُ ما بيمينه؟ إنه سؤال عجيب، الجواب :
﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ
لكن يبدو أن هذا النبي الكريم الذي ناجى ربه أنِسَ بهذه المناجاة، فأراد أن يفتعل معاني فرعية ليتابع المناجاة، قال:
فخجل، وقال: لعلي أطلت، لعلي أجبت إجابة ما أرادها الله، قال: ﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾
يعني إذا سمح الله عز وجل لي أن أتابع ويقول لي: ما هذه المآرب يا موسى؟ كلام دقيق جداً :
انتبه، هذه التي بيدك عصا، يعني جماد، ومستحيل أن تعود غصناً مزهراً أو مورقًا، لكنها بعد قليل سوف تكون حية تسعى: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾
﴿ قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى(19) فَأَلْقَاهَا
2 – التجربة الأولى للعصا : التحوُّلُ إلى حية صغيرة أمام موسى :
هذه أول تجربة، الله جعلها له حية صغيرة، حتى لا يخاف ﴿فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى﴾
﴿ قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى(21) ﴾
حينما قابل فرعون كان واثقاً من نفسه، يعني لو أن الله قال له: حينما تقابل فرعون ألقِ العصا تكن ثعباناً، لكن ما معه تجربة، فطمأنه، صار إلقاء تدريبياً، فاطمأن، هذه العصا الجامدة أصبحت حية تسعى.
3 – التجربة الثانية للعصا : التحوُّلُ إلى ثعبان كبير أمام فرعون :
أمام فرعون قال له: ﴿إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾
﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ(107) ﴾
بعض المستشرقين قال: إن في القرآن تناقضًا، مرة يقول: حية، ومرة يقول: ثعبان، لكن هي حية على انفراد فيما بينه وبين الله، حتى لا يخاف لأنه بشر، تصور رجلاً أُلقِي أمامه عصاه فإذا هي ثعبان بطول 12 متراً، لا، حية صغيرة، لكن المرة الثانية وثق من نفسه: ﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ﴾
المعجزة الثانية لموسى : وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ
وسيدنا موسى كان أسمر اللون، الأسمر أسمر، قال تعالى :
﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ(108) ﴾
يعني مستحيل، مرة قال سيدنا علي: << والله، والله، مرتين، لحفر بئرين بإبرتين .مستحيل إبرة. وكنس أرض الحجاز في يوم عاصف بريشتين .أيضاً مستحيل. ونقل بحرين زاخرين بمنخلين .أيضاً مستحيل. وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين>>
الحقيقة بهاتين الآيتين هزّ كيان فرعون، فرعون إله، فرعون قال:
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ(109) ﴾
أي أنت يا فرعون إله، وتبقى إلهنا، وهذا ساحر: ﴿ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ
﴿ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ(110) ﴾
بعضهم قال: هذا كلام فرعون:
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ
القضية أكبر بكثير، ليست موضوع سحر، القضية تحتاج لإعداد كبير، القضية لا تحتمل أن تُحل آنياً.
﴿ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ
خذ مهلة،
يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ
﴿ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(112) ﴾
الحقيقة أن الساحر يعلم علم اليقين أن هذا الذي رآه ليس سحراً، هذه معجزة، ثعبان مبين حقيقي.
مثلاً: إنسان قوي جداً يصطاد فتوجه نحو طائر، ولم يصطده، فحتى يتملقوا له، يقولون: سبحان الله يا سيدي، بالرغم من أنك أصبته ومات، لكنه لا زال يطير، هذا النفاق، والمنافق هو هوَ ﴿قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ﴾
السحرة في موعد التحدي مع نبي الله موسى :
1 – وصولُ السحرة إلى مكان التحدي :
﴿ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ(113) ﴾
أي جاؤوا فرعونَ، ووصلوا إلى قصره .
2 – طلب السحرة أجرا من فرعون عند الغلبة والنصر :
3 – تشجيع فرعون السحرةَ بالمكافآت المغرية :
﴿ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ(114) ﴾
بلا تردد، وفوق الأجر: ﴿وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾
﴿ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ(115) ﴾
نتابع تتمة القصة في الدرس القادم إن شاء الله.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين