أيها الإخوة الكرام؛ نستأنف دروس مدارج السالكين, في مراتب إياك نعبد وإياك نستعين ، ومع الدرس الرابع والأربعين من هذه السلسلة, ومع منزلةٍ جديدة من منازل مدارج السالكين, ألا وهي: منزلة المحاسبة.
سيدنا عمر عملاق الإسلام يقول: حاسبوا أنفسكم قبل تُحاسبوا, وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم, واعلموا أنَّ ملكَ الموت قد تخطاكم إلى غيركم, وسيتخطى غيركم إليكم, فخذوا حذركم.
من حاسبَ نفسه حساباً عسيراً كان حسابهُ يوم القيامة يسيراً.
والتاجر حينما لا يُجري محاسبة دقيقة من حين لآخر, يشعر بقلقٍ شديد، وحينما يُجري محاسبة ما له وما عليه, يشعر براحةٍ كبيرة, والإنسان المؤمن الصادق دائم المحاسبة لنفسهِ, يُحاسبها قبل أن يُحاسبهُ الله، يُحاسبُها قبل أن يؤدبهُ الله، يُحاسبُها قبل أن يقتصَّ الله منه، يُحاسبُها ويحلُ مشكلاتها قبل أن يصل إلى طريقٍ مسدود مع الله.
أيها الإخوة؛ التعريف الدقيق للمحاسبة: أن تُميّز ما لكَ وما عليك, فتؤدي ما عليك, ولكَ أن تُطالب بما لكَ، مثلاً:
الله عزّ وجل أنبأنا من خلال نبيه عليه الصلاة والسلام أنكَ إذا عبدته مخلصاً, لكَ حقٌ عليه ألا يُعذبُك.
(( عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُعَاذُ, أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا, أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ: أَنْ لا يُعَذِّبَهُمْ ))
[ أخرجه البخاري ومسلم والترمذي ]
أدِّ الذي عليك واطلب من الله الذي لك.
فالمحاسبة: أن تخلو مع نفسك في اليوم دقائق, ماذا فعلت؟ ماذا تركت؟ لِمَ أعطيت؟ لِمَ منعت؟ لِمَ وصلت؟ لِمَ قطعت؟ لِمَ غضبت؟ لِمَ رضيت؟ لِمَ ابتسمت؟ لِمَ عنّفت؟ لِمَ ضربت؟ لِمَ حاسبت؟ لِمَ آذيت؟ هيّئ لله عزّ وجل لكل موقف جواباً فأنت أعقل العقلاء.
حاسب نفسك, أنصف الناس من نفسك، والحقيقة: الذي يُحاسب في الدنيا قضيته سهلة, أمّا إذا كنت أباً من يُحاسبُك؟ الابن يُحاسبه أبوه، والزوجة يُحاسبها زوجها، والطالب يُحاسبه المعلم، من هو الذي في أمسِّ الحاجة إلى المحاسبة؟ الذي من طبيعته ألا يُحاسب, أن تكون أباً ولا يجرؤ أحدٌ على أن يُحاسبك، بطولتك أن تُحاسب نفسك وأن تعتذر، قد تكون معلماً في صف, مَنْ مِنَ الطلاب يستطيع أن يُحاسبك؟ بطولتك أن تُحاسب نفسك، أن تعتذر من طالب صغير.
حدثني أخ كريم, قال لي: أنا طبيعة مزاجي عصبي, فتناقش مع زوجته, فكلّمته كلمةً قاسية, فصبَّ كُلَّ غضبهِ على ابنه, وضربه ضرباً مُبرّحاً, فلما انتهى من ضربه صحا, ما ذنبُ هذا الصغير؟ خلافه مع زوجته، صبَّ جام غضبه على ابنه وضربه، قال لي: دخلت إلى غرفتي, وبدأت أبكي, ثم أخذت ابني وقبلّته, وقلت له: سامحني يا بني, يعني حاسب نفسك: ضربت, لِمَ ضربت؟ لِمَ عبست؟ لِمَ خاصمت؟ إن حاسبت نفسك فأنت مؤمنٌ وربِّ الكعبة.
وقف إنسان ضعيف أمام الحجاج, قال له: أسألُكَ بالذي أنت بين يديه أذلُ مني بين يديك, وهو على عقابِكَ أقدرُ منكَ على عقابي.
إخواننا الكرام؛ قد تكون طفل الأب يُحاسبُكَ، قد تكون زوجة الزوج يُحاسب، قد تكون طالب المعلم يُحاسب، قد تكون موظف رئيس الدائرة يُحاسب, أما إذا كُنتَ أنتَ الأب من يجرؤ على أن يُحاسبك؟ إذا كُنتَ أنتَ رئيس الدائرة من يجرؤ على أن يُحاسبك؟ تشتدُ الحاجة إلى المحاسبة حينما تكون في موقعٍ لا تُحاسبُ فيه، لذلك: إن حاسبت نفسك سريعاً رَحِمَكَ الله عزّ وجل.
يعني قصة سمعتموها مني كثيراً, لكن مناسبة في هذا الموضوع: كنت مرة في العمرة, صديق حدثني عن إنسان يملك أرضاً في شمالي جدة, فلما امتد العمران إلى قُرب أرضه, نزل ليبيع هذه الأرض، مكتب عقاري خبيث احتال عليه, وأوهمه أنَّ ثمنها بخس، فاشتروها منه بثمنٍ بخس ريالاتٍ معدودات, وأنشؤوا عليها بناءً شامخاً, وسيربحون الملايين المملينة، قال لي: أول شريك: وقع من سطح البناء فدُكت رقبته في الأرض، والشريك الثاني: دهسته سيارة، الشريك الثالث: انتبه, أراد أن يُحاسب نفسه, فبحث عن صاحب الأرض ستة أشهر, إلى أن عثر عليه, ودفع له ثلاثة أمثال ما أعطاه سابقاً -عن حصته طبعاً-, فقال له هذا البدوي: أنت تداركت الأمر قبل أن يحل بك ما حل بصاحبيك.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا ، اعتذر، قدّم هدية.
أنا أعرف رجلاً -والقصة قديمة جداً- يعمل في سلك الدرك, عندما كانت الشرطة في المدن والدرك في القرى، أخطأ, وضرب إنساناً ضرباً مُبرّحاً, وهو بريء, ظنه سارقاً, ثُم اكتشف أنه ليس بسارق، السارق ظهر، أقسم بالله وسّط إنساناً ليدعوه إلى طعام الغذاء, وكان هو أيضاً مدعو, وأمره أن يضربه كما ضربه, لينجو من عذاب الله, حاسب نفسك كلما كنت ذكياً تُحاسب نفسك حساباً شديداً، وعلامة المؤمن أنه يرى ذنبه جبلاً جاثماً على صدره، وعلامة المنافق أنه يرى ذنبه كالذبابة, يقول لك: هذه علامة النِفاق, ماذا حصل؟ هذا منافق، أما حينما لا تنام الليل، حينما تذهب إلى بيته تعتذر منه, تقول له: سامحني، حينما تُقدّم له هديةً ، حينما تطلب العفو منه فأنت قريبٌ من الله.
إخواننا الكرام؛ هناك حقيقة دقيقة سأقولها لكم: القوي أحياناً يُريد أتباعاً, فأي إنسان أعلن الولاء يقبل به, واحد ينقصه زبائن, أي إنسان قدّمَ له الولاء يقبل به, إلا أنَّ الله غنيٌ عن العالمين، الله عزّ وجل كامل, لا يقبل مخلوقاً إن لم يكن كاملاً, لأنه غني:
﴿ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7) ﴾
ولا يرضى لعباده الكُفر، لا يُمكن أن تتقرّب إلى الله وأنت ناقص، إنَّ الله طيبٌ لا يقبل إلا طيباً.
يا محمد مثّل بهم كما مثّلوا بعمك الحمزة، قال: لا أمثّل بهم فيمثّل الله بي ولو كنتُ نبياً ، انظر لهذا الموقف: تعرف عدالة الله، تعرف أنَّ الله لن يتجلّى على قلبك إلا إذا كنت أديباً، كاملاً، متواضعاً, منصفاً، مؤدياً الحقوق، قائماً بالواجبات, هذا هو الدين، يعني إنسان يعمل في عمل معين, عنده موظف يستضعفه, يبخسه حقه, ويُصلي!! هذه الصلاة لا قيمة لها.
عَنْ عَبْدِ
(( اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطُوا الأجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ ))
[ أخرجه ابن ماجة في سننه ]
إنسانة قالت لأهلي: أين الله؟ إنسانة تقول: أين الله؟ يعني على وشك الكُفر .
لِمَ ؟؟؟!!
قالت: لأنَّ زوجها .. والشهر الثالث من غير راتب .
قال له رب العمل: لم يعجبك مع السلامة, لا يوجد نقود.
أجرى حفلاً لابنته في أرقى فنادق دمشق يُنفق بغير حساب, أمّا هذا الذي يعمل عنده انتظر .
قالت: من أين نأكل؟ وترى: كيف يُنفق؟
ذهبت لتعمل لم يقبلها أحد بحجابِها, اخلعي الحِجاب كي نوظِفَكِ, هذا المجتمع سوف يُحاسب حساباً عسيراً .
الإنسان حينما يدفع امرأةً إلى أن تخلع الحِجاب من أجل أن تأكل، أو حينما يدفع رجلاً إلى أن يُتاجر بالأفلام الإباحية من أجل أن يأكل, هذا المجتمع يُحاسب حساباً عسيراً.
(( عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عزَّ وجلّ : إن كنتم تريدون رحمتي فارحموا خلقي ))
[ رواه ابن عدي في الكامل ]
هناك قول أنا مقتنع به تماماً: كادّ الفقرُ أن يكونَ كُفراً.
فإذا ضيّقت على إنسان حتى لا يجد ما يأكل وكفر فأنت الذي كفّرته، أنت الذي جعلته يكفر، وتحمل أنتَ وِزرَ كُفره .
قالت: أين الله؟ زوجي بِلا عمل, وأنا ما قبلني أحد إلا بخلع الحِجاب .
ما هذا المجتمع؟ يريدون أن يستمتعوا بها وهي في العمل، هكذا بكل وقاحة!!!.
كيف أنتم إذا طغى نساؤكم, وفسق شبانكم, وتركتم جهادكم؟ قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله؟ قال: نعم, والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون, قالوا: وما أشد منه يا رسول الله؟ قال: كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر؟ قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون, قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً؟ قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم, والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون, قالوا: وما أشد منه؟ قال: كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف؟ قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله؟ قال: نعم, والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، يقول الله تعالى: بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران
هذا وضع المجتمع، لذلك:
انْجُ سَعْدٌ فَقَدْ هَلَكَ سَعيدٌ
انجُ بدينك, أنصف الناس من نفسك، حاسب نفسكَ قبل أن تُحاسب، ثم يتبيّن من خلال هذا الدرس: أنَّ المحاسبة مرتبطة بالتوبة، لعلَّ التوبة تحمِلُ على المحاسبة، ولعلَّ المحاسبة من نتائج التوبة, لذلك قالوا:
التوبة بين محاسبتين؛ تُحاسب نفسكَ فتتوب, وتتوب فتحاسب الآخرين.
أدِّ الذي عليك, يعني إذا كان على شخص في جاهليته ذِمم للناس، ما الذي يمنعه وهو في الدنيا، وهو في موقعٍ يستطيع أن يُسوّي الحسابات، ما الذي يمنعه أن يؤدي ما عليه؟.
حدثني أخ قال لي: عندي معمل ودائماً هناك نقص بضاعة، والنقص: يعني أضع في جيبي مبلغ ألفين أفقدها، أصبح لديه الرغبة في معرفة من هذا السارق؟ قال لي: فرّغت إنساناً للمراقبة، والسارق ذكي جداً, يأخذ الأموال والبضائع ولم نستطع أن نضبطه, ثم انقطعت هذه السرقة، ثم قال لي: بعد عشر سنوات, جاءني شاب وسيم الطلعة بوجهه نور, وقال لي: أنا كنت عندك موظفاً قبل عشر سنوات, وكنت أسرق منك, وجئتُكَ مستسمحاً وسأدفع لكَ كل الذي عليّ، قلتُ له: والله نظير هذه التوبة, ونظير هذا الاعتراف, أنت مُسامح بكل ما أخذته، وإن أردت أن تعمل عندي فلكَ أعلى مكان.
موضوع المحاسبة قضية دقيقة جداً، وطّن نفسك أن تُحاسب نفسك، وطّن نفسك أن تعتذر، تقول له: سامحني, أنا أخطأت في حقك، أنا تسرّعت، أنا اتهمتك اتهاماً باطلاً، عندها الله يرضى, أمّا إذا واحد موقعه قوي, أيام رئيس دائرة، مدير ثانوية، مدير مستشفى, يعني في موقع قوي, لا يجرؤ أحد أن يُحاسبهُ, مثلُ هذا الإنسان تشتدُ الحاجة إلى أن يُحاسب نفسه.
حديث شريف : الإيمان قيد الفتك....
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الإِيمَانُ قَيَّدَ الْفَتْكَ لا يَفْتِكُ مُؤْمِنٌ ))
[ أخرجه أبو داود في سننه ]
يعني المؤمن مُقيّد، الشرع قيّده، الشرع ألزمه، والحقيقة: قد يقول أحدكم: أنَّ الفقير يحتاج إلى أن يكون صابراً, لا, الذي يحتاج إلى أن يكون صابراً هو الغني والقوي, لماذا؟ هذا كلامٌ غريب، ماذا عندَ الفقير من خيارات؟ هذا الدخل المحدود, وهذا البيت، من عمله إلى بيته، لو أراد أن يسهر في فندق فخم, أيقدر؟ لا يوجد معه نقود، لو أراد أن يرتاد أماكن اللهو, أيقدر؟ لا يوجد معه دراهم, أمّا هذا الذي يملك المال, وهو مسافر في بلد أجنبي, وليس هناك رقيب, هو في أشد الحاجة إلى الصبر، هذا الذي يضبط نفسه, يضبط مشاعره, يضبط أعضاءه, يضبط حواسه, يضبط بصره, سمعه, إنفاقه.
إخواننا الكرام؛ أنا أعتقد أنَّ الغني والقوي في أمسّ الحاجة إلى الصبر، وصبره بطولي، فالمحاسبة تكون قبل التوبة، حاسب نفسه فاتخذ قراراً بأن يتوب، أو تاب فاتخذ قراراً بأن يؤدي ما عليه للناس، هذه المحاسبة, هناك آية قرآنية تُفيد هذا المعنى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ(18) ﴾
ماذا قدّمت؟ وماذا أخرّت؟:
﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ(5) ﴾
﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ(14) ﴾
أنتَ ماذا أعددت لله عزّ وجل؟ .
أحياناً تجد شخصاً في السبعين من عمره في القهوة, يلعب الطاولة, ولا يُصلي, أين عقلُ هذا الإنسان؟ ماذا قدّم لآخرته؟ ماذا يقول لله عزّ وجل وهو بين يديه؟ .
أما تستحي منا ويكفيك ما جرى؟
أما تختشي من عقِّنا يوم جمعنا؟
أما آن أن تُقلع عن الذنبِ راجعاً وتــنظر ما به جــاء وعدُنا
هذه الآية الأولى في هذه المرتبة: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) إخواننا الكرام؛ حاسب نفسكَ من حين إلى آخر، حاسب نفسكَ يومياً, وحاول أن تسوّي الحسابات مع الناس ، أود أن ألفت النظر إلى أنك: لو حججت حجاً مبروراً, وسعيت سعياً مشكوراً, لا تخرج من ذنوبك كما ولدتك أمك, هذا وهم, تخرج من الذنوب التي بينك وبين الله فقط، أما الذنوب التي بينك وبين العباد هذه لا تسقط إلا بالأداء أو المسامحة، أكبر دليل: هذا الذي قدّم روحه في سبيل الله, هل يُغفر له كُل ذنب؟ نعم إلاّ الديّن لا يُغفر, قدّم روحه, لأنَّ الديّن من حقوق العباد، وحقوق العباد مبنيّةٌ على المُشاححة, بينما حقوق الله عزّ وجل مبنيّةٌ على المُسامحة.
مرة إنسان أعطوه عشرين دونم من الفرحة اختلَّ توازنه، فقير جداً وله شيخ, قال له: يا بُني هذه الأرض حرام أن تأخذها, لأنها ليست لك في الأساس, أُخِذت من صاحِبِها غصباً, وأُعطيت لك, هذه الكلمة من الشيخ أطفأت سروره جعلته يقنط, قال له: اذهب وحاول أن تشتريها منه تقسيطاً، ذهب إليه, وقال: يا سيدي أعطوني من أرضِكَ عشرين دونماً, وقال لي شيخي: أنَّ هذه الأرض حرامٌ أن آخذها منك, هل تبيعني إياها تقسيطاً؟ قال له: يا بني والله ذهب لي أربعمئة دونم, لم يأت لعندي أحد إلا أنت, فهذه هدية مني لك, حررها وأخذها حلالاً, لا يوجد إنسان يتحرّى الحلال إلا الله عزّ وجل, يُكسبه الحلال ورضوانه, الحلال والأرض.
قول ذكرته قبل قليل: حاسبوا أنفسكم قبل تُحاسبوا, وزِنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم, وأعلموا أنَّ ملكَ الموت قد تخطانا إلى غيرنا, وسيتخطى غيرنا إلينا.
لاحظ نفسك: فلان توفي رحمة الله عليه، هنا عميد أسرتهم، هذه الشابة، هذا الشاب، الطبيب الفُلاني، إلخ ... يجب أن توقن أنه في أحد الأيام سيقرأ الناس نعوتنا لا بُدَّ منها.
منذ فترة كُنا في سهرة, هناك رجل كآبته صارخة، التفت وسألته: خير إن شاء الله؟ فلم يجبن، بعدها فهمت أنه أصابه سرطان في الجلد, واثنين وثلاث وأربع وخمس, وأجرى خمس عمليات, وكلما أجرى بمكان, ظهر في المكان الآخر, وهو على علم عالٍ في الطب، والتقيت معه مرةً أخرى, فكل توجهه أنَّ موته من السرطان, بعدها توفي باحتشاء القلب, سبب الموت ليس له علاقة بالمرض الذي ظنَّ أنه سيُميتُهُ, جميعاً نحنُ تحت ألطاف الله، لا أحد يضمن منّا حياته ساعة, فلذلك:
حاسبوا أنفسكم قبل تُحاسبوا, المؤمن البطل جاهز للمغادرة، الآية الدقيقة:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) ﴾
عندما يقول ربنا:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5) ﴾
واضحة, يعني واحد يظن أنَّ العلبة مليئة, وهي لا تحتوي على شيء, وجدها على الأرض, ففرح بها, وحملها, ثم وجدها خاوية, خاب ظنه, نقول: اغترَّ بها ظنها ممتلئة.
كان هناك شاب عنده دُعابة، كان في محل تجاري, يكنس المحل، يضع الأوساخ في علبة فخمة، يلفها بورق هدايا، يضع له شريط أحمر, ويضعها على الرصيف، يأتي شخص فيرى العلبة, فيظن أنَّ فيها أشياء ثمينة, فيحملها ويركض, وبعد مئتي متر ينزع الشريط، ومئتي أخرى ينزع الورق، ومئتي أخرى يفتح العلبة, فيجد فيها أوساخ المحل, نقول: هذا الإنسان اغترَّ بهذه العلبة: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ) تغرُ وتضرُ وتمر ، وأحياناً الإنسان وهو في أوجهِ يُنزعُ منها بعد ما عاش إنسان أربعين, خمسين سنة في منزل تحت الأرض, صغير رطب, وهو يجمع المال حتى اشترى بيتاً في أرقى أحياء دمشق, أنا البيت أعرفهُ, لهُ شرفة تُطِلُ على دمشق بأكملِها، جلس على الشرفة, وأمر زوجته بإحضار القهوة, وقال لها: الآن قد تأمّنَ مستقبلنا, هذا منزل, وبعد جمعة واحدة فقط وافته المنية، هذه الدُنيا تغرُ وتضرُ وتمر.
وشخصٌ آخر اشترى في شارع الميسات, صاحب ذوق رفيع, أخذ شقتين في الطابق الثاني عشر، الكسوة لم تعجبه فهدمها، خلع السيراميك، والنوافذ، والبلاط, عمل مدى سنتين في كسوة بأعلى مستوى, أحد أخواننا يسكن تحت, يقول: لم يكن هناك مصعد, فيصعد ماشياً في اليوم مرتين أو ثلاث لمدة سنتين, وقام بترتيب كُلَّ شيء, ثمَّ جاءه ملك الموت, لذلك الإنسان يجب أن يُهيئ نفسه لهذه الساعة التي لا بُدَّ منها.
أنا أتمنى من الإنسان أن يتبّع جنازة ولو لم يعرفها، يُلاحظ عندما يوضع النعش، يُفتح غطاء النعش يُحمل الميت, البارحة كان في الفراش, أهله بجانبه, جميع طلباته مجابة, قال تعالى:
﴿ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى(35) ﴾
مرة لاحظت إنساناً وهو يُكفّن, أحضروا قطعة قماش طويلة, وغمسوها بالماء, وعندما ربطوها علقت فشدوها: ( وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى(35) ) وُضِعَ في القبر, وأُهيلَ الترابُ عليه، انفضَّ أهلهُ إلى بيتهم, وبقي وحده في البيت:
عبدي رجعوا وتركوك وفي التراب دفنوك
ولو بقوا معكَ ما نفعوك ولم يبقَ لك إلا أنا
وأنا الحي الذي لا يموت
لكن كيف نفهم: يا أيها الذين آمنوا لا تغرّنكم الحياة الدنيا؟ واضحة, لا ترونها بحجمٍ أكبرَ من حجمِها.
أمّا كيف نفهمُ قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) .
طالب توّهم أنَّ الأستاذ فقير, أُعطيه ألفي ليرة قبل الأمتحان, وآخذ الأسئلة منه وبلا هذا التعب, هكذا كان توهمهُ فارتاح، طرق الباب قبل الفحص بيومين, وعرض على الأستاذ, فطرده الأستاذ, نقول: هذا الطالب اغترَّ بأستاذه, يعني ظنه يبيع الأسئلة، وهذا المُخاصم اغترَّ بالقاضي، ظنه يرتشي فهو ليس كذلك.
إذا ظننت بالله ظنَ السوء فأنتَ قد اغتررتَ بالله، إذا ظننتَ أنَّ الله لن يُحاسبكَ فقد اغتررتَ بالله، إذا ظننتَ بأنَّ الله لن يُعاقب الجاني قد اغتررتَ به، إذا ظننتَ بأنَّ الله لن يأخذَ من القوي للضعيف فقد اغتررتَ بعدالته، هذا معنى قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) .
السؤال الثاني الذي يهمُنا: كيف نُحاسب أنفسنا؟
كان في صُلب الدرس لا بُدَّ أن تُحاسب نفسك.
قالوا: الأداة الأولى هي العلم.
أنت بالعلم تعلم ما إذا كنتَ على حقٍ أو على باطل، ما إذا كُنتَ مذنباً أو غير مُذنب, العلم أداة المحاسبة، احضر درس علم, تجد أنكَ في نفسِكَ مُخالف للشرع، احضر أحكام البيوع، احضر درساً في العلاقات الزوجية، احضر درساً بالأخوة الإيمانية, في غيبة, وهناك نميمة، احضر درساً بالحوالة والوكالة والكفالة, تجد نفسك مُخالف, لن تُحاسب نفسك إلا إذا كُنت على علم، العلم نور.
أوضح من ذلك: لو أحضرنا إنساناً مثلاً في الصف الرابع الابتدائي, وقلنا له: اقرأ هذا النص، إذا كانت والدته لا تقرأ ولا تكتب, فهل تستطيع أن تحاسبه على أغلاطه؟ يمكن أن يرتكب أخطاء كثيرة في الصفحتين, وتقول له: جيد جداً، لا يوجد عندها مقياس, الأم جاهلة، أما لو كان والده يحمل ليسانس في اللغة العربية, وطلب منه القراءة، كل كلمة غلط, يصُحح؛ هذه غلط، هذه مبتدأ, وهذه خبر, وهذه مفعول به, وهذه حال, وهذه تمييز .... إلخ، لن تستطيع أن تُحاسب إلا إذا كنت عالماً، كذلك لن تُحاسب نفسك إلا إذا كنتَ عالماً، تعرف أنَّ هذا القرض جر دفع فهو رِبا، هذا الإيجار باطل، هذا العقد باطل، هذه السلعة مُحرّمة, إذاً التجارة بها باطلة، هذه النظرة للأب:
(( ما بر أباه من شد إليه الطرف بالغضب ))
[ أخرجه الطبراني في سننه ]
باطلة, هذه ما برَّ أباه.
النبي عليه الصلاة والسلام رأى شاباً ورجلاً, قال له:
من هذا؟ -ويعلم من هذا؟- فأجابه: أبي، فقال له النبي: أبوك؟ لا تمشي أمامه, ولا تجلس قبله, ولا تستبَ له, ولا تناديه باسمه
إذا كُنتَ تعرف الحديث, وشاهدت إنساناً يمشي أمام والده, وجلس قبله, وناداه باسمه مثلاً, وعملَ عملاً سيئاً, فشتمه الناس، فيكون قد خالف.
لن تستطيع أن تُحاسب إلا إذا كنتَ عالماً، فأول أداة هي العلم, بالعلم تُميّز بين الحق والباطل، والهُدى والضلال، والضار والنافع، والكامل والناقص، والخير والشر, بالعلم تعرف مراتب الأعمال, راجحها ومرجوحها، مقبولها ومردودها، وكلما كان نصيبكَ من العلم أوفر كان التمييز أقوى.
العلم نور, أحضر مصباحاً ضئيلاً, يكشف لكَ الطاولة، أما الإبرة فلا تشاهدها، الإبرة لا تُشاهدها على السجاد, أما إذا امتلكت مصباح خمسة آلاف شمعة فتشاهدها، فكُلما اشتد مصباحُكَ تكشف أدق الحاجات، وكلما اشتد النور في قلبك تكشف أدق المخالفات, أيام ابتسامة سخرية تُحاسب عليها، أحياناً كلمة هكذا.
عن حذيفة, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( قذف المحصنة يهدم عمل مئة سنة ))
[ أخرجه الطبراني في سننه ]
أيام يقول لك: واثق ولم تتكلم أنت ولا كلمة، لا تعرفه أنت وقد يكون أفضل منك، فكلما اشتدَّ النور الذي في قلبك كشفتَ أدقَّ المخالفات, هذه أول واحدة.
الأداة الثانية: سوء الظن بالنفس .
كلما أسأت الظن بنفسك تكون أرقى عندَ الله عزّ وجل، وكلما أحسنت الظن بها تكون ساذجاً.
نصيحتي: بالغ بإساءة الظن بنفسك وبحُسن الظن بالآخرين، هذا المؤمن, أمّا الشيء المضحك: أنَّ هناك أشخاص يُحسنون الظن بأنفسهم ويُسيئون الظن بالآخرين، هو مُبّرأ من كُل خطأ أما غيره غير مُبرّأ.
بالغ بسوء الظن بالنفس وبحسن الظن بالآخرين، فسوء الظن تشتدُ الحاجةُ إليه, لأنَّ حُسنَ الظن بالنفس يمنع محاسبتها، يقول لك: ماذا بي؟ يرتكب أكبر المخالفات, ويقول لك: ماذا فعلت؟! حُسنُ الظن بلاء بالنفس, كلما أحسنت الظن بنفسك منعتها من أن تُحاسب.
عين الرِضا عن كل عيبٍ كليلةٌ كما أنَّ عين السُخطِ تُبدي المساوئا
إذا عَلِمَ المُسيء أنه مُسيء لم يعد هناك مشكلة، لكنَّ المُسيء لا يعلم أنه مُسيء، يتوهم أنه على حق، قال: ولا يُسيء الظن بنفسهِ إلا من عرفها, ومن أحسن الظن بنفسه كان من أجهلِ الناس.
الأداة الثالثة : أن تميز بين النعمة وبين الفتنة .
النعمة هي التي تنقُلُكَ إلى الطاعة والشُكر، وأما النعمة التي تنقُلُكَ إلى المعصية والكِبر فهي فتنة وليست نعمة, أكثر الناس تلتبس عليهم الأمور بظن النِعم نِعم وهي قد تكون نِقم، النعمةُ التي تحمِلُكَ على الكِبر هذهِ نِقمة، النعمة التي تحمِلُكَ على معصية هذهِ نِقمة، النعمة التي تحمِلُكَ على أن تزهوَ على الآخرين هذهِ نِقمة، أمّا النعمة التي تقودُكَ إلى الله وإلى طاعتهِ وإلى شُكرِهِ هذهِ نِعمة, وهذا يؤكدهُ قوله تعالى:
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ(17) ﴾
يعني: يا عبادي ليس عطائي إكراماً ولا منعي حِرماناً، عطائي ابتلاء وحِرماني دواء.
أيها الأخوة ؛ أدواتٌ ثلاث:
1- أن تُميّز بين النِعمةِ والنِقمة .
2- وأن تُسيء الظن بنفسِك .
3- وأن تطلب العلم .
هذه أدوات المحاسبة, إن ملكتَ هذهِ الأدوات, حاسبتَ نفسكَ حساباً عسيراً, فكانَ حسابُكَ يوم القيامة يسيراً:
﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(46) ﴾
هذه ثِمار المحاسبة، إن أردتَ أن تكون مستقيماً, وحَرِصتَ على ذلك, يهديكَ الله إلى الصراط المستقيم: ( لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ).
و الحمد لله رب العالمين