- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون؛ لا زلنا في الحديث النبويّ الشريف، ومن باب التعاون على البرّ والتقوى، عنوان هذا الباب مُقتَبَس من قوله تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
رياض الصّالحين من طريقته: أنه يُصَدِّر أبوابه ببعض الآيات الكريمة, الذي عُقِد تحت عنوان: وتعاونوا على البرّ والتقوى، مُصدَّرٌ بقوله تعالى:
عاونَه: على وزن فاعَلَ، عاوَنَ: على وزن فاعَلَ، أعان بمعنىً، وعاونَ بمعنىً، أعان من طرفٍ واحد، أما تعاون أو عاون، فيها معنى المشاركة ، أي يجب أن تعاونني، ويجب أن أعاونك، الفاعل والمفعول به يقوم كلٌّ منهما بالفعل، هذه المشاركة، ومعنى التعاون: أي كلُّنا سواسية كأسنان المشط، كلّكم لآدم وآدم من تراب، أي تُعينه في أمر دينه، فيُعينك أحياناً في أمر دينك.
يقول الله سبحانه وتعالى:
(( فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ, إِلا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ ))
وأما التقوى: أعِنه على أمر دينه، بيّن له، استمعت إلى آية، انقلها لأخيك، استمعت إليها, وتأثّرت بها تأثُّراً بالغاً، لماذا أنت ساكتٌ عنها؟ لِمَ لا تنقلها لأخيك المؤمن؟ استمعت إلى حديث شريف، أو إلى تفسير دقيقٍ دقيق لحديث شريف، ما الذي يمنعك أن تنقله لأخيك المؤمن؟ قال تعالى:
بعض مَن لم يتفقّه في الدين, يظنّ أنّ الفرائض هي: الصلاة, والصوم, والحج, والزكاة ليس غير، مع أنّ كل أمر ورد في كتاب الله يقتضي الوجوب, قال تعالى:
﴿
أنت مأمورٌ بالعدل، وأنت مأمورٌ بالإحسان، فهل نفَّذْت هذا الأمر؟ قال تعالى:
الأحاديث التي تحث على التعاون:
أيها الإخوة؛ أما الأحاديث الشريفة التي تنطوي تحت هذا الباب، فمن أبرزها قول النبيّ عليه الصلاة والسلام, والمغزى منها، أنه مَن أعان على معروف كمن قام به، مَن دلّ على خيرٍ كمن فعله، هذا كلام النبيّ عليه الصلاة والسلام، والنبيّ عليه الصلاة والسلام لا ينطق عن الهوى.
1- الحديث الأول.
(( فَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ جَهَّزَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدْ غَزَا, وَمَنْ خَلَفَ غَازِيًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِخَيْرٍ فَقَدْ غَزَا ))
أنّ هذا الذي ذهب ليغزوَ في سبيل الله، هذا الذي يجهزه، يهيئ له عدّته, وعتاده، ومؤْنته، هذا الذي يقدّم هذا الشيء, فكأنّما غزا في سبيل الله عزّ وجل، وهذا الذي يتفقّد أهله في غيبته، يسأل عنهم، يمدّهم بما يحتاجون، يرعى صغيره، ويطبب مريضهم، هذا كأنّه غزا في سبيل الله.
من هنا المرأة إذا قامت بحقّ زوجها، أنا أعتقد اعتقاداً جازماً: أنّ كل أعماله الصالحة في صحيفتها، لماذا؟ لأنه انطلق إلى الحياة، انطلق ليتعلّم العلم، وانطلق ليعلّم العلم، وانطلق ليخدم الناس، لولا أنه مرتاحٌ من طرف بيته، لولا أن ذهنه صافٍ، لولا أنّ زوجته تقوم بواجباتها خير قيام، لَما تيسّر له أن ينطلق في الحياة كما هو عليه الآن، فانطلاقه في الحياة, يعود فيه الفضل بالدرجة الأولى إلى زوجته، التي وفّرت له هذا الجوّ، لذلك بعض المؤلفين إذا ألّفوا كتاباً، وأمضَوا في تأليفه سنوات طويلة، يهدون هذا الكتاب أحياناً لزوجاتهم، اللواتي وفّرن لهم هذا الجوّ الهادئ، ووفّرن لهم هذا العطاء، لذلك المرأة إذا أحسنت تبعُّل زوجها، ألم يقل النبيّ عليه الصلاة والسلام:
2- الحديث الثاني.
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَعَثَ بَعْثًا إِلَى لَحْيَانَ بْنِ هُذَيْلٍ، قَالَ: لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا وَالأَجْرُ بَيْنَهُمَا ))
إذا اقتضت المصلحة أن ينطلق من قبيلة هُذَيل نصفها, ونصفها الآخر يقوم بمهمّة أخرى، فالأجر بين هؤلاء جميعاً.
لذلك نظام الأسرة، نظام الجماعة، هذا في عمل، هذا في عمل، هذا في عمل, ربّما كان الأجر الكبير موزّعاً على كلّ هؤلاء بالتساوي، لأنّ الله سبحانه يقول:
3- الحديث الثالث.
(( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, لَقِيَ رَكْبًا بِالرَّوْحَاءِ, فَقَالَ: مَنْ الْقَوْمُ؟ قَالُوا: الْمُسْلِمُونَ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -يبدو أنهم أسلموا عن بُعد، أحياناً يسلم قوم, إذا أسلم زعيمهم, فهؤلاء أسلموا، صدّقوا بالنبيّ ولم يرَوه- فَرَفَعَتْ إِلَيْهِ امْرَأَةٌ صَبِيًّا فَقَالَتْ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَلَكِ أَجْرٌ ))
هذا الذي ينفق له مثل أجر الذي حجّ، فهذا الحديث الثالث: يؤكد أنّ كل من ساهم بطاعة، بعبادة، بعمل صالح، مساهمة كبيرة, أو قليلة، أو غير جليلة، هذه المساهمة له من أجرها نصيب، لأنّ الله سبحانه وتعالى يحبّ أن نربح عليه.
4- الحديث الرابع.
حديثٌ أخير في الموضوع نفسه.
(( عَنْ أَبِي مُوسَى, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْخَازِنُ الْمُسْلِمُ الْأَمِينُ الَّذِي يُنْفِذُ, وَرُبَّمَا قَالَ: يُعْطِي مَا أُمِرَ بِهِ كَامِلًا مُوَفَّرًا, طَيِّبًا بِهِ نَفْسُهُ, فَيَدْفَعُهُ إِلَى الَّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدِّقَيْنِ
))
سأعيد عليكم نصّ الحديث
هذا الخازن، فليهنأ أمناء الصناديق المؤمنون بهذا الحديث.
هذه الأحاديث الأربعة تنبئكم: أنّ كل مَن ساهم في أيّ عملٍ فيه صلاح الدنيا والآخرة، له أجرٌ مثل أجر الذي فعله، كما مرّ بنا في الدرس الماضي أيضاً.
أحكام البيع:
والآن إلى بعض ما في البيوع، وقد وصلنا في البيوع إلى موضوع شروط صحّة البيع.
تتمة شروط البيع:
بيّنا من شروط صحّة البيع:
التأبيد، ومعلوميّة المبيع، ومعلوميّة الثمن، ومعلوميّة الأجل ، وطرق التوثيق.
وبيّنا من شروط صحّة البيع:
سلامة الرضا: انعدام الرضا يجعل البيع باطلاً، إذا شُكَّ في الرضا يجعل البيع غير صحيح.
سلامةُ الرضا؛ ومما يخدش سلامة الرضا: الإكراه، المواضعة، التلجئة، والهزل، ويجب أن يكون البيع مفيداً، إلا أنّ الشافعيّ خالف في هذا، والقدرة على التسليم عند العقد، وأن يكون الثمن مُتَقَوَّماً، أي مادّة يحلّ للمسلم الانتفاع بها.
والشرط الأخير الذي أرجأناه إلى هذا الدرس، من شروط صحة البيع:
الخلوّ عن الشروط الفاسدة.
أحياناً: تشتري بشرط, أو تبيع بشرط، وهذا الشرط يفسد عقد البيع، والفقهاء في هذا الموضوع على مذهبين:
مذهب الجمهور، أي جمهور العلماء, وهم السادة الأحناف، والشافعية ، والمالكية، هؤلاء يأخذون بمبدأ عدم صحّة الشروط الجَعليّة، يعني أنت جعلت شرطاً مع هذا البيع، يأخذون بعم صحة الشروط الجعلية، إلا ما كان يقتضيه العقد, أو يلائمه، أو ورد العرف به، أو أجاد الشرع جوازه، فأي شرط آخر غير صحيح، أي شرط آخر يفسد البيع، لكن هذه الاستثناءات, سوف تُشرح بعد قليل.
فهو مذهب الحنابلة الذين يجيزون الشروط مع البيع، انطلاقاً من قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ, إِلا صُلْحًا حَرَّمَ حَلالا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، قال: وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ, إِلا شَرْطًا حَرَّمَ حلالا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، قَالَ أَبو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ))
أي العقد كما يقولون: شريعة المتعاقدَين، فالحنابلة يجيزون أن يجعل البائع أو المشتري شرطاً مع البيع، بشرط ألا يخالف هذا الشرط مقتضى العقد، أو ألا يخالف ما ورد فيه نصّ صريح بالتحريم، أي شرط مقبول عند الحنابلة، بشرط ألا يخالف مقتضى العقد، مثلاً:
مما يقتضيه العقد: تسليم المبيع، فإذا بعتك هذه الدار, بشرط ألا تسكنها، وأن أبقى أنا فيها، هذا شرط غير صحيح، مما يقتضيه العقد: تسلّم البيت والسكنى فيها، فالحنابلة يجيزون الشروط, ما لم تخلّ بمقتضى العقد، أنا سأشتري منك هذا البيت، ولكن لن أدفع لك الثمن، الشرط مخلٌّ بما يقتضيه العقد، لذلك الحنابلة قالوا: أي شرط يخلّ بما يقتضيه العقد، أو ورد فيه نصّ محرّم، يحرّم هذا الشرط، فهذان الشرطان باطلان، فالشروط مقبولة.
أيها الإخوة؛ لكنّ الأحناف، والشافعيّة، والمالكية: أخذوا بمبدأ؛ أنّ أي شرط لا يصح, إلا إذا كان مما يقتضيه العقد، أو يلائمه، أو ورد العرف به، أو أجازه الشرع، وما سوى ذلك، لا يتفق البيع مع الشرط، انطلقوا من قول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَهُوَ مَرْدُودٌ, وَإِنِ اشْتَرَطُوا مِائَةَ مَرَّةٍ ))
ليس في كتاب الله فهو باطل، وانطلقوا من أنّ النبي عليه الصلاة والسلام, نهى عن بيع وشرط، فجمهور الفقهاء على رفض الشروط، لأنّ النبي نهى عن بيع وشرط، ولأنّ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، والحنابلة وحدهم أجازوا بعض الشروط، لكننا إذا دخلنا في التفصيلات، نرى أنهم يلتقون على قواسم مشتركة.
مما يقتضيه العقد كما قلت قبل قليل: أن تدفع الثمن، ومما يقتضيه العقد: أن تسلّم المبيع، فإذا اشترطت ألا تسلّم المبيع، أو ألا تدفع الثمن، فهذا الشرط باطل، لأن هذا الشرط مناقضٌ لطبيعة عقد البيع؛ عقد البيع انتقال مالٍ من جهة إلى جهة مُقابل عوض، فإذا رفضت المال فالعقد باطل، وإذا رفضت العوض فالعقد باطل، يلائم العقد أنّك إذا بعت شيئاً دَيناً، وأردت كفيلاً، أو أردت شيئاً يوثق صلتك بهذا المشتري، فهذا مما يلائم العقد، فلو اشترطت أنك إذا بعت هذا البيت، وصاحب هذا البيت الذي اشتراه لا يملك ثمنه، ويريد أن يبيع بيته، وبعد أن يبيع بيته يعطيك الثمن، وأمرك أن تفرغ له في السجلات العقارية، ألا تحتاج إلى كفيل؟ ألا تحتاج إلى رهن؟ إلى شيء موثّق؟ وإلا ضاع البيت منك, وهذا مما يلائم العقد.
شيء آخر: مسموح بشرط يقرّه العرف، أنا اشتريت قماشًا على أن تخيطه لي، ماذا أفعل به من دون خياطة؟ على أن تخيطه لي، أنا اشتريت هذا الجلد على أن تجعله حذاء لي، فهذا مما يقرّه العرف، هناك مصالح كثيرة، أنا أشتري هذه المادة الغذائية على أن تعطيني ما يوضع عليها, القطايف تحتاج إلى القشطة، أبيعك فقط القطايف، لا تقبل هذا، هذا مما يجيزه العرف، فهذا شرط يجيزه العرف.
الشارع الحكيم، النبي الكريم، جعل بعض الشروط في النص النبوي الشريف، جعل الخيار، لدينا خِيار العيب، خِيار الشرط، خيار الرؤية، فهذه الخيارات هي شرط في الحقيقة، لكن الشرع أقرها.
إذاً: أي شرط يخلّ بمقتضى العقد فهو باطل، أي شرط لا يقره العرف فهو باطل، أي شرط لا يلائم العقد فهو باطل، أي شرط لم يرد فيه نصّ من حديث نبوي شريف فهو باطل، فالشرط الذي يقتضيه العقد فهو صحيح، والشرط الذي يقرّ به العقد فهو صحيح، والشرط الذي يلائم العقد فهو صحيح، والشرط الذي نصّ به النبي عليه الصلاة والسلام فهو صحيح.
إذاً: لدينا بيع وشرط، لكن شرط مقبول، حتى الحنابلة الذين أجازوا الشروط انطلاقاً من قول النبي عليه الصلاة والسلام, الذي قال في بعض أحاديثه:
(( لا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ، وَلا شَرْطَانِ فِي بَيْعٍ, وَلا بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ ))
يعني شرط واحد مقبول، شرطان منهيٌّ عنه قولاً واحداً، يبدو أن الشرطين عبءٌ على المشتري، يجب أن تشتري مني هذا البيت، ويجب ألا تسكنه، ويجب أن تبيعه لأخي بعد عام, شرطان مع العقد، هذا مما نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام:
وهذه المعلومات ضرورية لا للتجّار فحسب، بل لكل مسلم، لأن المسلم قد يبيع بيته، قد يشتري أرضاً، قد يشتري حاجة، قد يشتري شيئاً ثميناً، قد يُكلَّف كتابة عقدٍ، وكل خلافٍ, ومنازعةٍ, ومخاصمةٍ, ومشادةٍ بين المسلمين, بسبب جهلهم أحكام البيوع.
وفي درس آخر إن شاء الله تعالى، ننطلق إلى شروط نفاذ البيع، نحن تحدّثنا عن شروط انعقاد البيع، فلو اختل أحدها أصبح البيع باطلاً، ثم تحدّثنا عن شروط صحّة البيع، فلو تخلّف أحدها أصبح البيع فاسداً، والفاسد يصَحَح، وبقي علينا شروط نفاذ البيع، فلو تخلّف أحدها صار البيع متوقّفاً، ثم ننتقل إلى شروط لزوم البيع، فلو تخلّف أحدها، صار المبيع غير لازمٍ، وهذا نأخذه بالتفصيل بالشروط التي تحدّث عنها النبي عليه الصلاة والسلام.
صور من مواقف سيدنا علي.
والآن ننتقل إلى سيدنا عليّ كرّم الله وجهه.
أحياناً: يوضع على المائدة أطباقٌ عديدة، بعض الآكلين يميل لهذا الطبق، وبعضهم لهذا الطبق، وبعضهم لهذا الطبق, فإذا قال لك أحدهم: لو جعلت كل الأطباق من هذا الطعام لاحتجّ الآخرون، فلا بدّ من تنويع الأطباق، فالفقه يحتاج إلى كدّ ذهنٍ، لكنّ ثماره طيبة، والقصة ممتعة، ولها ثمارٌ طيبة، والحديث النبوي الشريف، فيه توجيهاتٌ طيبة، فلو جُمعَت هذه الأطباق الثلاثة على مائدةٍ واحدة، لعلّ الله سبحانه وتعالى ينفعنا بها جميعاً.
الحقيقة: هذا الصحابيّ الجليل ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم، تعرّف إلى النبي منذ أن كان طفلاً، ونشأ معه، فتخلّق بأخلاقه، وتأدّب بآدابه، وقد نستطيع أن نتلمّس من ملامح شخصيته شيئاً مما فعله النبي عليه الصلاة والسلام.
فسيدنا عليّ كرّم الله وجهه، ألَم يرَ النبي عليه الصلاة والسلام، يوم حمله عمّه أبو طالب, على أن يترك هذه الدعوة، ويريح نفسه؟ فهناك أشخاص بسبب صغيرٍ صغير، لمضايقةٍ بسيطة، لسؤالٍ وجواب، لاستدعاء طفيف، يقول لك: لا أريد هذه الدعوة إطلاقاً، قضية متعبة، النبي عليه الصلاة والسلام قال:
(( والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني, والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الدين, ما تركته, حتى يظهره الله أو أهلك دونه ))
هكذا كان النبي، لذلك لا يوجد إنسان حقق هدف في الحياة، إلا بثباته على المبدأ، نحن نعلم أننا إذا قلنا عن إنسان: رضي الله عنه, فله معنى، وإذا قلنا عن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: رضي الله عنهم، فهذا القول له معنى، فرضي الله عن صحابة رسول الله، هذا تقرير، وإذا قلنا عن إنسان: رضي الله عنه، هذا دعاء، وشتّان بين الدعاء والتقرير.
أنا أقول لفلان، وقد أعلم علم اليقين: أنّ معه أموالاً طائلة، أقول: لقد أغناه الله، هذا تقرير، وقد أرى إنساناً بحاجةٍ إلى المال، فأقول له: أغناك الله، أغناه الله لها معنى، وأغناك الله لها معنى، هذا تقرير، وهذا دعاء، لأنّ الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قال:
﴿
لذلك إذا سألتُ عن أعلى مرتبةٍ, ينالها الإنسان على وجه الأرض، أعظم مرتبة أن يرضى الله عنك, صدق القائل:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضابُ
لذلك عندما يسعى الإنسان إلى مرضاة الله عز وجل، هذا يعدّ أذكى إنسان، وهذا يُعدُّ أشدّ الناس طموحاً، لو أنه زهد في الدنيا، ما قولك: إذا كان ربّ السموات والأرض راضٍ عنك؟ ما قولك: فإنك بأعيننا؟ قال تعالى:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً (96)﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)﴾
قد يتجلّى الله على قلبك تجلياً, لا ترى في الدنيا شيئاً، أبيت عند ربي, يطعمني ويسقيني.
فسيدنا علي, رأى النبي عليه الصلاة والسلام, يوم قال:
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾
وهذا الصحابي الجليل، ابن عمّ النبي عليه الصلاة والسلام، رآه أيضاً يوم الفتح وقد بلغت القلوب الحناجر، وقد وضع أهل مكّة رقابهم بين يدَي النبي، وكيف أنّ حياتهم كلهم كانت معلّقةً بين شفتَي النبي عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك عفا عنهم أكرم عفوٍ, فقال:
النبي عليه الصلاة والسلام مرّةً, ضنّ على نفسه بشربة لبن، ثم أرسلها إلى فقيرٍ من فقراء المسلمين، هذه مؤاثرة، علّمه النبي الثبات، وعلّمه النبي الصفح والغفران، وعلّمه المؤاثرة، وهذا الإمام العظيم أرسل إلى النبي زوجته، من هي زوجته؟ السيدة فاطمة.
أرسل إلى النبي زوجته, تسأله حقّاً يسيراً, ناله جميع المسلمين، فإذا هو يجيبها, ودموع الوالد الحنون, تملأ عينيه، قال لها:
مرّةً عمه العبّاس, سأله ولايةً، وهو لها أهلٌ، وبها جدير، فإذا النبي عليه الصلاة والسلام، يجيبه في أسف:
(( إنّا والله يا عم, لا نولّي هذا الأمر أحداً يسأله، أو أحداً يحرص عليه ))
إذاً: لم يولِّ من يلوذ به في هذا الموضوع.
في فتح مكّة حمل عليّ مفتاح الكعبة، وتوجّه تلقاء النبي عليه الصلاة والسلام، وهو جالسٌ وسْط أصحابه في المسجد، وقال له:
يا رسول الله, اجعل لنا الحجابة مع السقاية، صلّى الله عليك، اجعلها لنا، يبدو أنه كان عملاً مرغوب به جدّاً، فإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يبسط إليه يمينه، ويأخذ منه مفتاح الكعبة، ثم ينادي أين عثمان بن طلحة؟ وكانت وظيفة حجابة بيت الله الحرام معه, ومع أسرته من قبْل، حتى إذا نهض عثمان بن طلحة قائماً، أدناه النبي منه، ووضع مفتاح الكعبة في يده، وقال له: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بِرٍّ ووفاء.
رفض أن يعطيه لابن عمّه سيّدنا علي، ورفض أن يولّي عمّه العبّاس، ورفض أن يعطي ابنته شيئاً، ويبقى فقراء المسلمين جياع، ورفض أن يشرب شربة لبنٍ, حيث آثر بها بعض فقراء المسلمين.
هذا سيدنا عليّ رأى المؤاثرة، رأى الثبات، رأى الصفح، رأى السّخاء، رأى النزاهة، رأى العفّة, تخلّقوا بأخلاق النبي، النبي أدّبه الله، فأحسن تأديبه، وسيدنا النبي عليه الصلاة والسلام, أدّب ابن عمه عليّ، فإذا صاحب الإنسانُ إنسانًا أكمل منه, قد يتعلّم من أخلاقه، قد تتعلّم من كلامه، وقد تتعلّم من أخلاقه، فمصاحبة الكبراء ضرورية جدّاً، أن تصاحب الكبراء حتى تقتبس من أخلاقهم، من ثباتهم على مبدئهم، من صفحهم، من ورعهم، من زهدهم، من تفانيهم، من خدمتهم، هكذا ...
أناسٌ كثر, يتوهّمون أنّ بين هذا الإمام العظيم وسيدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه خلاف، استمعوا إلى ما قاله سيدنا علي كرّم الله وجهه عن سيدنا الصدّيق رضي الله عنه، قال هذا الكلام حين انتقل الصدّيق إلى الرفيق الأعلى، فقال سيدنا عليّ:
هؤلاء الذين اتبعوا النبي ساعة العسرة، هؤلاء لهم أجر كبير، الإنسان أحياناً يتبع الحق والحق قوي، ليس له أجر كمثل الذي اتبع الحق والحق ضعيف، إذا اتبعت الحق والحق ضعيف، فلك أضعافٌ مضاعفة، لذلك النبي الكريم عليه أتمّ الصلاة والتسليم، يقول:
(( اشتقت لأحبابي، فقالوا: ألسنا أحبابك؟ قال: لا أنتم أصحابي، أحبابي أناسٌ يأتون في آخر الزمان، القابض منهم على دينه, كالقابض على جمر، أجرهم كأجر سبعين، قالوا: منا أم منهم؟ قال: بل منكم، قالوا: ولم؟ قال: لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون. ))
من علامات آخر الزمان: أن المسلم يحسّ بأنه غريب، بدأ الدين غريباً, وسيعود غريباً, فطوبى للغرباء، أناسٌ صالحون في قوم سوءٍ كثير.
المؤمن إذا جلس مع جماعة من أهله أحياناً، من أقربائه، يحسّ أنه غريب، هم ليسوا منضبطين بالشرع، لا يقيمون لأوامر الله قيمة، لا يعظّمون شعائر الله، هان الله عليهم, فهانوا على الله، يحسّ أنه غريب، يشعر بشعور لا يشعرون به، يطمح إلى مستويات في الإيمان لا يطمحون لها.
قال له: صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا.
النبي عليه الصلاة والسلام في موقعة بدر، بعد أن انتهت الموقعة، وبعد أن وُضِع صناديد قريش في البئر، في القليب، خاطبهم بأسمائهم وَاحداً واحداً:
(( يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، يا أميّة بن خلف، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإنّي وجدت ما وعد ربي حقاً, لقد كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وخذلتموني ونصرني الناس. ))
لذلك: حينما يأتي الإنسانَ ملَكُ الموت، وحينما يبعثه الله عز وجل، يقول: يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا، فيأتيه الجواب: هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، هنيئاً لمن عرف الحقيقة قبل فوات الأوان، هنيئاً لمن عرف الحقيقة وهو في الدنيا، لأنه لا بدّ من أن تعرفها عند الآخرة, ولكن تعرفها بعد فوات الأوان، فالبطولة أن تعرفها الآن.
قال: صدّقت رسول الله حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا ، كنت والله للإسلام حصناً، وللكافرين ناكباً، لم تهن حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك.
أحياناً: المؤمن يضعف، أما المؤمن الصادق، فقالوا: فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، المؤمن الحق لا يضعف، ضعيف الإيمان يضعف، أحياناً يقول: معنوياتي هبطت، يائس، شعرت أن الأمر صعب كثير, هؤلاء الضعاف, لكن المؤمنين الصادقين لا يضعفون إذا أصابتهم الشدة.
لم تهن حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت والله كما قال النبي فيك: ضعيفاً في بدنك, قوياً في دينك، متواضعاً في نفسك، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلّنا بعدك.
هذا تأبين، هذا أرقى أنواع التأبين.
رحمك الله أبا بكر، كنت والله أول القوم إسلاماً، وأخلصهم إيماناً، وأشدهم يقيناً، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، كنت والله للإسلام حصناً، وللكافرين ناكباً، لم تهن حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كنت والله كما قال النبي فيك: ضعيفاً في بدنك، قوياً في دينك، متواضعاً في نفسك، فلا حرمنا الله أجرك, ولا أضلّنا بعدك.
كان سيدنا الصديق, إذا التقى بهذا الإمام العظيم, يقول له: أفتِنا يا أبا الحسن، أفتِنا، وسيّدنا عمَر كان يقول: لولا عليّ لهلَك عُمَر، يروي التاريخ: أن امرأةٌ جاءت لسيّدنا عمَر، وكان هناك أدب رفيع، فقالت له:
يا أمير المؤمنين، إنّ زوجي صوّامٌ قوّام، سيدنا عمر ظنّ أنها تمدحه، فقال لها: بارك الله لك في زوجك، فسيدنا أبو الحسن, قال له: يا أمير المؤمنين، إنها تشكو زوجها، إنه صوّامٌ في النهار ، قوّامٌ في الليل -أي تركها نهائياً, ويقال: أن سيدنا علي قضى- قال له: إن كنت فهمت هذا فاقضِ بينهما، فقضى على هذا الزوج: أن يتفرّغ لزوجته في كل أربعة أيام يوماً, كما لو أنه تزوّج أربعة نساء.
أليس لها حق في كل أربعة أيامٍ يومٌ؟.
فكان يقول سيدنا عمَر: لولا عليٌّ لهلَك عمَر.
أيها الإخوة؛ بقي ما ترويه كتب السيرة, من خلافٍ بين هذا الإمام العظيم وبين بعض أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، الذي رأيتُه أنّ أنْ تجهل هذه المعلومات، لا يضرّك جهلها، ولا ينفعك ذكرها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول:
(( إذا ذُكِر أصحابي فأمسكوا ))
فنحن لسنا في مستوى أن نقول: إنّ الحق مع مَن كان
أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم
و الحمد لله رب العالمين