وضع داكن
16-07-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 062 - الزهد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة الزهد:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني والستين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم هي منزلة الزُّهد.
آيات كثيرة جداً ورد في مضمونها معنى الزهد، أما الآية التي ورد فيها لفظ الزهد بالحرف الواحد هي آية واحدة، قال تعالى:

﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)﴾

[ سورة يوسف ]

العلماء قالوا: الزهد الانصراف عن الشيء احتقاراً له، وتصغيراً لشأنه، للاستغناء عنه بخير منه، ولم يجئ في القرآن الكريم في شأن الزهد إلا هذه الآية لفظاً، ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ .
 

الزهد لا أن ترفض الدنيا بل توظفها للآخرة:


يوجد نقطة مهمة جداً أن ترفض نِعم الله عز وجل ليس هذا زهداً، أن تستخدم نِعم الله فيما سمح لك به، أو أن تستعين بها على الآخرة هذا قمة في الزهد، أن تستخدم نِعمَ الله فيما أمر، أن تُطبِّق منهج الله عز وجل، لأن الله عز وجل يقول:

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾

[ سورة القصص ]

عند علماء الأصول: المعنى المخالف، المعنى المخالف المستنبط من هذه الآية أنك إذا أتبعت هواك وفق منهج الله فلا شيء عليك، فليس الزهد أن ترفض نِعم الله عز وجل التي خلقها الله لك، ولكن الزهد أن تجعلها أداةً تستعين بها على أمر آخرتك، مثلاً أوضح شيء المال، ليس الزهد أن ترفض المال، وأن تكون فقيراً، أن تكون عالةً على الناس، أن تكون يدك هي السفلى، ولكن الزهد أن تكسِب المال، وأن تجعله بيديك لا بقلبك، وأن تُوظّفه في الحق، سيدنا الصديق قدّم كل ماله لسيدنا رسول الله، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: نفعني مال أبو بكر.

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا نَفَعَنِي مَالٌ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ: هَلْ أَنَا وَمَالِي إِلا لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟. ))

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ. ))

[ صحيح مسلم ]

والمال قوة، والعلم قوة، والقوة في تدبير الأمور قوة، إذاً الزهد لا أن ترفض الدنيا، أن توظفها للآخرة، الزهد لا أن تكون أمياً، أن تكون مُتعلماً، ومعك أعلى شهادة، ولكن أن تُوظّفها بالحق، الزهد لا أن تكون متسولاً، أن تكون غنياً، ويدك هي العليا، وهذا المال تُوظّفه في الحق، هذا هو الزهد، لأن الآخرة تحتاج إلى عمل، والعمل يحتاج إلى مال.
 

حقيقة الدنيا:


أيها الإخوة الكرام، إليكم الآيات التي في فحواها معنى الزهد، قال تعالى:

﴿ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)﴾

[ سورة النحل ]

الذي تُجَمِّعه في حياتك الدنيا لبنةً لبنة تخسره في ثانية واحدة، أذكر هذا كثيراً ألم تعزِّ أهل ميت في بيت رفيع المستوى؟ أين صاحبه؟ تحت أطباق الثرى، فالذي جَمَّعه الإنسان في عمر مديد يفقده في ثانية واحدة ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ أما لو أنك بطاعتك لله وإخلاصك له حجزت-بالتعبير التجاري-عند الله مكاناً في الجنة فأنت زاهد حقيقةً.
الزاهد هو الذي يزهد بشيء محتقر، ويطمح إلى شيء معتبر، الآية الثانية:

﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)﴾

[ سورة الحديد ]

يوجد عمل جاد، عمل عابث، لو إنسان جلس ولعب النَّرد، مع أنه محرم، مع صديقه حتى ساعة متأخرة من الليل، ماذا فعل؟ هل هناك مردود لهذا اللعب؟ أبداً، قد تسهر حتى ساعة متأخرة، وليس هناك أدنى فائدة، اللعب هو الشيء الذي لا جدوى منه، لا مردود له، لا مستقبل له، ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ﴾ بمعنى اللهو، أي يوجد شيء نفيس وشيء خسيس، والذي يلهو هو الذي يلهو بالخسيس عن النفيس.
إنسان التحق بجامعة أو بمدرسة، اهتم بمقعد على النافذة، اهتم بوسادة تحته مريحة، اهتم بأشياء يأكلها أثناء الدرس، اهتم بدراجة يركبها إلى البيت، لم يهتم بالدراسة، اهتم بكل شيء إلا الدراسة، هذه أشياء خسيسة ألهته عن الشيء النفيس: ﴿أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ﴾ أي مظاهر، هذه المظاهر لا تُقدّم ولا تُؤخر، ﴿وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ﴾ هذه حقيقة الحياة الدنيا.
﴿أَنَّمَا﴾ إنما أداة قصر، أي الدنيا فقط ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ أما حقيقة الدنيا مزرعة الآخرة، أئمة عظام جاؤوا إلى الدنيا وغادروها، وتركوا علماً يُنتفع به، تركوا أعمالاً كالجبال، تركوا هدىً قد عمّ الخافقين، تركوا اتجاهات خيّرة في البشرية ، تركوا صلاحاً للأسر، تركوا توجُّهاً إلى الله عز وجل، فلذلك الحياة الدنيا ظاهرها ﴿لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ﴾ .
 

تعريف الغرور:


 قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ ما معنى متاع الغرور؟ أي شيء يبدو لك بحجم أكبر من حجمه، فإذا تتبعته أُصِبت بخيبة أمل، أحياناً الإنسان يظن أن هذه علبة فيها هدية ثمينة، إذا هي علبة فارغة، قد يتألم، أحياناً يمسك فاكهة هي قشر فاكهة وُضِعت بإحكام ليس فيها شيء.
مرة ذكرت قصة؛ رجل توفي رحمه الله، كان شاباً يعمل في محل في سوق الحميدية، كان عنده دعابة، كان يجمع قمامة المحل، يجعلها في علبة، يلفها لفاً أنيقاً -ورق هدايا-يضع لها شريطاً على شكل وردة، يضعها على الرصيف، يأتي إنسان ينظر إليها فيأخذها ويعدو، يتبعه هو، بعد مئتي متر يفك الشريط، بعد مئة متر ثانية يفك الورق، يفتح العلبة، يظن أن فيها قطعة ذهب، ألماس، شيء ثمين، فإذا بها قمامة المحل، هذا هو الغرور بالضبط، أن تتوهم أن الشيء نفيس فإذا هو خسيس، الله عز وجل سمّى الشيطان الغَرور، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)﴾

[ سورة فاطر ]

﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)﴾

[ سورة النساء ]

فالاغترار أن تتوهم الشيء بحجم أكبر من حجمه، سيدنا علي قال: يا دنيا طلقتك بالثلاث، غُرّي غيري، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عقبى.
 

سنة الله في خلقه:


أحد إخواننا له عمل في بناء بعض الأبنية في المصايف، شخص اشترى بيتاً، وأعطى توجيهات دقيقة جداً في كسوته الداخلية، تابع كل شيء بنفسه، إلى أن أصبح البيت جاهزاً لاستقباله، بقي جهاز كهربائي مُحوّل، قال له: ضعه وسأكون أنا الخميس في هذا البيت،  الخميس لم يأتِ، الجمعة لم يأتِ، السبت اتصل بصاحب البيت، قالوا له: والله مات، إنسان عمل سنتين يشرف على كسوة بيته، لم يتح له أن يسكنه ولا ساعة، هذه الدنيا تغر وتضر وتمر، هذه البيوت سكنها قبلنا، هذه المحلات التجارية في أسواق دمشق القديمة هناك جيل قبل هذا الجيل استأجروا هذه المحلات، وباعوا واشتروا وماتوا، هذه البيوت دائماً هناك بيت توفي صاحبه، الورثة باعوه واقتسموا ثمنه، الله عز وجل جعلنا خلائف يخلف بعضنا بعضاً، قال تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ .
 

المتاع شيء آني ليس له مردود مستقبلي:


المتاع ليس له مردود، إذا إنسان جلس في حوض ماء، ماء فاتر، وكان مرتاحاً، لو جلس ساعة، ساعتين، ثلاث، خمس، هل يصبح تاجراً كبيراً؟ هل يصبح عالماً كبيراً؟ لا، هذا المتاع ليس له مردود، إذا إنسان أكل ألف وليمة، في كل وليمة ما لذّ وطاب، ثم أصابه ألم في أسنانه لا يُحتَمل، لو أنه استدعى طعوم الطعام التي أكلها هل ينسى هذا الألم؟ أبداً، المتاع شيء آني، ليس له مردود مستقبلي، أهل الدنيا يستمتعون بها كما تستمتع الأنعام:

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)﴾

[ سورة محمد ]

﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)﴾

[ سورة إبراهيم ]

وكلمة تمتعوا سبحان الله! دقيقة جداً، المتعة لذة مادية حسية تتناقص، تتناقص إن كانت مباحة في الشرع، أما يعقبها كآبة إن كانت محرمة، أي أفضل ما في المتعة أنها تتناقص، وأخطر ما في المتعة أن كآبة تسحق صاحبها تعقِب هذه المتعة، سيدنا عمر أمسك تفاحة قال: أكلتها ذهبت، أطعمتها بقيت، أي يوجد متعة آنية حسية، ويوجد سعادة أبدية، باستهلاك الشيء متعة آنية حسية، بعمل صالح سعادة متنامية أبدية، متعة محدودة حسية، سعادة متنامية أبدية.
 

السعادة الحسية في الدنيا تحتاج إلى ثلاثة عناصر:


خالقنا، وربنا، ومربينا، وخالق الأكوان، الواحد الديّان، الخبير، العليم يقول: 

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[ سورة النساء ]

ألا تصدق خالق الكون؟ متاعها قليل، ما معنى متاعها قليل؟ أي إذا أعطاها لمن لا يحب لا يمكن أن تكون الدنيا إكراماً للإنسان، لأنها منقطعة، مثلاً ممكن ملك يقول لك: خُذ هذه المركبة مدة شهر واحد، هذا لا يليق بعطاء ملك، ملك أحبّ أن يكرم إنساناً قدّم له خدمة كبيرة، مستحيل أن يعطيه مركبة لشهر، مستحيل، ولا لسنة، يُمَلكه إياها، أنا أوضح الفكرة، مستحيل أن يكون عطاء الله في الدنيا منقطعاً، لم يعد عطاء، والإنسان كلما تقدّمت به السن دخل في متاهات المرض والقلق وما إلى ذلك، والذي أذكره لكم دائماً أن السعادة الحسية في الدنيا تحتاج إلى ثلاثة عناصر؛ الوقت، والمال، والصحة، ودائماً يوجد عنصر ينقصك، دائماً يوجد عنصر مفقود؛ ففي أول حياتك الصحة موفورة والوقت مديد لكن لا يوجد مال، في منتصف الحياة الصحة موفورة والمال موجود لكن لا يوجد وقت، في آخر الحياة المال موجود والوقت موجود لكن لا يوجد صحة، فبالنهاية دائماً عناصر السعادة الحسية، المتع الحسية ينقصها عنصر دائماً، أما الإنسان إذا عرف الله، ووظّف هذه الحظوظ في الحق، يسعد بها دائماً ولا يأبه لها، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ .
 

الآخرة خير حجماً ونوعاً وأبقى أمداً والدنيا أقل حجماً وأقصر أمداً:


يوجد عبارة قرآنية رائعة جداً، قال تعالى:

﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)﴾

[ سورة الأعلى ]

طبعاً سوف أوضح هذا المثل، إذا خيرناك بين سيارة تركبها ساعة وبين دراجة تتملكها، ماذا تختار؟ الدراجة، لو خيرناك بين سيارتين؛ واحدة تركبها ساعة والثانية تتملكها، ماذا تختار؟ التملك، لو خيرناك بين دراجة تركبها ساعة وأغلى سيارة تتملكها، هل تتردد ثانية؟ للتوضيح، الآخرة خير حجماً، ونوعاً، وأبقى أمداً، والدنيا أقل وأقصر، أقل حجماً وأقصر أمداً: ﴿بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا*وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ .

الشيء الذي كسبه سحرة فرعون حينما آمنوا بإله موسى:


سحرة فرعون حينما آمنوا بإله موسى العظيم فرعون صُعِق، قال تعالى:

﴿ قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)﴾

[ سورة طه  ]

هكذا، قيل: قتلهم، لكنهم كسبوا الآخرة، لذلك يا بني ما خير بعده النار بخير، وما شرّ بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
 

الآيات التي تتحدث عن الزهد من حيث المعنى:


لا زلنا في الآيات التي تتحدث عن الزهد من حيث المعنى، من حيث اللفظ آية واحدة، ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ أما من حيث المعنى آيات كثيرة:

﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131)﴾

[ سورة طه ]

﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ أي إذا الإنسان شاهد شيئاً جميلاً، بيتاً جميلاً، مركبة جميلة، لا يقول بالتعبير العامي: صاحبها ذو حظّ عظيم، إذا قال: صاحبها ذو حظ ّعظيم، صار عند الله جاهلاً، قارون:

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾

[ سورة القصص ]

الإنسان إذا تأوه وتحسّر وتمنى وذاب، إذا رأى شيئاً جميلاً، ونسي أن الله أعدّ له جنةً عرضها السماوات والأرض، هذا إنسان هو عند الله جاهل: ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ .
قال تعالى:

﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)﴾

[ سورة الكهف ]

هذه الأشياء الجميلة هي امتحانات، امرأة جميلة في الطريق هي فتنة للناس، هناك من يغضّ بصره عنها فيرقى، هناك من يملأ عينه من محاسنها فيسقط، وقسْ عليها كل شيء، المرأة أوضح شيء، ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ قد يُعرَض عليك مبلغ من المال كبير، فيه شبهة، فإن أخذته سقط الإنسان، إن رفضه نجح عند ربه، قال تعالى:

﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33)﴾

[ سورة الزخرف ]

إذا الإنسان كان غير مدعو إلى الله، غير مكلف، غير مطلوب للجنة، لو أن الله خلق الكافر كافراً، لا يوجد داع أن يعذبه، لكن لأن جميع الخلق مطلوبون لله عز وجل، مخلوقون لجنة عرضها السماوات والأرض تكون المعالجة، لو فرضنا مدير مدرسة قرأ أسماء الراسبين أول يوم بالعام الدراسي، وأسماء الناجحين، دون امتحان، ولا امتحان قبول، لكن هكذا أراد أن يفعل فعلاً عشوائياً، قال: هؤلاء راسبون وهؤلاء ناجحون، لا يُعقل أن يضرب الراسبين، هو جعلهم هكذا، أما إذا كان الطلاب جميعاً مدعوين إلى أداء امتحان، ومؤهلين جميعاً أن يكونوا من الناجحين، وطالب قصّر يُضرب، يُعالج، فالمعالجة تقتضي أن كل الطلاب مؤهلون للنجاح، أما لو كان هناك اتجاه آخر، لما كان من معنى لمعاقبة الكافر: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ أي مدعوون جميعاً إلى الجنة ﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَانِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ .
 

القرآن الكريم مملوء بالتزهيد في الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها:


القرآن الكريم أيها الإخوة مملوء بالتزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها، أي بعض الآثار: الدنيا جيفة طلابها كلابها.
الدنيا دار من لا دار له ولها يسعى من لا عقل له. 
إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها.
القرآن الكريم مملوء بالتزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها وقلّتها وانقطاعها وسرعة فنائها، مرة كنت في حلب، أخذوني إلى حيّ من أرقى أحياء حلب، الحقيقة يوجد قصور ليس عندنا مثلها، فأحد هذه القصور لفت نظري من أجمل قصور حلب، بني على النمط الصيني، على الشكل الصيني، وحدثوني عن تكاليفه أرقام كلها فلكية، كان هناك بضع عشرات من الملايين ثمن رخام في القصر، ثم أُخبرت أن صاحب هذا القصر توفي في الثانية والأربعين، وكان مديد القامة، وحينما أرادوا دفنه هكذا كان القبر أقصر من طوله، ما كان من الحفار إلا أن دفعه بصدره فجاء رأسه مائلاً، صاحب هذا القصر ينام في هذا القبر، أبداً، منذ يومين جاء أخ من أمريكا، اتصل بي هاتفياً، قال لي: استأجرت بيتاً، قلت له: مبارك، لكن أنا سمعت أنك اشتريته، قال: لا، أنا استأجرته حتى الموت، لا يوجد بيت ملك كله أجرة، لأننا نريد أن نغادر، أراد أن يقول كلاماً لطيفاً.
أحد الرعاة معه قطيع إبل، قيل له: لمن هذا القطيع؟ يقول علماء البلاغة: أجاب أبلغ إجابة في العربية، قال: لله في يدي، كلمتان، أي بيتك لله في يدك، الله قال لك: اسكن فيه، مؤقتاً، والدليل النعوة، وسيُشيع إلى مثواه الأخير، معنى هذا مؤقت، راكب مركبة، هذه لله في يدك، اركبها إلى حين، كل شيء إلى حين، قال تعالى:

﴿ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)﴾

[ سورة البقرة ]

لذلك سيدنا عمر بن عبد العزيز كلما دخل دار الخلافة يتلو هذه الآية، والله هذه الآية يقشعر منها الجلد:

﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)﴾

[ سورة الشعراء ]

أنا أعرف رجلاً سبحان الله! في سنّ مبكر حصّل ثروة كبيرة جداً، وعنده قدرة على البيع عجيبة، كان عنده محل في سوق الحميدية، إذا مررت على كل محلاتها لا تجد زبوناً واحداً، عنده يوجد عشرون إنساناً بمحله، أذواقه عالية جداً في الشراء، وعنده قدرة على البيع كبيرة جداً، وحقق ثروة طائلة، وهو في الثامنة والثلاثين أُصيب بمرض عضال في دمه، ورم خبيث في الدم، يقول لي ابن عمه: مضى شهر وشهران ما كان يعلم أنه بهذا المرض الخبيث، فهو عنده دعابة ومزاح، لكن غير منضبط كلياً، وغير مستقيم، وبعيد عن الالتزام بالدين كلياً، حتى إن بعض المغنيات كانت تأتي إلى بيته، فلما عرف أنه مصاب بمرض عضال انتابته موجات هيستريا، يقول لي ابن عمه: كل ربع ساعة يرتجف ويقول: لا أريد أن أموت، قال لي: حينما فارق الحياة أقسم لي بالله أنه صاح صيحة ما من إنسان في البناء الذي يسكنه إلا وسمع صياحه عندما فارق الحياة.
قضية الموت يا إخوان قضية تنهدّ لها الجبال، تُغادر من كل شيء إلى لا شيء، عبارتي غير صحيحة، من كل شيء إلى كل شيء من العذاب، الإنسان يدخل إلى بيته تجد أبهاء، غرفة نوم، غرفة ضيوف، غرفة جلوس، براد مثلاً، ثلاجة، أجهزة، بيت مُكيّف، والقبر؟! هل يوجد قبر خمس نجوم؟ ولا يوجد أربع نجوم، ولا يوجد نجمة، القبر صندوق العمل، روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار.
إذاً القرآن مملوء من التزهيد في الدنيا، والإخبار بخستها، وقلّتها، وانقطاعها، وسرعة فنائها، والترغيب في الآخرة، والإخبار بشرفها ودوامها، فإذا أراد الله بعبد خيراً أقام في قلبه شاهداً يعاين به حقيقة الدنيا والآخرة، ويُؤْثر منهما ما هو أولى بالإيثار.
 

أقوال عن الزهد:


أجمل قول في الزهد قاله أحد العلماء، قال: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة. 
الورع ترك، والزهد ترك، لكن الورع ترك ما يؤذي، الزهد ترك ما لا ينفع، قال بعض العلماء: الزهد في الدنيا قِصَر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس العباءة، قِصَر الأمل، أخطر شيء بحياة الإنسان الأمل، مرة زرت شخص حدثني والله الذي لا إله إلا هو عن مشاريعه لعشرين عاماً قادمة، ورأيت نعوته في اليوم نفسه، والله الذي لا إله إلا هو.
مرة كنت في مكان دائرة، رجل جالس يحدث رجلاً، أنا أستمع إليهما، قال له: والله يا أخي هذا الإنسان حيرنا بكسوة بيته، منذ شهرين ونحن متوقفون عن العمل، محتارون نعمل التدفئة المركزية تمديداً داخلياً أم خارجياً؟ حيرنا، ما كان يستقر على حال، يقول: بعد هذا استقرّ رأيه أن يجعلها تمديداً داخلياً، وبعد عشرين سنة إذا هذا التمديد فسد يقلبها إلى خارجي، وكأنه سيعيش عشرين سنةً قادمةً، هذا هو الأمل، الأمل أن تستبعد الموت.
لي صديق له جلسة أسبوعية، يجلس مع أصدقائه، قال لهم: أنا لن أموت إلا بعد زمن طويل، قالوا: لماذا؟ قال: أنا أكلي قليل، جسمي رشيق، وأمشي، ولا أدخن، وألقي بالهموم وراء ظهري، كلامه علمي فعلاً، لكن أجله كان قبل عشرة أيام، في السبت القادم كان مدفوناً تحت الثرى، ما أحد يعلم متى الأجل؟
مرة استقبلني رجل هنا في مسجد الشيخ محي الدين، كان يوجد احتفال بمناسبة المولد النبوي، استقبلني بترحاب منقطع النظير، جلست على الكرسي، شعرت في اضطراب في المسجد، سألت، قالوا: هذا الذي استقبلك توفي الآن، ذهبنا إلى مستشفى أمية رأيناه ممدداً في ثيابه، منته، ثانية، الإنسان ممكن أن يغادر بثانية، وبلا سبب، بلا ألم، بلا مرض، الزهد في الدنيا قِصَر الأمل، ليس بأكل الغليظ ولا لبس الخشن.
الإمام الجنيد رحمه الله تعالى فهم الزهد من قوله تعالى: 

﴿ لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)﴾

[ سورة الحديد ]

الزاهد لا يتألم لما فاته، ولا يفرح لما آتاه، من عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء.
قال بعض العلماء: الزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود ولا يأسف منها على مفقود، لي صديق كان من أعظم الناس في عيني، هذا أحد الكتاب، وكان رأس ما عظّمه في عيني صِغَر الدنيا في عينيه، كان خارجاً عن سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يُكثِر إن وجد، وكان خارجاً عن سلطان الجهالة، فلا يتكلم بما لا يعلم، ولا يُماري فيما عَلِم، وكان أكثر دهره صامتاً، فإذا تكلم بذّ القائلين، وكان يُرى ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جدّ الجِد فهو الليث عادياً، الزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود.
يوجد إنسانان اشتريا أرضين متجاورتين في منطقة العدوي، أول إنسان صمم، ورسم خرائط، وحفر، وأشاد بناء، وباعه بأرقام فلكية، الثاني مُنِع من إنشاء البناء، لأنه سيمر تحت أرضه مجارٍ، من شدة ألمه لم يعُد يحتمل أن جاره أقام البناء، وباعه وربح أرباحاً طائلة، هو ممنوع أن يُشيد عليه بناءً، الذي حصل بعد حين أُصيب بأزمة قلبية حادة، بسبب الشدة النفسية التي لزمته من هذا الألم والأسف، ثم الذي كان أن هذه الأرض التي لم يُشِد عليها بناءً ارتفع سعرها خلال سبع سنوات أكثر من خمسين ضعفاً، أي أرباحه من ثمن الأرض دون أن يشيد عليها بناءً عشرون أو ثلاثون ضعفاً عن أرباح جاره، لكن من شدة أسفه أصيب بمرض عضال، فالزهد قال: ألا تفرح من الدنيا بموجود، ولا تأسف منها على مفقود، قال: الزهد يُورث السخاء بالملك، والحب يُورث السخاء بالروح، الزهد يدفعك أن تعطي.
وقالوا في الزهد؛ الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال فتصغر في عينيك، فيسهل عليك الإعراض عنها.
وقيل: الزهد عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف.
وقال الجُنيد: الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد ، أي شيء ليس بيدك يجب أن يُنزع من قلبك، أما شيء ليس بيدك وأنت تشتهيه أنت في حالة صراع.
الإمام أحمد قال: الزهد في الدنيا قِصر الأمل ، الإنسان يجب أن يوطن نفسه إذا نام قد لا يستيقظ، وإذا استيقظ قد لا ينام، وإذا خرج قد لا يرجع، وإذا رجع لبيته قد لا يخرج إلا أفقياً.
وعن الإمام أحمد أيضاً: الزهد عدم الفرح بإقبال الدنيا، ولا الحُزن على إدبارها ، فإنه سئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهداً؟ فقال: نعم على شريطة ألا يفرح إذا زادت وألا يحزن إذا نقصت، قد يكون معك مال وأنت زاهد، المال أداة بيدك تُوَظفه في الحق، تُقيم به أود نفسك، تجعله أداةً للقرب من الله عز وجل، وأنت زاهد، بين يديك ملايين مملينة وأنت زاهد، وإنسان لا يملك من الدنيا شيئاً وهو راغب، ممكن، هذه مفارقة حادة، لا تملك وأنت راغب وتملك وأنت زاهد. 
أبو سليمان الداراني يقول: الزهد ترك ما يَشغُل عن الله عز وجل .
والجنيد مرةً ثانية سئل عن الزهد، فقال: استصغار الدنيا ومحو آثارها من القلب، ولا يبلغ أحد حقيقة الزهد حتى يكون فيه ثلاث خصال؛ عمل بلا علاقة، أي عمل خالص لله دون أن يرجو شيئاً، وقول بلا طمع، وعزّ بلا رئاسة.
 

الزهد على ثلاثة أوجه:


الإمام أحمد رحمه الله تعالى يقول: الزهد على ثلاثة أوجه؛ ترك الحرام وهو زهد العـوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال، أي عندك ما يكفي، تطمح في الحلال إلى أكثر مما يكفيك، أنت راغب ولست بزاهد، أول أنواع الزهد ترك الحرام، هذا زهد العوام، ثاني أنواع الزهد ترك الفضول من الحلال، قد يأكل ألواناً كثيرة جداً، قد يشتري ثياباً كثيرة جداً، ترك الفضول من الحلال هذا زهد الخواص، ترك الفضول من الحلال.
مرة ملك سأل وزيره، قال له: من الملك؟ الوزير صُعق، قال له: أنت، قال له: لا، الملك رجل لا نعرفه ولا يعرفنا، له بيت يؤويه، وزوجة ترضيه، ورزق يكفيه، إنه إن عرفنا جَهِد في استرضائنا، وإن عرفناه جهدنا في إحراجه، من هو الملك الحقيقي؟ الذي لا يعرفنا ولا نعرفه. 
زهد العوام ترك الحرام ، زهد الخواص ترك الفضول من الحلال، زهد خواص الخواص الفئة العالية جداً: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين. 
أجمع عليه العارفون أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه في منازل الآخرة. أنت أحياناً جالس، مرتاح، عادي، تُقرر أن تحجّ البيت، قال لك صديقك: ممكن، وجاءك الجواز، ما الذي يحصل بالضبط؟ نُزِعت من الشام، وعشت في بيت الله الحرام، قبل أن تسافر، الإنسان عندما يُزمِع السفر انتقل نفسياً إلى بلد السفر، أين سأنزل؟ من سأقابل؟ ماذا آخذ معي؟ متى أعود؟ ماذا أشتري من هناك؟ هل ترى الحالة النفسية؟ الإنسان إذا أراد شيئاً عاشه قبل أن يعيشه عملياً، فقالوا: الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذه في منازل الآخرة. 
وقال بعضهم: لا يستحق العبد اسم الزهد حتى يزهد فيها، وهي المال، والصور، والرياسة، والناس، والنفس، وكل ما سوى الله عز وجل.
رجل أراد أن يوقع بيـن سيدنا الصديق وسيدنا عمر رضي الله عنهما، يبدو أن سيدنا الصديق أحاله إلى سيدنا عمر، وسيدنا عمر رفض أن يوافق له على ما يصبو إليه، فرجع إلى الصديق رضي الله عنه ليوقع بينه وبين عمر، قال له: الخليفة أنت أم عمر؟ فقال له: هو إذا شاء، لا يوجد مشكلة، هذا هو الزهد.
 

ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال:


الآن حقيقة؛ ليس الزهد رفض نِعَم الله عز وجل، قال: فقد كان سليمان وداود عليهما السلام من أزهد أهل زمانهما، ولهما من المال والملك ما لا سبيل إلى وصفه، الحقيقة تبدو غريبة، قد تكون راغباً وليس في يدك شيء، وقد تكون زاهداً والدنيا كلها بيديك، هذه بطولة، أن تكون بين يديك الدنيا وترجو رحمة الله عز وجل، وكان علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان من الزهاد مع ما كان لهم من الأموال، وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما، من الزهاد مع أنه كان من أكثر الأمة مالاً.
دققوا أيها الإخوة؛ ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، قال تعالى:

﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)﴾

[ سورة الأعراف ]

ليس الزهد أن تعزف عن الزواج، الزهد أن تطبق السنة في الزواج، وأن تجعل من الزواج زواجاً إسلامياً، ليس الزهد أن تعزف عن كسب المال، ولكن الزهد أن تُوظّف المال في الحق، ليس الزهد بتحريم الحلال ولا إضاعة المال، ولكن أن تكون بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصِبت بها أرغب منك فيما لو لم تُصبك، فهذا من أجمع الكلام في الزهد وأحسنه.
وقال بعض العلماء: إنما الزهد في الحلال، لأن ترك الحرام فريضة، ليس لك فضل فيها، الزهد في الحلال، قال آخرون عكس هذا الكلام، قال: الزهد لا يكون إلا في الحرام، وأما الحلال فنعمة من الله تعالى على عبده، والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
الملخَّص، التحقيق في هذه القضية إذا شغلتك الدنيا عن الله فالزهد فيها أفضل، وإن لم تشغلك عن الله فكن شاكراً لله فيها، وهذا الحال أفضل، إذا ممكن إن تشغلك فتركها أولى، وإن ممكن أن تعينك في الآخرة فأخذها أولى.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور