وضع داكن
10-08-2025
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 074 - منزلة المعاينة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

منزلة المعاينة:


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع والسبعين من دروس مدارج السالكين، في منازل إيَّاك نعبد وإيّاك نستعين، والمنزلة اليوم منزلة المُعاينة.
 

أنواع المعاينة:


المُعاينة أيها الإخوة؛ نوعان، معاينةُ بصرٍ، ومعاينة بصيرة، قد تُمْسكُ شيئاً بيدك، تقول: هذا الشيء أخضر اللون، عاينته ببصرك، أو عاينته بحسِّك، أو عاينته بجلدك، أو عرفت وزنه، أو عرفت شكله، أو عرفت رائحته، أو عرفت أبعاده، هذه معاينة بصر، والناس جميعاً مشتركون بهذه المعاينة إلا من ابتلاه الله بفقد أحد حواسه، وهذه المعاينة أيها الإخوة هي أقل معاينةٍ تُفيد الإنسان، الدنيا كما قال عليه الصلاة والسلام: 

(( عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: إن الدنيا خضرة حلوة، فاتقوها واتقوا النساء. ))

[ ابن خزيمة في صحيحه ]

الدنيا تغر وتضرّ وتمر، قد تجد بيتاً جميلاً، فلو أن صاحب البيت اشتراه بمالٍ حرام، الإنسان العادي يقول: هنيئاً له على هذا البيت، أما المؤمن يرى أن هذا البيت سيكون ناراً تحرِقه يوم القيامة، القضية قضية معاينة البصيرة، الأشياء الظاهرة جميلة جداً، لو ذهبت إلى بلاد الغرب لوجدت من الجمال الطبيعي، وجمال الأبنية، وجمال الطرق، وجمال الحدائق الشيء الكثير، كل شيء يُمْتِعُ العين، ولكن المصير!
أضرب لكم مثلاًبسيطاً، هناك قاعة قمار بلبنان، قرأت عنها، كلفت ثلاثين مليون دولار، قاعة واحدة، وقد تجد مدرسة مبنية من مئة سنة، مُتداعية، هذه تُخَرِّج علماء، وهذه تُخرِّج مقامرين؛ إما إلى السجن، أو إلى الانتحار، لو وازنت بين مدرسة عريقة لكنها متداعية، يوجد فيها مدرسون أكْفاء، مخلصون، يُقدَّم العلم العميق والصحيح، ويُؤَدَّب الطالب ويُهذَّب، البناء مُتداع، أما في النهاية هذه المؤسسة تُخرِّج أبطالاً أو علماء، بينما هذه القاعة الفخمة جداً التي كلفت بضْع عشرات ملايين، هذه تُخرِّج مقامرين؛ إما إلى سجنٍ، أو إلى كآبةٍ، أو إلى انتحارٍ، أو إلى جريمةٍ، أو إلى انحرافٍ، فالعبرة لا بالظاهر، العبرة بالباطن.
 

البصيرة هي الشيء الذي ينفرد به المؤمن:


الشيء الذي ينفرد به المؤمن هو البصيرة، مثلاً: قد تُعرَض عليه وظيفتان؛ وظيفةٌ دخلها فلكي ومعها بيت ومركبة، ووظيفة دخلها لا يكفيه نصف شهر، الوظيفة الثانية فيها مرضاة الله عزَّ وجل، فيها نفعٌ للناس، فيها صدقٌ وأمانة، والوظيفة الأولى تُبنى على أنقاض الناس، وعلى عذاباتهم، وعلى فقرهم، وعلى ابتزاز أموالهم، فالمؤمن إذا مَلَك البصيرة، اختار الوظيفة ذات الدخل القليل.
مثل بسيط؛ إنسانة فقيرة جداً، قد تعمل ثماني ساعات بمبلغٍ بسيط في خدمة المنازل، وقد تعمل امرأةٌ ثانية لساعةٍ أو أقل، فتأخذ عشرة أضعاف الأولى، ولكن تأكل بثديها، تبيعُ جسدها، هنا تعب، هنا في الظاهر مُتعة، لكن هنا تنتظرها جنةٌ عرضها السماوات والأرض، وهذه تنتظرها نار جهنَّم، فالأمر بحقيقته، والأمر بخاتمته، والأمر بمصيره، فأكثر الناس عندهم معاينة بصر، قال تعالى:

﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)﴾

[  سورة القصص ]

لكن الذين أوتوا العلم ماذا قالوا؟ قال تعالى:

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)﴾

[ سورة القصص ]

إلى آخر الآية، معنى هذا أنك إذا نظرت إلى بناء، إلى بيت فخم، وعلمت أن صاحبه جمَّعه من مالٍ حرام، إذا نظرت إلى مركبةٍ فخمة، وعلمت أن صاحبها جمَّعها من مالٍ حرام، هل تقول: هنيئاً له على هذا البيت أو على هذه المركبة؟ لا، المؤمن لا يضحي بطاعته لله عزَّ وجل ولو قطَّعوه إرباً إرباً، ولو أعطوه أموال الدنيا، المؤمن صامد أمام سياط الجلادين اللاذعة، وأمام سبائك الذهب اللامعة، لا يخضع لتهديد ولا ينهار لإغراء، هو يُطبِّق منهج الله عزَّ وجل ويرجو رحمة الله، قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)﴾

[ سورة القصص  ]

 

الفرق بين معاينة البصر وبين معاينة البصيرة:


معاينة البصر وقوع الشيء على نفس الرائي؛ إما بألوانه، أو بحجمه، أو بشكله، أو بأبعاده، أو برائحته، رؤية الشيء أو رؤية مثاله، لو وقف إنسان في شرفة، وفي هذه الشرفة يوجد مغسلة، وأمامها مرآة، ونظر إلى جارته، هو لم يرَ شخصها لكن رأى صورتها، فهؤلاء الذين يقولون: هذه صورة، هذا خيال، هذا كلام مضحك جداً، وقد تكون الصورة أبلغ من الحقيقة، وقد تفعل فعلاً أشدّ من فعل أصل الشيء، لذلك هناك من يُصِرّ على أن رؤية المرأة الأجنبيَّة حرام حقيقةً، أو صورةً، أو خيالاً، أو ما إلى ذلك، العبرة بالتأثير، إذا إنسان خرج إلى الشرفة لبعض شأنه فرأى امرأةً في المرآة في الطرف الآخر بثياب متبذِّلة، لو أنه التفت هكذا ونظر إليها، أو لو أنه دقَّق في المرآة الأثر واحد، والشيء واحد لا يتغيَّر، فالبصر وقوع المرئي على ساحة البصر، أو على الحواس الخمس.
قال: أما البصيرة فهي وقوع القوة العاقلة على المِثال العلوي المُطابق للخارجي، الآن لو شخص كان في أمس الحاجة إلى المال، رأى ملايين أمامه، هو أمين صندوق، لو نظر إلى هذا المال بشكل ظاهري وأخذه، يستطيع خلال أيام أو أشهر يتمتع بسهرات، وبطعام، وبسفر، لكن بعد أن ينكشف أمره قد ينتحر، رُبَّ أكلةٍ منعت أكلات، فأكثر المنحرفين يعيشون لحظتهم.
في علم النفس يُصَنَّفُ المجرم غبياً، أكثر المجرمين بعد حين يُشنقون، ويُعدمون،  وتنتهي حياتهم، تنتهي نهايةً وضيعةً دنيئةً قاطعةً.
أما حينما يكون عقلُ الإنسان راجحاً يقول: هذا الشيء مُحرَّم لا أفعله، ودائماً الدُّنيا محسوسة والآخرة معقولة، وهذا أحد أنواع الامتحانات؛ أمامك امرأة، أمامك مركبة، أمامك بيت، محسوس، أما يوجد بالمصحف تفتح مثلاً على سورة معينة، على آية معينة:

﴿ وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)﴾

[ سورة الضحى ]

الدنيا محسوسة أمامك، تملأ العين والسمع والأُذن، أما الآخرة معقولة، تستنبطها من نص، فما هو الإيمان بالغيب؟ هذا هو الإيمان بالغيب، تُعرِض عن شيء محسوس صارخ أمامك، وتنتظر ما وعد به خالق السماوات والأرض، ﴿أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ﴾ ثمن الجنة الإيمان بالغيب، لو كانت الآخرة محسوسة فلا يوجد جنة أساساً.
مثلاً قل للناس: أي إنسان يدفع مئة ليرة مساعدة لمشروع خيري نعطه ألفاً بعد ساعة، ستجد الناس واقفين بالطرقات زُرافات ووحدانا، بالمئات، بالألوف، بما يُقارب الملايين، عشرة أضعاف، قد يكون مؤمناً، وقد يكون كافراً، وقد يكون ملحداً، ولو قلت للناس: لو نظرت لأُطلق عليك الرصاص، لا أحد ينظر خوفاً من الرصاصة، لم يعُد هناك اختيار، الله عزَّ وجل قادر أن يحمل عباده جميعاً على الطاعة، ولكن هذه الطاعة القسريَّة لا تسعد صاحبها:

﴿ وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)﴾

[ سورة الرعد ]

 

الاستقامة الناتجة عن الضبط الخارجي لا تُسعد صاحبها:


الآن في بعض البلاد الغربية الناس جميعاً مستقيمون استقامةً لا تسعدهم، استقامة إلكترون، ضبط إلكتروني مخيف، أي أكبر سوق فيه ما يقارب ألف مليون من البضائع، فيه خمسة موظَّفين على الصندوق، أي سلعة بهذا السوق فيها مادة، إن لم تدفع ثمنها يصدر صوت مخيف، وأنت خارج من السوق، إن دفعت ثمنها تُمَرَّر على جهاز، يُلغى أثر هذه المادة، يا ترى الكل دفعوا؟ من هو الأمين؟ من هو الخائن؟ من هو السارق؟ من هو الصادق؟ من هو الكاذب؟ أُلغيت كل هذه القيم، لأن هناك ضبطاً شديداً جداً، إذا كان إنسان ضبط، الله عز وجل وهو خالق السماوات والأرض قادر على أن يضبط الناس جميعاً، لكن هذه الاستقامة الناتجة عن الضبط الخارجي، القهري، القسري ليست مسعدةً لصاحبها، الله يريدك أنت، يريد قلبك، يريد اختيارك، يريد محبوبيَّتك، يريد مبادرتك، لا يريد خضوعك.
لذلك أنا أقول دائماً: الأنبياء ملكوا القلوب، والأقوياء ملكوا الرقاب، أي يمر على النبي عليه الصلاة والسلام ألف عام، كلما ذكرت قصته تبكي، مَلَك القلب، والقوي مَلَك الرقبة، وشتَّانَ بين من يملك القلوب بكماله وبين من يملك الرقاب بقوته.
 

البصيرة لا ترى ذات الشيء ترى مثاله:


أيها الإخوة؛ النقطة الدقيقة في هذا الدرس لابد للمؤمن من بصيرة، هذه البصيرة تخترق ظواهر الأشياء، إنسان قال لي: عنده محل صعب أن يوصف لأنه فخم، لكن يبدو أنه يوجد فيه معاص كثيرة، فيه موبقات كثيرة، فيه بضاعة محرمة، إلخ، فقال لي: أنا عملي قذر، وتذهب إلى مكان تصليح السيارات، تجد الشحوم، والزيوت، والأطيان، والمَحل لا يُحتمل، لكن الإنسان أصلح السيارة بإتقان، وأخذ أجراً معتدلاً، ومساءً اغتسل، غسل نفسه ولبس أجمل ثيابه، نقول: هذا العمل الثاني عمل نظيف، أما الأول قذر، بالعين الأول نظيف والثاني قذر، بالبصيرة الأول قذر والثاني نظيف.
لكن النقطة الدقيقة أن البصيرة لا ترى ذات الشيء، ترى مثاله، قال تعالى:

﴿ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)﴾

[ سورة الأعراف ]

معنى ذلك أن الإنسان يدرك مثال الأنوار الإلهية ببصيرته، أما إن أدركها بذاتها احترق، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه: إِذا مَرَرتُم بِرياضِ الجنَّة فَارتَعُوا، قالوا: وما رِياضُ الجنة؟ قال: حَلَقُ الذِّكرِ. ))

[ صحيح الترمذي  ]

درس علم بمسجد، لا تجد مقعداً، ولا كرسياً، ولا وسادة، ولا كأساً من الشاي، لا يوجد شيء إطلاقاً، كلام وجلسة على الأرض، يجوز بمطاعم فخمة جداً يوجد مقاعد وثيرة، وطعام طيِّب ونفيس، واختلاط، وموسيقا، وغناء، بحسب الحس ذاك المطعم ممتع أكثر، بحسب البصيرة  هنا السعادة، وهنا التوفيق، وهنا السكينة، وهناك الشقاء، البصيرة تعني أنه يجب أن تعتقد جازماً أنه مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف وألف مستحيل أن تعصيه وتربح، فدائماً أهل الدنيا يصعدون صعوداً حاداً، ثم يسقطون سقوطاً مُريعاً، كل شيء جَمَّعه في الحياة يخسره في ثانية واحدة، أما المؤمن تراكمي، كلما امتدّ عُمُره اقترب من الله عز وجل، ازداد قُربه، فإذا جاءه ملك الموت كانت هذه اللحظة كعرسه تماماً،

(( عن عبد الله بن عمرو: تحفة المؤمن الموت. ))

[ أخرجه ابن المبارك: إسناده جيد ]

الموت عُرس المؤمن، وظلّ خَطُّه البياني صاعداً، لذلك من الأدعية التي أُثِرت عن النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل نعم الدنيا متصلةً بنعم الآخرة، مستمرة، المؤمن يموت إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( عن أبي موسى الأشعري: الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ. ))

[ صحيح مسلم ]

أي هذا الذي قدَّم حياته لله عز وجل، قدّم أثمن شيءٍ يملكُه، وقد ورد في بعض الأحاديث أن الذي يُقتل في سبيل الله، يرى مقامه في الجنة، ولا يتألَّم، ولِدَمه رائحة المِسْك، وأن هناك من يموت في معصية، لذلك باللغة هناك إنسان مُضرَّج بدم الشهادة، وهناك إنسان مُلَطَّخ بدم الجريمة، وشتان بين أن يُضرَّج الإنسان بدم الشهادة وبين أن يُلطَّخ بدم الجريمة، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

(( عن المستورد بن شداد: واللهِ ما الدُّنيا في الآخرةِ إلَّا كما يجعَلُ أحدُكم إِصبَعَه في اليمِّ فلْينظُرْ بمَ ترجِعُ؟ ))

[ صحيح ابن حبان  ]

لو غمس إنسان إصبعه في البحر المتوسط ورفعها، بم ترجع؟ هذا الذي عَلِق على يده من الماء هي الدنيا والبحرُ هو الآخرة.
 

متى يكون الإنسان خاسراً؟


الكلام الدقيق والصحيح وقد يكون مُراً: إن لم ترَ الدنيا، وحقارتها، وقلة وفائها، وكثرة جفائها، وخِسة شركائها، وسرعة انقضائها، وإن لم ترَ أهلها وعُشَّاقها صرْعى حولها، قد عذَّبتهم بأنواع العذاب، وأذاقتهم أَمَرَّ الشراب، أضحكتهم قليلاً وأبكتهم طويلاً، سقتهُم كؤوس سَمِّها بعد كؤوس خمرها، فسكِروا بحبها وماتوا بهجرها، هذه رؤية، إنسان يرى الدنيا فيذوب حباً لها، وإنسان يرى عاقبتها.
وإن لم تر بالبصيرة، إن لم ترَ الدنيا بالبصيرة كما قلت قبل قليل، وإن لم ترَ الآخرة ودوامها، وأنها هي الحياة الحقيقية، أهلها لا يرتحلون منها، ولا يَظعنون عنها، بل هي دار القرار، ومحطُّ الرحال، ومنتهى السير، وأن الدنيا بالنسبة إليها كما قيل: ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما يأخذ المخيط إذا غُمِس في مياه البحر.
أيها الإخوة؛ سأوضِّح لكم بمثل أوضح، إنسان يركب مركبة، والطريق شديد الانحدار، والهواء عليل، والمناظر خلّابة، والمركبة مريحة، هو يضحك، ويتنعَّم بالمناظر وبالنسيم العليل، لو أنه شعر فجأةً أن مكبحه معطَّل، وأن هذا المنحدر الشديد ينتهي بمنعطفٍ حاد، وبينه وبين هذا المُنعطف تقريباً أربع دقائق، بحسب سرعته العالية لماذا يصيح ويقول: انتهينا؟ ومتنا؟ ورحنا؟ ما صار شيء إلى الآن، لكن بقوة بصيرته أدرك مادام لا يوجد مكبح، والسرعة متسارعة، والمنعطف حاد، والوادي سحيق، معنى هذا أننا قد متنا، المؤمن وهو في الدنيا يدرك كما أدرك هذا السائق الذي فقد مكبحه في طريق شديد الانحدار، مع منعطفٍ حاد، ووادٍ سحيق، أما الغافل والجاهل هو يضحك ويلعب، متى يبكي؟ حينما يقع في الوادي، أما إذا إنسان أدرك قبل أن يقع الشيء أنه يوجد خطر، هذا معنى قوله تعالى:

﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6)﴾

[ سورة التكاثر ]

لما الإنسان يقبض مبلغاً ضخماً بالحرام، تجده يضحك لشعوره بالتفوق والنجاح، حلّ مشاكله، ما دام المال بالحرام، ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ*لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ﴾ لما يعتدي على عرض إنسانة، يغرر بها، ويقضي شهوته منها، ثم يشعر بلعنة الله له، وإبعاده عنه، يدخل في متاهة وفي آلام نفسية لا تُحتمل، لذلك:

﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً (53)﴾

[ سورة الكهف ]

﴿ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)﴾

[ سورة الطور ]

﴿ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)﴾

[ سورة الأعراف ]

 

الإنسان الشَّقي يعيش لحظته:


أيها الإخوة الكرام؛ يوجد عندنا سؤال؛ لو إنسان لا يوجد عنده هذه الرؤية، ماذا يفعل؟ متعلِّق بالدنيا، متعلق بمالها، بنسائها، بشهواتها، بطعامها، بشرابها، ببيوتها، بمركباتها، نقول له: اقرأ كلام الله، صدِّق ما قاله الله لك، إما أن تكون مع النص أو مع الرؤية، الرؤية أقوى بكثير، مثلاً طبيب قلب عنده كل يوم عملية جراحية، عملية قلب مفتوح، وأكثر عمليات القلب انسداد الشريان التاجي، وانسداد الشريان التاجي أساسه المواد الدسمة والدهنية، هذا الطبيب نفسه لو جلس إلى مائدة فيها حلويات نفيسة جداً، لكن كلها مواد دهنية؛ قشدة ودسم، تجده لا يأكل مع أنها لذيذة الطعم، هو يرى بعينه كل يوم انسداد الشريان، وكيف أن العملية كلفت أربعمئة وخمسين ألفاً، وكيف أزال قطعة من شريان رجله، ووضعها في قلبه، ووقف القلب، وعمل للقلب صعقة، هو رأى مخاطر الدسم، مخاطر الشحوم الثلاثية، مخاطر الأكلات، هذه الأكلات طيبة جداً، لكن هي خطيرة جداً بسن معينة، لماذا لم يأكل؟ لرؤيةٍ رآها، أنا أريد هذه الرؤية.
دائماً الإنسان الشَّقي يعيش لحظته، أنا مرة ذكرت رأيت إنساناً في أيام الشتاء الباردة والماطرة، يجري في شارع في دمشق، كل أبناء دمشق في البيوت، وحول المدافئ، ويأكلون، ويتنعَّمون، ماذا في ذهن هذا الإنسان من قناعات بالرياضة والجري وصحة القلب وقوة القلب والنبض البطيء وتمرين عضلة القلب على جهد عالٍ؟ حتى طوال النهار إذا بذل جهداً عالياً هو مرتاح، إذا إنسان ليس له حركة على أدنى جهد يلهث، الذي عنده نشاط زائد قلبه يدق خمساً وخمسين ضربة أحياناً، ستين ضربة، إذا بذل جهداً كبيراً جداً إحساسه عادي، فهؤلاء الذين يجرون عندهم قناعات عالية جداً بجدوى الرياضة وخطر الراحة، وهؤلاء الذين يمتنعون عن التدخين، إذا عندهم معلومات دقيقة جداً عن أخطار التدخين، وقد يكون المدخن متمتعاً بدخينته لكنه معطل عقله، أنا مرة ذكرت قصة مشابهة لهذه القصص، أحياناً تجد مركبة عامة واقفة باتجاه، عليها أن تدور دورة كاملة كي تتابع سيرها، أنت قد تجلِس في الشمس، على أنك تحسُب أنها بعد أن تدور هذه الدورة تنعكس الآية، فأنت تجلس بمكان غير معقول وقتاً، الناس جالسون بالظل وأنت جالس بالشمس، لكن أنت فكَّرت فوجدت أن دقيقة شمس أحسن من نصف ساعة شمس، آثرت التعب القليل أو المشقة القليلة، وطلبت الراحة المديدة.
لذلك قال بعض العلماء: في الدنيا جنةٌ من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، إذا الإنسان اصطلح مع الله تماماً، وصدق في توبته، وفي إقباله، يُلقي الله في قلبه من النَّعيم والسعادة ما لا يوصف، سعادته في بيت الله عز وجل، سعادته في أداء فريضة، سعادته في أداء واجب، سعادته في خدمة الخَلق، سعادته في تقديم شيء للناس، هذه سعادته، بينما هؤلاء الذين يتمتَّعون بحسِّهم بمباهج الدنيا يشقَون بقلوبهم.
 

العقل أداة معرفة الله عز وجل:


أيها الإخوة؛ الآن المرحلة الثالثة بالدرس، هذه الرؤية من أين؟ قال: من نورٍ يُقذَف في قلب المؤمن، يريه الحق حقاً والباطل باطلاً، الشاهد، الدليل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28)﴾

[ سورة الحديد  ]

آية قُرآنية صريحة، ﴿يجعل لكم نوراً تمشون به﴾ كل واحد منكم إن شاء الله إذا عرض له شيء يغضب الله، يقول: لا أفعله معاذ الله، عنده رؤية، هذا العمل يشقيه، وإذا كان هناك طاعة وعمل صالح يفعله، معنى هذا أن كل إنسان يتحرك برؤية، لكن هذا الذي أقدم على قتل إنسان طمعاً بماله، ماذا رأى؟ رأى رؤية معكوسةً، من هنا كان الدُّعاء النبوي الشريف: اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، عامَّةُ الناس والجهلة يرون الباطل حقاً والحق باطلاً، الذي يغُشُّ المسلمين ماذا يرى؟ يرى الربح فقط، ولا يرى عقاب الله عز وجل، الذي يعتدي على أعراض الناس، ماذا يرى؟ المُتعة الآنية، ولا يرى أن الله سيلعنه، وستغدو حياته شقاءً بشقاء، لا يرى، فأنت مبدئيَّا إما أن تكون مع النص، وإما أن تكون مع الرؤية، يوجد نص، ويوجد رؤية، الحد الأدنى الذي يحميك من أن تقع بمعصيةٍ النص، الله عز وجل حرم هذا الشيء، انتهى الأمر، أما هناك مستوى أرقى، معك النص ولكن معك رؤية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)﴾

[ سورة الأنفال ]

فرقان تُفَرِّقُ به الحق من الباطل، لذلك قلّما تجد مؤمناً مثلاً في مخفر أو في قصر العدل، لأنه يسير على المنهج، الانضباط يُشكّل حرية، والتفلت يُشكّل قيداً، الاستقامة تنتهي إلى حرية، وعدم الاستقامة تنتهي إلى قَيْد، إما قيد نفسي كآبي، أو قيد حسي سجن، والله عز وجل أكرمنا بالعقل، والعقل أداة معرفة الله عز وجل، وأداة فعَّالة، فالإنسان إذا استخدم عقله، وفكَّر بأعماله، فكّر بماله، كيف اكتسبه؟ كيف أنفقه؟ فكّر بعلمه ماذا عمل به؟ فكّر بنهايته، أنا لا أنسى طالباً مرة سألوه، نال الدرجة الأولى في الشهادة الثانوية: بمَ نلت هذه الدرجة؟ قال: لأن لحظة الامتحان لم تُغادر مخيِّلتي ولا ساعةً في العام الدراسي، يعيش مع الامتحان، الآن كل واحد منا يعيش يوم القيامة، كيف سيسأله الله عز وجل؟ لمَ فعلت؟ لمَ تركت؟ لِمَ وصلت؟ لمَ قطعت؟ لمَ غضبت؟ لمَ رضيت؟ لمَ طلَّقت؟ لِمَ وافقت؟ لِمَ خُنت؟ لِمَ أكلت مالاً حراماً؟ يوجد سؤال.
 

رؤية الإنسان للحق تدفعه إلى طاعة الله:


أيها الإخوة؛ هذه الرؤية التي أكرمنا الله بها، أن ترى الحق حقاً والباطل باطلاً، وأنا أعتقد أن كل مؤمن مهما دنت مرتبته على شيءٍ من هذه الرؤية، والدليل يُقبل على طاعة الله، يُقبل على خدمة الخَلق، يُقبل على طلب العلم، يسعى أن يكون بيته إسلامياً، أن يكون عمله إسلامياً، هذه الرؤية تدفعه إلى طاعة الله عز وجل.
يوجد مرتبة بعد أن تحمل نصاً فيه أمر ونهي، ويوجد مرتبة ثانية أن تشعر ذوقاً أن هذا العمل لا يرضي الله، يوجد مرتبة ثالثة أن ترى حقيقته وما ينطوي عليه، فالإدراك البياني أول مرتبة، والذوق النفسي ثاني مرتبة، والرؤية العميقة ثالث مرتبة، من وصل إلى هذه الرؤية العميقة قطع مرحلة عالية جداً في الإيمان، وهناك إنسان ذوقاً لا يفعل هذا دون أن يعلم السبب، لا يرى حقيقة هذه المعصية.
وعلى كل يوجد نقطة أخيرة في هذا الدرس هو أن الانتفاع بالشيء ليس أحد فروع العلم به، كما أنك تستمتع بمكيِّف وأنت لا تدري كيف يعمل، وتستمتع بآلات كثيرة جداً وأنت لا تفقَه كيف تعمل، تستمتع بها وتنتفع بها دون أن تعلم حقيقة بُنْيَتِهَا ووظيفة عملها، كذلك منهح الله عز وجل فيه دقة بالغة، بحيث لو طبَّقه إنسان وكفى، ولم يعلم حكمته ولا حقيقته، هذا الإنسان يقطف كل ثماره، لكن هذا يكون عابداً ولا يستطيع أن يكون عالماً، والعابد مرتبة أقل من مرتبة العالم، أما ممكن إنسان من دون تعقيدات الله أمر بغض البصر، غضّ بصره، أمر بالصدق، صدق، لا يوجد عنده إمكان أن يحلل الأمور، لكن عنده إمكان أن يطيع الله عز وجل، وهذا أيضاً يقطف كل ثمار الطاعة، ويوفقه الله عز وجل، ولكن هذا الإنسان مقاومته هشَّة، قد لا يحتمل إغراء شديداً ولا ضغطاً شديداً، أما العالِم الذي عنده رؤية لو قطعته إرباً إرباً لا يلين، كما ذكرت قبل قليل لا تُؤثِّر فيه لا سبائك الذهب اللامعة، ولا سياط الجلادين اللاذعة.
يقول سيدنا بلال: أحدٌ أحدٌ. 
وهناك إنسان على قدر ما انضغط يخرق منهج الله عز وجل، فبقدر هذه الرؤية وبقدر هذه الاستقامة يكون التوفيق والأجر.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

إخفاء الصور