- ندوات تلفزيونية
- /
- ٠23برنامج ومضات قرآنية - قناة الرسالة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد ، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين ، وعلى صحابته الغر الميامين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته ، و ارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين ، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
الآية التالية تصف حال الذين شردوا عن الله عز وجل :
أيها الأخوة الكرام ، يقول الله عز وجل واصفاً حال الذين شردوا عن الله ، حال الذين انشغلوا بالدنيا ، حال الذين ألهتهم الحياة الدنيا عن الآخرة ، يصف حال الذين اشتغلوا بالخسيس ونسوا النفيس ، لذلك قال تعالى :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾
الشيء الذي يعطى لمن يحب الله ولمن لا يحبه لا يعد مقياساً للتفاضل بين الناس :
أيها الأخوة الكرام ، الله عز وجل حينما قال :
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)﴾
الإنسان أحياناً يتوهم أن الله إذا منحه المال الوفير ، منحه الصحة ، منحه الأهل والأولاد ، منحه القوة ، منحه الوسامة ، منحه الذكاء ، يتوهم أن هذا دليل على محبة الله له ، الله عز وجل يصحح لنا فهمنا ، قال تعالى :
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ ﴾
يقول هو ، هذه مقولته ، هذا وهمه ، هذا تفكيره ، هذا تصوره ،
﴿ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
جاء الجواب ردعاً ، والفرق كبير بين النفي والردع ، النفي تسأل إنساناً هل أنت جائع ؟ يقول لك : لا ، نفى عنه الجوع ، أما حينما تتهمه بالسرقة يقول لك : ما كان لي أن أسرق ، الله عز وجل أجاب إجابة ردعية فقال :
﴿ كَلَّا ﴾
أي يا عبادي ليس عطائي إكراماً ولا منعي حرماناً ، عطائي ابتلاء وحرماني دواء ، أي الله عز وجل أعطى المال لمن يحب ولمن لا يحب ، أعطى القوة إلى فرعون وهو لا يحبه ، أعطى المال إلى قارون وهو لا يحبه ، وأعطى القوة إلى نبي كريم وهو سيدنا سليمان وهو يحبه ، وأعطى المال إلى سيدنا عبد الرحمن بن عوف وهو يحبه ، الشيء الذي يعطى لمن يحب ولمن لا يحب لا يعد مقياساً إطلاقاً .
الكسب و الرزق :
فلذلك أيها الأخوة :
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)كَلَّا (17)﴾
الإنسان حينما يتجه إلى التكاثر في مرحلة من مراحل حياته يبحث عن رزقه ، يشتري بيتاً ليتزوج ، لكن بعد أن ينجح في حياته يدخل في متاهة التكاثر ، يريد أن يحقق أكبر ربح ليزهو به ، مع أن الإنسان لا يستهلك إلا الشيء المحدود ، المستهلكات الحقيقية كما قال النبي عليه الصلاة والسلام :
(( يا بن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ))
والباقي يسمى عند العلماء كسباً تحاسب عليه حساباً دقيقاً مع أنك لم تنتفع به هو رزقك ، المستهلكات حصراً هي الرزق .
فرص العمل الصالح أمام القوي المسلم لا تعد و لا تحصى :
فيا أيها الأخوة الكرام ، حينما قال تعالى :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ﴾
هذا زلت قدمه ، ونسي سرّ وجوده ، وغاية وجوده ، ودخل في متاهات تجميع أكبر أرباح ، ونسي أن الغني عبادته الأولى إنفاق المال ، وما جعل الله الغني غنياً إلا ليكون في أعلى درجات الفردوس بماله ، لأن العلم قوة ، ولأن المال قوة ، ولأن المنصب قوة ، وأنا أقول دائماً إذا كان طريق القوة في المال أو العلم أو المنصب وفق منهج الله ، فيجب أن تكون قوياً ، لأن فرص العمل الصالح المتاحة أمامك لا تعد ولا تحصى ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلّ خير))
القوة مطلوبة لأن القوي أمامه خيارات للعمل الصالح لا تعد ولا تحصى ، بل إن بعض العلماء يقولون : هناك عبادة الهوية ، أنت من ؟ أنت غني عبادتك الأولى إنفاق المال ، أنت قوي عبادتك الأولى إحقاق الحق وإنصاف المظلوم ، أنت عالم عبادتك الأولى تعليم العلم وألا تأخذك في الله لومة لائم ، قال تعالى :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
والآية فيها ملمح دقيق جداً أن هذا الذي يلقي العلم على الناس لو أنه خشي غير الله فامتنع عن إلقاء الحق خوفاً وتكلم بالباطل إرضاءً وتملقاً ، ماذا بقي من دعوته ؟ انتهت دعوته :
﴿ الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ ﴾
فالعالم عبادته الأولى إلقاء العلم دون أن يخشى في الله لومة لائم ، والغني عبادته الأولى إنفاق ماله ليرقى به إلى رب الأرض والسماوات ، والقوي عبادته الأولى إحقاق الحق وإنصاف المظلوم .
علة خلق السماوات والأرض أن نعلم أن الله على كل شيء قدير :
لذلك :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ﴾
حينما ينسى الإنسان سرّ وجوده وغاية وجوده ، حينما ينسى الأمانة التي حمله الله إياها ، حينما ينسى التكليف الذي كلفه الله به ، حينما ينسى أن يعبد ربه التي هي علة وجوده ويلتهي بالتكاثر ، فكأن غواصاً غاص في أعماق البحر ، وعرض حياته للخطر فجمع الأصداف ولم يجمع اللآلئ ، فاشتغل عن النفيس بالخسيس ، وهذا معنى قول الله عز وجل :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2﴾ . ولكن كيف ينبغي للمؤمن أن يستقيم على أمر الله ؟ قال تعالى :
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ ﴾
وكأن علة خلق السماوات والأرض أن نعلم أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً :
﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾
استقامة الإنسان على أمر الله إذا علم أن علم الله يطوله وقدرته تطوله :
هناك تساؤل لماذا الله اختار من أسمائه الحسنى اثنين فقط العليم والقدير ؟
﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾
لا بدّ من مثل للتوضيح ، تركب مركبة والإشارة حمراء ، والشرطي واقف أو آلة التصوير جاهزة ، لماذا لا تتجاوز هذه الإشارة ؟ لأنك تعلم علم اليقين أن واضع قانون السير علمه يطولك من خلال هذا الشرطي ، أو من خلال هذه الآلة ، وأن قدرته تطولك من ثقب الشهادة ثقوباً بعد حين تمنع أن تقود مركبة ، لأنك تعلم علم اليقين أن واضع القانون قدرته تطولك وعلمه يطولك لا يمكن أن تعصيه ، وأي إنسان إذا علم عِلم اليقين أن الله عز وجل يطوله لا يمكن أن يعصيه ، فعلم الله يطول الإنسان العاصي ، و قدرة الله تطول الإنسان العاصي ، أي أن الله يعلم وسيحاسب وسيعاقب ، لا يمكن أن تعصيه تماماً ، لكن الإنسان أحياناً في حياته الدنيا يعصي واضع القانون إذا كان علم واضع القانون لا يطوله ، أي إذا لم يكن هناك شرطي يمكن له أن يتجاوز الإشارة الحمراء بعد منتصف الليل ، أو إذا كان المتجاوز أقوى من واضع القانون ، مادام الإنسان علم الله يطوله وقدرته تطوله لا بد من أن يستقيم على أمره .
لا يليق بعطاء الله أن يكون في الدنيا لأن عطاء الله عظيم وأبدي :
فلذلك :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ﴾
المصير :
﴿حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ﴾
ماذا بعد الغنى ؟ القبر ، ماذا بعد القوة ؟ القبر ، ماذا بعد الاستمتاع بكل مباهج الحياة ؟ القبر ، ماذا بعد الانغماس بملذات الحياة ؟ القبر ، القبر ينهي قوة القوي ، وضعف الضعيف ، وغنى الغني ، وفقر الفقير ، وذكاء الذكي ، ومحدودية المحدود ، ووسامة الوسيم ، ودمامة الدميم ، الموت ينهي كل شيء ، لذلك لا يليق بعطاء الله أن يكون في الدنيا لأن عطاء الله عظيم ، عطاء الله أبدي ، فأي عطاء ينقطع مع انتهاء الحياة لا يسمى عطاءً ، يقول الله عن ذلك المعنى :
﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ (77)﴾
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ(38)﴾
الحقائق التي جاء بها الأنبياء تُكشف عند الموت ولكن تكشف بعد فوات الأوان :
هذا الذي جمع الدرهم والدينار ونسي الواحد الديان ، هذا الذي جعل همه التكاثر:
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ﴾
التهيتم بالخسيس عن النفيس ، سمعت عن جوهرة في متحف توبي كابي في استنبول ، قيمتها مئة وخمسون مليون دولار ، هي كالبيضة تماماً ، فالإنسان حينما يغوص في البحر ليلتقط الأصداف وينسى اللآلئ فقد انشغل بالخسيس عن النفيس :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)﴾
والإنسان بالقبر إلى يوم القيامة ، إذاً هو البرزخ وقد جاءت الإشارة حتى زرتم والزائر يخرج ، الآن :
﴿ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
تعلمون عند الموت الحقيقة الصارخة :
﴿ فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)﴾
تعلمون أن الذي جاء به الأنبياء هو حق لاشك فيه ، كل الحقائق التي جاء بها الأنبياء تكشف عند الموت ولكن تكشف بعد فوات الأوان ، الآن وقد عصيت من قبل ، ما من إنسان على وجه الأرض ، والناس على اختلاف مللهم ، ونحلهم ، وانتماءاتهم ، وأعراقهم ، وأنسابهم ، وطوائفهم ، عند الموت تكشف لهم الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان ، كما لو أن طالباً لم يكتب شيئاً في الامتحان ، عاد إلى البيت فعرف إجابة السؤال ، ما قيمة هذه المعرفة؟ عرفها بعد فوات الأوان ، فلذلك الآية الكريمة :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)﴾
لو أن إنساناً ينطلق في سيارة في طريق منحدر شديد الانحدار ، وليس معه مكبح و هو لا يعلم ، وهذا الطريق الشديد الانحدار ينتهي بمنعطف حاد ، فإذا علم هذا السائق أن المكبح معطل يقول : انتهينا ، يستخدم الفعل الماضي يقول : متنا ، انتهينا ، لذلك :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)﴾
أخطر الأيام اليوم المشهود و للإنسان الساعة التي هو فيها :
العلم الثاني يوم القيامة ، فالإنسان بين يوم مفقود الماضي ، ويوم مشهود هو الحاضر ، ويوم مورود هو الموت ، ويوم موعود هو القيامة ، ويوم ممدود إلى أبد الآبدين ، وأخطر هذه الأيام اليوم المشهود ، ما مضى فات والمؤمل غيب ، ولك الساعة التي أنت فيها:
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)﴾
لو علم الإنسان أن مركبته مع هذا الانحدار الشديد والسرعة العالية ، وهذا الانحدار ينتهي بمنعطف حاد وليس معه مكبح ، أيقن بالموت ، أيقن بحادث مروع يقضي عليه وعلى أسرته :
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾
هذا الوقت الفراغ المديد كيف أمضيته ؟ لمَ لم تطلب العلم ؟ لمَ لم تحضر دروس العلم ؟ لمَ لم تفتح القرآن الكريم ؟ لمَ لم تسأل العلماء عن معاني هذه الآية؟ لمَ لم توقع حركتك اليومية وفق منهج الله ؟ لمَ لم تفكر لماذا خلقت ؟ لماذا خلقك الله في الدنيا ؟ لمَ غفلت عن عبادته وعن طاعته ؟ لمَ جعلت همك التكاثر وجمع الأموال ؟ لمَ استعليت على الناس بمالك ؟ لمَ حرمت الناس من فضلك ؟ لماذا آثرت أن يبقى المال لك وأن تغرق في النعيم من خلال هذا المال وتنسى الفقراء والمساكين ؟
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)﴾
أما كلا فهي أداة ردع ، أنا ما خلقتكم لهذا :
(( لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ ))
كلا إياكم والتكاثر ، ابحثوا عن سرّ وجودكم ، وعن غاية وجودكم ، ولماذا أنتم في الدنيا ؟ أنتم من أجل العمل الصالح ، والدليل أن الإنسان حينما يوشك أن يغادر الدنيا يقول:
﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ (99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ﴾
الله عز وجل خلق الإنسان ليسعده في الدنيا و الآخرة :
والله أيها الأخوة ، لو كشف الغطاء كما قال سيدنا علي : " والله لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً ". أي أن يقينه قبل كشف الغطاء كيقينه بعد كشف الغطاء ، وله مقولة رائعة : " والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي " .
وقال هذا الإمام الجليل : "قوام الدين والدنيا أربعة رجال : عالم مستعمل علمَه ، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم ، وغني لا يبخل بماله ، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه ، فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم ، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره ".
فلذلك الآية الكريمة :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا ﴾
أنا ما خلقتكم لهذا ، خلقتكم لمعرفتي ، خلقتكم للإيمان بي ، خلقتكم لعبادتي ، خلقتكم لأسعدكم في الآخرة ، في جنة عرضها السماوات والأرض ، أرسلت بكم إلى الدنيا كي تتهيؤوا للجنة ، كي يكون عملكم الصالح في الدنيا سبب دخول الجنة :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا ﴾
لم تخلقون لهذا ، لم تخلقوا لهذا ، كلا سوف تعلمون عند الموت ، عند فوات الأوان ، كلا سوف تعلمون يوم القيامة ولكن بعد فوات الأوان :
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ ﴾
لترون ما أنتم فيه جحيماً ، لو يعلم الإنسان أن أخطاءه كلها سوف ترديه يكره سلوكه ، يكره حياته :
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)﴾
على كل إنسان أن يستهلك وقت فراغه فيما خُلق من أجله :
عندنا علم استنباطي تماماً كما لو رأيت دخاناً وراء جدار ، تستنبط بعقلك أنه لا دخان بلا نار ، هذا علم يقيني ، ولكن إذا انتقلت إلى ما وراء الجدار فرأيت النار بعينك :
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾
قال بعض المفسرين : قطرة الماء البارد تسأل عنها ، نعمة الأمن تسأل عنه ، نعمة الزوجة والأولاد لمَ لم تحمل أهلك على طاعة الله ؟ لمَ لم تربِ أولادك؟ نعمة المال أين أنفقته ؟ هل أنفقته على الفقراء والمساكين أم استعليت به على خلق الله عز وجل ؟
﴿ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾
تصور تحاسب عن نعمة الأمن ، تحاسب عن نعمة الصحة ، تحاسب عن أية نعمة على الإطلاق ، نعمة الفراغ لا تعدلها نعمة ، بإمكانك بالفراغ أن تطلب العلم ، بإمكانك بالفراغ أن تعرف الله ، أن تحضر مجالس العلم ، أن تقرأ القرآن الكريم ، أن تقرأ سيرة النبي عليه الصلاة والسلام بالفراغ تفعل كل شيء ، بل إن الإنسان الذي ليس عنده وقت فراغ لا يعد من بني البشر ، الإنسان بوقت الفراغ يؤكد ذاته ، فإذا كان عندك وقت فراغ هذا ينبغي أن تستهلكه فيما خلقت من أجله ، خلقت من أجل معرفة الله .
﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)﴾
لهوكم ، شرودكم عن الله، همكم الأول جمع الدرهم والدينار :
(( من أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه ، وجمع عليه شمله ، وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه ، وشتت عليه شمله ، و لم يؤته من الدنيا إلا ما قدر له ))
سورة التكاثر تنقلنا من حال إلى حال ومن معصية إلى طاعة ومن غفلة إلى يقظة :
أيها الأخوة ، مرة ثانية :
(( إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنؤوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))
ما من مخلوقٍ يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيَّته ، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً ، وما من مخلوقٍ يعتصم بمخلوقٍ دوني أعرف ذلك من نيَّته ، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطَّعت أسباب السماء بين يديه .
أيها الأخوة الكرام ، أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه السورة القصيرة سورة يمكن أن تنقلنا من حال إلى حال ، من مقام إلى مقام ، من شرود إلى وجود ، من معصية إلى طاعة ، من غفلة إلى يقظة ، هذه السورة من أدق السور :
﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ(1)حَتَّى زُرْتُمْ الْمَقَابِرَ(2)كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(3)ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ(4)كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ(5)لَتَرَوْنَ الْجَحِيمَ(6)ثُمَّ لَتَرَوْنَهَا عَيْنَ الْيَقِينِ(7)ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ(8)﴾
والحمد لله رب العالمين .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .