- ندوات تلفزيونية / ٠03برنامج دٌرر - قناة مكة
- /
- ٠3درر 3 - أعمال القلوب
مقدمة :
الأستاذ بلال :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله مقلب القلوب والأبصار، والصلاة والسلام على النبي المختار، وعلى آله وأصحابه الأبرار الأطهار.
أخوتي الأكارم أخواتي الكريمات؛ أينما كنتم أسعد الله أوقاتكم بكل خير، وبتحية الإسلام أحييكم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في مستهل برنامجنا:" درر"، اسمحوا لي بداية أن أرحب باسمكم جميعاً بفضيلة شيخنا الدكتور محمد راتب النابلسي، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الدكتور راتب :
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الأستاذ بلال :
أستاذنا الفاضل نتحدث اليوم عن عمل جديد من أعمال القلوب ألا وهو الإنابة، هناك قلب منيب، سنأتي على ذكره إن شاء الله لكن قبل ذلك سيدي ما معنى الإنابة إلى الله؟
تعريف الإنابة إلى الله :
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
الإنابة الرجوع إلى الله، الإنسان قد يخطئ فينقطع عن الله عز وجل، الأخطاء حجاب، والمعصية حجاب، والتقصير حجاب، العودة إلى الله أن يرجع إلى الله تائباً، فالتوبة هي الإنابة، لكن لو دققنا في معنى الإنابة، قال العلماء: الرجوع مرة بعد مرة، ليس لنا إلا الله، أخطأنا استغفرنا تبنا، لو - لا سمح الله - زلت بنا القدم أعدنا الخطأ ليس لنا إلا الله، نرجع إليه مرة ثانية، فالرجوع مرة بعد مرة هو الإنابة إلى الله.
الأستاذ بلال :
أستاذنا الفاضل الإنابة يعني التوبة، ومن معانيها أن يرجع الإنسان إلى الله بعد توبته إليه.
أنواع الذنوب :
الدكتور راتب :
لكن الذنوب أنواع، هناك ذنب غفر، وذنب لا يترك، وذنب لا يغفر، أما الذنب الذي يغفر فما كان بينك وبين الله، والصلحة بلمحة، إذا رجع العبد إلى الله، نادى منادٍ في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، فالذنب الذي يغفر ما كان بينك وبين الله، وهو أهون الذنوب غفراناً، أما ما كان بينك وبين العباد فمعلق، التوبة معلقة بالأداء أو المسامحة، عليك دين لا بد من أداء الدين، أو لا بد من أن يسامحك الدائن، عندئذ تأتي التوبة والرجوع إلى الله، فالرجوع في علاقات العبد مع العباد يحتاج إلى إقلاع عن الذنب ثم الرجوع إلى الله بعد هذا الإقلاع، أما الذي لا يغفر فكيف؟ إنسان حدث معه مرضي خطير في أمعائه، فلو نقلناه إلى مكان جميل لا يعنيه المكان الجميل تعنيه المستشفى، فالذي لم يذهب إلى الله، لم يرجع إلى الله بعد خطئه فكأنما يمشي في طريق مسدود.
فالذنب الذي يغفر ما كان بينك وبين الله وهو أهون الذنوب والصلحة بلمحة، والذنب الذي لا يترك، ما كان بينك وبين العباد، لا يغفر إلا بالأداء أو المسامحة، أما الذنب الذي لا يغفر فهو الشرك، قال تعالى:
﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾
هو بحاجة إلى مستشفى، وهو يعاني ما يعاني من مرض وعلى شفير الموت، فيؤخذ إلى مكان جميل، لا يوجد أمل إطلاقاً، ذنب يغفر ما كان بينك وبين الله، و ذنب لا يغفر إلا بالأداء أو المسامحة، و ذنب لا يغفر أصلاً لاختلاف الوجهين.
الأستاذ بلال :
أستاذنا الفاضل هذا الذنب الذي لا يغفر الشرك.
الدكتور راتب :
إذا مات عليه، أما الله عز وجل فغفور رحيم، إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، هو ينتظرنا.
الأستاذ بلال :
ولو كان مشركاً ثم تاب؟
الدكتور راتب :
لو يعلم المعرضون انتظاري لهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم، لتقطعت أنفاسهم من حبي، ولماتوا شوقاً إليّ، يا داود هذه إرادتي في المعرضين فكيف بالمقبلين؟
الأستاذ بلال :
جزاكم الله خيراً ، سيدي وقد ذكرتم نبي الله داود، داود عندما وصفه الله عز وجل:
﴿ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ ﴾
شعيب عليه السلام، قال تعالى:
﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾
إبراهيم عليه السلام، قال تعالى:
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ ﴾
كأن الإنابة صفة من صفات الأنبياء؟
الإنابة صفة من صفات الأنبياء :
الدكتور راتب :
كتوضيح إعطاء حقنة في يد مريض، لها قواعد، تعقيم الحقنة، تعقيم الإبرة، وضع الإبرة في ضاغط، زرعها في الإبرة إلى آخره، الإجراءات التي يفعلها الممرض - وهو أقل وظيفة في المستشفى - هي نفسها الذي يفعلها الطبيب الجراح وهو أعلى مستوى:
(( .. إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ... ))
المقامات مختلفة أما الأداء فواحد:
(( .. إِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ ... ))
هذا منهج، المنهج له مقدمات وهناك نتائج، فالبطولة أن أأتمر بما أمر وأن أنتهي عما عنه نهى وزجر، وعند الله عز وجل أكون منيباً إليه، الإنابة بالتوبة، والإنابة تزيد عن التوبة عودة بعد عودة، رجوعاً بعد رجوع.
الأستاذ بلال :
أستاذنا الفاضل كأني فهمت منكم أن هؤلاء الأنبياء كانوا منيبين والله يعلمنا أن نكون منيبين، أن نتخذهم قدوة.
اتخاذ الأنبياء قدوة :
الدكتور راتب :
الحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم له كلام وله فعل وله حال، فكلامه تشريع، وفعله تشريع، وحاله تشريع، عندنا سنة عملية وسنة قولية، الآن إذا سكت سكوته في موضع ما سنة، لو أن إنساناً تكلم كلاماً صحيحاً وسكت النبي فإقراره سنة، أما هذه التي قالت لزوجها بعد أن توفاه الله، وكان من أصحاب النبي، وخاض معه معارك كثيرة، والنبي من عادته أن يزور الصحابي المتوفى قبل دفنه، فسمع كلمة قالتها زوجته: هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله، لو أن النبي سكت على قولها لكان كلامها صحيحاً، هذا مع النبي فقط لأن سكوته إقرار، سنته أقواله وأفعاله وإقراره، ثم صفاته، فقال لها: ومن أدراكِ أن الله أكرمه؟ قولي: أرجو الله أن يكرمه، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم. يستنبط أن المؤمن لا يمكن أن يحكم أحكاماً قطعية على المستقبل.
الأستاذ بلال :
أستاذنا الفاضل نعود ونتابع الموضوع حول الإنابة ولكن بعد فاصل قصير..
السلام عليكم عدنا إليكم من جديد حول موضوع الإنابة إلى الله، كنا نتحدث عن أن الأنبياء لهم أحوال، ومن أحوالهم الإنابة، سيدنا إبراهيم كان منيباً، داود وسليمان، على المؤمن أن يكون منيباً إلى الله، مقتدياً بالأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، الله يأمر المؤمنين بالإنابة فيقول:
﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾
الآن سيدي ما علاقة الإنابة بالتذكر يقول تعالى:
﴿ وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ ﴾
كأن الذكر مقصور على من يرجع إلى الله عز وجل؟
علاقة الإنابة بالذكر :
الدكتور راتب :
إذا ذكر ولم يرجع فكأنه لم يذكر، إذا ذكر أن هناك امتحاناً ولم يدرس كأنه ما آمن بالامتحان أصلاً، الذكر الحقيقي يتبعه عمل، يتبعه سلوك، يتبعه افعل ولا تفعل، فالذي ينيب إلى الله من علامة إنابته إليه الصحيحة التي يقبلها الله عز وجل أن يغير أنماط سلوكه، أن يغير عمله الخاطئ إلى عمل صحيح، تقصيره إلى تفوق، عدم أداء الحقوق إلى أداء الحقوق، فلا بد من حركة توافق هذه الرجعة إلى الله، هذه الإنابة تتميز عن الرجوع أن ترجع إليه مرة بعد مرة، الإنسان غير معصوم، ليس مصراً على ذنبه، أذنب:
(( كُلُّ بَني آدمَ خطَّاءٌ وخيرُ الخَطَّائينَ التَّوابونَ ))
الأستاذ بلال :
أستاذنا الفاضل من ثمرات الإنابة الهداية، الله عز وجل يقول:
﴿ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾
بعض الناس يقولون: الله لم يهدنا كأنه لم ينب.
الهداية ثمرة من ثمرات الإنابة :
الدكتور راتب :
أنا والله سأقول لك هذا الكلام: من سابع المستحيلات أن تنعقد في نفس المؤمن رغبة أن يطيع الله ثم لا يعينه على الطاعة، أضرب مثلاً فيه مفارقة حادة، لو إنسان ساكن في ألاسكا نظر إلى النجوم في الليل، هل يا ترى هناك إله لهذا الكون؟ طلب، قال تعالى:
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ﴾
هو بلا عمل هناك وجد عملاً في أمريكا، سافر إلى أمريكا والتقى بالذين عرضوا هذا الإعلان وقبلوه لأسباب معينة، فرزوه إلى الشرق الأوسط، فكان هناك مكان بمنطقة يسكن فيها داعية، لأنه قال في ألاسكا: هل لهذا الكون إله؟
الأستاذ بلال :
يسر الله له.
الدكتور راتب :
أبداً، أبداً، الآية دقيقة جداً:
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ﴾
لا يمكن أن يعلم الله أن في نفس عبد من عباده رغبة في معرفته أو في طاعته إلا ويعينه على هذه التوبة.
الأستاذ بلال :
هذا معنى:
﴿ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ﴾
الآن سيدي المفارقة الحادة التي يذكرها القرآن في أكثر من موضع منها هذا الموضع:
﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا ﴾
ما هذه المفارقة؟
البطولة معرفة الله في الرخاء :
الدكتور راتب :
والله أنا لا ألوم من عاد إلى الله عقب مصيبة، شيء طبيعي، لكن البطولة والروعة أن تأتيه بلا مصيبة، هذا وسام شرف، حينما تأتي المصيبة أو يلوح شبح المصيبة تتوجه إلى الله تائباً مخلصاً مصلياً قارئاً للقرآن، لكن البطولة أن تعرفه وأنت في الرخاء، أنت في بحبوحة، أنت في صحة تامة، المعرفة بالصحة والبحبوحة ثمينة جداً، مثمنة عند الله.
الأستاذ بلال :
أيضاً هناك موضوع مهم في الإنابة، وقد ذكرتم أن الإنابة فرع عن التوبة أو هي تكرار التوبة يقول النبي صلى الله عليه وسلم:
((الندم توبة))
هل التوبة حال في القلب فيندم الإنسان على ما فعل.
الإنابة تكرار التوبة :
الدكتور راتب :
والله الندم توبة، لأن الندم فيه ثلاثة شروط، أولاً: إدراك الذنب، الإقلاع عنه، العزم على ألا يعود إليه، فالندم توبة، ومضغوط بكلمة واحدة، لماذا ندم؟ لأنه عرف أنه مذنب، والمعرفة جزء من الندم، الآن أقلع رأى عملاً خطأ وعزم ألا يعود لمثله، فالندم توبة من معان ثلاثة؛ معرفة إقلاع عزيمة.
الأستاذ بلال :
أستاذنا الفاضل عندما نقول: ينيب العبد إلى ربه أي يرجع إليه، الرجوع إلى مكان كان فيه أصلاً أو ينبغي أن يكون فيه أصلاً؟
الدكتور راتب :
أحياناً القرآن الكريم يعطي المعاني الفكرية لمسات مادية، رجع كان بمكان فيه معصية ثم رجع إلى الله، رجع إلى طاعته، فكأن الأشياء المعنوية تأخذ طابعاً مادياً، هذا المادي يقربها إلينا، الحقد انحباس المطر في اللغة، الحقد انحباس الغضب والألم، نحن نبدأ بالمعاني المادية وننتقل إلى المعاني النفسية، فالإنابة إلى الله رجوع متتال.
الأستاذ بلال :
هل الإنابة تشير إلى أن هناك شيئاً في النفس، فطرة فطره الله عليها فهو يعود إلى أصل فطرته.
الإنابة فطرة فطر الله الناس عليها :
الدكتور راتب :
الجواب دقيق جداً، قال تعالى:
﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ﴾
إقامة الوجه للدين حنيفاً هي فطرة الله، بمعنى كل أمرٍ أمرك الله به برمجك عليه، برمجك على محبته، كل نهي نهاك الله عنه برمجك على كراهيته، ماذا قال تعالى:
﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾
هذا من فضل الله، من نعم الله الكبرى أننا فطرنا فطرة راقية، فالإنسان إذا أخطأ تعذبه فطرته، مثلاً لو أن الأم جائعة وجاء الابن بطعام وأكله وحده، لو لم يتلقَّ في حياته أي توجيه ديني يشعر بالانقباض، هذه الفطرة مبرمجة مع الشرع، أي أمر أمرت به أنت مبرمج على محبته، وهذه الراحة النفسية لا توصف عقب التوبة، هكذا البرمجة، عندما اصطلح مع الله اصطلح مع فطرته، مع نفسه، مع خصائصه.
خاتمة و توديع :
الأستاذ بلال :
أستاذنا الفاضل جزاكم الله خيراً، وأحسن إليكم، وبارك بكم، ونفع الأمة بكم.
أخوتي الأكارم؛ ختاماً كان هناك شاب يسمى ديناراً العيار، وكان مسرفاً على نفسه، مكباً على المعاصي والآثام، دخل يوماً مقبرة فوجد فيها عظماً نخراً، أخذه بيده وفتته ثم قال مخاطباً نفسه: ويحك يا نفس أرأيت إذا صار عظمك رفاتاً وجسمك تراباً وأنت مازلت مكبةً على المعاصي يا دينار ألك قوة على النار؟ كيف تعرضت لغضب الجبار؟ ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: إلهي ألقيت إليك مقاليد أمري فاقبلني واسترني يا أرحم الراحمين.
إلى الملتقى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.