وضع داكن
28-03-2024
Logo
مدارج السالكين - الدرس : 095 - عبادة اليد والرجل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.


عبادة اليد .


أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الخامس والتسعين من دروس مدارج السالكين, في منازل إيَّاك نعبد وإياك نستعين.

لا يَخْفى أن أهمية العبادة تأتي مِن أن العبادة علَّة وجودنا في حياتنا الدنيا، نحن هنا في الدنيا من أجل أن نعبد الله، والعبادة من أجل أن نسعد بقربه في الدنيا والآخرة، فمفهوم العبادة واسعٌ جداً.

تحدثنا عن عبادة السمع، وعن عبادة البصر، وعن عبادة الذوق، ونتحدَّث الآن عن عبادة اليد، هذه العبادة مستنبطة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي حدَّثنا عن ربه، يقول الله عز وجل:

(( من عادى لي وَلِيّا ، فقد آذَنتُه بحرب ، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مِنْ أداءِ ما افترضتُ عليه ، ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ ، فإذا أحببتُهُ كُنتُ سمعَه الذي يسمع به ، وبصرَه الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألَني أعْطَيتُه ، وإن استَعَاذَ بي أعَذْتُه ، وما تردَّدتُ عن شيء أنا فاعله ، تردّدي عن نفس المؤمن ، يكره الموت وأنا أكره مَساءَتَه  ))

[ أخرجه البخاري عن هريرة رضي الله عنه ]

قد تؤدّي الواجبات، فتنجو من عذاب الله تماماً, ولله المثل الأعلى:

لو أن إنساناً أدى ما عليه من ضريبة، نجا من الغرامات والمصادرات والعقوبات، أما إذا قدَّم مستوصفاً قدَّمه لوطنه، يستحق حفل تكريم، دفع الضريبة شيء، وبناء مستوصف, وتقديمه هدية للوطن شيءٌ آخر، في الحالة الثانية تستحق التكريم، أن يقام لك حفلٌ تكريمي, لما قدَّمت لوطنك وأمتك من هذا البناء الذي يعود على الناس منفعةً كبيرة.

إذاً: الفرائض توجب السلامة، أما النوافل توجب المحبَّة، الفرائض توجب السلامة لأنها فرض، أما النوافل توجب المحبة، لذلك: (( ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل )) وكأن أداء الفرائض شيءٌ مفروغٌ منه، هو الحدُّ الأدنى ، إن الله لا يقبل نافلة ما لم تؤدِّ الفرائض .

 (( ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ ، فإذا أحببتُهُ كُنتُ سمعَه الذي يسمع به ، وبصرَه الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها )) هنا في وقفة متأنية، كيف يكون الله سمع هذا الإنسان؟.

كنت سمعه، وكنت بصره، وكنت يده، وكنت رجله ، والحديث صحيح  في أعلى درجات الصحة .

ما معنى هذا الحديث؟ 

فهذه العين قد تنظر إلى حرامٍ, أو إلى حلال, إلى مباحٍ, أو إلى واجب، ولكن عين المؤمن لا تعمل إلا وفْق منهج الله، المؤمن منضبط، أما غير المؤمن متفلِّت، هذه العين تملكها أنت، وتحركها أنت كما تشاء، ولكن عين المؤمن لا تعمل إلا وفق منهج الله، لا ينظر إلا إلى ما يحل له، فإذا وقعت عينه على ما لا يحل له، غضَّ بصره، لا ينظر إلا متأمِّلاً عظمة الله عز وجل، لا ينظر إلى ما حوله نظرة شهوةٍ، بل نظرة عبرةٍ ، فمعنى أن الله عز وجل يكون سمع هذا المؤمن؛ أي لا يسمع هذا المؤمن إلا وفق ما سمح الله له به، يستمع إلى صوت المؤذِّن، فيُرَدد معه الشهادة وبعض فقرات الآذان، يستمع إلى القرآن، يستمع إلى أصواتٍ سمح الله له بها أن يستمع إليها, فهو لا يسمع إلا وفق منهج الله.

معنى آخر أعمق: أي شيءٍ يسمعه, لا يقبله إلا إذا كان وفق منهج الله ، لو أنك سمعت قصةً عن عالمٍ اخترع دواء يطيل العمر، وأنت معك قرآن يقول:

﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)﴾

[ سورة الأعراف ]

إذا جاء الأجل لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، فما سمعته مفروض, لأن كل شيءٍ تسمعه تعرضه على كتاب الله، فإن وافقه قبلته، وإن عارضه رفضته، صار الإنسان غير المؤمن يسمع مئات  أو ألوف القصص والمقولات كلها يقبلها، وكلها متناقضة، بعضها خرافة، وبعضها كذب، وبعضها دَجَل، وبعضها تزوير، لكن المؤمن إذا استمع لا يُخَزِّن من الذي استمع إليه, إلا ما كان وَفْقَ الكتاب والسُّنة، إلا ما كان وفق كلام خالق الكون، إلا ما كان وفق وحي السماء: (( كُنتُ سمعَه )) أي كل شيءٍ يسمعه يعرضه على الكتاب والسُّنة، فإن وافقه قبله، وإن عاكسه رفضه ، إذاً: (( كُنتُ سمعَه )) لا يستمع إلى صوت امرأةٍ لا تحل له، لا يتجسس، لا يتحسس:

(( ولا تَحَسَّسُوا ، ولا تَجسَّسُوا ، ولا تَنَافسُوا ، ولا تحاسَدُوا ، ولا تَبَاغضُوا ، ولا تَدَابَروا ، وكُونوا عبادَ اللهِ إِخواناً كما أمرَكُم ))

[ أخرجه البخاري ومسلم عن هريرة رضي الله عنه ]

لا يستخدم أذنه إلا وفق منهج الله, يهتدي بهدي الله، يستنير بنور الله، يتلقى وحي الله عز وجل من كتاب الله ومن سُنَّة رسول الله، فما من شيءٍ يسمعه إلا ويقيِّمه.

اجلس في مجلس فيه أناس ليس من اهتمامهم العلم الشرعي ولا معرفة لهم في شأن آخرتهم، يروون لك قصصاً منها ما يعقل ومنها ما لا يعقل، منها ما هو واقع ومنها ما هو غير واقع، منها ما هو مقبول ومنها ما هو غير مقبول، لا يوجد عندهم مقياس يقيسون به الأمور. 

مثلاً: لو أنك متفوقٌ باللغة العربية، وقرأ أحدٌ أمامك نصاً، قد تكشف له مئات الأغلاط، أما إن لم تكن مُلماً بهذه اللغة، يقرأ لك النص، وقد وقع في مئات الأغلاط، فتثني عليه، لماذا أثنيت عليه؟ لأنك لا تعرف دقائق العربية، لجهلك بدقائق هذه اللغة لم تكشف هذه الأخطاء، أما لو كنت ملماً بدقائق العربية، مباشرةً تكشف الخطأ.

(( كُنتُ سمعَه الذي يسمع به ، وبصرَه الذي يبصر به )) أي لا يستخدم عينه إلا وفق منهج الله، فإن رأى امرأةً لا تحل له غضَّ بصره عنها، وإن رأى شيئاً جميلاً سبَّح الله، يستخدم عينه لتحرس في سبيل الله، ويستخدم عينه للتأمُّل في ملكوت الله، فإن رأى عورةً غضَّ بصره، حركة العين وفق منهج، هذا معنى: وبصره الذي يبصر به.

الإنسان الشارد التائه، يلفت نظره بيتٌ فخمٌ جداً، يتمنى مثيله, ويرى مركبةً فارهةً جداً، فتحدثه نفسه بأنه لو يملك نظيرها, ما نظر إلى هذا الشيء من زاويةٍ إسلامية، ولكن من زاويةٍ دنيوية، وقد قال الله عز وجل متحدِّثاً عن أهل الدنيا:

﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)﴾

[ سورة الروم ]

مقاييسه دنيوية، والإمام الحسن البصري قال:

لعل أحدهم إذا وضع الدرهم على ظفره، عرف وزنه وهو لا يعرف أن يصلي.

ومعظم الناس الآن في شؤون الدنيا، في شؤون الدرهم والدينار، في شؤون التَزْيينات ، في شؤون الأذواق، في أعلى درجة، يحدِّثك ساعاتٍ طويلة وهو لا يكل ولا يمل، فإذا جاء موضوع الدين تثاءب، فإذا حدَّثته عن الآخرة تململ، فإذا ذكَّرته بما سينتهي إليه، اعتذر بموعدٍ تذكره فجأةً: ( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)) .

أعرف إنساناً, له عمل لا يرضي الله أبداً، لكن مركز العمل فخم جداً وأنيق جداً، فقال لي: أنا عملي قذر, على الرغم من جمال المكتب الذي يفوق حد الخيال، في اليوم التالي أردت أن أصلح مركبتي، وكان الطقس شتاء، ومطر شديد، وذهبت إلى مَن أثق به، نزل تحت المركبة بثيابٍ أصلها زرقاء, أصبحت سوداء، مبللة بالماء، مُلَطَّخة بالزيت، فهذا الذي يلبسه لا لون له، والأرض فيها وحل وفيها مطر، فقام بفك هذه القطعة، وأصلحها إصلاحاً جيداً، وأتقنها إتقاناً جيداً، وأخذ أجرةً معتدلة، فقلت: هذا عمله نظيف.

وازنت بين كلمة الأول الذي قال: أنا عملي قذر, وبين الثاني الذي قلت عنه: عمله نظيف, وجدت أن النظافة في الحقيقة: هو عمل شريف وكسب مشروع.

إحدى قاعات القمار في دولة مجاورة، ثمنها مئات ملايين الدولارات، فيها من أرقى أنواع الرخام، من أرقى أنواع الأثاث، من أرقى أنواع الثريات، بذخ ما بعده بذخ، ومدرسة ثانوية، بناؤها قديم، المقعد غير مريح، ولا يوجد تدفئة والإضاءة ضعيفة، يخرج من هذه المدرسة علماء وأطباء ومهندسون، ويخرج من قاعة القمار مجرمون ينتحرون، فهم إلى جهنَّم وبئس المصير، فما يقع على شبكية العين قاعة القمار فخمة جداً، وبالعين وبالشبكية قاعة الدرس متواضعة جداً, فالمؤمن الذي يرى بنور الله, يعظِّم المدرسة ويحتقر قاعة القمار.

قد تجد إنساناً مستقيماً, دخله مشروع، يتحرَّى الحلال، بيته صغير، وأثاثه متواضع، وطعامه خَشِن، وثيابه رخيصة، ولكنه أسعد الناس برضوان الله، وقد تدخل بيتاً، لا تملك إلا أن تقول: ما هذا البيت؟!! ما هذه المساحة؟! ما هذه التزيينات؟ ما هذا الأثاث الفخم؟ ما هذا الذوق الرفيع؟ وصاحبه جمع ثمنه من مالٍ حرام.

فبالعين على الشبكية البيت جميل جداً، وبيت الإنسان المستقيم متواضع جداً غير مقبول ، ولكن لو نظرت بنور الله، لرأيت صاحب البيت المتواضع ينتهي به أجله إلى الجنة، وصاحب البيت الفخم قد ينتهي إلى النار. 


بطولة المؤمن .


إنسان أدار عدة دور قمار، وجَمَّع أموالاً طائلة, بلغت ثمانمئة مليون، وهو على فراش الموت طلب بعضاً ممن يعمل في الحقل الديني، من شدة خوفه من الآخرة، قال له: ماذا أفعل حتى أنجو من عذاب الله؟ قال له: لو أنفقت كل هذا المبلغ دفعةً واحدة ما نجوت من عذاب الله، هكذا كان اجتهاد الرجل.

فبطولتك أيها المؤمن: أن تنظر بنور الله لا أن تنظر بمقاييس الأرض، المنافق ينبغي ألا يعجبك ماله، ولا أولاده، ولا أهله، ولا أدواته، ولا مكانته، ينبغي أن تقيِّم المؤمن.

ذات مرة كنت في مؤتمر في المغرب، وكنا في فندق فخم جداً، مع وقت الفجر سمعت قراءة قرآن، فأطللت من الشرفة، يبدو أنه عامل الحديقة يصلي الفجر في وقته، ويقرأ القرآن بصوت شَجِيّ، امتلأ قلبي خشوعاً من قراءته، قلت: لعل هذا المستخدم بحديقة الفندق قلامة ظفره تعدل كل نزلاء ذلك الفندق.

العبرة بالنِهايات، العبرة بالخاتمة، وهذا الشيء ترونه كل يوم، الأمور بخواتيمها، الإنسان قد يصعد ثم يسقط فجأة، فالعبرة بالخواتيم.

إذاً هو معنى: (( كُنتُ سمعَه الذي يسمع به ، وبصرَه الذي يبصر به )) هناك معنيان: لا يعمل عينه إلا وفق منهج الله، وإذا نظر نظر بنور الله.

لو ترك إنسان مبلغاً ضخماً من المال، وعنده عدَّة أولاده، أكبر أولاده اغتصب المال كله، وأنشأ بيتاً فخماً، وأثثه بأفخر الأثاث، وبأرقى أحياء دمشق، وله مركبة فارهة، وأخوته لأنهم حرموا من ثروة أبيهم عاشوا فقراء ولكنهم أتقياء، فإذا دخلت إلى بيت المغتصب، هل تعجب ببيته؟ إن أعجبت ببيته فأنت لا تعرف الحق، يجب أن تحتقر بيته، لأنه من مالٍ حرام، ويجب أن تقدِّر إنساناً فقيراً دخله حلال، وينبغي أن تشجعه.

ذات مرة زرت أخاً، غرفة الضيوف لا تتسع إلا لبضعة أشخاص، غرفة صغيرة جداً، فلما دخلت هذه الغرفة استحيا, وقال: أستاذ نحن بيتنا صغير، قلت له: ما قولك أن سيِّد الخلق وحبيب الحق كان إذا أراد أن يصلِّي الليل، لا تتسع غرفته لنوم زوجته وصلاته، وهو سيد الخلق وحبيب الحق؟.

اخواننا الكرام؛ يجب أن تعتمـــد مقاييس القرآن وإلا لست مؤمنـاً، ينبغي ألا تقيِّم الأشخاص من زاويةٍ مادية، ينبغي أن تقيِّمهم من زاويةٍ أخلاقية، ينبغي أن تعظِّم أهل العلم، وأهل الخُلُق، وأهل الإيمان، وألا تعبأ بما عند هؤلاء الشاردين عن الله من دنيا عريضة، والآية التي تعرفونها جميعاً:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾

[ سورة الأنعام ]

 

الفرق بين بلاد الغرب وبين البلاد الإسلامية :


قد تذهب إلى بلاد الغرب, فترى البلاد كلها خضراء، والبيوت في أعلى درجة من الفخامة والمواصلات راقية جداً، ولكن ترى الخمور, والملاهي، ودور القمار، ودور البِغاء، أما إذا ذهبت إلى بلدٍ إسلامي، قد تجده متواضعاً في مظهره، ولكن فيه صلاح، في راحة نفسية، في روحانية.

زارنا أخ من بلد بعيد، عاش هنا في الشام شهراً، أرسل لي رسالة, قال لي: عندنا كل شيء مريح، ولكن عندكم حُب، وعندكم روحانية، وعندكم إيمان، وعندكم سعادة، وعندكم تماسك وترابط، فقد عاش شهراً، فعرف ما عنده وعرف ما عندنا، وميَّز بين النوعين فوجد أن أهل الإيمان في سعادةٍ كبيرة.

أجدادنا، سلفنا الصالح حياتهم خشنة، ولكنهم كانوا سُعَداء، لأن دينهم كان مَتيناً، ومحبَّتهم كانت قويةً، فلذلك عاشوا حياةً سعيدة دون أجهزة حديثة.

 

من واجبات البطش :


إذاً: (( ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّهُ ، فإذا أحببتُهُ كُنتُ سمعَه الذي يسمع به ، وبصرَه الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها )) قال: ومن البطش الواجب, كلمة البطش: العمل, اليد تتحرك وتعمل ، في الحديث الصحيح: اليد تبطش؛ أي تعمل ، قال: ومن البطش الواجب: إعانة المضطر.

إنسان وقع، أعنته، فتجد المؤمن يهرع لخدمة المضطرين، فإعانة المضطر من واجبات اليد ، أحياناً رجل كبير بالسن يحمل حاجةً ينوء بها، فأنت حملتها عنه ، أحياناً في مركبة عامة، تصعد امرأة مسنة، محجبة، لا تجد مكاناً تجلس به، قمت أنت ودعوتها إلى مكانك، فلا بد من أن تغيث المضطر، هذا من واجبات البطش، إعانة المضطر، ورمي الجمار، ومباشرة الوضوء والتيمم.

والبطش الحرام: قتل النفس التي حرَّم الله قتلها.

المؤمن عنده منهج، لا يقتل كل شيء، المؤمن لا يقتل النفس التي حرَّم الله قتلها إلا بالحق، حتى إذا قتل، في قتله إحسان.

إن الله كتب الإحسان على كل شيء, فإذا قتلتم فأحسنوا القتل، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح.

والحرام كقتل النفس التي حرم الله قتلها، ونهب المال المعصوم، وضرب مَن لا يحل ضربه.

 

موقف لسيدنا عمر بن الخطاب يكتب بماء الذهب .


ذات مرة جاءت لسيدنا عمر رسالة، قال كاتبها: يا أمير المؤمنين، إن رجالاً قد اغتصبوا مالاً ليس لهم، لست أقدر على استرداده منهم إلا أن أمسهم بالعذاب، فإن أذنت لي فعلت.

قال: يا سبحان الله!! أوتستأذنني في تعذيب بشر!؟ وهل أنا لك حصن من عذاب الله؟ وهل رضائي عنك ينجيك من سخط الله؟ أقم عليهم البيِّنة، فإن قامت فخُذْهم للبينة، وإن لم تقم فادعهم إلى الإقرار، فإن أقروا فخذهم بإقرارهم، فإن لم يقروا فادعهم لحلف اليمين، فإن حلفوا فأطلق سراحهم، وايم الله، لأن يلقوا الله بخيانتهم أهون من أن ألقى الله بدمائهم.

 

قاعدة فقهية :


فإذا شخص أتيح له أن يكون ضابطاً في الأمن الجنائي، هذا عمل مشروع وجيد، وجاءه مُتَّهم، ما الذي يفعله؟ بعض مَن يعمل في هذا السلك يعذبه إلى أن يعترف، فإذا كان بريئاً لا يعترف، لم يعترف ولكنه أذاقه ألوان العذاب, من أجل أن ترتاح، استخدم أسلوباً ذكياً علمياً متعباً في التحقيق، وتحفظ له كرامته، وتحفظ له كبرياءه، وتحفظ له إنسانيَّته، ولا تسلك أقصر الطرق فتعذبه, لأنك ستحاسب لأنه بريء, فعلى الإنسان قبل أن يفعل شيئاً:

الإنسان بُنْيان الله وملعونٌ من هدم بنيان الله.

فمن بطش اليد المحرم أن تضرب مَن لا يحل ضربه, والأصل -كما تعلمون-: الإنسان بريء ما لم تثبت إدانته.

من بطش اليد المحرم: اللعب بالنرد:

من لعب النرد فكأنما غمس يده في لحم خنزير ودمه.

لعب النرد محرمٌ قطعاً، وكل شيءٍ على شاكلة النرد يُحْمَل على النرد، كالبرسيس، أليس هناك حظ في الوَدَع؟ فاللعب المبني على حظ محرم, وأكثر العلماء حرَّم الشطرنج.

كتابة قصة باليد، قصة إباحية، كتابة كلام باطل، كتابة اتِّهام كاذب، كتابة معروض فيه افتراء على إنسان، كله باليد. 

و: - مَن أعان ظالماً سَلَّطَهُ الله عليه - و: - مَن أعان ظالماً ولو بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوباً على جبينه آيسٌ من رحمة الله - كتابة كلام زور، يقول لك: في مئة ألف دعوى كيدية ليس لها أصل, لكن المؤمن منضبط، هذه اليد لا تكتُب إلا الحق، ولا تفعل إلا الحق، ولا تعتدي على مخلوق.

حدثني أخ, فقال لي: عندي أرض ثمنها مليونان, موظف بسيط جاء للتحديد والتحرير، فطلب مبلغاً من المال رشوة, فرفض صاحب الأرض، فسجلها الموظف أملاك عامة، حرم منها، وهي مال أولاده، حرم أولاده منها.

أحياناً دعوى فيها افتراء، تقرير كاذب، قد يسبب متاعب لا حصر لها، هذه اليد التي تكتُب الباطل، أو تكتب الافتراء، أو تكتب الكذب، هذه اليد سوف تُلقى في النار.

والقذف: قذف محصنةٍ يهدم عمل مئة سنة.

والتشبيب بالنساء، الشعر الغَزَلي، في شعراء دواوينهم كلها غزل بالمرأة وببعض أعضائها, هذا إن قرأت شعره تُثار كل الشهوات مِن شعره، فاليد التي كتبت هذا الشعر لتثير الشهوة عند الشباب، وقد تنتهي هذه الشهوة إلى معصية كبيرة، في صحيفة مَن كتب هذا الشعر، وكتابة ما فيه مَضَرَّةٌ للمسلمين في دينهم أو دنياهم، أو كتابة الباطل:

﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) ﴾

[ سورة البقرة ]

هذه اليد: قد يكتب بها تقرير باطل، قد يكتب بها كلام فيه ضلال، أليس هناك كُتُب باسم قراءة معاصرة؟ كل السلوك الإباحي في هذا العصر غطي بالقرآن الكريم زوراً وافتراءً؟!!. 

إنسان يعمل مفتياً، كتب فتوى وهو لا يعلم، فهو آثم عند الله، أو كتب فتوى بخلاف ما يعلم، فهذا أشد إثماً، تفتي بخلاف ما تعلم إرضاءً لزيد أو عُبيد.

فتوى بمصر من عالم، في اليوم التالي وضع ثلاثة وثمانون مليار جنيه في البنوك، لأنه أباح التعامل مع البنك بفتوى كتبها بيده ووقع عليها، هذا كله بعمل اليد، إلا أن يكون مجتهداً مخطئاً فله أجر.

إذاً: 

تحدثنا عن البطش الواجب، وعن البطش المحرَّم، عن عمل اليد الواجب، وعن عمل اليد المحرَّم, وأما المكروه كالعبث واللعب الذي ليس بحرام، وكتابة ما لا فائدة منه .

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) ﴾

[ سورة المؤمنون ]

عندنا بطشٌ واجب، وبطشٌ حرام، وبطشٌ مكــروه، وبطشٌ مستحب، كتابة كل ما فيه منفعةٌ في الدين.

كأن تلخِّص كتاباً في القواعد أو تؤلفه، القواعد تنفع الدين .

تعلموا العربية فإنها من الدين كما قال سيدنا عمر.

أو فيه مصلحة لمسلم، أو إحسانٌ إلى مسلمين.

(( عن أبو ذر الغفاري رضي الله عنه : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ماذا ينجي العبد من النار ؟ قال :  الإيمان بالله  . قال :  قلت :  يا نبي الله إن مع الإيمان عملا ً ، قال :  ترضخ مما رزقك الله أو يرضخ مما رزقه الله  . قال :  قلت :  يا نبي الله أرأيت إن كان فقيراً لا يجد ما يرضخ ؟ قال :   يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر  . قال :  قلت :  يا رسول الله أرأيت إن كان عيياً لا يستطيع أن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ؟ قال صلى الله عليه وسلم :   فليصنع لأخرق  قال :  قلت يا رسول الله أرأيت إن كان أخرق لا يحسن أن يصنع ؟ قال صلى الله عليه وسلم :   يعين مغلوباً  ، قال :  قلت :  يا رسول الله أرأيت إن كان ضعيفاً لا يستطيع أن يعين مغلوباً ؟ قال صلى الله عليه وسلم :   ما تريد أن تدع لصاحبك من خير ؟ قال :  فليمسك أذاه عن الناس  قال :  قلت :  يا نبي الله أرأيت إن فعل هذا ليدخل الجنة ؟ قال :   ما من مؤمن يصنع خصلة من هذه الخصال إلا أخذت بيده حتى يدخل الجنة ))

[ أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده ]

أن تعين صانعاً، أن تصنع لأخرقٍ، أن تُفْرِغ دلوك في دلو المستسقي، أن تحمل إنساناً على دابَّته، أو أن تمسكها له حتى يصعد عليها.

فأحياناً إنسان في الطريق، يحمل أشياء ثمينة ووقعت على الأرض، والطريق فيه ازدحام، فالمؤمن عنده مروءة يعينه على جمع هذه البضاعة المبعثرة، هذا من عمل اليد الذي يرضي الله عز وجل.

لمس الركن باليد، هذا من البطش المستحب.

المباح ما لا مضرة فيه ولا ثواب.

واجب، محرم، مكروه، مستحب، مباح، خمسة أحكام هذا فعل اليد.


  فما هو فعل الرِجْل؟:


قال: أما الرِجْل، أول عبادة لهذه الرجل: أن تنتقل بها إلى المسجد.

إنسان جاء مشياً، فهذه عبادة الرِجْلِ أن تنقلك إلى طاعة، إلى الجُمَعِ والجماعات في أصح الأقوال، وهناك بضعةٌ وعشرون دليلاً على أن عبادة الرِجْلِ الأولى: أن تنقلك إلى الجُمَع والجماعات, إلى مجلس علم، والمشي حول البيت طائفاً، والمشي بين الصفا والمروة ساعياً، والمشي إلى حكم الله وحكم رسوله إذا دُعِيَ إليه، دعيت إلى شيء شرعي، يجب أن تذهب إليه.

ورد في الأحاديث: من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم .

قد تدعى إلى حفل فخم جداً، هذا من الدنيا، تلبية هذه الدعوة من الدنيا، ولكن إذا دعيت إلى عقد متواضعٍ في أطراف المدينة، ولا بد من تحمُّل مشاق الوصول إلى هناك، ولا بد من تضييع وقتٍ كثير، تلبية دعوة الفقراء من الآخرة, والمشي إلى صلة الرحم، والمشي إلى بر الوالدين، وإلى مجالس العِلم، وإلى الحج إذا قَرُبَت المسافة، هذه الرِجْل ينبغي أن تنقلك إلى طاعة، أما إذا سار بها إلى ملهى، أو إلى معصية، أو إلى فجور والعياذ بالله! استخدم هذه النعمة في معصية الله عز وجل.

 

أما المشي الحرام :


قال: المشي إلى معصية الله، وهو من رِجْل الشيطان، قال تعالى:

﴿ وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً (64) ﴾

[ سورة الإسراء ]

قال مقاتل: استعن عليهم برُكْبان جندك ومُشاتهم، فكل راكبٍ وماشٍ في معصية الله فهو من جُند إبليس.

يمشي إلى المسبح، مسبح مختلط، مكشوفةٌ العَوْرات، هذا مشي إبليس، مشى إلى معصيةٍ هو من رِجْل الشيطان، فكل راكبٍ وماشٍ في معصية الله فهو من جُنْد إبليس.

 

المشي الواجب :


الركوب إلى الغزو والجهاد والحج الواجب. سياحة أمتي الجهاد. و: مَن مات ولم يحدِّث نفسه بالجهاد, فقد مات على ثُلْمةٍ من النفاق . الحد الأدنى الجهاد الدعوي، أخ لم يحضر، فذهبت إلى بيته تتفقده، تراه قد انتعش، وجد نفسه له قيمة، فلما غاب عن الدرس، له أخ زاره وتفقَّد أحواله، فأنت حينما تتحرَّك لتَشُد إنساناً إلى مسجد, أو إلى دعوة, أو إلى الحق، فهذا عمل دَعَوِي.

فحرام المشي: الركوب إلى معصية.

والمكروه: الركوب للهو واللعب، وكل ما تركه خيرٌ من فعله.

ومباحه: الركوب إلى شيءٍ ليس فيه وزرٌ ولا عليه أجر، هذا المباح.

 

الخاتمة :


لا زلت أؤكد لكم: أن العبادة علة وجودنا على وجه الأرض، وأن العبادة تشمل كل الأوقات، وكل الأماكن، وكل الأعضاء، فإذا وفِّقْنا إلى أن نعبد الله كما أراد، فنحن قد حققنا الهدف من وجودنا، والله سبحانه وتعالى أسأل أن يُلْهِمنا رشدنا.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور