- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد :
أيها الإخوة المؤمنون؛ اخترت لكم اليوم من كتاب رياض الصالحين, الباب التاسع والستين، باب استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان، أو الخوف من فتنة في الدين, ووقوع في حرام وشبهات ونحوه، هذا عنوان الباب.
قبل أن نمضي في الحديث, عن آيات هذا الباب, وعن أحاديثه، هناك تقديم لا بد منه:
الإنسان اجتماعي في طبعه، له نشاط اجتماعي، أحياناً يميل إلى أن يلتقي بالناس، وأحياناً يميل إلى أن يبتعد عنهم، يا ترى أيهما أفضل أن تكون مع الناس، أو أن تبتعد عنهم؟.
الشرع الإسلامي رسم منهج دقيق في كلتا الحالتين:
فالبارحة في درس أصول الفقه ضربت مثلا: الشهوات التي أودعها الله في الإنسان قوى دافعة، هذه الشهوات مندفعة إلى تحقيق ذاتها، ولكن ما الذي يقف في طريقها؟ ما الذي يلجمها؟ ما الذي يضبطها؟ ما الذي ينظمها؟ أن تكون هناك قوة في مستواها، ضربت على هذا مثلاً:
ائتِ بميزان, وضـع في إحــدى كفتيه خمسة كيلو، يا ترى أنت إذا حضرت خطبةً لخطيبٍ من خطباء دمشق، وتأثرت من هذه الخطبة، إن الذي يوزن من هذه الخطبة بضع غرامات وضعت بالكفة الثانية، هل تكفي هذه الغرامات لترجيح الكفة؟ لا تكفي، فلا بد من أن يبلغ إيمانك حجماً أو وزناً, يكافئ الشهوات التي أودعها الله فيك.
الإنسان حينما يعصي الله عز وجل, أو حينما يقصر، معنى ذلك: أن هذا الشيء الذي أقبل عليه أغلى عليه من الله عز وجل.
إذاً: حجم إيمانه أو وزن إيمانه, أقل من هذه الشهوة التي انطلق إلى إروائها، فالحقيقة العلم، ومـع أن العـلم له قيمة لا حدود لها، لكن العلم ليس مقصوداً لذاته، العلم مقصود لغيره.
فالله عز وجل ماذا قال؟ لم يقل: قد أفلح من تعلم, قال:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)﴾
لا بد من أن تزكي نفسك، قال :
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)﴾
إذاً: الإيمان قد يبدأ بإعلان الشهادة، قد يبدأ مثلاً بسماع خطبة، بسماع درس، ولكن حجم الإيمان يبقى أقل من المطلوب, ما دام هناك مخالفات، ما دام هناك تقصير، ما دام هناك تجاوزات، ما دام هناك تساهلات، ما دام هناك شعور أن الله عز وجل, لن يحاسبنا على عملنا ونحن في ريعان الشباب، ما دام هناك تجاوز، تقصير، مخالفة، معصية.
إذاً: حجمك إيمانك غير كاف.
لذلك أيها الأخ الكريم؛ التفت إلى تقوية إيمانك، هذا الإيمان لا ينجي، ولا يكفي، لا يكفي الإيمان إلا إذا استطاع, أن يلجم كل الشهوات، ويجعل الإنسان مستقيماً على أمر الله، الله عز وجل أعطانا شهوات، ولكن نظَّمها:
فهذه الشهوات التي أودعها الله فينا, لا يمكن أن تلبَّى إلا في قناةٍ نظيفة, رسمها الله عز وجل.
الآن: حتى الإنسان لا يظن أن التدين حضور مجلس علم، التدين أداء الصلوات الخمس، التدين صيام رمضان، التدين أداء الزكاة، التدين حج البيت، لئلا يظن أن الدين بهذا المستوى، وأنك إذا فعلت هذه الأشياء, قضي الأمر, وانتهى كل شيء.
هذه العبادات على عظم شأنها, إن لم تسبقها استقامة تامة, فلا شأن لها عند الله عز وجل، تماماً العبادات، تماماً كثلاث ساعات الامتحان، هذه الساعات الثلاث, يقابلها دراسة عام بأكمله؛ دراسة، ومذاكرة، وتلخيصًا، وتسميعًا، ومتابعة، وبحثًا، وتقصِّيًا، فإذا بذلت الجهد الكافي في أثناء العام الدراسي، ودخلت إلى قاعة الامتحان، كل التعب الذي بذلته في العام تجده في هذه الساعات الثلاث.
إذاً: هذا الدرس له هدف إن شاء الله, أتمنى على الله عز وجل أن يمكنني من تحقيقه في هذا الدرس.
يجب أن تضع يدك على جوهر الدين.
جوهر الدين: أن أشعر بشعور إسلامي، فلان الملاكم المسلم غلب خصمه غير المسلم، فأشعر بالفرح؟ لا والله, لا يكفي هذا، أو أن المناظر الفلاني في مناظرة عامة, حج خصمه, وجعله في الوحل؟ هذا شعور إسلامي بالطبع، أنت ترتاح لهذا الشعور، ويا ترى الإسلام أن أقرأ مقالات إسلامية؟ الإسلام أن أنتمي إلى جماعة إسلامية؟ الإسلام أن أحضر مجالس علم فقط؟.
الإسلام أخطر من ذلك، وأعظم من ذلك، بكل المعلومات جملة وتفصيلاً، كل الحقائق، كل ما تسمعه, إن لم يترجم إلى حياة تعيشها, إلى مشاعر تحسُّها، إلى إقبال على الله عز وجل ، فهذه المعلومات لا تقدم ولا تؤخر.
مثلاً: الشمس ساطعة، إذا قلت: أنا مؤمن بأن الشمس ساطعة, ماذا فعلت؟ إن آمنت أو لم تؤمن فهي ساطعة، إن قلت: هي ليست ساطعة، فهي ساطعة، وإن قلت: هي ساطعة فهي ساطعة، إذا قلت: إن الشمس ساطعة, ماذا قدمت؟ ماذا فعلت؟.
أؤكد لك أنك لم تفعل شيئاً، ما لم تتحرك نحو أشعة الشمس, كي تستفيد منها، دققوا في قوله تعالى:
﴿
تماماً كما لو أن سبعة أشخاص على وشك الموت عطشاً، وأحدهم عرف النبع، وبقي في مكانه، وكلهم ماتوا عطشاً، هذا الذي عرف النبع، وبقي في مكانه، ومات كإخوانه عطشاً, ماذا استفاد من معرفة النبع؟.
إذاً أقول لكم:
جوهر الدين التحرك نحو الله عز وجل، البحث عن أمره، تطبيق أمره، أن يكون بيتك مسلماً، أن يكون عملك وفق شريعة الإسلام، أن يكون هواك تبعاً لما جاء به نبي الإسلام، أن تكون عواطفك ألا تتخذ إلهك هواك، أن تتخذ الله عز وجل إلهاً واحداً، وحتى الإنسان لا يقل: أنا صار لي سنوات طويلة المسجد ولم أستفد، لكي لا تكون نكسة مؤلمة جداً، والنكسات صعبة جداً، والإنسان أحياناً الله عز وجل يضعه في امتحانات صعبة، يضعه في ضغوط، أو في إغراءات، إما أن يضغط عليك، وإما أن يغريك، حقيقة إيمانك، تظهر على حقيقتها في الضغط, أو في الإغراء، فبهما إذا ترك الله عز وجل, فكل هذا الذي حصَّله, لم يستفد منه شيئاً، فلذلك افتح القرآن الكريم، قال الله:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)﴾
إذاً: تزكية النفس هدف كبير، النفس المنقطعة عن الله عز وجل نفسٌ متكبرة, نفسٌ تحب ذاتها، نفسٌ تحب أن تقضي شهوتها بشكل أو بآخر، فسماع الحق مرحلة لا بد منها, لتمثل الحق.
إذاً: الذي أتمناه على الله عز وجل, أن يكون واضحاً في ذهن كل منا، أن نعرف جوهر الدين، أو أن نمسك أيدينا, وأن نضعها على جوهر الدين.
وكنت أقول دائماً: هذا الأعرابي البدوي، حينما رآه عمر, ومعه شياه، وقال له:
يا هذا, بعني هذه الشاة, وخذ ثمنها.
قال: ليست لي.
والقصة معروفة.
فقال له في النهاية: خذ ثمنها.
قال: والله إنني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني, فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟.
الذي أتمناه على كل منا: أن نضع أيدينا على جوهر الدين:
جوهر الدين تطبيقه.
جوهر الدين الإقبال على الله عز وجل.
جوهر الدين أن يكون قلبك مملوءاً بمحبة الله.
هذا جوهر الدين، فكل شيء تتعلمه إن لم يؤد بك إلى هذا، إلى التطبيق، إلى أن تكون مسلماً حقيقياً؛ مسلما في بيتك، ومسلماً في عملك، ومسلماً في مسجدك، ومسلماً في الطريق، ومسلماً في المحاككة في الدرهم والدينار، ومسلماً في السفر، ومسلماً مع جيرانك، إن لم تكن كذلك، فالعلم الذي تتعلَّمه لا قيمة له إطلاقاً، بل هو وبالٌ على صاحبه، بل هو حجةٌ عليه.
وقد قيل:
(( العِلْمُ عِلْمَانِ: مَطْبُوعٌ وَمَسْمُوعٌ، وَلاَ يَنْفَعُ الْمَسْمُوعُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الْمَطْبُوعُ ))
إذا لم تنتقل هذه الحقائق إلى قلبك، وتترجم سلوكاً في حياتك، لم تستفد منها شيئا.
إذاً: نحن الآن أمام موضوع جوهر الدين، جوهر الدين أن تفر إلى الله عز وجل، لقول الله عز وجل:
﴿
فروا إليه، والفرار من شيء، تفر أنت من وحش كاسر، تفر من عدو قاس، تفر من أفعى رقطاء، تفر من سُمٍّ ناقع، تفر من وحش، ففروا إلى الله، إذاً: الأشياء التي ينبغي أن تفر منها مهلكة، والذي تتوجه إليه, عنده الأمن والطمأنينة، عنده السعادة.
لذلك: مواطن الفتن، أماكن الشبهات، أماكن المعاصي، أماكن العصاة، هذه كلها أماكن يجب أن تفر منها.
إذاً: أنت بحاجة إلى عزلة، عزلة عن أهل الفساد، فسهرة لا ترضي الله, يجب أن تبتعد عنها، لأن لها كلاليب، لقاء لا يرضي الله، نزهةٌ لا ترضي الله، اجتماعٌ لا يرضي الله، تجارةٌ لا ترضي الله، صفقةٌ كبيرة فيها شبهة كبيرة, لا ترضي الله, قال تعالى:
إذاً: أنت بحاجة إلى العزلة عن أهل الباطل، عن أهل الفجور، عن أهل السوء، فإذا كنت اجتماعياً، مرناً جداً، حيياً، لا تقل: لا إطلاقاً، هذه المرونة الاجتماعية, وهذه اللباقة مهلكة، دعاك أصدقاؤك لا يرضي الله، استحييت أن تقول لهم: لا.
وَالنَّفْسُ كَالطِّفْلِ انْ تهْمِلْهُ شَب عَلَى حب الرضَاعِ وَانْ تفْطِمْهُ يَنْفَطِمِ
فَلا ترمْ بالْمَعَاصِيْ كَسْر شَهْوَتهَا انَّ الطَّعَامَ يُقَوِّيْ شَهْوَةَ النَّهِمِ
إذاً: أنت بحاجة إلى عزلة.
كيف نوفق بين هاتين الآيتين؟.
أيها الإخوة؛ يقول الله تعالى:
بعض الصالحين له قول شهير، وأظنه قول ابن عطاء الله السكندري:
أحياناً تجلس مع إنسان, تشعر أنك من الله قريب، هكذا قال عليه الصلاة والسلام:
(( ألَا أُنبِّئُكم بِخيارِكم؟ قالوا بَلى، يا رسولَ اللهِ قال خِيارُكم الَّذين إذا رُؤُوا ذُكِر اللهُ عزَّ وجلَّ ))
إذاً: أنت الآن بعد أن صلَّيت، وصمت، وحججت، وزكيت، في العلاقات الاجتماعية، في الاتصالات، في الزيارات، في السهرات، في اللقاءات، في النزهات، في الرحلات، في الاجتماعات، في المشاركات، هذا التعامل اليومي, يجب أن يضبط بهاتين الآيتين:
إذاً: يجب أن تترك أهل الكفر، وأن تلزم أهل الإيمان، يجب أن تترك أهل الباطل، وأن تلزم أهل الحق، يجب أن تبتعد عن كل مكان فيه معصية لله، وأن تقترب إلى كل مكان فيه رضاء لله عز وجل، هذا أحد أنواع التوفيق بين:
الأحاديث التي تتعلق باستحباب العزلة والخوف من الفتنة والوقوع في الشبهات:
الحديث الأول:
(( قَالَ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه فِي إِبِلِهِ, فَجَاءَهُ ابْنُهُ عُمَرُ، فَلَمَّا رَآهُ سَعْدٌ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الرَّاكِبِ، فَنَزَلَ فَقَالَ لَهُ: أَنَزَلْتَ فِي إِبِلِكَ وَغَنَمِكَ، وَتَرَكْتَ النَّاسَ يَتَنَازَعُونَ الْمُلْكَ بَيْنَهُمْ؟ فَضَرَبَ سَعْدٌ فِي صَدْرِهِ, فَقَالَ: اسْكُتْ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ التَّقِيَّ الْغَنِيَّ الْخَفِيَّ ))
أما:
﴿
﴿ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا
﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ
إن الله يحب الصادقين, قال تعالى:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
وإذا كنت تفرق وتخاف أشد الخوف, من أن تكون لست محبوباً، من ألا تكون محبوباً، فتتبع الله قوله تعالى:
﴿ وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ
﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا
﴿ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ
وهكذا، وإذا أردت أن تتبع ما في السنة النبوية المطهرة من توجيهات، أو من توضيحاتٍ, لمن يحب الله, ولمن لا يحب.
فهذا حديث يحقق لك المراد:
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾
﴿
دافع الطعام والشراب دافع، دافع الجنس دافع، الأول لحفظ الفرد، والثاني لحفظ النوع ، والثالث لحفظ الذِكر، لكن الطعام والشراب, له قناة نظيفة مسموح بها, أن تكون مالاً حلالاً، وهذا شيء جيد، والعلاقة بالمرأة لها قناةٌ نظيفة هي الزواج، وكيف يحقق الإنسان ذاته؟ وكيف يؤكد أهميته؟ وكيف يلبي هذا الدافع القوي؟ عن طريق العمل الصالح, لا عن طريق العمل السيء، فأنت إذا عرفت الله عز وجل، واستقمت على أمره، رفع الله لك ذكرك، هو يرفع لك ذكرك، هذا على الله، لا ينبغي أن يكون هذا مقصوداً من قبلك, لكنه يأتي, وأنت لا تدري، والدليل قول الله عز وجل:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)﴾
وكلكم يعلم أن كل آية من كتاب الله عز وجل موجهة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهي موجهة إلى كل مؤمن, ولكن على قدر إيمانه، وعلى قدر استقامته، وعلى قدر إخلاصه، وعلى قدر التزامه.
إذاً: أنت كمؤمن, الله سبحانه وتعالى سيشرح صدرك، وسيضع عنك وزرك، وسيرفع لك ذكرك، هذا الميل الثالث الذي الناس الآن متهافتون عليه بشكل جنوني، هذا الميل الثالث يتحقق في الإيمان, قال تعالى:
﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) ﴾
نصرًا عزيزًا غير مشروط، أحياناً تنتصر مع مليون شرط، تقدِّم مئة تنازل, مقابل هذا النصر، أما ربنا عز وجل فيقول:
(( اتَّقِ المحارِمَ تَكُنْ أَعبد الناسِ ))
سألني أخ قال لي: لمجرد أن تتقي المحارم, تكون أعبد الناس، هكذا؟ قلت: لعل النبي عليه الصلاة والسلام أراد أنك إذا اتقيت المحارم, يصبح الطريق سالكًا إلى الله، الآن يمكن أن تكون أعبد الناس إذا اتقيت المحارم، أنه لم يعد هناك عقبات، ما دام هناك محارم، ومخالفات، ومعاصٍ، فهناك عقبات، إذا اتقيت المحارم, صار الطريق سالكاً, لتكون أعبد الناس، أما لئلا يتوهَّم متوهم، بمجرد أن تترك الحرام، وأن تغض بصرك, أصبحت في قمة العُبَّاد، لا, ليس كذلك، ولكنك إذا اتقيت المحارم, صار الطريق سالكاً, لأن تكون أعبد الناس.
هذا الحديث الشريف رواه الإمام مسلم، فحينما أقول: مسلم, أي الحديث صحيح، وحينما أقول: رياض الصالحين، هذا كتاب في أحاديث صحيحة قطعاً وحصراً، فإذا أردت أن تبقى في الصحاح، وألا تدخل في متاهات الضعاف والموضوعات، وأن تجنب لسانك الكذب على رسول الله، فاتبع الصحيح، وإياك والكذب على رسول الله.
(( فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا, فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ))
متعمداً، أنا لست متعمدًا، لكن سمعت حديث أرويه، في حديث آخر:
(( عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ, يُرَى أَنَّهُ كَذِبٌ, فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبِينَ ))
إذاً: ولو لم تعلم أنه موضوع أو ضعيف, فأنت مؤاخذٌ، إذاً: يجب أن تتحقق، ولكي لا نكلفك بأعباء كثيرة جداً, رياض الصالحين أحاديثه كله صحيحة، لذلك آثرنا أن يكون هذا الكتاب, كتاب التدريس في مادة الحديث.
الحديث الثاني:
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ, أَنَّ رَجُلًا, أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ: أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: رَجُلٌ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ, قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ امْرُؤٌ فِي شِعْبٍ مِنْ الشِّعَابِ, يَعْبُدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ, وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ))
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88)﴾
المال قيمته، وأنت في الدنيا، وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر, وتأمل الغنى، أما إذا حضر الموت وقلت: أعطوا فلانًا كذا، وفلان كذا، فالمال أصلح, ليس له عندك قيمة، لا شأن لك به.
لذلك:
قدم مالك أمامك ليسرك اللحاق به، أما أن تكون تحت رحمة ناظر الوصية, وما أكثر الوصايا التي لم تنفَّذ، لا تكن تحت رحمة أحد، مالك الذي بين يديك ادفعه, وأنت صحيح شحيح، هذا معنى:
(( فعَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ, فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى:
إذاً: النبي الكريم يقول:
فإذا كان لك صديق سيء فابتعد عنه، أما في علاقة عمل فلا مانع، ولا تحاسب عليها، أما أن تكون بينكما علاقة حميمة، لقاء في السهرة, فهذا لا يجوز
الحديث الثالث:
لا زلنا في الاعتزال، استحباب العزلة عند فساد الزمان، ولكن العزلة عن أهل الحق ليست محمودة.
عن سعيد بن عامر عن صالح بن رستم عن الأحنف بن قيس، قال: جلست إلى أبي ذر وهو يسبح، فأقبل علي، فقال: الجليس الصالح خير من الوحدة، أليس كذلك؟ قلت: بلى، قال: والوحدة خير من جليس السوء، أليس كذلك؟ قلت: بلى.
أخرجه ابن ابي الدنيا في العزلة والانفراد والبيهقي في شعب الإيمان
لقول النبي عليه السلام:
هذا من أخطار اختلاط الناس البعيدين، ولكن من ميزات لزوم المؤمنين: أن تكون مع المؤمنين، أنك تعيش أحوالهم، تعيش ثقتهم بالله عز وجل، تعيش طمأنينتهم، تعيش توحيدهم، لذلك الله عز وجل ماذا قال؟ قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
جالسوهم، يعني أن تحضر مجلس علم، فهو تطبيق لقول الله عز وجل، أنت مع الصادقين, قال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28)﴾
حديث آخر في استحباب العزلة عند فساد الناس والزمان، في مطلع خطبة سابقة, أذكر عن الزكاة، بدأتها بما يلي, قلت:
يا رب قد عم الفساد فنجِّنا، يا رب قد عجز الطبيب فداونا، يا رب قلت حيلتنا فتولنا، ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تعاملنا بما فعل ويفعل السفهاء منا، توفنا غير فاتنين ولا مفتونين.
أحياناً يحتاج الإنسان إلى بعد، الطرقات كلها نساء كاسيات عاريات، فأنت اختر طريق فرعي، اختر طريق فارغ من هؤلاء النساء الكاسيات العاريات، هذا من باب الابتعاد عن مواطن الفتن .
الحديث الرابع:
يقول عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الإمام البخاري:
(( عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ الْمُسْلِمِ, غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ, وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ, يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنْ الْفِتَنِ ))
حيثما أمكنك أن تكسب مال حلالاً فافعل، وحيثما أمكنك أن تبتعد عن مال حرام، أو عن مال فيه شبهة فابتعد، وإلا تفتن، والفتنة أشد من القتل.
الآية الكريمة دقيقة جداً, سنصور الآن: إنسانًا شابًّا في ريعان الشباب، مات في حادث سيارة، أو مات قبل التكليف، وقبل التكليف يدخل الجنة، أما إذا كبر هذا الشاب، وتاقت نفسه للدنيا، وأخذ من حرامها وحلالها، وانغمس في شهواتها وملذاتها، وابتعد عن الله عز وجل، وبقي صحيح الجسم معافى, حتى بلغ أشده, واستوى، وحتى بلغ عمره المديد، ومات، هذا الذي قتل، وذاك الذي قتل، أيهما أنجى له؟ الذي قتل، ربنا عز وجل قال:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108)﴾
البطولة أن تعد لهذا اليوم:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
إذًا:
العبر من هذه الأحاديث:
أيها الإخوة؛ هناك غنى مطغٍ، في غنى مبني على معصية، مبني على كسب حرام، مبني على بضاعة محرمة، مبني على تعامل محرم، مبني على احتكار، مبني على إرهاق الناس، مبني على الكذب، عندما قال النبي الكريم:
(( إنَّ أطيَبَ الكَسبِ كَسبُ التُّجّارِ ))
وصفهم سبع صفات دقيقة جداً
(( قال: الذينَ إذا حَدَّثُوا لم يَكذِبُوا ))
فإذا كان تجارة أساسها الكذب، فصار المال فيه شبهة
(( وإذا ائتُمِنُوا لم يَخُونُوا ، وإذا وَعَدُوا لم يُخلِفُوا ، وإذا اشتَرَوا لم يَذُمُّوا ، وإذا باعُوا لم يُطرُوا، وإذا كانَ علَيهِم لم يَمطُلُوا ، وإذا كانَ لَهُم لَم يُعَسِرُوا ))
هكذا، هذا التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين يوم القيامة، هذا التاجر الصدوق داعي إلى الله عز وجل من خلال أفعاله، إذاً: ابحث عن المال الحلال.
(( عن أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : ... ثم ذكرَ الرجلَ يُطيل السَّفر، أشعثَ أغْبَرَ، يمدّ يديه إلى السماء : يا ربِّ يارب ومطْعمه حرام، ومشْرَبُهُ حرام، وملبَسَهُ حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجَاب لذلك؟! ))
(( وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا رَعَى الْغَنَمَ, فَقَالَ أَصْحَابُهُ: وَأَنْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ, كُنْتُ أَرْعَاهَا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكَّةَ ))
رعى الـغنم ثم رعى الأمـم، النبي رعى الغنم أولاً، وفي أثناء الرعي, تفكر في خلق السموات والأرض، هذا التأمُّل في الكون.
الإنسان أحياناً كما قلت لكم دائماً: تستهلكه الحياة، ولا سيما في هذا العصر، مشاغل كثيرة، أعمال، لقاءات، حل مشكلات، تصليح آلات، دائماً مشغول، مستهلك، يأتي الموت فجأة من دون استعداد.
فالإنسان يحتاج إلى ساعات تأمل، التأمل الذي سمح به, إذا تأمل مجزَّأ، وليس انقطاعًا عن الناس كلياً، لا، فباليوم ساعة، نصف ساعة، ربع ساعة، عشر دقائق، جلست لوحدك فكر، أين كنت؟ أين المصير؟ ماذا حققت؟ ماذا اكتسبت؟ ماذا خسرت؟ ماذا فاتني؟ أين مكاني الصحيح؟ مقبول عند الله، غير مقبول؟ لي عمل صحيح؟ في مخالفة في كسب مال حرام؟ تأمل، ولا تكن مستهلكًا، تدور من دون أن تدري، هكذا؛ كالناقة عقلها أهلها, لا تدري لا لم عقلت, ولا لم أطلقت؟
(( فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ -قَالَ مُحَمَّدٌ: وَأَكْثَرُ ظَنِّي الْعَصْرَ- رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ, ثُمَّ قَامَ إِلَى خَشَبَةٍ, فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ, فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا, وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ, وَخَرَجَ سَرَعَانُ النَّاسِ, فَقَالُوا: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ؟ وَرَجُلٌ يَدْعُوهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُو الْيَدَيْنِ, فَقَالَ: أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ؟ فَقَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ, قَالَ: بَلَى, قَدْ نَسِيتَ, فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ, ثُمَّ سَلَّمَ, ثُمَّ كَبَّرَ, فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ, ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ, فَكَبَّرَ, ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ, فَكَبَّرَ, فَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ, ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ))
لو لم أنس في حياتي كلها، وأنتم تنسون في الصلاة، تفعلون ماذا؟ لا تعرفون، فالله عز وجل أنساني كي أسن لكم سجود السهو، ربنا عز وجل قال:
﴿
تنويه:
بقي علينا في فصل آخر إن شاء الله تعالى, أن نعود إلى فضل الاختلاط بالناس، اليوم تحدثنا عن فضل العزلة عند فساد الزمان، وعند شيوع الفتن، وعند يقظة الشهوات، ولكن في باب آخر، وهو الباب السبعون, أقرأ لكم عنوانه:
فضل الاختلاط بالناس، وحضور جُمَعِهم، وجماعتهم، ومشاهد الخير، ومجالس الذكر معهم، وعيادة مريضهم، وحضور جنائزهم، ومواساة محتاجهم، وإرشاد جاهلهم، وغير ذلك من مصالحهم، لمن قدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقمع نفسه عن الإيذاء, وصبر على الأذى.
هذا باب آخر, فيه فضل أن تكون مع الناس, ولكن بالوجه الإيجابي, لا بالوجه السلبي.
تتمة قصة الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان.
والآن إلى متابعة قصة الصحابي الجليل, التي بدأناها بالدرس الماضي، وهو سيدنا حذيفة بن اليمان.
من أقوال هذا الصحابي الجليل قال:
هذا الكلام دقيق وواضح، الكافر ميت، أموات غير أحياء, قال تعالى:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ
والمؤمن حي, قال تعالى:
﴿
كنتم موتى فأحياكم، فقال:
إن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم, فدعا الناس من الضلالة إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان، فاستجاب له من استجاب، فحيَّا بالحق من كان ميتاً، ومات بالباطل من كان حياً.
أحياناً تقعد مع إنسان, فلا يوجد نبض عنده إطلاقاً، على الطاولة، وهو تارك للصلاة، عينه على النساء، طموحه إلى شهوة مهما كان الثمن، هذا ميت، وأبغض العصاة، كما قيل، وبغضي للشيخ العاصي أشد.
ملك عضوض، أي يعض الناس.
فمن الناس من ينكر بقلبه, ويده, ولسانه، أولئك استجابوا للحق، ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه كافاً يده، فهذا ترك شعبةً من الحق، ومنهم من ينكر بقلبه كافاً يده ولسانه.
-ساكت-
هذا ترك شعبتين من الحق، ومنهم من لا ينكر بقلبه, ولا بيده, ولا بلسانه, فذلك ميت الأحياء.
أي أنك إذا عشت بعصر الفساد، والفساد أعجبك، ومرتاح بالفساد.
أحياناً ينتقل إنسان إلى بلد أجنبي، يقول لك: يا أخي الحياة غير، ألم تر الفساد؟ ألم تر الزنا في الطرقات؟ ألم تر انتشار مرض الإيدز؟ ألم تر زنا المحارم؟ ألم تسمع عنه؟ كيف انسجمت؟ يقول لك: بلد راق، الإنسان محترم هناك، صحيح محترم، ولكن هناك باب من جهنم ، فالإنسان عندما يستمرئ الفساد، ويعيش معه، ويرتاح له تماماً، فهذه مشكلة، مشكلة كبيرة، معنى ذلك: أنه ليس عنده الحساسية الراقية.
أحياناً يتمنى الإنسان بلدًا فيه مسجد, يصلي فيه، يسمع الأذان، يحضر مجلس علم، يأنس بمؤمنين طيبين، يتحمل متاعب لا حصر لها.
واحد يسأل سؤالا، وكنت أقوله دائماً: أن يا رب هذه مكة المكرمة بلدك الحرام، بلد طيب، أنت اخترتها لتكون مَحجًّا للناس، فلماذا هذا الحر الشديد؟ وهذه الجبال السوداء؟ ولا نبات؟ ولا نبع ماء؟ ولا مطر؟ ولا بحيرات؟ ولا أنهار؟ ولا غوطة؟ لأن الله لا يريد سياحًا، بل يريد حجّاجًا، فالحاج يأتي، ويذوب شوقاً وحباً وسعادة، والسائح يذهب بلادًا أخرى، لو كانت البلاد جميلة جداً, لاختلط الحاج بالسائح، وضاع الأمر.
وقد تجد بلدًا فيه دين، فيه صلاة، فيه مساجد، فيه دروس علم، فيه ذكر لله عز وجل، فيه أعمال طيبة، فيه جمعيات خيرية، فيه بذل، هذا بلد طيب، لكن فيه متاعب، لو كان في مثل غير تلك البلاد, ففيها رفاه زائد، فهذه مشكلة، اختلط هؤلاء بهؤلاء، فالذي بقي ببلد مؤمن مسلم، هذا البلد طيب، ترك البلد الطيب لبلد كافر, هذه نكسة في حياة الإنسان، سيجد مليون ميزة هناك، ولكن يفقد قلبه، يفقد روحه.
ولذلك: من أقــام مع المشركين, فقد برئت منه ذمة الله.
الحديث:
(( عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنا بريءٌ من كلِّ مسلمٍ يقيمُ بين أَظهُرِ المشركين ، قالوا : يا رسولَ الله ، لِمَ ؟ قال : لا تَرَاءى نارَاهُما ))
قال لي أحدهم: في جهاز اللهو ثمانون قناة, تعمل أربعاً وعشرين ساعة، واحد يقاوم جمعة جمعتين، ثم بعد ذلك ينجرف، أي شيء تريده موجود، ثمانون قناة تعمل أربعا وعشرين ساعة، تجد كل شيء مريحًا، ولكن فقدت دينك، فقدت محبتك لله، فقدت استقامتك، فقدت هذا الصفاء، فهنا:
﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ
أقم في بلدة طيبة، ولا تنسوا أن الشام كما ورد في الأحاديث الصحيحة.
(( عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ, رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ, احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي, فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ, فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي, فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ, أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّام ))
في حديث آخر:
الداخل إليها برضاي، والخارج منها بسخطي
مهمة أختارها النبي صلى الله عليه وسلم له يوم الخندق وموفقه منها.
سيدنا حذيفة.
الآن في لقطة من لقطاته الرائعة.
سيدنا حذيفة كان ذكياً جداً, النبي عليه السلام دعاه فلبَّى، لبى لأنه صادق مع ربه، إلى ماذا دعاه؟ الليل كان مظلماً في معركة الخندق ورهيباً، والعواصف تزأر وتصخب، وكأنما تريد أن تقتلع جبال الصحراء، وكان الموقف كله, بما فيه من حصارٌ, وعناد, وإصرار, يبعث على الخوف والجزع، وعندما ربنا عز وجل قال:
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ
من أصعب المواقف التي مرت بالمسلمين، النبي الكريم أراد من أحد أصحابه, أن يذهب إلى معسكر العدو، هذا فدائي، احتمال أن يقتل بالمئة مئة، بالمئة ثمانون، إذا كُشف قتل على الفور، النبي الكريم اختار سيدنا حذيفة, ليقوم بهذه المهمة البالغة العُسر.
وفي بعض الروايات قال رسول صلى الله عليه وسلم:
عمل خطير جداً، هو لم يرد أن يذهب.
قال: قطع المسافة بين المعسكرين، واخترق الحصار، وتسلل إلى معسكر قريش، وكانت الريح العاتية, قد أطفأت نيران المعسكر، فخيم عليه الظلام، واتخذ حذيفة رضي الله عنه مكانه وسط صفوف المحاربين.
خشي أبو سفيان قائد قريش، أن يفاجئهم الظلام بمتسللين من المسلمين، فقام يحذِّر جيشه، وسمعه حذيفة, يقول بصوته المرتفع: يا معشر قريش، لينظر كل منكم جليسه، وليأخذ بيده، وليعرف اسمه، لعل ثمة غريبًا متسللا، يتلقى الأنباء.
فقال حذيفة: فسارعت إلى يد الرجل الذي جواري، وقلت له: مَن أنت؟ فقال: فلان ابن فلان، أنا فلان.
لو بدأ ذاك، لانتهى سيدنا حذيفة، وهكذا أمَّن وجوده بين الجيش في سلام.
واستأنف أبو سفيان نداءه إلى الجيش, قائلاً: يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلكت الكُراع
الخيل.
والخف
الإبل.
وأخلفتنا بني قريظة
أي اليهود.
وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون؛ ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإني مرتحل
أرسل الله عز وجل عليهم ريحاً عاصفة, اقتلعت خيامهم، وقلبت قدورهم، وأطفأت نيرانهم، وعاشوا في متاهةٍ، ووقعوا في حيص بيص، كما يقولون، والله عز وجل:
﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً
هنالك، لما أحد المنافقين قال: أيعدنا صاحبكم, أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته؟!
قال صاحبكم، لم يقل النبي، أين قيصر وكسرى؟ على وشك ساعات وننتهي.
قال: ثم نهض فوق جمله، وبدأ المسير، وتبعه المحاربون.
يقول حذيفة: والله لولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي, ألا تحدث شيئاً حتى تأتيني لقتلته بسهم، صار معهم، ولكن النبي قال له: لا تحدث شيئاً حتى تأتيني.
عاد حذيفة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فأخبره الخبر، وزفَّ إليه البشرى.
فالله عز وجل أحياناً: عندما الأب يمسك ابنه, يقربه على النهر، ولكنه يمسكه مسكة محكمة، الابن يظن أن الأب سيلقيه بالنهر، فيفزع، معناها: لا يعرف قلب أبيه, قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ
كلا، أحياناً الإنسان يقربه الله عز وجل من الخطر, لكي يمتحن نوع ظنه، هل يسيء الظن بالله عز وجل، أما الله عز وجل بيده كل شيء؟.
و الحمد لله رب العالمين