وضع داكن
13-12-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 031 - حديث من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا - أهمية دراسة ومعرفة السيرة النبوية1
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

تمهيد :


أيها الإخوة المؤمنون؛ في باب قضاء حوائج المسلمين, من كتاب رياض الصالحين, يقول الله سبحانه وتعالى في الآية السابعة والسبعين من سورة الحج:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77)﴾

[ سورة الحج ]

الله سبحانه وتعالى في هذه الآية, ربط الفلاح بفعل الخير.

أليس هناك في القرآن الكريم آيات تحض على الاستقامة؟. 

بلى، وهناك آياتٌ تحضُّ على فعل الخير.

فما العلاقة بين الاستقامة وفعل الخير؟ أو ما العلاقة بين الاستقامة وبين العمل الصالح؟ وأيهما مقدم على الآخر؟ وأيهما أخطر في حياة المؤمن؟ بل ما العلاقة فيما بينهما إذا كانا متكاملين؟.

أيها الإخوة الأكارم؛ قضية دقيقة جداً: 

إذا كان الطريق إلى الله, مليئاً بالعقبات التي تحول بين العبد والوصول إلى الله، كل معصيةٍ يعصيها الإنسان, عقبة كؤود فيما بينه وبين الله، المعاصي كما قيل بريد الكفر، المعصية عقبة كؤود، المعصية حجاب بينك وبين الله، المعصية صخرة كبيرة تسد الطريق عليك، هذه المعصية، وكلما كبرت كلما زاد الحجاب، وإذا استقمت على أمر الله، وقد أمرك الله سبحانه وتعالى بالاستقامة, ماذا فعلت؟ إذا كانت كل معصية، ومخالفة، وانحراف، وتجاوز، وتعدٍّ عقبةٌ في طريقك إلى الله، فالاستقامة تعني: إزالة هذه العقبات من طريق الإيمان, طريق إلى الله.

نقطةٌ مهمة جداً: 

هذه المعصية حجاب، وهذه حجاب، وهذه حجاب، الطريق إلى الله مسدود، إذاً: ما تفعله من شعائر إسلامية, ليس إلا حركات وسكنات وقراءات, لا تقدم ولا تؤخر، ولا بد من أن تُمَل، ما دام هناك معاص، ما دام هناك مخالفات، ما دام هناك عدوان، إذاً: ما يفعله المخالف والمقصِّر من عبادات, ما هو إلا حركات وسكنات وقراءات ليس غير، فإذا ترك هذه المعصية فقد أزاح عقبة، أو هتك حجاباً، إذا ترك هذه المعصية، أزاح عقبة وترك حجاباً، هناك معاص متعلِّقة في علاقتك بالنساء، فأنت بمجرد أن تغض بصرك عن محارم الله، أزلت من طريقك إلى الله عقبة كبيرة، فإذا حررت دخلك من الحرام، أزلت أيضاً من طريقك إلى الله عقبة كبيرة، وكلما تركت معصية، وكلما تركت مخالفةً، وكلما تجاوزت عدواناً، فقد أزلت عقبةً من طريقك إلى الله عز وجل.

فلو فرضنا أن المؤمن استطاع أن يستقيم على أمر الله استقامة تامة، ماذا فعل؟ أزال كل العقبات التي كانت في طريقه إلى الله، إذا أزال كل العقبات من طريقه إلى الله، وبقي مكانه, من دون أن يتحرك إلى الله، ماذا فعل؟ لو أن لك بحمص حاجةً خطيرة، وكان على الطريق عقباتٌ كثيرة، فلو أزلتها، وبقيت في الشام, لم تفعل شيئاً، فلذلك الاستقامة والعمل الصالح شيئان متكاملان، الاستقامة تمهيدٌ للعمل الصالح، والعمل الصالح لا يكون إلا بالاستقامة، فالاستقامة أولاً، والعمل الصالح ثانياً.

إذاً: الاستقامة والعمل الصالح متكاملان.

أنت إذا استقمت على أمر الله، كأن الله سبحانه وتعالى يعاتبك يوم القيامة، يقول لك: أما غضك للبصر, فقد تعجلت فيه الراحة لقلبك، وأما تركك الحرام, فقد كنت في حرز حريز ، حصَّنت مالك من التلف، وأما صدقك بين الناس, فقد رفعت من شأنك، وأما عفَّتك، فقد كانت كذا كَذا، وكأن الله سبحانه وتعالى يقول: ولكن ماذا فعلت من أجلي؟ هذه كلها فعلتها من أجلك ، كل ألوان الاستقامة، والانضباط؛ ضبط العين، والأذن، واللسان، واليد، وقبض المال وإنفاقه ، والعلاقة بالنساء، كل هذه الألوان من ألوان الاستقامة، إنما هي تعود عليك بالمنفعة في الدنيا قبل الآخرة، ولكن ماذا فعلت من أجلي؟ ما الذي قدمته من أجلي؟ من الذي وصلته من أجلي؟ من الذي قطعته من أجلي؟ متى غضبت من أجلي؟ متى رضيت من أجلي؟ ماذا فعلت من أجلي؟.

فلذلك الآن جاء دور العمل الصالح، الله سبحانه وتعالى يقول: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي لا تفلحون إلا إذا فعلتم الخير، ولا يصح فعل الخير إلا إذا سبقته استقامة، فعل الخير يصح إذا سبقته الاستقامة، أما استقامة من دون فعل الخير، لا يحقق الفلاح كما ينبغي، لا يحقق النجاح كما ينبغي.

فالباب اليوم باب فعل الخير، وقضاء حوائج المسلمين، في كتاب رياض الصالحين، وأتمنى عليكم أن يكون هذا الكتاب في مكتبتكم، وهل من كتابٍ أثمن من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.

والشيء الذي أحب أن أنوه إليه: أن كتاب رياض الصالحين مقسَّم وفق أبواب دقيقة جداً، وتدور مع حاجات الناس في عباداتهم، ومعاملاتهم، وأخلاقهم، وأن هذا الكتاب إذا كان عندك في البيت، فإذا عدت في البيت بعد الدرس تفتحه, فتراجع فيه الحديث الذي تم شرحه، إنك كلما فتحته, تذكرت دروس يوم الأحد كلها، ألا تحب أن يكون لك زاد، زاد من حديث رسول الله؟ حديث سمعت خلال نصف ساعة تفسيره، وجدته في الكتاب، فوجود الكتاب في بيتك, نوع من أنواع استذكار العلم.

إذا ذهبت إلى نزهة، أو دعيت إلى سهرة، أو أقمت حفلة، وأردت أن تكون هذه الحفلة فيها إرضاءٌ لله عز وجل، معك الكتاب، افتح الكتاب، وذكر أخوانك ومن حولك بما سمعته من تفسير لبعض الأحاديث الشريفة، لأن نقل العلم شيء مقدس، فتلقي العلم شيء، وإلقاؤه شيء آخر. 


حديث اليوم:

 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا, نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ, يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا, سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ, مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ, وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا, سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ, وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ, يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ, وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ, وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ, وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ, وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ, لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ))

[ أخرجه مسلم ]  

مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا, نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ:

وما أكثر كرب الدنيا؛ هموم، أشياء مقلقة، ديون، أعباء، مرض، يحتاج إلى نفقة، زوجة، زواج، دَيْن، الدَيْن هم، ومشروع الزواج هم، وأن يقع الإنسان في ورطةٍ, هذا هم كبير، وأن يخاف جهةً, هذا هم أكبر، وأن يفقد الأمن والطمأنينة, هذا همٌ أكبر، فإذا كنت تحب الله ورسوله, فأنت مصدر أمن وطمأنينة، أنت مصدر سلام وعافية، أنت تبثُّ الأمن في كلامك، وفي أعمالك، ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا)) استمعوا.

﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) ﴾

[ سورة النجم ]

استمعوا ماذا يقول عليه الصلاة والسلام: ((منْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا, نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) وما أشد كرب يوم القيامة، فكل إنسان بحكم إمكانياته، بحكم مكانته الاجتماعية، بحكم شأنه، بحكم حجمه المالي، يستطيع يخفف عن الناس آلامهم، يستطيع يكون مصدر خير، مصدر سلام، مصدر طمأنينة، فأنت إما أن تكون مصدر شر -لا سمح الله-, وإما أن تكون مصدر خير، فالله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي:

(( عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عزَّ وجلَّ : أنا اللهُ قدَّرتُ الخَيْر والشَّرّ فطوبى لمن جَعلتُ مفاتح الخير على يديْه، ووَيْلٌ لمن جَعلتُ مفاتح الشر على يديْه ))

[ رواه الطبراني ]

وإذا أردت أن تعرف مقامك, فانظر فيما استعملك

لذلك: يا أخي الكريم سؤال دقيق, اسأل نفسك كل يوم: أنا ماذا فعلت هذا اليوم؟ كل يوم ينشق فجره, يخاطب ابن آدم يقول: ((يا بن آدم, أنا خلقٌ جديد, وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني لا أعود إلى يوم القيامة)) هذا اليوم كيف مضى؟ هل دعوت فيه إلى الله؟ هل أمرت بالمعروف؟ هل نهيت عن المنكر؟ هل بثثت الطمأنينة في نفس إنسان؟ هل نفست عن مؤمن كربة؟ من أكرم أخاه المؤمن, فكأنما أكرم ربه.

أحياناً: أخوك المؤمن في قضية تقلقه، تخيفه، جئت أنت, واستخدمتك نفوذك ووجاهتك في بث الطمأنينة له، أو في إزالة هذه الكربة، لذلك اجعل شعارك كل يوم: ((إذا أردت أن تعرف مقامك, فانظر فيما استعملك)) بماذا استعملك الله عز وجل؟ وما أكثر الأبواب المفتحة بالعمل الصالح ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا, نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) هذا الحديث يجعل العلاقات الاجتماعية بين المؤمنين متماسكة جداً، فكل مؤمن انطلاقاً من تطبيق السنة, يسعى إلى تفريج الهم عن أخيه المؤمن، لو أن لك على أخيك المؤمن ديناً، وكان هذا الأخ المؤمن معسراً، وهو مهتم، ومغتم، ومنقبض، فعلمت أنه معسر، فقلت: يا أخي لك شهر آخر، حتى يفرج الله عنك هذا العسر، أنت بهذا فرجت عنه كربة من كرب الدنيا، أخوك له مشكلة تحل مالياً، وتملك أنت هذا المبلغ، وهذا أخوك في الله، فإذا دفعت له هذا المبلغ، فقد نفست عنه كربة من كرب الدنيا، لذلك ربنا عز وجل يعدك أن ينفس عنك كربة من كرب يوم القيامة، هذا الحديث يجب أن يكون في ذهن كل مؤمن، وأن يبقى ماثلاً أمام كل مؤمن. 

وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ, يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

الإنسان أحياناً يواجه عقبات، يقول لك: الأمر معسر أمامي، أضربها شرقًا, تأتي غربًا.

أُغَرِّبُ خَلْفَ الرِّزْقِ وَهْوَ مُشَرِّقٌ          وَأُقْسِمُ لَوْ شَرَّقْتُ كَانَ يُغَرِّبُ

هكذا قال بعض الشعراء، فهذا معسر، فإذا أنت نفست عنه هذا الإعسار، أزلت عنه هذا الإعسار، ماذا فعلت؟ أكرمت أخاك المؤمن.

فلذلك مرة ثانية أقول لكم: حجمك عند الله, بحجم عملك الصالح، الفقير من كان فقيراً من العمل الصالح، والغني من أجرى الله على يديه الخير، ومن لم يكن في زيادة, فهو في نقصان، وكما قيل ((لا بورك لي في يوم, لم أزدد فيه من الله قرباً)) عن الطريق العمل الصالح و: ((لا بورك لي في يوم, لم أزدد فيه من الله علماً))

إذاً: طلب العلم والعمل الصالح، لذلك وردت كلمة: الذين آمنوا وعملوا الصالحات أكثر من ألف مرة في كتاب الله. 

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)﴾

[ سورة البقرة ]

(آمَنُوا) : الناحية النظرية.

(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) : الناحية العملية.

والإيمان والعمل الصالح جناحان متكاملان، لا تطير إلى الله إلا بهما، فلو اكتفيت بالعلم لم تفلح، ولو عملت من دون علم لا تفلح، العلم بلا عمل كالشجر بلا ثمر، والعمل بلا علم ذنوب ((وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ, يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ))

(( عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال:  رَحِمَ اللهُ رجلاً سَمْحاً إذا باع ، وإذا اشترى ، وإذا اقْتَضَى  ))

[ أخرجه البخاري ]

(( عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: غَفرَ الله لرجل كان قبلكم : سهلاً إذا باع ، سَهلاً إذا اشترى ، سهلاً إذا اقتضى))

[ أخرجه الترمذي ]

لذلك النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((غفر الله لرجل)) فإذا مر معكم بالحديث الشريف كلمة: ((غَفرَ الله لرجل)) لا تظنوها كلمة: ((الله يرحمه)) هذه الكلمات لكثرة استعمالها, فقدت مدلولها، هل تدري ماذا تعني كلمة: ((غَفرَ الله)) أو ((رَحِمَ اللهُ رجلاً)) عبداً؟. 

رحم الله عبداً: أي تجلى على قلبه، وإذا تجلى الله على قلبك, نسيت الدنيا وما فيها، فأنت تأكل، وتشرب، وتستمتع، وتذهب، وتتنزه، وتنام على فراش وثير، وتقيم في غرفة مكيفة ، وتركب مركبة وثيرة، وتنظر إلى مناظر جميلة، هذه كلها متع الحياة الدنيا، ولكن ينبغي ألا يغيب أن الله سبحانه وتعالى، فلو تجلى على قلبك, لذقت سعادةً لا توصف، ولهانت عليك الدنيا وما فيها، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((غفر الله لرجل, كان سهلاً إذا باع، سهلاً إذا اشترى، سهلاً إذا قضى، سهلاً إذا اقتضى)) هذا اليسر في التعامل دليل الإيمان، دليل العطف الذي أودعه الله في قلبك تجاه المسلمين، تدخل امرأة فقيرة جداً إلى صيدلي، تطلب دواء، مبلغها أقل من ثمن الدواء، ويشعر أنها ليست محتالة، بريئة، هناك من يطردها، هناك من يقول: أتقرب إلى الله بخدمة هذه المرأة العجوز, ليس كل الربح مادياً، وليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، كما قال السيد المسيح: ((ليس كل الربح مالاً)) هناك ربح، لأن تربح أخاً في الله, أفضل من أن تربح الدنيا وما فيها.

فعود على بدء: فأحياناً يرى الإنسان الأمور مسدودة أمامه.

هل تحبون أن تكتشفوا الحل العجيب لتعسير الأمور؟. 

حل التعسير: العمل الصالح.

إذا ضاقت عليك مذاهب الحياة، إذا ضاقت عليك السُبُل، إذا ظننت أن الله لن ينصرك في الدنيا ولا في الآخرة, قال تعالى:

﴿ مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15)﴾

[ سورة الحج ]

أي ليعمل عملاً صالحاً كما قال بعضهم، هذا العمل الصالح هو الذي يجعل العسر يسراً، والضيق فرجاً، والانقباض انشراحاً، والتلكؤ انطلاقاً، فمن ضاقت عليه السبل، من شعر أن أمره معسر، من شعر أن الدنيا كلها ضده، فعليه بالعمل الصالح، والعمل الصالح يرفعه، ولكل درجات مما عملوا، ومن يسر على معسر, يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، وربما كان التيسير في الدنيا قبل الآخرة. 

فربنا عز وجل يقدر لسبب تافهٍ تافه, أن يجعل حياة الإنسان جحيماً، لسبب تَافه تافه يذهب المال كله، لسبب تَِافه تافه يفقد حريته على مدى عشرين عامًا، ولسبب تافه، ولو أن هذا الحكم بسبب وجيه يقول: هذه بتلك، ولكن لسبب تافه, يفقد الإنسان حريته، ولسبب آخر يفقد ماله، ولسبب في صحته, تصبح حياته جحيما، إذاً: افعل الخير, وارجُ الله بهذا الخير, أن يجعل أمورك ميَّسرةً، وأن يتم عليك نعمة الهدى, ونعمة الصحة، ونعمة التوفيق.

فأنا الذي أعرفه: أن المؤمن يندفع إلى العمل الصالح اندفاعاً لا حدود له، فتنتهي حريتك في أن تفعل هذا العمل الصالح أو لا تفعله، حينما تعرف الله عز وجل، ويجب أن أقول لكم: إن العمل الصالح لا ينبغي أن يكون قاصراً على إنسان دون إنسان، أخي هذا من أخوان جامع النابلسي يجب أن أخدمه، هذا كلام مرفوض، يجب أن تخدم الناس كلهم، يجب أن تخدم المؤمنين كلهم، يجب أن تخدم المسلمين كلهم، يجب أن تخدم الناس كلهم، يجب أن تخدم الخلق كلهم.

(( عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الخلق كلهم عيال الله ، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله ))

[ رواه الطبراني في الكبير ]

هكذا قال عليه الصلاة والسلام: ((الخلق كلهم عيال الله)) وسع الدائرة وسعها لأقصى درجة ((وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)) وهذا الذي تخدمه ولا تعرفه، تخدمه وقد لا يكون في المستوى المطلوب، ربما بهذه الخدمة, صار في المستوى المطلوب، أنت إذا خدمته, ربما جعلته مؤمناً, بعد أن كان غير ذلك، العمل الصالح أعظم من أن يكون لك به حسنة، العمل الصالح تجذب به الناس إلى الإيمان.

حدثني أخ, نسيت مَن هو: أن إنسان معذب في حياته جداً، وكان عصبي المزاج، ودائماً يسب الدين، وحياته شقاء بشقاء، وساكن بغرفة متضايق فيها مع أولاده وزوجته، فقال له شخص: هل حولك بيت أجرة لفلان؟ قال له: والله أجرة لا يوجد، لكن إذا تحب نتعاون على شراء بيت، الذي حدثني اليوم أو البارحة لا أذكره، قال لي: هذا الإنسان بعد سكن في بيت مستقل, أصبح من المؤمنين الصالحين، دخل المسجد، وصلى, واقترب من المؤمنين.

طبعاً: الإنسان عبد الإحسان، فقول سيدنا علي خطير جداً, قال: ((قوام الدين والدنيا أربعة رجال؛ عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم)).  

من صفات الجاهل التي تليق به: أن يكون متواضعاً، أما جاهل متكبر لا يحتمل، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، هذا شيطان.

فمن صفات العالم التي تليق به أن يستعمل علمه: أن ترى علمه في الممارسة اليومية، في التعامل اليومي، أن ترى علمه في علاقاته كلها.

((عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم, وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه)) الآن دققوا ماذا يحدث لو اختل الأمر ((فإذا ضيع العالم علمه, استنكف الجاهل أن يتعلم)) إذا ضيع العالم علمه, نفر الناس من العلم، وزهدوا في العلم، واحتقروا العلم، أنا لا أفعل فعله، أنا زاهد في علمه ((وإذا بخل الغني بماله، باع الفقير آخرته بدنيا غيره)) أي عندئذٍ يبيع الفقير نفسه للشيطان، من أجل أن يؤمن حاجاته, وما يجري العالم من أعمال عنف, أساسها: أن الغني بخل بماله، فباع الفقير نفسه للشيطان.

إذاً: ((وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ, يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) هذا قانون، إذا ضاقت عليك الأمور، إذا سدَّت في وجهك سبل الرزق، إذا ظننت أن الدنيا كلها ضدك، إذا شعرت أن الله لن ينصرك في الدنيا ولا في الآخرة، فافعل عملاً صالحاً خالصاً لوجهه، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((استنزلوا الرزق بالصدقة)) يعني ادفع صدقةً، وعندئذٍ تشعر أن الله سبحانه وتعالى, أغدق عليك من نعمه. 

وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا, سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

كان هناك رجل عالم فاضل، توفي رحمه الله، كان قاضيًا، جاءته امرأة إلى مركز عمله، يبدو أنها صدر منها صوتٌ, ورائحةٌ كريهة، وقد شعرت بذلك، فأصبح وجهها محمراً من شدة الخجل، قالت لأختها: لعله سمعنا، فلما وصلت إليه قال: ما اسمك يا امرأة؟ قالت: اسمي فلانة, قال: ما سمعت، ارفعي صوتك, أنا لا أسمع، ارفعي صوتك، وما زال يقول: ارفعي صوتك, أنا لا أسمع, حتى تأكدت أنه ما سمعها.

هذا كرم، لا تحمروا الوجوه، من صفات المؤمن: أنه لا يحرج الناس، لا يضيق عليهم، لا يضعهم في زاوية ضيقة، لا يسفههم، لا يكذبهم، لا تحمروا الوجوه ((وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا, سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)) الله من أسمائه الستِّير، فإذا كنت مؤمناً حقاً, تخلَّق بأخلاق الله، وأنت خليفة الله في الأرض، وكما قال عليه الصلاة السلام: ((إن الله خلق آدم على صورته)) يعني تخلق بأخلاق الله، فإذا كان الله ستّيراً, فاستر أنت، الحقيقة: إذا طبّق الإنسان هذا الأمر, يشعر بسعادة كبرى، فأنت تعلم عن إنسان شيئًا، هذا الشيء ما تكلمت به لأحد، تشعر أنك في المستوى المطلوب، هكذا الإنسان.

والحقيقة: الحديث عن أحوال الناس, وعن فضائحهم، شيء ممتع، الناس يستمتعون بذلك؛ قصة غريبة تلقى في هذه الجلسة متعة بالغة، الناس ينصرفون إلينا، يستمعون باهتمام بالغ، هذه فضيحة، أنت فضحت فلاناً، لذلك: ((من تتبع عورات المسلمين, تتبع الله عورته, حتى يفضحه في عقر بيته)) الإنسان يجعل شعاره:

(( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه ))

[ أخرجه الترمذي في سننه ومالك في الموطأ عن أبي هريرة ]

طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس

الإسلام أخلاق، الإسلام صفات راقية، فهل أنت ستير؟ شاهدت مشكلة، أنت طبيب، جاءك مريض، وقص عليك قصته، معه مرض بسبب زلة قدم، هذا المريض له زوجة، وله أولاد، وتاب من هذه المعصية، يجب أن تذكر قصته للناس, هذا مخالف لأمانة الطب، أنت محامِ، ثمة مشكلة بين زوجين، وعلاقة خاصة جداً بين زوجين، ولو حدثت بها الناس, لكانت مادة دسمة, بحديث ممتع، أينبغي لك أن تقول هذا للناس؟ لقد خنت أمانة الحرفة، فأحياناً المحامون، الأطباء، رؤساء المخافر, أحياناً ترفع لهم قضايا خطيرة جداً، وحساسة جداً، فإذا كان الشخص مؤمنًا، هذا الموضوع في طي الكتمان، لأن الله ستير.

سيدنا عمر, أذكر فتاة, زلت قدمها في عهده، وتاب الله عليها، ثم خطبت، فجاء أخوها يسأل سيدنا عمر، فقال له: ((جاء فلان يخطب أختي، أفحدثه بما كان منها؟)) يا لطيف، وكأن القيامة قامت ((قال له: ويحك، والله لو حدثته بما كان منها, لعلوتك بالدرة)) تابت وانتهى الأمر، تابت وحسنت توبتها، فالإنسان يجب أن يكون ستّيراً، الآن البيوت متلاصقة, يحدث شجار بالبيت أحياناً، طبيعة البيوت الحديثة الآن طوابق، وشقق، فالكلام ينتقل من بيت إلى بيت، والإنسان لا يخلو من تخاصم مع زوجته، تخاصم مع أولاده، هل ما سمعته البارحة تذكره للناس؟!. 

وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ, مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ.

إذا أردتم رحمتي, فارحموا خلقي، من لا يرحم لا يرحم، تعين أخاك فيعينك الله، ترحمه فيرحمك، تستره فيسترك، تنفِّس عنه كربةً من كرب الدنيا، فينفس الله عنك كربة من كرب القيامة، تضع عنه بعض الدين، يضع عنك بعض الوزر ، تفرج عن عسرته, يفرج الله عن عسرك يوم القيامة وهكذا، أما الآن: 

وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا, سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ,

هناك أخ يأتينا من دوما، ومن حرستا، من أماكن بعيدة، أغلب الظن يظل ساعة ونصفًا، أو ساعتين بالطريق، لماذا جاء إلى هنا؟ لا يوجد ضيافة، ولا يوجد مقعد وثير، ولا لشيء مغرٍ، جاء ليلتمس علماً، استمعوا أيها الإخوة؛ ماذا يقول عليه الصلاة والسلام: ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا, سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)) فأنت في طريقك إلى مجلس العلم, في الحقيقة أنت في الطريق إلى الجنة، والجنة السعادة الأبدية، ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا, سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)) .  

وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ.

هذا اجتماع مبارك، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، كما أدعو كل يوم. 

يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ.

شعور صعب أن يوصف، السكينة شعور يصعب وصفه، قال بعضهم: إن الله يعطي الصحة، والذكاء، والمال، والجمال, للكثيرين من خلقه، ولكنه يعطي السكينة بقدرٍ, لأصفيائه المؤمنين، هذه السكينة خاصة بالمؤمنين، لا يعرفها إلا من ذاقها، أما أهل الدنيا لا يعرفونها، لأنهم بعيدون عنها، لا يعرفها إلا من ذاقها، فالسكينة توازن، طمأنينة، ثقة بالله عز وجل، شعور بالفوز، شعور بالرضا، شعور بالاستسلام، شعور بالغنى، شعور بالنجاح، بالفلاح، بالتفوق، لذة روحية، سعادة مادية، والله أعلم، هذه السكينة ((وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ, يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ)) على المجموع، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً، ولا تجعل فينا, ولا منا, ولا معنا, شقياً ولا محروماً.  

وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ, يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ, وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ, وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ, وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ.

لذلك: ((ما من عبد يذكر الله في نفسه, إلا ذكره الله في ملأٍ من ملائكته، وما من عبد يذكر الله في خلقه، إلا ذكره الله في ملأٍ خير منهم)) أنت إذا ذكرت الله عز وجل للناس، إذا ذكرت الله لأناس من مستوى معين، ذكرك أناس من مستوى أرقى بالطيب, والمديح, والثناء. 

وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ.

تقول لي: أنا ابن فلان، وجدي كان فلانًا، تشرّفنا:

لا تقل أصلي وفصلي أبداً     إنما أصل الفتى ما قد حصل

دائماً: الإنسان حينما يفتقر من العمل الصالح يفتخر بنسبه، أنا جد كل تقي, ولو كان عبداً حبشياً، الحديث الشريف الذي يلغي النسب:

(( يا فاطمة بنت محمد, أنا لا أغني عنك من الله شيئاً، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه, لا يأتيني الناس بأعمالهم, وتأتوني بأنسابكم ))

ولكن هنا سؤال، قد يقول قائل عن النسب: ألم يقل سيدنا جعفر عن رسول الله: نعرف صدقه, وأمانته, وعفافه, ونسبه، له نسب رفيع اللهم صل عليه:

(( خرجت من نكاح، ولم أخرج من سفاح، من لدن آدم, إلى أن ولدني أبي وأمي، ولم يصبني من سفاح الجاهلية شيء))

الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، ابن الكريم، سيدنا يوسف، في القرآن إشارات إلى النسب، العلماء قالوا: فيما لو توافر الإيمان، والصدق، والأمانة، عندئذٍ يستأنس بالنسب، فالنسب لا يذكر إلا إذا توافر الإيمان، والصدق، والصلاح، والطيب، والورع، والتقوى, عندئذٍ يمكن أن نقول: فلان ابن فلان، ما شاء الله على هذا النسب، أما نسب مع العمل السيء, فلا يذكر إطلاقاً.

هذا الحديث، رواه الإمام مسلم في صحيحه، أعيده على أسمعاكم مرة ثانية: 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا, نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ, وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ, يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا, سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ, وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا, سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ, وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ, يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ, إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ السَّكِينَةُ, وَغَشِيَتْهُمْ الرَّحْمَةُ, وَحَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ, وَذَكَرَهُمْ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ, وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ))

هذا الحديث, من باب قضاء حوائج المسلمين, في كتاب رياض الصالحين، ارجعوا إليه إذا شئتم.

 

أهمية دراسة ومعرفة السيرة النبوية.


كنت قد وعدتم في درس سابق, أن نبدأ الحديث -بعون الله جل وعلا- عن سيرة النبي عليه الصلاة والسلام، والحقيقة هذا الموضوع جليل، وعظيم، وخطير، وسوف أمضي ما تبقى من الوقت, في التمهيد لهذا الموضوع الجليل.

أولاً: 

سيرة النبي عليه الصلاة والسلام؛ قراءتها ومدارستها ليست قراءة أحداث تاريخية، ولا دراسة أعمال بشرية, مما ألِفَ الناس سماعه وقراءته، تكاد تكون سيرة النبي عليه السلام شيئاً متميِّزاً عن أية سيرةٍ أخرى، عن أي تاريخ، عن أيَّة ترجمةٍ شخصية لأي إنسان آخر، لماذا؟ لأن سيرة النبي عليه السلام, هي المفتاح الأول لفهم كتاب الله تعالى, ولأنه من خلال سيرة النبي، يتضح لك: كيف فهم النبي هذه الآية؟ وكيف عمل بها؟ وكيف وقف الموقف الصحيح في هذا الموطن؟.

إذاً: إذا أردت مزيداً من فهم كتاب الله، إذا أردت أن تعمِّق فهمك لكتاب الله، فعليك بسيرة النبي عليه السلام، فليست القضية أنه إنسان عظيم, نقرأ أحداث حياته، لا، هذا إنسان نبي مرسل، أي نموذج لكل البشر.

ثانياً:

سيرة النبي عليه النبي عليه السلام, تعدُّ المثل الأسمى للكيفية التطبيقية للعمل بكتاب الله، مفتاح كتاب الله الأول، والكيفية التفصيلية لتطبيقه والعمل به.

من أمثلة ذلك:

عندنا شيء دقيق جداً: أن حياة رسول الله تشريع، سيدنا عمر هاجر, هو اجتهد أن يهاجر جهاراً، وأن يتحدِّى بهذه الهجرة المشركين, وقال قولته الشهيرة: ((من أراد أن تثكله أمه, أو ييتم ولده, فليحقني إلى هذا الوادي)) هاجر جهاراً، وعلانية، ومتحدياً، ولكن سيدنا عمر لو أنه فشل بهذا التحدي، لو أنه قُتِل، يمثل مَن؟ يمثل نفسه فقط، لكن النبي عليه السلام حينما هاجر من مكة إلى المدينة، لأنه مشرِّع أخذ بالأسباب؛ اتجه نحو البحر، وقبع في غار ثور، ووكَّل أناساً يأتونه بالأخبار، وأناساً يمحون الآثار، وأناساً يأتونه بالزاد، واستأجر راحلةً، ودليلاً يتمتع بالخبرة الكافية، وهو مشرك، يعني أخذ بكل الأسباب، ثم توكل على رب الأرباب، فهل يعد النبي عليه السلام أقل جرأةً من سيدنا عمر؟! مستحيل، كان إذا حمي الوطيس, لم نر أقرب منه إلى العدو، كان إذا حمي الوطيس, واحمرت الحِدَق, كان أقربنا إلى العدو، كنا نتقي به العدو، كان شجاعاً، ومع ذلك: هاجر بهذه الطريقة لأنه مشرِّع، لو أنه هاجر كما هاجر عمر رضي الله عنه, لعد اقتحام الأخطار سنةً، وترك الأخذ بالأسباب واجباً، وإلقاء النفس في التهلكة عملاً طيباً، لو أنه هاجر كما هاجر عمر, لهلكت أمَّته من بعده، هو مشرِّع.

فأنت إذا قرأت سيرة النبي, تقرأ شيئاً خطيراً جداً، تقرأ ما ينبغي أن تفعله أنت الآن، إنك تقرأ النموذج الأول لبني البشر, إذاً: حياته تشريع، وحياته نموذجٌ أسمى للكيفية التطبيقية لكتاب الله، وحياته مفتاح لفهم كتاب الله.

ثالثاً:

أيها الإخوة؛ الذي أريد أن أنبِّه عليه: إن حياة النبي عليه الصلاة والسلام, وما فيها من أحداث، ومواقف، وغزوات، إن هذه الحياة ليست وقائع تتلى، ولا معلومات، ولا ثقافات، ولا دراسات تاريخية، إنها تجسِّد الحقيقة الإسلامية في مجموعها الاعتقادي والسلوكي.

يعني إذا أردت أن ترى الإسلام مطبَّقاً في إنسان, ففي النبي العدنان، تحب أن تقرأ عن الإسلام، القرآن، تحب أن ترى الإسلام بعينيك، اقرأ سيرة النبي، تحب أن ترى قرآناً يمشي، النبي عليه الصلاة والسلام، الكون قرآنٌ صامت، والقرآن كونٌ ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآنٌ يمشي، حياته شيء مهم جداً، بل إن حياة النبي عليه الصلاة والسلام في كل حركةٍ، وسكنة، سكوته حديث، سكوته إقرار، إذا فعل صحابيٌ جليل شيئاً أمام النبي، وسكت النبي، فهذا الفعل مشروع، لأن النبي عليه الصلاة والسلام لا يسكت على غلط.

فامرأة نادت زوجها المسجَّى على فراش الموت، وقالت له على مسمعٍ من النبي عليه الصلاة والسلام:

هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله -لو أن النبي عليه الصلاة والسلام سكت, لكان كلامها صحيحاً- فقال عليه الصلاة والسلام: ومن أدراك أن الله - طبعاً من وراء حجاب- أكرمه؟ -من أنتِ حتى تعرفي الغيب؟ أو تعرفي ما سيكون؟- قولي: أرجو الله أن يكرمه

قل: أرجو يا أخي، لا تزكي على الله أحداً، قال:

وأنا نبي مرسل, لا أدري ما يفعل بي ولا بكم

إذاً يجب أن تعلم علم اليقين: 

أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا سكت فسكوته إقرار، وإذا تكلم فكلامه تشريع، وإذا فعل ففعله منهج، إذاً: هل من سيرة إنسانٍ على وجه الأرض ترتقي إلى مستوى النبي الكريم؟ قراءة سيرته تكاد تكون شيئاً واجباً على كل مسلم، لأنك إذا قرأت سيرته, رأيت الإسلام على حقيقته، رأيت الإيمان، رأيت الصدق.

أيها الإخوة؛ أحب أن أنوِّه إلى أننا في أثناء الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، لا نتحدث عنه كعبقريٍ، كإنسان ذكي متفوق، بعض الأعاجم من العلماء, يركِّزون على عبقريته ، وعلى تفوقه الذكائي، والقيادي، والاجتماعي, من أجل أن يقللوا من قيمة نبوته ورسالته، هوية هذا النبي الكريم, أنه نبيٌ مرسل، فالحديث عنه من خلال نبوَّته ورسالته، ومن أنه المشرع، لا من زاوية عبقريته، وذكائه، وقدراته الاجتماعية، هذا انحراف عن الخط الصحيح للسيرة.

رابعاً:

الله سبحانه وتعالى جعل النبي عليه الصلاة والسلام قدوةً لنا، ما معنى قدوة لنا؟ أحياناً الإنسان يقف في موقف الفقر، هو النبي عليه الصلاة والسلام ذاق طعم الفقر، فوقف الموقف الأكمل, حينما كان فقيراً:

هل عندكم شيء؟ قالوا: لا, قال: فإني صائم

لم يسب بالدين، انظروا إذا كان فقير جاهل, يا لطيف ((هل عندكم شيء؟ قالوا: لا, قال: فإني صائم)) علّم الفقير التجمل، والصبر، والحلم، وعلمه العفة، وعلمه الانتظار، وانتظار الفرج فرج.

والنبي عليه السلام ذاق طعم الغنى فلم يبطر، ولم يستعلِ على الناس، دخل عليه رجل أصابته رعدة، قال:

هون عليك, إنما أنا ابن امرأة من قريش, كانت تأكل القديد في هذه البطحاء

رأى رجل وادياً من الغنم، فقال للنبي الكريم:

لمن هذا الوادي؟ قال: هو لك, قال: أتهزأ بي؟ قال: لا والله, هو لك, قال: أشهد أنك رسول الله, تعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر

ذاق الغنى, ووقف الموقف الأكمل, حينما كان غنياً، وذاق الفقر، ووقف الموقف الأكمل, حينما كان فقيراً، علَّمك أيها الإنسان, كيف ينبغي أن تكون إذا كنت فقيراً، وكيف ينبغي أن تكون إذا كنت غنياً؟.

وذاق القوة: دخل مكة في حشدٍ من الجيش, يزيد عن عشرة آلاف سيف، كلها تأتمر بحركةٍ من شفتيه، وبإمكانه أن يقضي على أعدائه من آخرهم بكلمة واحدة، أذاقه الله القوة، دخل مكة خاضعاً متذللاً, تذلل الشاكرين المغمورين بالنِعَم، ولم يدخل مكة دخول المتجبرين المتغطرسين، حتى إن ذؤابة عمامته, لامست عنق بعيره، النبي عليه السلام يغلب فلا يبطر، ويُغْلَب فلا يضجر.

وأذاقه الله طعم الضعف في الطائف, قال:

إن لم يكن بك غضبٌ علي فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى

وأذاقه طعم فقد الولد, فقال:

إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون

أكمل موقف، وذاق أن يقترن بامرأة, تكبره خمسة عشر عاماً، الآن: إذا الواحد كانت زوجته من نفس السن, يندب حظه، أخي أخذناها كبيرة، هكذا يقول لك، خمس عشرة سنة فوق عمره، ومع ذلك كان وفياً لها، عندما فتح مكة, ما قبل إلا أن ينام في خيمةٍ, نصبت له إلى جانب قبر خديجة وفاءً لها، وما رضي أن يقول كلمةً لمَن جاءته بعدها, يقول:

والله ما أبدلني الله خيراً منها

علمك الوفاء الزوجي، ذاق طعم اليتم: في دار أيتام من أشهر دور الأيتام، بمدخل الدار, رُسِمَ قبر النبي عليه السلام، وكتبوا تحته: أكرم يتيمٍ على وجه الأرض، كان يتيم اللهمَّ صلِ عليه، ما ذاق طعم الأبوة، ذاق طعم اليتم, وموت الأولاد، وكبر الزوجة، وذاق الفقر، وذاق الغنى، والقوة, والضعف، كله ذاقه، لذلك جعله الله عز وجل قدوةً لنا، جعله قدوةً صالحة، وأسوةً حسنة، ومثلاً يحتذى، إذاً: قراءة سيرته, شيءٌ خطير جداً. 

خامساً:

النبي عليه الصلاة والسلام قال: ((إنما بعثت معلماً)) ، ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) كان مربي من الطراز الأول، فإضافةً إلى أنه نبي مرسل, كان مربياً من الطراز الأول, يعلمك كيف تؤدب وتربي؟ قال عليه والسلام:

(( علموا ولا تعنفوا، فإن المعلم خيرٌ من المعنف ))

[ أخرجه الحارث في مسنده عن أبي هريرة ]

السؤال والجواب، والأخذ والعطاء، والعتاب والمتابعة، والتوجيه والنصح أحسن من الضرب ((علموا ولا تعنفوا ، فإن المعلم خيرٌ من المعنف)) قال:

(( لا يكون الرفق في شيءٍ إلا زانه، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه ))

كان إذا دخل بيته بساماً ضحاكاً، كان يقول:

(( لا تكرهوا البنات, فإنهن المؤنسات الغاليات ))

[ أخرجه الطبراني في المعجم الكبير, والإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر ]

علمك كيف تتعامل مع الناس، كان يقول:

لاعب ولدك سبعاً، وأدبه سبعاً، وراقبه سبعاً، ثم اترك حبله على غاربه

كان مربيًّا من أعظم المربين، إذاً: قرأت عن حياته, تتعلم منه كيف يعامل زوجته، وأولاده، وإخوانه، وجيرانه، ومرؤوسيه، وجنوده، كان مثلا أعلى.

  

الخاتمة:


أيها الإخوة؛ فالشاب المندفع إلى الله عز وجل، يجد في سيرة النبي عليه الصلاة والسلام نماذج بطولية رائعة، الداعية إلى الله، وما يلقى من خصومات، ومن معارضات، ومن متاعب، ومن هموم، ومن أعباء ربما لا يتحملها، إذا قرأ سيرة النبي, يستصغر نفسه, يقول: أنا لا شيء إطلاقاً.

إذاً: إذا قرأت سيرة النبي, كان عليه الصلاة والسلام, كان قدوة لك في الدعوة إلى الله, في الصبر، في تحمل الشدائد، في التفاؤل، في الثقة بالله عز وجل، في مواجهة الخصوم، في التلطف، في الرحمة .

الزوج، كلٌ منا زوج، أو أكثرنا، فهل يا ترى: لا يوجد مشكلة في البيت؟ قال عليه السلام:

(( لا يفرك -أي لا يكره- مؤمناً مؤمنةً, إن كره منها خلقاً, رضي منها خلقاً آخر ))

[ أخرجه مسلم في الصحيح عن أبي هريرة ]

هكذا علمك النبي الكريم، منزعج من هذه الصفة، لكنها امرأة حصان، رزان، تطهو لك الطعام، تنظف لك البيت، تطمئن إذا غبت عنها، تحفظك في مالها، هذه كلها ميزات، ألا تشفع لها بهذه السيِّئة؟ ((إن كره منها خلقاً, رضي منها خلقا آخر)) الأب عطفه وحنانه، حدبه على أولاده، إذا قرأ هذه السيرة, كان النبي عليه الصلاة والسلام قدوةٌ له في الأبوة، إذا قرأ هذه السيرة قائد حربي، فالنبي الكريم, لما سيدنا جعفر بن أبي طالب, استشهد في مؤتة، توجَّه بنفسه إلى بيت جعفر، ورأى زوجته وقد عجنت عجينها، وألبست أطفالها، ودهنتهم، وغسلتهم، كلهم يتهيؤون للقاء جعفر -وهو قد استشهد في مؤتة- ذهب بنفسه لإخبارهم باستشهاده, كي يخف عليهم وقع هذا الخبر، أخذ أولاده وضعهم في حجره، قبَّلهم، عانقهم، ذَكَر أباهم بخير، وأعلمهم بالنبأ.

فإن كنت قائدًا، وإن كنت زوجًا، وإن شابًّا، وكنت داعية، أي إنسان إذا قرأ سيرة النبي الكريم, يرى في النبي عليه الصلاة والسلام نموذجاً أعلى، ومثلاً يحتذى، وقدوةً صالحة، وأسوةً صالحة.

وإن شاء الله في الدروس القادمة, نبدأ بعض الأحداث، ونستنبط منها بعض العبر، فلعل الله عز وجل ينفعني وإياكم بهذه السيرة.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور