وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 15 - سورة هود - تفسير الآيات 110 – 117 الاستقامة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا، وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.

أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُم


بعضهم آمن بالتوراة وبعض آخر كفر بها :

﴿  وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(110)﴾

[  سورة هود  ]

بعضهم صدَّقه، وبعضهم كذَّبه ﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾


وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُم


1 ـ وردَ لفظ ( كلمة )في سِتَّة وعشرين موضِعاً من القرآن الكريم :

هذه الصِّياغة وردَتْ في القرآن الكريم في سِتَّةٍ وعشرين موضِعاً.

 مِن أبْرَزِ هذه المواضع، قوله تعالى:

﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلً ا ۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿ إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) ﴾

[ سورة التوبة  ]

﴿  كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(33) ﴾

[  سورة يونس  ]

﴿  وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى(129) ﴾

[  سورة طه  ]

﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)﴾

[  سورة يونس  ]

﴿  وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّهُمْ لَهُمْ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ(173)﴾

[  سورة الصافات  ]

﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) ﴾

[  سورة يونس  ]

2 ـ علَّة الخلق إسعاد الخلْق :

فما هي كلمات الله؟ الله سبحانه وتعالى مِن أسمائه الحق، فإذا قال كلمةً فَكَلِمَتُه هي الحق، وإذا وَعَدَ وعْدًا فَوَعْدُهُ هو الحق، وإذا توعَّدَ تَوَعُّداً فَتَوَعُّدُهُ هو الحق، وإذا أقرَّ مبدأً فَمَبْدأُهُ هو الحق، فالله سبحانه وتعالى مِن كلماته:

﴿  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)﴾

[  سورة هود  ]

عِلَّة الخلق إسعاد الخلْق، هذه كلمة الله سبحانه وتعالى، لذلك ليس الهَدَف أن يُعاقِبَ خلْقهُ بِذُنوبِهم، ولكنّ الهدف أن يُسْعِدَهم بأعمالهم الصالحة، لذلك كان حليماً عليهم، ورؤوفاً بهم، ويُطاوِلهم ويُمْهِلُهم، لأنَّ كلمة الله اقْتَضَتْ أنّه خلقهم لِيُسْعِدَهم.

المُعَلِّم الذي يضيقُ ذرْعاً بِطَالبِه، ويُحاسِبُهُ على كلّ غلْطةٍ حِساباً عسيراً إلى أن يُخْرجَهُ من المدرسة في أسْبوعَين! هذا ليس معلِّماً، الهدَف الأكبر إسْعادُ الخلْق، ولولا هذا الهدف لقضى الله بين عِبادهِ فيما هم فيه يختلِفون، ولولا هذا الهدف العظيم لعَجَّل لهم العِقاب، ولولا هذا الهدف لأهْلكَهُم، لولا هذا الهدف لقصَمَ الكافرين، وأراحَهم وأراحَ منهم، ولكنَّ الهدف الكبير إسْعادُ الخلْق لذا يُطاوِلُهم، مثلاً ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾

3 ـ لولا كلمة من الله لكان لِزاماً إهْلاكهم :

لكان لِزاماً إهْلاكهم، لولا أنَّ الله سبحانه وتعالى خلقَهم ليُسْعِدَهم لأهْلكَهُم قبل اسْتِنْفاذ الفُرَص، فالله سبحانه وتعالى لا يُهْلكهم إلا بعد أن يسْتنفذ كلّ الفُرَص لِهِدايَتِهم ﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى﴾

﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) ﴾

[  سورة يونس  ]

 وانتهى الأمر.

إذاً: هذه الكلمة التي ورَدَ ذِكْرها في القرآن كثيراً، أنَّ عِلَّةَ الخَلْقِ إسْعادُ الخَلْق، أيْ أن سببُ الخَلْق إسْعادُهم، لذلك ليس الهدف معاقبتهم، بل الهدف أن يهديهم، من هُنا كان الحِلْم، ومن هنا كانت الرَّحمة، والمُطاولة 

(( يا ابنَ آدمَ ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي يا ابنَ آدمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ  ولا أُبالِي ، يا ابنَ آدمَ ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لاتُشْرِكْ بِيْ شَيْئًَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً . ))

[ أخرجه الترمذي وأحمد ]

أتمنَّى أن تكون هذه الفكرة قد اتَّضَحَتْ لكم، فالهدف إسْعادُ الخَلْق، وليس الهَدَفُ أن يأخذهم على ذُنوبهم، وأن يأخذهم بِمَعاصيهِم ﴿ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا﴾ لكان لِزاماً إهلاكهم ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾

 حُسْن الظنّ بالله ثَمَن الجنَّة، أنا عند ظنّ عبدي بي فلْيَظُنَّ بي ما يشاء. 


وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ


1 ـ لكلِّ عمل صغير أو كبير ثواب أو عقاب :

﴿  وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(111)﴾

[ سورة هود  ]

﴿  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾

[ سورة الزلزلة  ]

مهما بدا لك هذا العمل صغيراً فالله سبحانه وتعالى سيُثيبُ عليه، ومهما بدَتْ لك هذه المُخالفة يسيرةً فالله سبحانه وتعالى سيُحاسِبُ عليها، يا رسول الله عِظْني وأوْجِز! فقال عليه الصلاة والسلام: 

(( ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾ فقال هذا البدوي : قد كُفيت، فقال عليه الصلاة والسلام : فَقُهَ الرَّجل ...   ))

[ ورد في الأثر ]

﴿ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا ﴾ لمَّا بِمَعنى إلا ﴿ وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾

2 ـ الله يعلم كل عمل حجمَه ونيتَه :

يعني هذا العمل يعرف الله حجمه ونواياه، وكم بُذِلَ من أجله، ويعرف هدفه وباعثه، و وقائعه، ويعرف عنه كلّ شيء ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾


فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ


1 ـ شيَّبتْني هودٌ :

أحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام رأى النبي عليه الصلاة والسلام في المنام فقال: يا رسول الله قلتَ، إنَّ هوداً شيَّبَتْكَ فما الذي شيَّبَكَ مِن هود؟ أخبار الأُمم فيها وهلاكهم؟ قال: لا، ولكنَّ الذي شيَّبني قوله تعالى:

﴿  فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)  ﴾

[ سورة هود  ]

 لذلك الآية التي تَلَتْ تلك الآية ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾

2 ـ الله يأمر نبيَّه والمؤمنين بالاستقامة :

فاستقم كما أُمرت! الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام أوَّلاً، ولأمَّتِهِ ثانياً، والأمر هو الشَّرْع، والأمْرُ هو القرآن، هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهذا الشَّرْع الذي شرّفنا الله به هو الأمر.

وأما فاسْتَقِم، أيْ كُنْ على هذا الأمْر، مِن معاني كما: على، وكما تعلمون في الرياضيات أنَّه بين نقْطتَين لا يمرّ إلا مستقيمٌ واحد، فالاستقامة تعني التَّطابق التام مع أمْر الله سبحانه وتعالى.

3 ـ الاستقامة أساسُ الدِّين :

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ الحقيقة أنّ الاستقامة أخْطَرُ شيءٍ في الدِّين، ففي الدِّين صلاة وصِيام وفي الدِّين حجّ وزكاة، وفي الدِّين عِبادات أُخرى، ولكنَّ الاستقامة أخْطرُ ما في الدِّين، لأنَّه إذا تصوَّرْنا أنَّ طريقاً إلى الله سبحانه وتعالى، فكلّ مُخالفةٍ يرْتَكِبُها المسلِمُ إنَّما هي عقبةٌ كؤودٌ في طريقه إلى الله سبحانه وتعالى، وحجْمُ هذه العقبة بِحَجْم معْصيَتِهِ، فَكُلَّما كَبُرَتْ معصِيَتُهُ كبرَت هذه العقبة، لذلك مَن كان لهُ معْصِيَةٌ أو مُخالفةٌ عن أمر الله، أو زَيْغٌ أو تجاوُزٌ أو طُغيانٌ، فإنَّ عقبةً كَؤُود تَقِفُ في طريقه إلى الله سبحانه وتعالى، عندئذٍ لا يُجْدي مع المعصيَة شيئاً، لا تُجْدي صلاته، ومن لم تنْهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يَزْدَدْ من الله إلا بُعْداً، ولا يُجْدي الصِّيام، من لم يَدَعْ قَوْل الزُّور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامه وشرابه، ولا تُجْديه الزَكاة

﴿  وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)﴾

[  سورة التوبة  ]

لا يُجْدي شيءٌ ما دامتْ الاستقامة مُعَطَّلة، لذلك المشكلة الكُبرى في العالم الإسلامي أنَ العبادات متوافرة، وأنَّ المكتبة عامرة، وأنَّ المساجد ممتلئة، وأنَّ الخطب رنَّانة، واجْتِماع المصلِّين صارخٌ جدًّا، ولكنَّ فقْدَ الاسْتِقامة جَعَل في طريق المسلمين إلى الله عَقَباتٍ كؤُود، فلِذلك إذا أكْثرْتُ من ذِكْر الاستقامة فلأنّها أساس الدِّين، وسيّدنا عمر رضي الله عنه يقول: << من شاء صام، ومن شاء صلَّى، ولكِنَّها الاستقامة >> .

أحد الأعراب جاء للنبي صلى الله عليه وسلم: 

(( قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، قُلْ لي في الإسْلامِ قَوْلًا لا أسْأَلُ عنْه أحَدًا بَعْدَكَ، وفي حَديثِ أبِي أُسامَةَ غَيْرَكَ، قالَ: قُلْ: آمَنْتُ باللَّهِ، ثم اسْتَقِمْ. ))

[ صحيح مسلم ]

إن لمْ ترْضَ أن تستقيم فاسْتَعِدَّ للبَلاء، أنت تطْلبُ من الله الكرامة، وهو يطلبُ منك الاستِقامة، فليس الوليّ الذي يطير في الهواء، فالطائر يطير في الهواء، وليس الوليّ الذي يمشي على وَجه الماء، ولكنَّ الوليّ كلّ الوليّ هو الذي تجده عند الحلال والحرام، فأساس الدِين الاستقامة، ومِن دون استقامة لا شيءَ يُجدي، ولا شيء يرفع صاحبه، ولا شيءَ ينفعُ من دون أن تستقيم، لأنّك إذا اسْتقَمْتَ أزَحْتَ كلّ العقبات التي في طريقك إلى الله عز وجل، هذا معنىً دقيق. 

4 ـ العمل الصالح دفعٌ إلى طريق الاستقامة :

ماذا بقيَ عليك؟ بقي عليك التحرك إلى الله عز وجل، ما الذي يحملك إلى الله عز وجل؟ عملك الصالح، فالاستقامة تمهيدٌ للطريق، والعمل الصالح دَفْعٌ لك على هذا الطريق، فكأنَّ الدِّين يقوم على الاسْتِقامة والعمل الصالح، بالاستقامة تُنظِّف الطريق، وبالعمل الصالح تندفع إلى الطريق، الذي يدْفعُك أو الذي يرفعُك أو الذي يوصِلُك هو عملك الصالح

﴿  وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ(19) ﴾

[  سورة الأحقاف  ]

والعملُ الصالح يرفع ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾ اسْتَقِم كي تُزيحَ العقبات، اسْتَقِم كي تهْتك الحُجُب، اسْتَقِم كي تَصِحَّ الوِجْهة، واسْتَقِم كي يكون الطريق إلى الله سالكاً، وإذا أردْت أن يكون الطريق إلى الله سالكاً فاسْتقِم، وإذا أردْت أن يكون الطريق إلى الله سالكاً بِصُعوبة، فَبَعْضُ المخالفات تجعلهُ سالكاً بِصُعوبة، إذا أردْت أن يكون الطريق مَسْدوداً فارْتَكِب بعض المعاصي، فيصبحُ الطريق مَسْدوداً إلى الله عز وجل، فلا ينْفعُ الحج، ولا تنفعُ الزكاة، ولا ينفعُ الصّيام، ولا تنفع الصلاة. 

5 ـ لن تُحْصوا خَيْرات الاستقامة :

 الاستقامة عَيْنُ الكرامة

((  ابْنَ عمر، دِينَكَ دينَكَ، إنَّه لحمكَ ودَمُكَ، خُذْ عن الذين اسْتقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا  ))

[ الألباني حديث ضعيف ]

((  إنَّ هذا العِلْم دين فانْظُروا عمَّن تأخذون دينكم  ))

[ أخرجه مسلم ]

 وعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : 

(( استَقيموا ولَن تُحصوا واعلَموا أنَّ خيرَ أعمالِكُمُ الصَّلاةَ ولا يحافظُ علَى الوضوءِ إلَّا مؤمنٌ  ))

[  ابن ماجه  ]

 أيْ لن تُحْصوا الخَيْرات التي سوف تأتيكم من الاستقامة

﴿  بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(66) ﴾

[ سورة الزمر  ]

﴿  قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(144) ﴾

[  سورة الأعراف  ]

فإن اسْتَقَمْتُم على أمر الله لن تُحْصُوا الخيرات أَهِيَ في صِحَتِكم؟ في صِحَّتِكم، أهِيَ في زواجكم؟ في زواجكم، أَهِيَ في أُسْرتكم؟ في أسرتكم، أَهِيَ في عملكم؟ في عملكم، أَهِيَ في سعادتكم؟ في سعادتكم، أَهِيَ في كِيانكم؟ في كِيانِكم، أُريد أن أكون صريحاً معكم، مهما كانت الظروف صَعبةً، فإنَّ المستقيم على أمر الله استقامةً تامّة يشْعر أنَّه غارقٌ في نِعَم الله، ويشْعر أنَّ أحداً في الأرض لن يكون أسْعَدَ منه على الرغْم من كلّ الصُّعوبات التي يُعاني منها الإنسان في العصور الحديثة (( اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ))

 قال سيّدنا سَعْد: << ثلاثةٌ أنا فيهِنّ رجل: ما سَمِعتُ حديثاً من رسول الله إلا علمْتُ أنَّه حقّ من الله تعالى >> .

يحلو لي أحياناً أن أسأل بعض الإخوة الأكارم عن أحوالهم المعيشيّة، وعن حياتهم الزَّوْجِيَّة، وعن أعمالهم، الذي يُثْلِجُ الصَّدْر، أنَّ المستقيم منهم يؤكِّد لك أنَه في خَيْر لا يوصَف! وفي سعادةٍ لا توصف، وفي سرور وطمأنينة، وفي راحة قلبيّة، وفي توكّل، وأنَّ الله سبحانه وتعالى يُعاملهُ معاملةً خاصَّة، صدق الله العظيم

﴿  أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21) ﴾

[  سورة الجاثية  ]

 صدق الله العظيم 

﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61) ﴾

[  سورة القصص  ]

﴿  أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) ﴾

[ سورة القلم  ]

﴿  أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ(18) ﴾

[ سورة السجدة  ]

﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) ﴾

[  سورة الزمر  ]

﴿  أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(22) ﴾

[  سورة الملك ]

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ حديث واحد ضَعوهُ في غرفتكم الخاصّة (( اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا ))

قَوْلُ النبي عليه الصلاة والسلام لك معاملةٌ خاصّة، الأمور تدور كلها لمَصلحتك، والظروف تهيَّأ لِخدمتك، والأعداء يعملون لإكرامك.

يُنادى له في الكون أنَّا نحبّـه     فيسْمعُ من في الكون أمر محبِّنا

أطِعْ أمرنا نرْفَعْ لأجلك حجبنا    فـإنا منَحْنا بالرِّضـا مـن أحبَّنــا

ولُـذْ بِحـِمانا واحْتـَمِ بِجَـنابِنــا      لِنَحْميك مِمَّا فيه أشرار خلقنــا

[ علي بن محمد بن وفاْ ]

***

ما مِن مخلوقٍ يعْتَصِمُ بي من دون خلقي، أعرفُ ذلك من نِيَّتِهِ فَتَكيدُهُ أهل السماوات والأرض إلا جعلْتُ له مِن بين ذلك مَخْرجاً، وما مِن مَخلوقٍ يعتصِمُ بمَخلوقٍ دوني أعرفُ ذلك مِن نيَّتِهِ إلا جعلْتُ الأرض هَوِيّاً تحت قدَمَيْه، وقطَّعْتُ أسباب السماء بين يديه. 

6 ـ لابد من الاستقامة في المعاملة :

(( اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا )) الدِّين في البيْع والشِّراء، وحقيقة الدِّين تظهر في الأسواق، وحقيقة الدِّين تظهر في البيت الزَّوْجي، وحقيقة الدِّين تظهر في الجِوار، حقيقة الدِين تظهر في المحاككة بالمال، حقيقة الدِين تظهر في السَّفر، أتَعْرِفُه؟ قال: نعم، فقال: هل سافرْتَ معه؟ قال: لا، قال: هل جاوَرْتَهُ؟ قال: لا، قال : هل حاككْتَهُ بالدِّرْهم والدِّينار؟ قال: لا، فقال: أنت لا تعرفهُ! هذا هو الدِّين.

مِن تعريفات النبي عليه الصلاة والسلام الجامعة المانعة: الدِّين المعاملة، الدِّين النصيحة، الدِّين الورعُ، الدِين أن تنصَحَ لله، ولرَسوله وللأئمَّة، وللمسلمين، أن تنصحَهُ، هذا الذي يقول لك: انْصَحْني فلا تنْصَحُهُ، لسْتَ دَيِناً، وهذا هو الدِّين، أن تكون نصوحاً، وأن تكون ورِعاً، وأن تكون مخلِصاً.

ابن عباس رضي الله عنه قال له أحدُ أصحابه: يا ابن عباس أَوْصِنِي؟ فقال ابن عباس: عليك بالاستقامة، اتَّبِعْ، ولا تبْتَدِع! إنَّها الاستقامة ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ﴾

يجب أن ينطبقَ السُّلوك والتّصرّفات والعادات والتقاليد، وما يجْري في الأفراح والأتراح، وعند المصيبة والمسرَّة وفي الزَّواج، وفي البيع والشِّراء، وفي علاقتك بِنَفسك، وفي علاقتك بِرَبِّكَ، وفي علاقتك بأهلكَ وفي علاقتك بِجيرانِكَ، وفي علاقتك بِمَن هو أعلى منك، وبِمَن هو أدنى منك، وفي علاقتك بالحيوان، يجب أن تكون مستقيماً استقامةً تامَّة، ولأنّ الاستقامة شرْط أساسي لِكُلّ إنسان، قال الله عز وجل: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ إنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، الحدّ الأدنى للسَلامة هي الاستقامة، الاستقامة إلْزامِيَّة، لكنّ العمل الصالح اختياري، العَدْل إلزامي ولكنَّ الإحسان نِسبي. 


وَلَا تَطْغَوْا


المعنى الأول : الطغيان مجاوزة الحد :

﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا ﴾ الطُّغْيان مُجاوزة الحدّ، قال تعالى:

﴿  إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ(11) ﴾

[ سورة الحاقة  ]

الطُّغْيان مجاوَزة الحدّ، فلا تطغى على زوْجتك، لا تَطْغى على ولدك، ولا تطغى على جيرانك، لا تطغى على زبائنك، لا تطغى على من يُراجِعُكَ وأنت خلف المكتب، لا تطغى على أحد، الطُغيان منْهِي عنه بكلّ مراتبه، وبِكُلّ وأنواعه، بكلّ صوره، وبكلّ مستوياته، ولا تطْغَوا.

2 ـ المعنى الثاني : إيَّاك أنْ تزيد في الاسْتِقامة على حدّها المشروع :

بعض العلماء حملَ هذا النَّهْي محْمَلاً آخر، إيَّاك أنْ تزيد في الاسْتِقامة عن حدّها الذي أمر الله به، فهناك إنسان مثلاً يمْنَعُ زوْجته مِن أن تظهر أمام صِهْرهِ! هذا طُغيان، لأن الله سبحانه وتعالى أحلّ للصِّهْر أن يرى أمَّ زوْجته على التَّأْبيد، هناك أُناسٌ يزيدون على الحدّ الذي أمرَ الله به.

إذاً: كلمة لا تَطْغوا لها مَعنيان: إياكم أن تتجاوزوا الاستقامة إلى الانحراف والخروج، فكأنّ الاستقامة خطٌ مستقيم، والخروج عن هذا الخط المستقيم طُغيان، في كلّ شيء، إذا اقْترضْتَ مبلغاً من المال، لا تطغى، لا تُمْطِل في ردِّه، إذا أقْرضْتَ مبلغاً من المال ولا تطْغَى، ولا تُكَلِّف هذا الذي اقْترَض شيئاً فوق الذي اقْترَض، حينها ينقلب القرض إلى ربا، ولا تَطْغَوا، وإذا عامْلْت الزَوجة فلا تطْغى في معاملتها، ولا تهْضِمها حقوقها.

والمعنى الثاني: إيَّاك أن تزيد في اسْتِقامتك على الحد الذي أمرَ الله بِهِ، إنّ لِجَسَدِكَ عليك حقاً، هذا الذي يصوم الدَّهْر ما صام!

(( جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا : وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ، وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي))

[ البخاري  ]

فهذا الذي نذر أن لا يتزوّج طغى، وهذا الذي نذر أن لا يأكل لحْم حيوانٍ فقد طغى

﴿  وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5) ﴾

[ سورة النحل  ]

هذا الذي نذر أن يصوم الدّهر فقد طغى.

الطُّغْيان له معْنيان، إما التقصير وإما مُجاوزَة الحدّ، إما التقصير عن الحدّ المقبول، وإما مُجاوَزة الحد المقبول ﴿ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾


وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ


﴿  وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ(113) ﴾  

[  سورة هود  ]

1 ـ ما هو الظلم ؟

أحد التابعين صلَى خلْف إمامٍ فقرأ الإمام هذه الآية، فوَقَعَ مَغْشِيّاً عليه، فلمَّا أفاق مِن إغْمائِهِ قيل له: ما الذي جعَلَك هكذا؟ قال: هذا الذي ركنَ إلى الظالم فكيف الظالم نفسه؟!! من هو الظالم؟ ما تعريف الظالم؟ إذا كان في البيت طعامٌ نفيس، وتناوَلْتَ قبل هذه الوجْبة النَّفيسة طعاماً من الدَّرجة الدنيا، وأضَعْت عليك هذا الطعام فهذا أحدُ أنواع الظُّلْم، إذا حرمْتَ نفسَكَ الشيء الثَّمين، واسْتَهلكْت الشيء التافه فهذا ظلْم! وظُلْم النَّفْس أشدّ أنواع الظُّلْم

﴿ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَٰكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ۖ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ ۖ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)﴾

[  سورة هود  ]

فَظُلْمُ النَّفْس أنْ تحْرِمَها الخَير، فكلّ من يُبْعدُ نفسه عن الله سبحانه وتعالى، وكلّ من يُبقي نفسَهُ جاهِلَةً، وكلّ من يصرفُ عن طريق الحق، وكلّ مَن يُديرُ ظَهْرهُ للدِّين، وكلّ من يعْصي الله حتى يبْتَعِدَ عنه، هذا أشدّ أنواع الظلاّم، وهذا الذي ظلمَ نفسه، فإذا ظلَم نفسه، فَمِن باب أولى أن يظلم غيره، لذلك ترى الزَّوْج الذي لا يُصَلِّي كثيراً ما يظلمُ زوجته، هذا حرمَ نفسهُ الخير، فَحِرْمان الخير حملهُ على أن يَحرم مَن حوله الخَير.

فكلمَة ظالم تبدأ بالذي يُفْرط أو يُفَرِّط على نفسه، فَيُوصِلَها إلى الشقاء في الدنيا أو الآخرة، هذه بِداية الظُلم، وينتهي الظُّلْم بأن يبْنِيَ الإنسان مَجْدهُ على أنقاض الآخرين، أو يَبْنِيَ غِناه على فقْرِهم، أو حياته على موتهم، أو أن يبْنِيَ أمْنَهُ على خوْفِهم، ما مِن كلمةٍ أوسع في العلاقات الاجْتِماعِيَّة من كلمة الظُلْم، أنْ تضَعَ الشيء في غير موضِعِه، وأن تضَع الجَوْهرة في المطبخ، هذا ظُلْمٌ لها!

أن تستخدم شيئاً ثميناً لِمُهِمَّةٍ تافِهَةٍ هذا أحدُ أنواع الظّلْم، لذلك الظُّلْم أنْ تضَعَ الشيء في غير موضِعِه، ربّنا سبحانه وتعالى لم يقل: ولا تركنوا إلى الظالمين! 

2 ـ الظلم بين الكثرة والقلة :

فما معنى الظالمين؟ وما معنى الظُلاّم؟ وما معنى الذين ظلموا؟ قد يكذب الإنسان مرَّة واحدة في حياته فَيُقال لقد كذب فلانٌ، فإذا عُهِدَ عليه الكذب يُقال له: كاذِب، فإذا عُهِدَ عنه كثْرة الكذب يُقال له: كذَّاب، فالذي يكذِبُ مرَّة واحدة نستخدِمُ الفِعل، أما الذي يُعْهَدُ عنه الكذب نستخْدِم اسم الفاعل، أما إذا أكْثر من الكذب نستخدم صِيَغَ مُبالغة اسم الفاعل كَفَعَّال كذاب، وفَعول كذوب، وفعيل حقير، سفيه، وفَعِل قذر، ومِفْعال، صِيَغ مبالغة اسم الفاعل، إن كَثُرَ اتِّصاف الفاعل بهذه الصِفة، فإذا عُهِدَ عنه هذه الصّفة نستخدم اسم الفاعل الطبيعي، فإذا كذب مرَّة واحدة نقول : كذب، فالله سبحانه وتعالى قال: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾

لو أنَّ هذا الإنسان ظلمَ أمامك مرَّةً واحدة إيَّاك أن ترْكنَ إليه، نَفْيُ حالة مفردة، فكيف لو اتَّصَف هذا الصَّديق بالظُّلْم؟ وبأنَه كثير الظُّلم، وقد اتَّضَح معنى الظُّلْم أنْ تضَعَ الشيء في غير موضِعِه، وأن ترْخيَ الحَبْل للزَّوْجة حتى تطْغى عليك، هذا ظُلْم، أو أن تُبالِغَ في القسْوة حتى تسْحَقها! هذا هو الظُّلْم، أنْ تضَعَ الشيء في غير موضِعِه، والظُّلْم كما قلنا مسْتَوَيات أقلّ مستوياته أن يقعَ منك ظلْمٌ لِمَرَةٍ واحدة، فالنَّهي: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾


ما هو الركون ؟


المعنى الأول :

ما هو الرُّكون؟ هذا بحْثُهُ يطول، ولكن قبل أن نُفصِّل في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا ﴾

معنى توجيه الأمر إلى من يفعله ولمن لا يفعله :

العلماء قالوا في قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾ الأمر إذا وُجِّهَ إلى من يُطَبِّقُه فالمعنى المداومة عليه، وإذا وُجِّه لِمَن لا يُطَبِّقُه، فالمعنى أن يفْعَلَهُ، فإن قلتَ للكَسُول: ادْرُسْ، معنى اُدْرُس أيْ اُدْرُسْ حقيقة، أما إذا قلت للمُجْتَهِد: ادْرُس فَمَعنى ذلك داوِم على اِجْتِهادك، فإذا أمرَنا الله عز وجل بالاستِقامة، وكُنَا مستقيمين فالأمر ينصبّ إلى المداومة عليها.

نعود إلى: (ولا ترْكَنوا) ، العلماء لهم في هذه الكلمة تفسيراتٌ كثيرةٌ جدًّا، من تعريف الرُّكون إلى الظالم الميْلُ اليسير له، لك صديق في العمل ولك جار، ولك قريب ظالمٌ لِنَفسِهِ، لا يصلّي، وقد يشْربُ أحياناً، إذا ركَنْتَ إليه ومِلْتَ إليه ودعاك إلى غذاءٍ ثمين، ودعاك إلى نزْهة، أو قدَّم لك هدِيَّة و رَكَنْتَ إليه، ومِلْتَ إليه مَيْلاً يسيراً، ما الذي يحْصل؟ تَمسّكم النار! كيف؟ بعد قليل! أما الآن، ما معنى لا تركنوا؟ العلماء قالوا: ولا تسْكُنوا، ولا تسْتَنِدوا، ولا تعتمِدُوا على هؤلاء، قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) ﴾

[  سورة المائدة ]

 إذا ركَنْتَ إليهم، وطاب لك العيش معهم، وإذا اسْتَمْرأْتَ نمَطَ معيشتِهم فأنت منهم

﴿ لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) ﴾

[ سورة آل عمران ]

هذا هو المعنى الأوّل: لا تسْكنوا إليهم، لا ترتاحوا لهم. 

المعنى الثاني :

المعنى الثاني: لا تطْمَئِنُّوا لهم، قال تعالى :  

﴿  إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14)﴾

[ سورة فاطر  ]

المعنى الثالث :

لا تُداهنهم، لا تُجاملْهم، ولا تُثْنِ عليهم، لأنَّك إذا داهَنْتهم، أوْهَمْتَ الناس أنَهم على حقّ، وإذا داهنْتهم رفعتهم، وإذا داهنْتهم حملْت الناس على أن يقْتدوا بهم.

لك صديق لا يُصَلِّي، فإذا أثْنَيْتَ على أخلاقه، تقول: لبق و لطيف وناعم وأخلاقي!! فإذاً أنت تكفر بالدِّين، أخلاقي وهو لا يُصَلِّي!! ما قيمة الدِّين؟ شيءٌ لا قيمة له، لا تداهنوهم، المداهنة في تعرف العلماء بذْلُ الدِّين من أجل الدنيا، وأما المدارات بَذْل الدنيا من أجل الدِّين، دارِهِم وأَعِنْهم، وقدِّم لهم خِدْمةً، ابْذِلْ مِن وقْتك وجهدك ومالك، لعلَّهم يُحِبُّوك، فإذا أحبُّوك أحبُّوا الله عز وجل، أولياء أمَّتي إذا رأوا ذُكِرَ الله بهم، لا تُداهِنوهُم

﴿  وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ(9) ﴾

[  سورة القلم  ]

من أعان ظالماً سلَّطَهُ الله عليه، العقاب العاجل من الله أنَّ هذا الذي أعَنْتهُ على ظُلْمٍ سوف تكون أنت الضَحِيَّة، لا تمْدحوهم فإنّ الله يغضب إذا مُدِحَ الفاسق.

لك صديقٌ فاسقٌ لا يُصَلِّي، إيَّاك أن تمْدحهُ أو تعينهُ على معْصِيَة، أو تداهِنَهُ، يقول لك: الصَّلاة لا فائدة منها! ثمَّ تقول له: الحقّ معك!! أقْررْتَهُ على فِكرة غير صحيحة، وأقْررْتهُ على الباطل، أحْبِبْ حبيبك هَوْناً ما عسى أن يكون بغيضَ يوماً ما، ولا ترْضَوا عن أعمالهم، قال عليه الصلاة والسلام : 

(( الذَّنْب شؤْم على غير صاحِبِه ؛ إنْ عيَّرَهُ ابْتُلِيَ به، وإن ذكرهُ فقد اغْتابَهُ، وإن رضِيَ به فقد شَرِكَهُ في الإثْم ))

[  كنز العمال عن أنس  ]

إنْ قيل لك: فلان فعلَ كذا وكذا، وأخذ مبلغاً كبيراً من المال من غير وجْه حقّ، فقلْتُ: والله قد أفلح! هذه الكلمة تجعلكَ شريكاً له بالإثم، لا تسْكنوا إليهم، ولا تطْمئِنُّوا لهم، لا تُداهِنوهم ولا تُعاوِنوهم، ولا تمْدحوهم، ولا ترْضَوا عن أعمالهم، ولا تودُّوهم، ولا تقيموا معهم علاقة حميمة، لا تسْهر معهم إلى منتصف الليل، ولا تذهب معهم إلى النّزهة، السَّهْرة والنّزهة والحفلة تدلّ على العلاقة الحميمة، ولا تليق هذه العلاقة لِغَير المؤمن، فلا ترْكنوا بِمَعنى لا تُطيعوهم، ولا ترْكنوا بِمَعنى لا تميلوا إليهم، ولا تنْحطُّوا في هواهم، هُم في الحضيض، وهم في حفْرةٍ ما لها من قرار، قَذِرون، لا تنْحطّوا إلى قذارتِهم، ولا تنْحطّوا إلى دناءَتِهم، ولا تنْحطُّوا إلى أنانِيَتِهم، لا تنْحطّوا إلى ضيقِ أُفقهم، لا تنحطّوا إلى شهواتهم، ولا تنقطِعوا إليهم تلتفِتون إليهم، وتعرضون عن المؤمنين، لا تُصاحِبوهم، ولا تُجالسوهم، ولا تزورهم، ولا تتشبَّهوا بهم. 


لا تمدَّنَ عينيك إلى متاع الكافر :


لك قريب درس بأوروبا، وعاد إلى البلد، وأقام حفلاً مختلطاً! بعدها عيد زواجه، وبعدها عيد ميلاد ابنه! لا تتشبَّهوا بهم، فهذه عادات ليْسَتْ للمسلمين، وما أنزل الله بها من سلطان.

جاء الصَّديق في غِياب الزَوْج فاسْتَقْبلتهُ الزَّوجة، ويقول لك: هذا تحضَّر ورقيّ! إيَّاك أن تُقلِّدهُ ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا ﴾ أُقيمتْ حفلة عرْسٍ مختلطة، إذا قلَّدتموهم وتشبَّهْتم بهم، فهذا المؤمن الذي يرْتدي أحْدث صرعات الأزياء هو ليس مؤمناً، هذا تقليدٌ كبير، لا تمُدُّوا أعينكم إلى ما عندهم، ما هذا البيت؟ ما هذه الحديقة؟ وما هذه المزرعة؟ وما هذا البستان؟ ما هذه السيارة؟ 

﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ(131)﴾

[ سورة طه ]

﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ(55)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4)﴾

[ سورة المنافقون ]

لا تمد عينك إلى ما عنده من أثاث، من بيت فخم من أشياء في مُنتهى الرفاه، إنَّك إن مددْت عينك إليه فهذا رُكون إليه، ولا تقل هنيئًا لهم! فإنّك إن قلتها فأنت لا تعرفهم

﴿  وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)﴾

[ سورة طه  ]

لا تذْكروهم، ترفَّعوا عن ذكرهم، ولا تعظِّموهم، ولا تُؤنِسوهم، إذا جلسْت معهم وأثْنَيْتَ على أعمالهم، وأطْريْتَ على أخلاقهم فقد آنسْتَهُم، هم مسْتَوْحِشون، إذا جلسْت مع هذا الصَّديق الذي لا يصلِّي، وأقمْت معه علاقةً حميمة، وأثْنَيْت على ذكائه وعمله، وعلى تِجارتِه، فقد آنسْتهُ وهو مسْتَوْحِش، وفي ضيق، وأنت خفَّفْت عليه! لا تؤنسوهم، ولا تُقِرُّوهم على أعمالهم، هذا كلّه مِمَّا توحي به كلمة ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ﴾


فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ


إذا زار الإنسان صديقاً لا يُصَلِّي أو ظالماً لِنَفسِه، أو يسْتَخِفّ بالصَّلاة، أو يأكل مالاً حراماً، أو دخْلُه غير مَشْروع، وكان في الغرفة مكيِّف، فكيف تمسَّكم النار؟! ما معنى تمسَّكم النار؟ إنَّ في قلبه ناراً مشْتَعِلَة، إذا أقْبلْتَ عليه، واتَّصَلْت به، وأحْببْتَهُ، وأقَمْتَ علاقة بينك وبينه، انْتَقَلَتْ النار التي في نفسهِ إليك تخرج من عنده و تحس بالضِّيق!! تضيقُ بك الدنيا، قال تعالى :

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)  ﴾

[  سورة التوبة  ]

هذا الضِّيق تشْعر أنَّ قلبك يلْتهب ويشْتعل، ما الذي أصابك؟ لقد ركنْت إليه ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ﴾

﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ(1)لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ(2)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(3)وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ(4)وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(5)لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(6) ﴾

[  سورة الكافرون  ]

﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ ﴾ أي إذا اتَّصلْت بهذا الظالم، وركنتَ إليه، وأحْببْتَهُ، ومِلْتَ إليه، وسكَنْت إليه مسَّتْك النار المشتعلة في قلبه، نار البُعْد والضَّياع، ونار القلق والخوف ونار الضَّعف، وهذه النار التي في قلبه أصابتْكَ، لذلك بِذِكْر الصالحين تتنزَل الرَّحمة، وإذا ذكرْت أهل الفُجور تضيقُ النَّفس.


وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ


﴿ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴾ أنت ركَنْتَ إليه لِمَنْفعَةٍ مادِّيّة، ضاقَتْ نفْسُكَ، وفاتَتْك المنْفعة المادِّيَّة، ركنت إليه لهدف دنيوي، فضَاعَ مِنك قلبك وضَاعت مِنك دُنياك ﴿ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ ﴾

إذا ركن الإنسان إلى هذا الفاسق أصابه ما أصابه، فكيف حال الفاسق نفسه؟ 

﴿  وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ(114)وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ(115)فَلَوْلَا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ(116)وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)﴾

[  سورة هود  ]


خاتمة :


قرأتُ في بعض التفاسير أن الله تعالى لو شاء لجَمَع الناس كلّهم على الهدى، ولكِنَّه لم يشأ، فيا تُرى لماذا لم يشأ؟!! لو شاء لهدى الناس جميعاً، ولجَمَعهم على الهدى، ولو شاء لجَعَلهم مؤمنين، لو شاء لجعلهم جميعاً من أهل الجنَّة، ولكنَّه لم يشأ! فلماذا لم يشأ؟ أليس هذا سؤالٌ كبير؟ 

﴿  وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)﴾

[  سورة هود  ]

وهذه آياتٌ من الآيات المعضلة في القرآن الكريم تحتاج إلى دِقَّةٍ في النَّظر، وتوجيهٍ سديد، وتأويلٍ يتناسب مع أسماء الله الحسنى، فلو نظرْت إلى غريقٍ يستجير بك، تقول له: أنا لو شئْت لأنْقذْتُكَ، ولكِنِّي لم أشأ!! هل يرضى عنك؟ يكاد يموت غرقاً، وأنت تقول له ببرود: لو شئْتُ لأنقذْتُك ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾

فكِّروا في هذه الآية، وابْحَثوا عن إجابة لأسئلةٍ كثيرة ولماذا لم يشاء؟ وما ضرَّ لو آمن الناس جميعاً، ودخلوا الجنَة جميعهم، لماذا لم يكن كذلك؟ ولماذا شاء ربّك أن يختلفوا؟ لماذا تمَّت كلمة ربّك لأملأنَّ جهنّم من الجِنَّة والناس أجمعين؟ حسن الظن بالله ثمن الجنّة، وأن تعرف أنّ أسماء الله كلّها حُسنى دليل الإيمان، إن كُنتَ كذلك أوِّل هذه الآية، لأنَّك إن عرفْت مدلولها الحقيقي فأنت مؤمن، أما إذا أخذتها على ظاهرها وقلتَ: لم يشأ لنا الهدى، وشاء لنا دخول جهنم، هذا المعنى لا ترتاح إليه النّفس.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور