- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (011)سورة هود
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا عِلم لنا إلا ما علَّمْتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا، وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه، وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه، وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين .
وصلنا في سورة هود إلى قصّةٍ جديدة هي قصّة سيّدنا شُعيب عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام
﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ﴾
قصة سيدنا شعيب مع أهل مدين :
1 ـ أين هي مدين، ومَن هم أهلها ؟
هذه الآية تضيف إلى القصص السابقة قصةً جديدة، هي قصة مدين، والمقصود بمدين قوم مدين، ومدين إمّا اسم القوم وهم من العرب يسكنون في شمال الجزيرة العربية، و إمّا أنهم سُمُّوا بهذا الاسم نسبةً لمدينتهم مدين، إما هُم بنو مدين أو لأنهم سكنوا مدين، على كلٍّ
2 ـ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا
اليوم مع قصة سيدنا شُعيب، أمّا أنه أخوهم، فهناك أخوَّةٌ إنسانية، وهناك أخوَّةٌ متعلِّقة بقومه، أي أنه منهم، يعرفونه ونشأ بين ظهرانيهم، مطمئنون إليه ولا يشكُّون في نسبه، و" أخاهم " منصوبة، هذه من الأسماء الخمسة، تقول: جاء أخوهم ومررت بأخيهم ورأيت أخاهم، ما الذي نصبها، أي و أرسلنا إلى مدين أيضاً أخاهم شُعيبا
3 ـ فحوى جميع الرسالات : اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ
هذا هو ملخَّص رسالات السماء، وجوهر الدين أن تعرف أنه لا إله إلا الله، وأن تعبده ولا تعبده إلا إذا عرفته، ولا تعرفه إلا إذا نظرت في الكون، فمعرفته تكون من خلال آياته، هذه معرفةٌ فكرية .
أما إذا أقبلت عليه فهذه معرفةٌ نفسية، وشتَّان بين المعرفتين، إمّا أن تستنبط بفكرك أن هذا الإله قويّ و أنه عادل ورحيم، وإمّا أن تتذوق رحمته، أن تتذوقها يعني أن يتجلَّى عليك باسم الرحيم فتعرف رحمته، و قد يتجلَّى عليك باسم القوي فتعرف قوَّته، و قد يتجلَّى عليك باسم الجميل فتعرف جماله، هذه معرفة، معرفةٌ تتأتَّى من الإقبال عليه، و إذا فكَّرت في آيات الله تعرفه عن طريق الفكر، معرفةٌ فكرية، و معرفةٌ نفسية، المعرفةُ الفكرية وحدها لا تكفي، فإذا أُضيف إلى المعرفة الفكرية تلك المعرفة النفسية المبنية على الإقبال عليه، وبعد هذه المعرفة ليس هناك انتكاسةٌ أبداً
فلو شاهدت عيناك من حسنـنا الذي رأوه لمَّا ولَّيتَ عنا لغــيرنا
ولو سمعتْ أذناك حسنَ خطابنا خلعتَ عنك ثياب العجب و جـئتنا
***
لو أنك تذوّقت ما عند الله لزهدت فيما سواه، و لكن البطولة أن تعرفه، فإذا عرفته أقبلت عليه و زهدت فيما سواه
4 ـ السبب الذي من أجله أُهلك قوم مدين :
ما السبب الذي دعا إلى إهلاك هؤلاء؟ أنهم أنقصوا المكيال و الميزان، والله سبحانه وتعالى أهلك قوم لوطٍ لأنهم فعلوا الفاحشة، وأهلك قوم شُعيب لأنهم أنقصوا المكيال والميزان، وأهلك الأقوام السابقة بذنوبٍ اقترفوها، فكيف بنا لو أن كل هذه الموبقات وُجدت في مُجتمعاتنا؟
5 ـ معنى نقض المكيال والميزان :
المكيال هو وعاء الكيل، بعضهم يزوِّر هذا الوعاء، يعطيه حجماً أقلَّ من حجمه، وبعضهم يضع في المكاييل صفائح تقلِّل من حجمها، هذا من إنقاص المكيال، وبعضهم يغشُّ الحليب فيجعل فيه ماءً، فكأنه أدَّى ثلثي هذا الحليب، لأنه أضافه ماءً، هذا أيضاً من إنقاص المكيال، والميزان بعضهم يبدِّل و يغيِّر في وحدات قياس الوزن، وبعضهم يضيف مادةً ليست من جنس المبيع، أي يعطيك جبناً فيه مائتا غرام من الماء، وهذا من إنقاص المكيال، يبيعك فولً فيه مرَقٌ يعادل الرُبع، هذا من إنقاص الميزان، يبيعك لبنً مُصفًّى وهو غير مُصفًّى، هذا من إنقاص الميزان، يضع البضاعة في عبوةً لها وزن ثقيل لبضاعةٍ غالية الثمن، هذا من إنقاص المكيال، وإمّا أن يضيف مواد أو وعاءً أو يغش البضاعة أو ما شاكل ذلك .
و يقاس على المكيال والميزان الأطوال، يبيع القماش بالطول يشُدُّه إذا باعه، فإذا اشترى قماشاً يجعل القماش على شكل خط منحنٍ، يشتري القماش وهو مُرخى، و يبيعه وهو مشدود، هذا من إنقاص المكيال والميزان تجوُّزاً.
والمساحات فيها غش كذلك، فهناك من ينقص في المساحة، يضع الجدار على أرض جاره، هذا من إنقاص المساحة، بدلاً أن يضعهُ على أرضه، وإن كان سوراً يجب وضعه بين أرضين، تجده يضعه على أرض جاره، هذا من إنقاص المساحة، ويُحْمَلُ على هذا اللَّعِبُ في العدادات، ويُحمل على ذلك عدادات الوقود، وإضافة نوعٍ من الوقود رخيص مع نوعٍ غالي الثَّمَن، فَيُتلف المحرّكات، وهذا كلّه من إنقاص المكيال والميزان، فالإنسان هو الإنسان، والمنحرف هو المنحرف في شتَّى العصور، وفي كلّ الأمصار
6 ـ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ
ما هو الخير الذي عبّر عنه هذا النبي الكريم؟ قال بعض العلماء: الخير وَفْرةُ المواد ورُخص الأسعار هذا هو الخير، إن كان هذا الخير موجوداً مع المعصية فهذا خيرٌ سيأتي بعده شرّ لا محالة.
الخير يدوم بالطاعة والشكر، ويذهب بالمعصية والكفر :
أحياناً يستخدمون عبارة في بعض البلاغات: هدوءٌ حذِر، أيْ هذا الهدوء سيأتي بعده قصّف عَشوائي، وهذا الخير إذا توافرت المواد بأسعار رخيصة، والناس غارقون في المعاصي فهذا الخير لا يدوم، لا بدّ من أن يأتي بعده شرّ، لأنَّ الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) ﴾
إذا رأيْتَ الله يُتابِعُ نِعَمَهُ عليك، وأنت تعصيهِ فاحْذَرْهُ، هذا هو الهدوء الحذر، وسيأتي بعد هذا الخير شرّ، إن لم نشْكُر وإن لم نتُب وإن لم نستَقِم على أمره وإن لم يُحِبّ بعضنا بعضاً، وإن لم يرحم بعضنا بعضاً
إن رأيْت حاجتك في متناول يدك فاحْفظ هذه النِّعمة، واشْكُر ربّك على هذه النعمة، وأَطِع ربّك شكراً على هذه النعمة، وإذا كان الإنسان في بحبوحة وإذا كان في يُسْر، وكان مستقيماً على أمر الله، فلا يخشى شيئاً، لقوله تعالى:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ
إن كنت في بحبوحة وأنت شاكرٌ مستقيمٌ وطائعٌ، ولك عملٌ طيّب فلا تخشَ أن تزول عنك هذه النِّعمة، لا تزول أبداً لأنَّ الله يحفظك ويحفظها لك،
﴿
7 ـ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ
قد يُصاب الإنسان بِمَرضَيْن، أدْويَة هذا المرض تزيدُ من ذاك المرض، وأدْوية ذاك المرض تزيد من هذا المرض! هذا هو المحيط، قد يفقد الإنسان المال، و يفقِد الزوجة، ويفْقد حريَّته في وقت واحد!
﴿
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْط
1 ـ الحكمة من الأمر بوفاء الكيل والوزن بعد النهي عن ضدِّه :
تساءل بعض المفسِّرين، حينما ينهى الله سبحانه وتعالى عن أن يُنْقَصَ المِكيال والميزان، أليس في معنى هذا النَّهي وفاءُ المِكيال والميزان؟ فلِمَ أعاد الله سبحانه وتعالى علينا الكرَّة وقال: وأوفوا المكيال والميزان!! قال: هذا من باب التأكيد، فقد وصف لك بشاعة إنقاص المكيال والميزان، ودفعك إلى الوفاء بالتمام والكمال للمِكيال والميزان.
2 ـ معنى : بِالْقِسْطِ
أما كلمة بالقسط، فتعني أنك لسْتَ مُطالباً أن تزيد على الحدّ الصحيح، ولسْتَ مُطالباً أن تبيع الكيلو ألفاً ومائتي غرام، فبِالقِسط أيْ لسْتَ مُطالباً أن تزيد في الوزن والكيل عن الحدّ المعروف، إن كان الله سبحانه وتعالى نهاك عن أن تنقص عن الحدّ المقبول، كذلك لم يأْمرك أن تزيد على الحدّ غير المعقول،
وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ
1 ـ الزيادة على الشيء أو النقص منه من البخس :
قال بعض المفسِّرين: من نواحي بخْس الناس أشياءهم أن تنقص الكميَّة، دفع لك مبلغاً على أنَّ هذه الكميّة وزنها كذا، أو حجمها كذا، أو مساحتها كذا، أو طولها كذا، فإذا هي أقلّ من هذا، أما فيما يتعلق بالمساحات كمسْح الخشب، أو مسح الألمنيوم، أو مسح الأرض بالبلاط، فأحياناً يزيد صاحب هذه الصِّنعة بالمساحة، تم الاتفاق على أن المتر بألف ليرة، هذا اتِّفاق شرعي، فكيف كسِبَ مالاً حراماً؟ بِزِيادة المساحة! هذا مِن بخس الناس الأموال.
2 ـ من البخس إخفاءُ العيوب :
الشيء الآخر إخفاء العيوب، إذا بعت البضاعة أخْفيْت عَيبها، فإذا اشْتريتها دقّقت في عيبها، وبالغت في تقدير العيب، حتى إنَّ صاحب هذه البضاعة تنهار معنويَّاته ويخشى أن تكْسد، فيبيعُك إياها بِرأس مالها! هذا من بخس الناس الأشياء
مثلاً: رجل شاهدَ غرفة نومٍ مناسبة، لها سريران، فقال للنَّجار: أنا أريد سريراً واحداً كم تحْسم لي، يقول: خمسمائة ليرة، لو أتاه إنسان آخر، وشاهد غرفة نوم بِسرير واحد، وقال له: أريد فيها سريران، كم تزيد؟ يقول: ألفي ليرة!! لماذا حسَمْت للأوَّل خمسمائة وأضفت على الثاني ألفًين؟!
إنَّك إذا بِعْتَ بِمِقْياس واشْتريت بِمِقياس فهذا بخس، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، إن كنت شارياً تُبالغ في هذا العيب، إلى أن تسْودَّ البضاعة في عين صاحبها، وإن كنت بائعاً لا تبالي بهذا العيب وتهوّن من شأنه وتقول له: هذا لا قيمة له، فهذا من بخس الناس أشياءهم، إن لم تعطِ الأجير أجره فقد بخسْته جهده، وإن لم تُعطِ الخبير ثمن خبرته، فقد بخسْته خبرته وإن لم تعطِ الطبيب أجره فقد بخسْته عِلمه، وإن لم تعطِ المهندس ما اتَّفقْت معه عليه فقد بخستهُ عِلمه، إن لم تُعطِ صاحب الحاجة حقَّه فقد بخسته حاجته
احذرْ فـ : إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ
العوام يقولون: هناك لصوص النهار، هؤلاء هم الذين إذا شعروا أنَّ إنساناً يبيعُ حاجةً لِضَرورة قصوى اشْتروها منه نهْباً! قال لي صديق: اضْطررتُ لِبَيْع سجَّادة، فأتى بِخَبير سجَّاد إلى بيته وقال له: كم ثمنها فقال: عشرة آلاف ليرة، وجاء بآخر: فقال له هذه ثمنها مئة ألف!! فهذا الأوَّل جسّ نبضه أهُوَ جاهلٌ أم واعٍ؟! فإن كان جاهلاً أخذها منه بِثَمنٍ بخْس
﴿ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14) ﴾
هذا الذي تأخذه حراماً تدفعه أضعافاً مضاعفة، وقد يذهب بِصاحبه، المال الحلال يذهب، ولكنّ المال الحرام لا يذهب إلا بصاحبه، ويتلفه الله سبحانه وتعالى، ومن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدَّ الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله!
أحياناً تُبدي عدم رغبةٍ بهذه الحاجة، كأن تعرض عليك بِضاعة ثمينة وأنت في أمسّ الحاجة إليها، تبدي تمثيلاً بارعاً أنّ هذه البضاعة مضى وقتها، وهذا ليس موعدها، وفيها عيوب، وأنك لستَ بحاجةٍ إليها، وتقول لصاحبها: إن شئت فخُذْ هذا الثَّمَن، هذا يحْسبهُ الناس مهارة وذكاء وقدرة على سلْب الناس أشياءهم، ولكنّ هذا الفعل هو الحمق بعينه
إنسان أعْطوْهُ أرضاً، وصلتْ إليه بطريقة غير مشروعة، سأل هذا الإنسان شيخاً له، فقال له شيخُهُ: هذه الأرض حرام عليك، ولا بُدّ من أن تدفعَ الثَّمَن لصاحبها، ذهب لِصاحبها وعرض عليه أن يدفع له ثمنها، نظر إليه وقال له: والله ضاعَ مِنِّي أربعمائة دنُم من الأراضي، ولم يأتِ واحدٌ لِيَعْرض عليّ هذا العرْض، هي هِبَةٌ لك! اِزْرَعها بارك الله لك فيها، الذي يعرف الله سبحانه وتعالى لا يأخذ مالاً حراماً، ولو عُرِضَ عليه بِسَخاء
3 ـ تلقِّي الركبان من البخس :
ومِن بخْس الناس أشياءهم أن تُحاوِل تلَقِّي الرُّكبان، والنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن تلقِّي الركبان، تذهب إلى ظاهر المدينة، تتلقَّى من معهم بِضاعة من غذاءٍ أو سمنٍ أو زيتٍ أو جبنٍ، لئلا يصل صاحب البضاعة إلى المدينة فيعرف السِّعْر الحقيقيّ، تأخذ منه هذه الحاجة بِثَمنٍ بخْس، وأحياناً يبيعُ الإنسان بيتاً، وليس عنده فكرة دقيقة عن أسعار البيوت ليشْتريَ بيتاً أكبر، يأتي الدلال أو المشتري فيدفع له ثمناً، في نظر البائع هو ثمن معقول جدّاً ومغرٍ، فيبيعُهُ، فيذهب لِيَشتري بيتاً بدَلَ بيته فيرى أنَّ الأسعار مرتفعة لا تُحْتمَل، وهذا أيضاً من بخس الناس أشياءهم.
حدَّثني رجل من قطر عربي أنَّ بدَويّاً معه حجَّةٌ بِأرض، فجاء إلى المدينة لِيَعرضها على بعض سماسرة الأراضي، فعرفوا أنَّه جاهل، فاشْتَرَوها منه بِثَمنٍ بخْسٍ، وأقاموا عليها بناءً، بلغَ ارتفاعهُ أكثر من عشرين طابقاً، وكانوا شركاء ثلاثة، أما الأوّل فقد ماتَ إثْر حادث سيارةٍ مؤْسِف، وأما الثاني فقد وقعَ من على ظهر هذا البناء، فجاء حتْف أنفه، وأما الثالث فَشَعَرَ أنَّ شريكيْه ماتا بِسَبب أنَّهما نهبا من هذا البدوي أرضه، وهو شريكهما في عملية النهب، فبقي يبحث عنه أكثر من شهرين، إلى أن عثَرَ عليه وأعطاهُ ثمن الأرض بقيمتها الحقيقيّة، فقال له هذا البدوي: أما أنت فقد لحَّقْتَ حالك! يعني تداركت أمرك قبل أن يقع بك ما وقع بشريكيك
وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ
1 ـ ما هو الفساد ؟
الفساد: أن تقول: برتقالة فاسدة، أي أصابها العفن، وتقول: قطعة لحْمٍ فاسدة، أصبحَت متفسِّخة هذا هو الفساد المادي، فالأولى متعفِّنة والثانية متفسِّخة، الفساد أن تفسُدَ العلاقة بين زوجين، إياك أن تفْسِد علاقةً بين زوجين، فأحياناً كلمةٌ تفسد هذه العلاقة .
2 ـ الفساد طريق الهاوية والهلاك :
إياك أن تفسد علاقةً بين شريكين، فأحياناً كلمةٌ تفسد هذه العلاقة، وإياك أن تفسد علاقة بين أُمٍّ وابنها، أو بين أخ وأخيه وبين جار مع جاره إياك ثم إياك، وإذا نظرتَ إلى النساء أفسدْت العلاقة بينك وبين الله، ولأن يسقط الإنسان من السماء إلى الأرض فتنْكسِرَ أضلاعه، أهون من أن يسقط من عين الله.
إذا أطلقت بصرك إلى محارم الله أفسدْت العلاقة بينك وبين الله، وأيَّة معصيةٍ ترتكبها تفسد علاقتك مع الله، هذه المعصيَة تُشَكِّل حِجاباً بينك وبين الله، وكلّما كبرتْ هذه المعصيَة ازداد هذا الحِجاب كثافة، ويصْعب هتكه بعد ذلك، لذلك أخطر شيءٍ أن تفسد علاقتك بالله عز وجل، قال الله تعالى
﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ
﴿ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ(50) ﴾
3 ـ الفساد مانعٌ من العلم والأدب :
ما اسْترذل الله عبْداً إلا حظرَ عليه العِلم والأدب، إذا فسدَت العلاقة بينك وبين الله، فالعِقاب الصارم أنَّ الله سبحانه وتعالى يحْضر عليك العِلْم والأدب، كُلْ كما تأكل البهائم وتمتَّع، ونَمْ نوماً عميقاً مريحاً، اسْتيقِظ الساعة الحادية عشرة، وافْعل ما تشاء، واذْهب إلى حيث تشاء، ولكنَّه محظورٌ عليك العِلم والأدب
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(14) ﴾
أثْمنُ عطاءٍ يُعطاهُ الإنسان العِلم والحكمة، أما أن يكون غنياً فالله تعالى أعطى قارون المال وهو لا يحبّه
﴿ وَإِذِ اسْتَسْقَىٰ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۖ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِن رِّزْقِ اللَّهِ
وقد تفسدُ العلاقة بين الإنسان وعقله، فلا يستخدم عقلهُ ولا يُطَوِّرهُ ولا يُنَمِّيه، ويسيء استخدامه و يعطّله، فإما أن لا يستخدمه إطلاقاً، وإما أن يستخدمه في الإيقاع بين الناس، وإما أن يرفض نموّ عقله
﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) ﴾
إما أن يُعَطِّله وإما أن يُسيء اسْتخدامه، وإما أن يجمِّده، ومَن فعل هذا فقد فسدت علاقة الإنسان مع عقله، وأخطر أنواع الفساد أن تفسد العلاقة بينك وبين ِرَبِّك، وقد تفسد العلاقة مع زوجتك، إذا أطلقت بصرك للحرام يغدو بيتك جحيماً، أما الذي يغضّ بصرهُ عن محارم الله فإن الله يورثه في قلبه حلاوةً إلى يوم يلْقاه، وأوّل ثمنٍ لهذا الغضّ أن يُوَفِّق الله بينك وبين زوجتك، فإذا أقام الزوجان الشرع في البيت تولى الله التوفيق بينهما، وإذا خالف الزوج والزوجة معاً أو خالف الزوج وحده أو الزوجة وحدها شرع الله تولى الشيطان الإيقاع بينهما! وتفسدُ العلاقة بينهما.
الذي يأخذ رَشْوَةً يفسُد ويُفسِد، والذي يؤديها يُفْسِدُ ويفسُد، إذا دفعها يُفسِد علاقته مع الله، و يُفسِد هذا الموظّف لأنه جعله يعيش في بحبوحةٍ وسعة لا يرضى أن ينزل مستواها بعد ذلك، فيُحافظ على أكل الحرام ﴿ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ والذي يُبالغ بالزِّينة يغرسُ حبّ الدنيا في قلوب الناس، فإن كانوا مثله قادرين تنافسوا على حُطام الدنيا، وإن كانوا فقراء أوْدَعَ الله في قلوبهم حُرْقةً طوال حياتهم
ألا يا ربّ شهوة ساعةٍ أوْرَثَتْ حزناً طويلاً
﴿
معنى : بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ
1 ـ هامش الربح المشروع :
هذه آيةٌ دقيقةٌ جدّاً، ما بقيّة الله؟ أيْ إذا أدَّيْت الوزن الصحيح أو الكيل الصحيح أو الطول الصحيح أو المساحة الصحيحة، وإذا كان العداد صحيحاً، ولم تضف ولم تغشّ ... كما حدَّثتكم من قبل إذا فعلْتَ هذا فهامشُ الرِّبْح المشروع الذي يبقى لك، أن يُبارك الله لك فيه، فهو تعالى يحفظك من أمراضٍ وبيلة، ومن أجور أطباء وأجور تحاليل وهدْر الوقت، إذا أكلت مالاً حلالاً بارك الله لك بهذا المال.
أحدهم ذهب ليُصلِّح مركبته، فقال له المُصلِّح: هذه تكلِّفك عشرة آلاف ليرة، يبْدو أنَّ صاحب المركبة غشيم كما يقولون، وجاهل وحريص على هذه المركبة، فاتَّفَق معه، فلما ولَّى صاحب المركبة مُدْبراً قال المصلّح لجاره: هكذا الرِّبْح!! وهكذا العمل!! فقال له: والله هذا حرام، وكان ابن هذا المُصلِّح يعمل في مخرطة دخلت نثرة فولاذ في عينه فأخذه إلى المستشفى في بلد مُجاوِر، ودفع عشرة آلاف ليرة كي تُسْتخرج هذه النثرة من عَين ابنه! فالإنسان حينما يحتال على الناس و حينما يغشّهم، فالله سبحانه وتعالى بالمرصاد، لو أخذ ألف ليرة بدل عشرة آلاف ليرة من وجهٍ صحيح فهذا الهامش فيه بركة من الله تعالى.
وأما الذي يُغيِّر ويبدّل ويغشّ ويُضيف فإن الله سبحانه وتعالى يُتلفُه مع ماله
2 ـ طاعة الله :
وبعضهم قال: طاعتك لله عز وجل هي بقيّة الله تعالى، وهي خير لنا.
3 ـ حِفْظ الله للعبد :
وبعضهم قال: حِفْظ الله لك هذه بقيّة الله، وهي خير لك من الرِّبح غير المشروع.
4 ـ رحمة الله :
وبعضهم قال: رحمة الله التي يتجلَّى بها على قلبك خير لك من هذا المال الحرام، فالرِّبْح الحلال، أو طاعة الله، أو حفظ الله، أو رحمة الله، أو رزق الله، خيرٌ لك من هذا الرّبح غير المشروع، ومن هذا المال الحرام .
المؤمنون يعلمون أن المستقيم هو الرابح :
حدَّثني أخ عمِلَ مع أُناسٍ كسبوا مالاً حراماً فقال لي: والله مضى عليهم ثلاثون عاماً وهم يأكلون أموالاً من الحرام، وفي النِّهاية ما مِن واحدٍ منهم إلا ومدَّ يدهُ إلى الناس قبل موته، أقْسمَ لي!
وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظ
1 ـ عليك بمراقبة الله :
2 ـ شتان بين الوازع والرادع :
مثلاً: في بعض البلاد التي تسمَّى بالمتقدّمة! انقطَع تيار الكهرباء في إحدى الليالي ببعض المدن، فارْتُكِبَت في هذه الليلة مائتا ألف سرقة! إذاً الأنظمة الوضعيَّة تعتمد على الرادع، بينما الأنظمة الإلهيّة تعتمد على الوازع، وشتان بين الرادِع والوازِع.
سيّدنا عمر، وأنا أكرر هذه القصّة مئات المرات، التقى بِبَدَوِيّ وقال له: بعْني هذه الشاة وخُذ ثمنها، ولم يكن البدوي صاحبها بل كان راعياً فقال: ليْسَت لي، قال: قُلْ لِصاحبها ماتَتْ أو أكلها الذِّئْب! فقال: ليْسَت لي، فقال: خذْ ثمنها، ودع عنك صاحبها فقال: والله إنَّني لفي أشد الحاجة إلى ثمنها، ولو قلتُ لِصاحبها ماتتْ أو أكلها الذِّئب لصدَّقني، فإنِّي عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟! هذا الذي نطمحُ إليه، أن يُراقب العبد ربَّه، ولا تُحَلّ مشكلاتنا إلا إذا حلَّ الوازع محلَّ الرادِع، فأنْ يخشى الإنسان ربَّه، ويراه يراقبهُ في كلّ حركاته وسكناته.
إذاً هذا شأن المعلّم، وكذلك الطبيب والمحامي والمهندس، وكذلك العامل، إذا عرفْت ربّك استقمْت على أمره، وهذا هو الحلّ، وما من حلٍّ آخر، فمهما دقَّقْت في المراقبة، والمُراقَبْ قد يكون أذْكى من المُراقِب.
مثلاً: قديماً كانوا يستخدمون ميزان كثافة ليعرفوا أنَّ الحليب كامل الدسم، فلجئوا إلى نزع خير الحليب، ووضْع النشاء مكانه، فإذا وضعت الميزان بدا وكأنَّه كامل الدَّسم، استُقْدمَت أجهزةٌ معقَّدةٌ لِكَشف الدَّسم، فأصبح الخلل في الذي يعمل على الجهاز، إذا قبضَ مبلغاً رشوةً يقول: الحليب جيّد، فالقضيّة إذاً لا حلّ لها إلا أن يكون في القلب الإيمان، وأن يخشى الإنسان ربَّه.
مُحَلِّلٌ تأتيه عيّنة لِيَفْحصها، يضعها على الطاولة، ويكتب: النِّسبة صحيحة مائة بالمائة، ليقبض الثَّمَن حراماً! وقد تجد الأخطاء من أصحاب الخِبرات والمثقَّفين بشكْل أخطر! إن لم يكن في القلب إيمان فلا بُدّ من الإيمان كي تصلح الحياة، ولا بُدّ من الصلح مع الله، وإذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أنْ هنِّئوا فلاناً فقد اصطَلَح مع الله.
ما قولكم أنَّ بعض بائعي العصير يضعون خمسين إبرة من الماء للبرتقالة الواحدة وهناك من يمزج الزيت النباتي بالبلدي، فلا بُدّ من الإيمان بالله، ولا بُدّ من أن يُراقب الإنسان ربه كي تستقيم الأمور، أما على أساس الرادع فلا يمكن أن تُغطِّي المراقبة كلّ الناس في كلّ الأوقات.
وفي درسٍ آخر إن شاء الله تعالى نتابع قصَّة سيّدنا شُعيب، وصلنا إلى قوله تعالى:
﴿ بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86) ﴾
والحمد لله رب العالمين