الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
من نِعم الله الشدائد الحاملة على طاعته:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس التاسع من سورة فاطر.
وصلنا في الدرس الماضي إلى أول الآية الرابعة والثلاثين، وهي قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا﴾..هؤلاء الذين قالوا: هم أهل الجنة، حينما دخلوا الجنة قالوا: الحمد لله، أي كل شيء ساقه الله لهم في الدنيا إذا أوصلهم إلى الجنة فملخص العلاقة بينهم وبين الله في الدنيا والآخرة أن الحمد لله، أي أهل الجنة يمتلئ قلبهم امتناناً وشكراً لله عز وجل، فإذا ساق الله للإنسان في الدنيا بعض الشدائد ليعينه على نفسه، ليحمله على طاعته فهذه نعمة باطنة.
توضيحاً لهذا المعنى: لو أن مؤسسةً أرادت أن تُعيّن موظفاً يمكن أن تجعل من شروط التعيين أنه لابد من ستة أشهر كمدة تدريبية اختبارية، هذا الموظف التحق بعمله وتصرف، فمديره كلما رآه أخطأ سجلها عليه، أخطاؤه تراكمت، فلما انتهت ستة الأشهر قال له: ليس لنا بك حاجة وصرفه، هذا موقف فيه عدل كامل، امتحنه، ورسب في الامتحان فصرفه، هناك موقف فيه رحمة، حينما يُخْطئ هذا الموظف يأتيه التوجيه: افعل كذا، ولا تفعل كذا، يضغط عليه تارةً، يُعَنفه تارةً، يُشَدد عليه تارةً، إلى أن يستقيم عمله في هذه الشركة، فإذا مضت ستة الأشهر صار مَرْضياً عند أصحابها، واستمر في العمل، الموقف الثاني موقف رحمة، فربنا سبحانه وتعالى - ولله المثل الأعلى- كان من الممكن أعطانا عقلاً، وخلق كوناً، وفطرنا فطرةً، وأنزل كتاباً، وتركنا وشأننا فقد نغفل، وقد يجمح عقلنا، وقد تنطمس فطرتنا، وقد ننسى الآيات الدالة على عظمته، فإذا جاء ملك الموت كنا صفر اليدين واستحققنا دخول النار، لكن موقف الله جلّ وعلا هو التضييق، والتشديد، والتربية، والمعالجة، فإذا انتهت كل المعالجات، وكل الشدائد، وكل المضايقات، وكل الأهوال، إلى أن نعرف الله، ونستقيم على أمره، وتزكو نفوسنا، ونصبح أهلاً لدخول الجنة، عندئذٍ تنقلب كل هذه الشدائد إلى نعم باطنة، فالإنسان حينما يعالج، وحينما تنجح المعالجة، حينما يصاب بمرض، ويأتيه الطبيب، ويعطيه تعليمات قاسية، ويشدّ عليه إلى أن يشفى من مرضه تماماً يمتلئ قلبه امتناناً لله عز وجل، إذاً حال أهل الجنة - ونرجو الله سبحانه وتعالى أن نكون في طريقها- النبي عليه الصلاة والسلام كان يسأل الله الجنة، وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ويعوذ به من النار وما قرَّب إليها من قول أو عمل.
فلذلك أهل الجنة حينما يرون الجنة وما فيها من نعيم مقيم، وحينما يرتاحون من عناء الدنيا، من القلق، من الخوف، من توقع المصائب، من الكِبَر، من المرض، حينما يَصِلون إلى الجنة يقولون: الحمد لله، لكن هذه الكلمة لسان حالهم، نحن نستمع في الدنيا إلى آلاف الأشخاص، وهم يقولون: الحمد لله، قد تصبح هذه الكلمة كلمة لا معنى لها، تقول له: كيف الصحة؟ يقول: الحمد لله، يقولها وهو ساهٍ لاهٍ، ولكن هذه الكلمة حينما يقولها أهل الجنة يقولونها بكل وجودهم.
الدنيا أحزان بعضها فوق بعض:
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ ..وكأن الله جلّ في علاه لخص الدنيا كلها بأنها حَزَن في حزن، ما من مرحلة من مراحل الحياة إلا وفيها أحزان لا تنقضي، إن كان في التعليم، وإن كان في الزواج، وإن كان في تزويج البنات، وإن كان في معاملة الأصهار، وإن كان في العمل التجاري، أي الحياة هكذا جعلت، وهكذا صممت، أوحى ربك إلى الدنيا أن تشددي، وتمرري، وتكدري، وتضيّقي على أولياءِ حتى يحبوا لقائي، أي هذه الدنيا تلخص بالحزن، والآخرة تُلَخص بالسرور، فشتان بين من يؤثرها على الآخرة فيخيب ظنه، وشتان بين من يؤثر عليها الآخرة فيسعد في الدنيا والآخرة، تسعد بها متى؟ إذا عرفتها، إذا عرفتها أنها مبنية على النقص، إذا عرفتها أنها مبنية على الحزن، إذا عرفت أنها مبنية على الابتلاء، إذا عرفتها أنها دار مرور، وليست دار مقر، إذا عرفتها أنها دار تكليف، وليست دار تشريف، إذا عرفتها أنها دار عمل وليست دار جزاء.
لذلك أجمل كلمة تقال في شرح هذه الآية: خطة النبي عليه الصلاة والسلام إن هذه الدنيا دار التواء، وسل أيَّ إنسان شئت: هل تخلو حياة الإنسان من بعض المتاعب؟ من بعض النقص؟ من بعض الهم؟ من بعض الحزن؟ـ إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء.
غفور شكور اسمان من أسماء الله الحسنى يغطيان كل أحوال الإنسان:
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)﴾ ..غفور لما وقعنا فيه من ذنوب، وشكور لما فعلناه من صالحات، اثنان يغطيان كل أحوالك، إذا زلت قدمك، فهو غفور، وإذا عملت صالحاً فهو شكور، إذا أخطأت فهو غفور، وإذا أحسنت فهو شكور، إذا منعت فهو غفور، وإذا أعطيت فهو شكور، إذا خرجت عن المنهج فهو غفور، وإذا التزمت المنهج فهو شكور، غفور شكور اسمان من أسماء الله الحسنى يغطيان كل أحوالك، ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)﴾ .
الرعاية والحفظ والتأييد من فضل الله على المؤمن:
ربنا ماذا؟ ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ..لولا أنه هدانا، لولا أنه ذكّرنا، لولا أنه ربانا، لولا أنه جمعنا مع أهل الحق، لولا أنه ضيّق علينا حينما غفلنا، لولا أنه عاقبنا حينما انحرفنا، لولا أنه سما بنفوسنا، لولا أنه أنار لنا الطريق، لولا أنه تولانا، كلكم يدعو في صلاة الفجر: اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت.
أيها الإخوة الأكارم؛ حينما يشعر المؤمن أن الله يتولاه بالرعاية، والحفظ، والتأديب، والمعالجة، فليطمئن قلبه، ولتطب نفسه، لأنه مطموع فيه، ومطلوب إليه أن يُقْبِل على الله عز وجل، أما حينما يعصي الإنسان الله عز وجل، والله عز وجل لا يعاقبه فهو في حالة صعبة جداً، في حالة ميئوس منها، لذلك إذا شعرت أن الله يتابعك، وأن الله يدقق عليك، وأنك حينما زلت قدمك جاء العلاج، وحينما غفلت جاء التذكير، وحينما قصرت جاءت بعض المصائب فهذه بادرةٌ طيبة جداً، لأنك مؤهل لأن تكون مؤمناً خالصاً.
الآخرة دار المقامة الأبدية:
﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ ..أي سمح لنا أن ندخل هذه الدار، دار المقامة، الله عز وجل سمّى الدنيا: الحياة الدنيا، وقد نغفل أحياناً عن معاني الكلمات، حياة دنيا، والآخرة حياة عليا، دنيا وعليا، دنيا في كل شيء، دنيا في مدتها، الإنسان حتى يستقر يحتاج إلى أربعين سنة، هذا في أحسن الظروف، حتى يتزوج، ويكون له بيت معقول، ودخل معقول، وسيلة نقل، مركز مرموق، يحتاج إلى أربعين سنة، ومعترك المنايا بين الستين والسبعين، معنى هذا أنه بقي له نصف المدة، ضعف المدة إعداد، ونصف المدة قطف ثمار، ولا تخلو حياة الإنسان في النصف الثاني أو في الثلث الأخير من منغصات، فالله سماها حياة دنيا، حياة دنيا في مدتها، دنيا في متاعبها، لذلك قال سيدنا علي: << يا دنيا، طلقتك بالثلاث، غرِّي غيري يا دنيا، شأنك قليل، وأمدك قصير >> .
﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ﴾ الإنسان العاقل أيها الإخوة هو الذي ينقل اهتمامه وكل أهدافه إلى الدار الآخرة، لأنها دار المقامة، أي هذه الدار مهيأة لإسعادك، أما هذه الدنيا فمهيأة كي تعرف الله فيها، مهيأة للعمل صالح، مهيأة للاختبار، مهيأة للابتلاء، تُبْتلى بالفقر، تبتلى بالغنى، تبتلى بالصحة، تبتلى بالسقم، كل شيء في الدنيا فيه ابتلاء، ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ إذاً الدنيا كلها دار حَزَن، والآخرة كلها دار نعيم، ﴿إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ﴾ .
الجنة محض فضلٍ والنار محض عدلٍ:
لذلك قال علماء التوحيد وعلماء العقيدة: الجنة محض فضل، بينما النار محض عدل، إذا دخل الإنسان النار فبعدل الله، وإذا دخل الجنة فبفضل الله، وعمله مفتاح للجنة، وليس ثمن الجنة، وشتان بين المفتاح وبين الثمن، بيت يساوي ثلاثون مليونًا مفتاحه يساوي خمساً وعشرين ليرة، فإذا كان معك مفتاح البيت شيء، وإذا كنت قد دفعت الثمن شيء آخر، فالجنة بفضل الله، والعمل الصالح مفتاح للجنة.
الله عز وجل نفى أن يكون في الجنة نصب أو إعياء:
﴿لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ .. لا يوجد تعب، فلان أجرى فحصًا، قال له الطبيب: قلبك متعب، الشرايين متعبة، الكليتان متعبتان، الأعصاب متعبة، يوجد توتر عصبي، دائماً الإنسان متعب، كلما التقى بطبيب يقول له: هذه الناحية، هذا الجهاز، هذا النسيج، هذا العضو يشكو من قصور، يشكو من تعب، حتى لو أن الإنسان كان في أعلى درجات الصحة هناك أمراض الشيخوخة سببها تقدم السن فقط، يصبح لديه تصلبٌ في الشرايين، إذاً في الآخرة لا يوجد نصب، وليس من الممكن أن يكون هناك نصب إطلاقاً، ﴿لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ .. ليست لا يصيبنا بل لا يمسنا، إذا وضع الإنسان يده في النار شيء، وإذا مسّ بإصبعه مكواةً شيءٌ آخر، هذا مس، أي أقل زمن ممكن، وأقل مساحة ممكنة، الإنسان أحياناً يحب أن يجرّب المكواة، يا ترى التيار يعمل فيها؟ يضع إصبعه بعد أن يبله بلعابه أقل مدة ممكنة، وأقل مساحة ممكنة، هذا المس، حتى على مستوى المس لا يوجد نصب، لم يقل: لا يصيبنا فيها نصب، قال: لا يمسنا، ﴿لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ولا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)﴾ ..واللغوب هو الإعياء، والإعياء أعلى درجات التعب، أحياناً يضع الإنسان على يده ثقلاً، ويرفعه هكذا، بعد حين يشعر بتعب، لكن بعد حين يشعر بالإعياء، لا يستطيع أن يتابع، إنسان يركض، بعد حين يشعر بالتعب، لكن بعد حين يقف، ويقول: لا أعد أستطيع، كلمة لا أستطيع أي أصابه الإعياء، ربنا عز وجل نفى الإعياء، وهو شدة التعب، ونفى النصب، أيّ نوع من أنواع التعب ليس وارداً في الجنة، وكلمة نصب جاءت نكرة، ﴿لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ﴾ أي أدنى حالات النصب غير موجودة، أدنى حالات التعب غير موجودة، وأشد حالات التعب غير موجودة، ﴿لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ ولا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾ هذه الجنة يستغنى عنها؟ نسعى إلى الدنيا ونغفل عن الجنة؟ نسعى إلى دنيا قصيرة مشحونة بالمتاعب والهموم ولا تستقيم على حال فيها وهي دار التواء لا تصفو لإنسان ونترك الجنة التي أعدها الله للمؤمنين؟ وطريق الجنة ميسور، وطريق النار موجود مبذول.
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ هذه صورة مشرقة من مشاهد أهل الجنة، أناس متنعمون في جنة وارفة الظلال، تجري من تحتها الأنهار، الأشجار قطوفها دانية، العسل مصفى، اللبن لم يتغير طعمه، يوجد تجلٍّ من الله عز وجل، مع كل هذا النعيم رضوان من الله عز وجل أكبر من كل نعيم، هذه حال أهل الجنة، وقد ورد في بعض الأثر أن المؤمن حينما يطّلع على مقامه في الجنة يصيح صيحةً يقول: لم أرَ شراً قط، أي كل المتاعب التي ساقها الله له في الدنيا ينساها، الطالب أحياناً حينما ينجح بتفوق ينسى كل المتاعب، عام دراسي أمضاه في غرفة قمئة، وقد قطع علاقته بالناس، وبذل جهداً جهيداً، حينما يقرأ اسمه في الجريدة، وقد تفوق في المجموع ينسى كل التعب، وحينما يرى الكافر مكانه في النار يقول: لم أر خيراً قط، كل العز المادي الذي ناله في الدنيا ينساه، وكل الطيبات التي استمتع بها ينساها، وكل اللذائذ، وكل الموبقات التي غرق بها ينساها، فلذلك ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)﴾ .
مشهد من مشاهد أهل النار:
الآن مشهد آخر من مشاهد أهل النار، الصورة المقابلة، وربنا عز وجل يريدنا أن نتجه إليه رغباً ورهباً، أحوال أهل الجنة تُرَغبنا في الجنة، وأحوال أهل النار تُخَوفنا منها، والإنسان أحياناً ينطلق إلى الله عز وجل حينما يجتمع في قلبه رجاء وخوف، الرجاء وحده يدعو إلى التقصير، والخوف وحده يدعو إلى اليأس، فلابد من أن يمتلئ قلب المؤمن بالخوف تارةً، وبالرجاء تارةً أخرى، وقد يدل على ذلك الحديث الذي ورد في الأحاديث القدسية: " قال: يا رب، أي عبادك أحب إليك حتى أحبه بحبك؟ قال: أحبَّ عبادي إليَّ تقي القلب، نقي اليدين، لا يمشي إلى أحد بسوء، أحبني وأحبّ من أحبني، وحببني إلى خلقي، قال: يا رب، إنك تعلم أني أحبك، وأحب من يحبك، فكيف أحببك إلى خلقك؟ قال: ذكرهم بآلائي، ونعمائي، وبلائي" . فالآلاء من أجْل التعظيم، والنعماء من أجل الحب، والبلاء من أجل الخوف، لابد من أن يكون في قلب المؤمن قدر أدنى من التعظيم، ومن الخوف، ومن الحب، فربنا عز وجل الصورة الأولى مشرقة: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)﴾ أما أهل النار فنعوذ بالله من أهل النار، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ..معنى الذين كفروا أي كذبوا بالحق، ومعنى كفروا أي أعرضوا عن الله، الكفر فيه صفة عقلية وصفة نفسية، بعقله كذب الحق، يكفي أن يقول: هذا القرآن لا يصلح لهذا الزمان، هذه كلمة الكفر، أحد من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعه ابن زوجته يقول: والله لو أن محمداً صادق فيما يقول لكنا أشر من الحمر. ربنا عز وجل قال:
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)﴾
[ سورة التوبة ]
هذه كلمة الكفر، أي إذا كذبت النبي عليه الصلاة والسلام، إذا كذبت هذا القرآن .
الحقيقة هناك موقف دقيق جداً، أحياناً يوجد آية قرآنية، يوجد حكماً قرآنياً، لو أنك قرأت قوله تعالى مثلاً:
﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)﴾
[ سورة النور ]
هذا كلام الله، فأنت حينما لا تغض البصر ما موقفك؟ هل أنت على صواب؟ إن كنت على صواب كأنك تقول: القرآن ليس واقعياً، وإذا كنت تعصي الله عز وجل كيف تستقيم نفسك؟ كيف تتوازن مع ربك إذا كان هذا أمره وأنت تخالف أمره؟ فالإنسان ينبغي أن يأخذ موقفاً واضحاً إذا ثبت له أن هذا كلام الله، وأن هذا حكم الله، وأن هذا أمر الله، وأن هذا نهي الله عز وجل، فكيف تسعه الدنيا إذا عصى أمر الله عز وجل؟
الكفر الكليُّ والكفر الجزئيّ:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ..كذبوا وأعرضوا، كذبوا بالحق، كذبوا بالدين، كذبوا بالقرآن، كذبوا بنبوة النبي، وهناك تكذيب كلي وتكذيب جزئي، فحينما لا تعتقد أن الربا محرم، هذا ليس ربا، هذه معاونة مثلاً، حينما لا تعتقد أن الربا محرم فهذا كفر جزئي ببعض أحكام القرآن، حينما لا تعتقد أن هذه الفريضة واجبة وقد قال الله عز وجل:
﴿ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)﴾
[ سورة آل عمران ]
فهذا كفر جزئي بهذا الفرض، فالكفر كلي أو جزئي، حينما تُكَذب هذا الدين كله، أو حينما تكذب القرآن كله فهذا كفر كلي، وحينما لا تعتقد أن بعض أحكام القرآن صحيحة، أو معقولةً، أو مناسبةً، فهذا كفر جزئي.
الكافر يحيا حياةً متعبةً يذوق فيها ألوان الحريق:
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا﴾ ..حالة صعبة جداً، لا هم موتى ولا هم أحياء، قال تعالى:
﴿ إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا (74)﴾
[ سورة طه ]
﴿لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ﴾ الموت مريح، والحياة الناعمة مريحة، لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياةً ناعمةً، يحيا حياةً متعبةً يذوق فيها ألوان الحريق: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)﴾ .
أحوال أهل النار والجنة:
﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا﴾ ..كلهم يصيح، هذا يقذف بالتهمة إلى فلان؛ لولا أنت لما كنت في هذا المكان، وهذا يتأوه، وهذا يتألم، وهم يصطرخون فيها، صورة معبرة، يَصْطَرِخُونَ، أما المؤمنون فعلى سرر متقابلين، مدعوون لحفلة راقية، ويجلسون على أرائك مريحة، يتبادلون أطراف الحديث بصوت معتدل، وبعبارات لطيفة، بينما أهل النار يتصايحون.
العمل السيئ سببُ دخول النار:
﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ ..إذاً: بشكل ملخص ومكثف: سبب دخولهم النار عملهم السيئ، ﴿ربَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ .. ونحن نستفيد من هذه الآية في الدنيا، عملك ما نوعه؟ هل يوجد إساءة بعملك؟ هل هناك خروج عن أمر الله عز وجل؟ هل كنت سبباً لإيذاء الخلق؟ هل تبني غناك على فقر الناس؟ هل تبني عزك على إذلالهم؟ هل تبني مجدك على أنقاضهم؟ هل تبني أمنك على خوفهم؟ هل تبني حياتك على موتهم؟ هل لك عمل طيب؟ أساس حركتك في الحياة أخذ أم عطاء؟ أهل الدنيا تركيبة حياتهم الأخذ، يأخذون كل شيء، يأخذون أموال الناس، يأخذون خدمات الناس، يأخذون جهود الناس، يأخذون العز من إذلال الناس، هؤلاء أهل الدنيا، بينما أهل الآخرة يعطون الناس، يعطون من العلم، من المال، من الخدمات ما يسعدهم في دنياهم وأخراهم، ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ .
يا أخوان؛ كل إنسان يفحص عمله، لك عمل قطعاً، لك حركة في الحياة، لك حرفة، فيها غش؟ فيها كذب؟ فيها تدليس؟ فيها ابتزاز لأموال الآخرين؟ فيها سيطرة؟ فيها احتكار؟ فيها تحكم؟ فيها استغلال؟ لك وظيفة، هذه الوظيفة هل تستخدمها في ابتزاز أموال الناس أم في خدمة الناس؟ كل إنسان له حرفة، هل تنصح المسلمين أم تغشهم؟ هل تَصْدقهم أم تكذبهم؟ هل تنفعهم أم تضرهم؟ هل تأخذ أموالهم حلالاً أم تبتز أموالهم؟ عملك شيء أساسي، فكل إنسان له عمل، ليفحص عمله.
علاقتك في البيت، هل أنت محسن أم مسيء؟ علاقتك مع جيرانك، علاقتك مع من فوقك، مع من دونك، مع من حولك، ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ إذاً: لم يكونوا يعملون الصالحات، كانوا يعملون السيئات، إذاً: علامة المؤمن أنه يعمل الصالحات في كل مناحي حياته.
العمر كاف للتذكّر والتفكر:
يأتي الجواب، جواب رب العزة: ﴿أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾ ..عشت ستين سنة، عشت ستين صيفاً، ستين خريفاً، ستين ربيعاً، ستين شتاءً، أنجبت الأولاد، وهذا درس بليغ لك، هكذا كنت من ماء مهين، من حوين، وهذا الكسب الذي أمامك من خلق الله عز وجل، هذا درس، طعامك آية، أولادك آية، شرابك آية، ماء المطر آية، السحاب آية، التضاريس التي حولك آية، الأطيار آية، الأسماك آية، الأنعام آية، النباتات آية، الفواكه آية، الخضراوات آية، ﴿أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ﴾ بثّ في الأرض آيات للموقنين، الكون كله ينطق بعظمة الله، ينطق بتوحيد الله، ينطق بوجود الله، ينطق بكمال الله:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
[ لبيد بن ربيعة العامري ]
* * *
الكون مظهر لأسماء الله الحسنى، تجسيد لصفاته الفضلى، أعطاك الكون، أعطاك العقل، أعطاك الفطرة، أعطاك الكتاب، أعطاك الأنبياء والمرسلين، كل هذا غفلت عنه؟! ﴿أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ﴾ ..أي عمّرناكم عمراً كافياً كي تذكر، القرآن نذير، القرآن الكريم، اقرأ القرآن، تعليمات الصانع، توجيهات الصانع، افعل ولا تفعل، منهج قويم، وصراط مستقيم، وحبل الله المتين، فيه نبأ من قبلكم، خبر ما بعدكم، حكم ما بينكم، يهدي للتي هي أقوم، يهدي إلى صراط مستقيم، نور مبين، هكذا القرآن بين أيدينا، نقرؤه آناء الليل وأطراف النهار، أقرأ ما فيه، تدبر ما فيه، مسكين هذا الذي يقرؤه ولا يتدبر ما فيه.
﴿أَو َلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ﴾ ..أحياناً ترى طالباً كل العام الدراسي نائماً يلهو ويلعب، يدخل إلى الامتحان يصفِن، يُقرع الجرس، حين سحب الورقة دقيقة أستاذ، دقيقتان، كل العام الدراسي نائم وثلاث ساعات يصفن؟ وعند انتهاء وقت الامتحان يطلب دقيقتين أو ثلاثاً، وحين تشد الورقة منه تتمزق، هذا كلام فارغ.
النذير هو:
1 ـ القرآن الكريم:
﴿أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ﴾ ..
أيها الإخوة الأكارم؛ أولاً القرآن هو النذير، اقرأه بشكل جدي، اقرأه مع تدبر، اقرأه على أنه تعليمات خالق الكون، اقرأه على أنه كتاب خطير جداً، فيه تحديد لمسارات الحياة، فالقرآن نذير.
2 ـ النبيُّ:
والنبي عليه الصلاة والسلام بأحاديثه النبوية الشريفة هو النذير.
ذكرت في الخطبة اليوم: بادروا بالأعمال الصالحة، فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ الإنسان يعيش يا ترى إلى ما شاء الله نستيقظ، ونعمل، وننام، لكن هناك مفاجأة بعد سنتين أو ثلاث أو خمس أو خمسة عشر أو عشرين، هناك مفاجآة، سوف ينتهي الأجل، إذاً: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا - فقر ينسينا كل شيء- أو غنىً مطغياً" كما حصل لثعلبة الذي عاهد الله:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)﴾
[ سورة التوبة ]
فالغنى مطغٍ، وهناك فقر منسٍ، أو مرضاً مفسداً، هناك أمراض تُفْسد حياة الإنسان، أو هرماً مفنداً، هناك شيخوخة يُرَد فيها الإنسان إلى أرذل العمر، يضعف تفكيره، يغيب عن وعيه.
حدثني صديق له أم توضع في مكان جلوسها وتربط، قلت له: لماذا؟ قال: لكيلا تأكل من نجسها، ضَعُف تفكيرها، وانتهى الأمر، هذا أرذل العمر، "هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا؟ أَوْ غِنًى مُطْغِيًا؟ أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا؟ أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا؟ أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا؟ أَوِ الدَّجَّالَ؟ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ، أَوِ السَّاعَةَ؟ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ" ، فالنبي نذير بلغنا، فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ:
(( اسْتَضْحَكَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يومًا فقيلَ لهُ يا رسولَ اللهِ ما أضَحَكَكَ قال عجبتُ لأقوامٍ يُساقُونَ إلى الجنةِ في السلاسلِ وهم كارِهُونَ. ))
[ أحمد: السلسلة الصحيحة : خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن ]
أقرأ الأحاديث كما أنه ينبغي أن تقرأ كلام الله قراءةً جادة فيها تدبر، فيها تعقل، فيها فهم، فيها دقة، فيها عمق، كذلك ينبغي أن تقرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه هو النذير أيضاً، كتاب الله نذير، والنبي هو النذير، ﴿وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ﴾ ..
3 ـ سن الأربعين:
وقال: النذير سن الأربعين، قال تعالى:
﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)﴾
[ سورة الأحقاف ]
في الشباب طيش، فيه جهل، فيه اندفاع، فيه مراهقة، أما إذا بلغ الأربعين توازن، فكل تقصير ربما يعزى إلى المراهقة، أو إلى السن الصغيرة، أو إلى الطيش، أو إلى الاندفاع، أما إذا بلغ أربعين عاماً فقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً﴾ الأربعون أيضاً نذير، صار هناك عذر، قد أعذر من أنذر، سن الأربعين أحد أنواع النذير في كتاب الله، وهناك عمر أشد، أشد حساباً، وهو الستون.
4 ـ سن الستّين:
من بلغ الستين وهو يعصي الله عز وجل، في الستين يجلس في المقاهي ويلعب النرد؟ في الستين يملأ عينيه من الحرام؟ في الستين يغتاب الناس؟ على وشك أن يغادر الدنيا وهو متلبس بمعصية الله عز وجل، لذلك ورد: "أبغض ثلاثاً، وبغضي لثلاث أشد، أبغض العصاة، وبغضي للشيخ العاصي أشد" ، في الستين وسهرة مختلطة؟! في الستين وتستمتع بامرأة لا تحل لك؟! أعوذ بالله.
﴿وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ﴾ فصار القرآن هو النذير، والنبي هو النذير، وسن الأربعين هو النذير، وسن الستين هو النذير.
5 ـ المرض:
وقالوا: الحمّى هي النذير، المرض لفت نظر، الله عز وجل من رحمته التامة أنه يرسل المرض أحياناً فيوهم صاحبه بأنه دنا أجله لعله يتوب.
حدثني شخص عن رجل كان يقود سيارته في أحد شوارع دمشق، وهو يقود سيارته وزوجته إلى جانبه جاءته أزمة قلبية، ومن غرائب الصدف أن أحد أصدقائه كان إلى جانب السيارة فنزل ووضعه في المقعد الخلفي، وقاد السيارة إلى إحدى المستشفيات، بعد أن صحا قليلاً قال: ائتوني بآلة تسجيل، وقال بالحرف الواحد: المحل الفلاني ليس لي، لإخوتي فلان وفلان، وقد أخذته منهم اغتصاباً، والأرض الفلانية، بدأ يعترف بالأموال التي ليست له، وكان قد اغتصبها، لكن بعد أسبوع شعر أن هذه الأزمة انحسرت كلياً فقال: أين الشريط؟ أعطوه إياه فكسّره، وعاد إلى سيرته الأولى، وبعد ثمانية أشهر جاءته أزمة أخرى فأودت به.
إذاً: لماذا الله جلّ في علاه أرسل له الأولى؟ الأولى نذير، فإذا كان الإنسان تاركًا الصلاة، آكلاً المال الحرام، مغتصباً أموال الآخرين يوجد ظلامات، فيأتي المرض نذيراً، انتبه يا عبدي يوجد لقاء، المغادرة أصبحت وشيكة، يجب أن نعلم علم اليقين أن بعض الأمراض تُعد نذيراً من الله عز وجل، فصار القرآن نذيراً، والنبي نذيراً، والأربعون نذيراً، والستون نذيراً.
6 ـ الشيب:
قال: والشيب نذير، ما حكمة الله في شيب الشعر؟ طريقة لطيفة جداً، إشعار لطيف جداً من قِبل المولى جلّ وعلا أن يا عبدي قد اقترب اللقاء فهل أنت مستعد؟ أحياناً في بعض القرى الكهرباء ليست مستمرة في الليل، فالساعة الثانية عشرة تُطفأ الكهرباء، فقبل عشر دقائق تُطفأ لثانية واحدة، أي استعدوا، هيئوا أغراضكم، توجهوا إلى السرر، فهذا الإطفاء المؤقت لثوان معدودة قبل الإطفاء النهائي نذير، إنذار مبكر، فربنا عز وجل لرحمته بعباده جعل كل هذه الإنذارات، فالشيب إنذار، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: "أن عبدي كبرت سنك، وضَعُف بصرك، وانحنى ظهرك، وشاب شعرك، فاستحي مني فأنا أستحي منك" ، هذا يضع نظارات، هذا ظهره منحنٍ، هذا سمعه ضعيف يحتاج إلى مقوٍ للسمع، هذا معه ديسك، هذه كلها نذرٌ من الله عز وجل أنَّ اللقاء اقترب يا عبدي، يوجد لقاء، لكن إذا أعطى الله الإنسان صحةً تامة ما شكا شيئاً طوال حياته، ثم جاء الموت فمات فجأةً فليس هذا في صالحه أيها الإخوة؛ ليس هذا في صالحه أبداً، لعل المرض يحمله على التوبة، لعل هذه المشكلة تدفعه إلى الطاعة، لعل هذا يمنعه عن فعل الإساءات، لعل هذا يحجزه عن اقتراف الموبقات.
7 ـ موت الأقارب:
وقال بعض العلماء: وموت الأقارب هو النذير.
الله عز وجل كان من الممكن أن نأتي إلى الدنيا دفعةً واحدة، وأن نغادرها دفعة واحدة، ولكن شاءت حكمة الله أن نأتيها تباعاً، وأن نغادرها تباعاً، ففلان توفاه الله كان بيننا، الأقرباء يقولون لك: البارحة كنا معاً، منذ أسبوع كنا معاً في نزهة، طبعاً جاء أجله:
ما بين غمضة عين وانتباهتها يبدل الله من حال إلى حال
[ مسفر بن مهلهل الينبغي ]
* * *
يكون الإنسان ملء السمع والبصر، معروف، له مكانته، فجأةً صار خبراً على الجدران، الله تعالى قال:
﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)﴾
[ سورة المؤمنون ]
كان إنساناً مخيفاً له تصرفاته، وله هيبته، والناس يرهبون جانبه، ويحسبون له حساباً.
أحد السلاطين أمر شيخ النجارين أن يأتيه بمئة كيس نشارة، وإن لم يأته لابد من أن ينهي حياته، فهذا أيقن أنه ميت، فكتب وصيته، طُرِق بابه صباحاً، فقيل له: مات السلطان. أحياناً الإنسان فجأةً يصبح خبراً، يكون شخصاً مليئاً مهيباً، قوياً، غنياً، شديداً، عتيداً، قال: المصائب هي النذير، وموت الأقارب هو النذير.
إذاً: النذير القرآن، والنبي، والأربعين، والستون، والشيب، المصائب، حتى الحمى، والأمراض، وموت الأقارب، هذا كله نذير، ﴿أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37)﴾ .
القلب السليم سبب دخول الإنسان الجنة:
﴿إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)﴾ .. مع الله المشكلة أنت مكشوف، كل ما في خاطرك، كل ما يدور في خلدك، كل الصراعات في نفسك، كل طموحاتك، كل نواياك مكشوفة عند الله عز وجل، فالإنسان ينبغي أن يستحي من الله. قال: "طهرت منظر الخلق سنين، أفلا طهرت منظري ساعة؟ "ما منظر الله عز وجل؟ القلب، قال تعالى:
﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
[ سورة الشعراء ]
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾
[ سورة الشمس ]
هنيئاً لمن كان قلبه سليماً، ليس فيه غش، ولا حسد، ولا حقد، ولا انحراف، ولا كبر، ولا استعلاء، قلب سليم، النبي عليه الصلاة والسلام قال: يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فجاء أحد الصحابة، صحابي جليل أراد أن يقتدي به، فافتعل مشكلة مع أهله، وقال: أريد أن يبيت عندك ثلاثة أيام، فرحب به، هذا رآه يصلي الصلوات المفروضة فقط، ما رأى في عباداته شيئاً يزيد على الحد الأدنى، فقال له: أنا والله أردت أن أُقيم معك في البيت لأرى عباداتك ما رأيتها تزيد على عباداتي، فملخص القصة أنه قال له: والله ما في قلبي غلّ لأحد، هذا قلب سليم.
مرة قيل لرجل له خصوم، وينهشون عرضه، ويتحدثون عنه، فقال له أحدهم: "إني أُشْفق عليك مما يقوله الناس عنك، فقال هذا العالم: أو سمعتني أقول عنهم شيئاً؟ قال: لا، فقال: عليهم فأشفق". ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ سبب دخول الجنة هذا القلب السليم.
الله تعالى يعلم السر وأخفى:
﴿فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37)إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)﴾ ..شعور الإنسان أن الله يعلم شيءٌ مريح، مع إنسان آخر التعامل صعب، قد تكون بريئاً، ويتهمك بشيء أنت بريء منه، تحلف له الأيمان، تقدم له الأدلة، فيقول: انتهى الأمر، اعتقد هذا الاعتقاد، لكنك مع الله الأمر سهل جداً، يعلم السر وأخفى، لا تحتاج لا إلى حلف يمين، ولا إلى إبراز وثيقة، ولا إلى إشارة، ولا إلى عبارة، يعلم ما أنت عليه، وإذا علمت أن الله يعلم حُلَّت كل المشكلات، من عرف نفسه ما ضرته مقالة الناس به.
الحياة لا تدوم لأحد:
ثم يقول الله عز وجل هذه الآية دقيقة جداً. مرة قرأت كتاب قصصِ العرب، كتاب ممتع، فيه حديث عن قصص وقعت في العصور الإسلامية المختلفة، بعد أن انتهيت منه شعرت أن الأقوياء ماتوا، والضعفاء ماتوا، والعلماء ماتوا، والجهلاء ماتوا، والأغنياء ماتوا، والفقراء ماتوا، والأذكياء ماتوا، والحمقى ماتوا، وأن هذه الحياة لا تدوم لأحد، وأنه بعد حين سنصبح خبراً من الأخبار، كلمة: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ﴾ سوق الحميدية مثلاً، الآن فيه طقمٌ من أصحاب المحلات، قبل خمسين سنة كان هناك طقم آخر، وقبل مئة سنة كان هناك طقم ثالث، وبعد خمسين قادمة سيكون طقمٌ رابع، وهذه البيوت، هذا البيت فلان عمَّره، وزينه، وأسسه، ثم مات، البيت كبير، له أبناء عدة، باعوه، اشتراه رجل آخر بدل وغيَّر، أقام حائطاً، نزع حائطاً، أنشأ شرفة، أيضاً كَبُرت سنة، ومات، وبيع البيت بعد وفاته، واشتراه رجل ثالث، هذه البيوت يأتيها الناس تباعاً، المحلات يأتيها الناس تباعاً، المزارع يأتيها الناس تباعاً، هذه البلاد كان فيها الرومان، كان فيها الآشوريون، الكلدانيون، الكنعانيون، أقوام سحيقة سكنت هذه البلاد، وعاشت فيها، واستعلت، ثم جاءها أقوام، وأقوام، وأقوام..﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ﴾ على مستوى بلاد، على مستوى بيوت، على مستوى محلات، على مستوى مزارع، على مستوى بساتين، بعد هذا الأقوياء يتناوبون، كان فلان قوياً انهار فجأةً ظهر مكانه رجل آخر، خلائف هكذا، حتى الأعمال فلان وراء فلان وراء فلان، أحياناً تقرأ ببعض الكتب أن هذا المنصب تولاه أحد عشر مديراً على الترتيب التالي، أكثرهم في عداد الموتى، آخر مدير حيّ، هكذا، فالمناصب، والمزارع، والبيوت، والمحلات، والبلاد، والعباد كلهم في تبدل، مادام في الحياة تبدل، أي كلنا إلى زوال، هذا المسجد، هؤلاء جميعاً، وأنا معكم بعد مئة عام في الأعم الأغلب لن يبقى أحد منا حياً، والله أعلم، يلينا طقم ثانٍ، وقبل مئة عام ما كان أحد منا مولوداً، هذه احتياط أخذنا أعلى رقم، قبل مئة عام لم يكن أحد منا موجوداً، وبعد مئة عام لا أحد منا في عداد الأحياء، هكذا.
المؤمن فوق الهدى أما الكافر فالكفر يسحقه:
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ ..في القرآن دقائق ورقائق، قال:
﴿ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾
[ سورة البقرة ]
المهتدي فوق الهدى، الهدى يرفعه، الهدى يعزه، الهدى يُعلي قدره، الهدى يجعله علماً، الهدى يجعله نجماً متألقاً، ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ﴾ أما من كفر فعليه كفره، صخرة تسحقه، الكفر فوقه، أما المؤمن فهو فوق الهدى، الهدى يرفعه، لكن الكافر فالكفر يسحقه، ﴿فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ .
ربنا عز وجل كامل كمالاً مطلقاً يمقت الكافر أشدّ المقت:
﴿وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا﴾ ..المعنى: المقت أشد أنواع الكراهية، إذا اجتمع مؤمن في مجلس مع رجل كذاب، كلما تنفس نفساً يكذب معه كذبة، هل لك أن تسهر معه سهرة؟ أو أن تخرج معه نزهة؟ أعوذ بالله، أو شخص قذر مثلاً ، أو شخص بذيء اللسان، أو شخص مزاحه رخيص، فالمؤمن رقيّ النفسي يجعله يترفع عن هذه المستويات، هذا هو المقت، انظر، المستقيم يكره المنحرف، الأمين يكره الخائن، الصادق يكره الكاذب، النظيف يكره القذر، هذا هو المقت. فربنا عز وجل كامل كمالاً مطلقاً، فإذا رأى عبداً يكذب، عبداً منحط الأخلاق، عبداً خائناً، لئيماً،، غداراً مثلاً، منتقماً، حريصاً، بخيلاً، جشعاً، الله عز وجل يمقته، والمقت أشدّ أنواع الكراهية.
من مَقَته الله عز وجل فقد خاب وخسر:
قد يقول لك قائل: ولو أن الله مقته فماذا حدث؟ جاء الجواب: ﴿وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا(39)﴾ ..إذا مقت الله عز وجل الإنسان خسر وخاب، أصبح في أشد الخسارة، يجوز المؤمن يمقته كافر، خير إن شاء الله، قال تعالى:
﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)﴾
[ سورة آل عمران ]
ممكن أن يكرهك رجل كافر، يكرهك رجل منحرفٌ، وأنت مستقيم، قطعت عليه بعض النفع فكرهك، وكاد لك، هذا لا قيمة له، أما إذا مقتك الله عز وجل فهذه كل الخسارة، أنت لست على شيء، كل الخير في رضوان الله عز وجل.
وأقول لكم هذا الكلام: أعلى شيء يناله إنسان في الدنيا أن يرضى الله عنه، وأسوأ شيء يصيب الإنسان أن يسخط الله عنه، لأن الله عز وجل هو كل شيء، فإذا رضي عنك رضي عنك الناس جميعاً، إذا أحبك الله ألقى حبك في قلب الخلق، وإذا مقتك الله عز وجل ألقى مقتك في قلوب الخلق، لا أحد يحبك، ينصرف الناس عنك، فلذلك: ﴿وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا(39)﴾ مقت وخسارة.
لا ينبغي للإنسان أن يبيع نفسه لغير الله:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ﴾ ..أي هذا الذي تعتمد عليه، تتكل عليه، تعطيه شبابك، تعطيه عقلك، تعطيه ذكاءك، تعطيه قلمك، هذا الذي علقت عليه الآمال، هذا الذي عبدته من دون الله، ماذا فعل؟ مخلوق ضعيف مثلك، مفتقر إلى مولاه مثلك، فالإنسان لا يليق به أن يبيع نفسه لغير الله، تبيع حياتك، تبيع جهدك، تبيع عرقك، تبيع تعبك، تبيع شبابك لغير الله عز وجل هذا أخسر الخاسرين، من وهب شبابه لغير الله، من وهب لسانه أحياناً لسانك لزيد أو عبيد، تفكر في محاسن زيد أو عبيد، وتثني عليه، وتتحمس، إنسان مثلك ضعيف لا ينفعك، ولا يضرك، فهذا اللسان ينبغي أن يكون لله، أن ينطق بذكر الله، هذه الخبرات، هذه الإمكانات، هذه الطاقات، هذا العمر، هذا الشباب، هذا المال، هذا الجهد، هذه الخبرة، ينبغي أن تكون كلها لله، لذلك فالله عز وجل يقول:
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)﴾
[ سورة القصص ]
الآية التالية تشير إلى أنه لا إله إلا الله وأن كل الشركاء عباد فقراء عاجزون:
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ﴾ ..هل هناك قارّة هم صنعوها؟ خمس قارات هل هناك قارة صنعها فلان أو علان؟ هم خلقوا البحر مثلاً؟ هل هناك شيء في الأرض بر أو بحر، جبال، وديان، أشجار، فواكه، أطيار، أسماك، هؤلاء صنعوها أو خلقوها؟ هل لهم شيء؟ هل لهم حصة؟ هل يستطيع أحد أن يدّعي أنه خلق شيئاً في الأرض، ربنا عز وجل يرينا ضعف الإنسان، تنحبس الأمطار هل في الأرض كلها جهة تستطيع أن تجتمع وتقرر إنزال الأمطار؟ تفضلوا اجتمعوا، إذا صدر معنا قرار المادة الأولى فيه: يجب أن تهطل المطار يوم كذا، هل هناك جهة في الأرض تستطيع أن تفعل هذا؟ أحياناً يأتي مرض لا يرى فيروسي يحار منه العلماء، الله عز وجل يؤدب الناس بأمراض بسبب انحرافهم، يقف العلم عاجزاً، مرض الإيدز مثلاً هو عقاب من الله عز وجل لانحراف العصر، شبح مخيف، العلماء، والجامعات، والمخابر، يقفون عاجزين أمام هذا المرض، وكم من أمراض تحدَّت كلَّ العلماء! أحياناً زلزال يجعل الأرض عاليها سافلها، تجد بناء من ثلاثين طابقاً أصبح ركاماً، مدينة على الساحل الأطلسي فيها فسق وفجور إلى ما لا نهاية يأتيها السياح من كل أطراف الدنيا ليستمتعوا بالمعاصي، في ثلاث ثوان أصبحت تحت الأرض، وهناك فندق شهير وكبير جداً يزيد عن ثلاثين طابقاً غاص كله تحت الأرض، وبقي الطابق الأخير عليه الشاهدة، شاهدته، أي هنا دفن هذا الفندق، الله عز وجل بيده كل شيء، ﴿أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ هل تجد مجرةً صنعوها؟ يقولون: غزونا القمر، الفضاء، كلمة فيها سوء أدب، فيها تعالٍ، قطعوا ثانيةً ضوئية واحدة، كلمة غزوا القمر أي قطعوا ثلاثمئة وستين ألف كيلو متر بمركبة بقيت يومين أو ثلاثة أيام بسرعة أربعين ألف كيلو في الساعة، والقمر يُعد لصيق الأرض، كيف يقطعون مثلاً ثماني دقائق ضوئية إلى الشمس؟ أو ثلاث عشرة ساعة قطر المجموعة الشمسية؟ أو مئة وخمسين ألف سنة ضوئية قطر المجرة؟ أو أربع سنوات ضوئية أقرب نجم ملتهب إلينا؟ أو مليون سنة ضوئية المرأة المسلسلة؟ أو ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية بعض المجرات؟ قطعوا ثانية ضوئية واحدة، انسب ثانيةً ضوئية واحدة إلى ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية، غزونا الفضاء كلام فيه سوء أدب.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنْ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا﴾ هذه الآية تشير إلى أنه لا إله إلا الله، وأن كل الشركاء عباد فقراء عاجزون.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين