- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (035)سورة فاطر
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الإنسان خُلق للابتلاء بشتى أنواعه:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثالث من سورة فاطر.
وصلنا في الدرس الماضي إلى الآية الثالثة وهي قوله تعالى:
أنت في الدنيا تُمتحن بالفقر، وتُمتحن بالغنى، تُمتحن بالصحة، وتمتحن بالقوة، تمتحن بالتعظيم والتبجيل، وتمتحن بالتكذيب، فكل حالة لها موقف كامل، فإذا كُذبت ماذا تفعل؟ هل تتخلى عن دعوتك أم تتابع الطريق، وتستوحي همة عالية من قوله تعالى:
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾
هل تستوحي من قوله تعالى؟
﴿
قلت لكم مرة: إن بعض المواد تفحص مقاومتها للشد عن طريق جهاز، فنقول: هذه المادة تَضعُف على وزن كذا، وهذه على وزن كذا، وهذا الإنسان لو جاءه التكذيب، لو جاءته المعارضة، لو جاءه من يكيد له، هل يتخلى عن دعوته؟ فالله سبحانه وتعالى يعلمنا من خلال تأديبه لرسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقلت لكم من قبل إن الله ربّى محمداً صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤكده قوله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أدبني ربي فأحسن تأديبي"، ثم ربّى الأمة العربية بمحمد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وجعل من هذه الأمة وسطاء بينه وبين خلقه؟
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا
تسلية الله للنبي عليه الصلاة والسلام:
كأن الله عز وجل يسلّي النبي عليه الصلاة والسلام، أو يخفف عنه، أو يواسيه، يقول: يا محمد
﴿
فهذا إمداد ليس مرضياً عنه إطلاقاً، فما دامت الدنيا دار تكليف، وليست دار تشريف، مادامت الدنيا دار امتحان، ما دامت الدنيا دار ابتلاء، ما دامت الدنيا قصيرة ومحدودة، ولابد من أن تنتهي، فماذا يبقى؟ العمل، فكأن الله سبحانه وتعالى ربّى النبي عليه الصلاة والسلام، خفَّف عنه بعض آلامه، واساه، سلاه بهذه الآية:
من استقام على أمر الله فالله تعالى يتولى شؤونه:
أنا أحبّ أن أطمئِن كل أخ مؤمن على أنه إذا استقام على أمر الله، فالله جلّا وعلا يتولى شؤونه، ويحفظه، ويرعاه، ويؤيده، وينصره، ولكن لا تنسوا أن هذا التطمين لا يعني أنك لن تمتحن، أنه لن تجرب، أنه لن توضع على المحك.
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2)﴾
أي أنت صالحٌ جداً وأنت غني، فما هي حالتك إذا جاءك الفقر؟ أنت صالحٌ جداً وأنت صحيح، فما حالك إذا جاءك شبح مرض؟ هل تنسى ربك؟ ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: "والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهرهُ الله أو أهلك دونه"، هذا شأن المؤمن، فلذلك هو تعليم للنبي، والنبي يعلّمنا.
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾
أنت عاهدت خالق الكون، عاهدته على الطاعة، يجب أن تطيعه في السراء، في الضراء، في إقبال الدنيا، في إِدبارها، في الصحة، في المرض، قبل الزواج، بعد الزواج، قبل العمل، بعد العمل، في شبابك، في كهولتك، في شيخوختك، وأنت مقيم، وأنت مسافر، الدنيا أقبلت، أو الدنيا أدبرت، رفعك الله، أو خفضك الله، هكذا:
علاقة الآية التالية بقوله: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُور:
﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ
﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ
لو رأيت زيداً قَوِي وعبيداً ضَعُف، هؤلاء رفعهم الله، هؤلاء خفضهم الله، يجب أن تعلم أَن رفعة هؤلاء لا في قواهم الذاتية، وأن خفض هؤلاء ليس في تقصير منهم، ولكن شاءت مشيئة الله أن يرفع هؤلاء ليبتليهم، وأن يخفض هؤلاء ليبتليهم، أن يعطي هؤلاء ليمتحنهم، وأن يمنع هؤلاء ليختبرهم.
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ
حقيقة الدنيا أنها دار ابتلاء، لا دار استواء، ومنزل ترح لا منزل فرح، فمن عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى، وجعل الآخرة دار عقبى.
البطولة كمال الموقف عند المصائب:
أقول لكم الآن: ليست البطولة ألا تصاب بمكروه، ليست هذه بطولة، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام سمّى هذا الذي دائماً يأتي واقفاً على قدميه، سماه عفريتاً نفريتاً، ليست البطولة ألا تصاب بمكروه، ولكن البطولة إذا جاءك المكروه أن تكون كاملاً في توحيدك، كاملاً في طاعتك، كاملاً في صبرك، كاملاً في تأديبك، فالبطولة لا أن تنجو من الابتلاء، ولكن البطولة أن تنجح في الابتلاء، ليست البطولة ألا تقدم الامتحان، ولكن البطولة أن تدخل الامتحان، وأن تنجح في الامتحان، فإذا جاءت مشكلة، جاءت مصيبة، لاح شبح قضية متعبة، يكرهها الإنسان، ورآها من الله عز وجل، رآها محض فضلٍ، رآها محض رحمةٍ، رآها محض عدلٍ، عدل ورحمة وفضل، إن رأيتها كذلك فقد نجحت، وإن شكرت الله عليها فقد تفوقت، إذا أحبّ الله عبده ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه، مَن هذا الذي يشكر الله على مصيبة ألمت به؟ إلا الذي يعرف أن الله عز وجل ساق له هذه المصيبة رحمةً به، وحرصاً عليه، وتقريباً له، ودفعاً إلى بابه، وترقية لجنابه، هكذا.
إذاً ليست البطولة أن تنجوَ من الامتحان، ولكن البطولة أن تنجح في الامتحان، ليست البطولة ألا يصيبك مكروه، ولكن البطولة أن تكون كاملاً في تلقي هذا المكروه، أن تصبر.
﴿
لماذا اصبر؟ لو أن الأمر واضح كالشمس، جليّ كرابعة النهار لماذا اصبر؟ حينما يأمر الطبيب أن تأخذ دواءً مراً، وتعلم أنت علم اليقين أن هذا الدواء لصالحك، لماذا الصبر؟ ولكن حينما لا تعرف الحكمة، حينما يسوق الله لإنسان مؤمن شيئاً دون أن يكشف هذا المؤمن حكمة ذلك، هنا بالصبر، أليست لك أسوة بالنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال:
إذاً: حينما تنجح في مواجهة امتحان الله عز وجل، حينما تنجح في قبول المصيبة، وفي تفسيرها التفسير الصحيح، وفي رؤيتك أن هذه المصيبة محض فضل، ومحض عدل، ومحض رحمة، عندئذ نجحت في الامتحان، ولا تنسَ هذه المقولة أيها الأخ الكريم:
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)﴾
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ
إلى حكمتها، وإلى سببها.
بعد كل مصيبةٍ اتَّهم نفسَك:
لكنّي أنصح إخوتنا الكرام، أنك إذا جاءتك أنت مصيبة لا سمح الله فاتهم نفسك قدر ما تشاء، ولكن إياك أن تتخذ من هذه القاعدة وسيلة للطعن في المؤمنين، أقول هذا بشكل واضح جداً: إذا جاءك شيء تكرهه لا عليك أن تتهم نفسك، أن تبحث عن السبب، أن تبحث عن العلة، أن تقول: إنّ الله عز وجل أفعاله كلها حكيمة، يا رب أنت غني عن تعذيبي، لكنك حينما عذبتني لحكمة تريدها، ما هذه الحكمة يا رب؟ الله غني عن تعذيبنا، أما هناك حكمة لابد من معرفتها، لك أن تفعل هذا مع نفسك قدر ما تشاء، أما إياك، ثم إياك، ثم إياك أن تتخذ من هذه الحقيقة الثابتة في القرآن والسنة، أن تتخذها سبباً في الطعن على أخيك المؤمن، فلان أصابته مصيبة لابد أنه مذنب، هذا من سوء الأدب، ومن سوء التصرف، ومن السلوك الذي لا يُرضي الله عز وجل.
بعد كل مصيبةٍ اتَّهم نفسَك.
الأمور كلها تُرجع إلى الله تعالى:
وعدُ الله واقع لا محالة:
﴿
هذا أمر لم يحدث بعد، ولكن لِتحقق الوقوع جاء بصيغة الماضي:
﴿
معناها لم يأتِ بعد، لا تستعجل قدوم الامتحان، معنى هذا أن الامتحان لم يأتِ بعد، فكيف يقول الله عز وجل:
علاقة القسم الأول من الآية بالقسم الثاني:
ما علاقة القسم الأول من هذه الآية بما بعده؟
(( قَالَ: لَمَّا أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا فِي قُرَيْشٍ وَقَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ، وَجَدَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ، حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِمْ الْقَالَةُ، حَتَّى قَالَ قَائِلُهُمْ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْتَ فِي هَذَا الْفَيْءِ الَّذِي أَصَبْتَ، قَسَمْتَ فِي قَوْمِكَ، وَأَعْطَيْتَ عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنْ الْأَنْصَارِ شَيْءٌ، قَالَ: فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَنَا إِلَّا امْرُؤٌ مِنْ قَوْمِي، قَالَ: فَاجْمَعْ لِي قَوْمَكَ فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ النَّاسَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ، قَالَ: فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدَّهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ: قَدْ اجْتَمَعَ لَكَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ الْأَنْصَارِ، قَالَ: فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِالَّذِي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، مَا قَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ، وَجِدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ، أَلَمْ آتِكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمْ اللَّهُ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللَّهُ، وَأَعْدَاءً فَأَلَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ؟ قَالُوا: بَلْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنُّ وَأَفْضَلُ، قَالَ: أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ قَالُوا: وَبِمَاذَا نُجِيبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنُّ وَالْفَضْلُ، قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ، وَصُدِّقْتُمْ، أَتَيْتَنَا مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَعَائِلًا فَأَغْنَيْنَاكَ، أَوَجَدْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ
الله
الموت حقٌّ آتٍ لا محالة:
فإنك ميت، أحبب ما شئت فإنك مفارقه، اعمل ما شئت فإنك مجزِيّ به.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آله حدباء محمول
فإذا حملت إلى القبـور جنــــازة فاعلم بأنـــك بعدهـا محـمولُ
* * *
كل مخلوقٍ يموت، ولا يبقى إلا ذو العزة والجبروت.
والليل مهمـا طال فلا بد من طـلوع الفجر والعمر مهما طال فلا بد من نزول الـقبر
* * *
أنا أسأل الطلاب أحياناً، طلاب المدارس أو الجامعات، شهر أيلول أول العام الدراسي أقول لكم: أين وقت الامتحان؟ بعيد، فيأتي أيلول، ويأتي تشرين الأول والثاني، وكانون الأول والثاني، ما بين غمضة عين وانتباهتها جاء حزيران، بقي خمسة أيام، يمضي اليوم الأول والثاني، لا بد من أن يستيقظ الطالب في أحد الأيام على أن هذا اليوم هو يوم الامتحان، أنت تنتظره قبل تسعة أشهر، وتقول: بعيد، هذا البعيد جاء، دخلنا في الصيف، نحن في أول الصيف، ما هو إلا زمن يسير حتى يأتي الشتاء، ثم يأتي الصيف، ثم يأتي الشتاء، ولا بد من مواجهة الموت في النهاية، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا.
كنت البارحة مع رجل أعرفه جيداً، وتسلم مناصب رفيعة، ذهب ليوصِلَ ابنته إلى المدرسة، في طريق العودة قال: أشكو من صدري، مالت عنقه، وسلم روحه، المغادرة تمت في ثانية، كل هذه الدنيا التي حصّلها خسرها في ثانية واحدة، ماذا في القبر؟ القبر صندوق العمل.
البطولة أيها الإخوة أن تعمل عملاً يصحبك إلى القبر، المقياس الدقيق أن أيّ عمل تنتهي نتائجه عند القبر فلا قيمة له، هو مِن الدنيا، أي شيء لا يصحبك بعد الموت هو من الدنيا، وأي شيء يصحبك بعد الموت من الآخرة، قد تفعل شيئاً في الدنيا للآخرة، فالذي يبقى عند القبر من الدنيا، الذي يبقى في البيت من الدنيا، أما الذي يدخل معك القبر فهو من الآخرة، يا قييس! إن لك قريناً تُدْفن معه وهو حي، ويُدفن معك وأنت ميت، إن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ألا وهو عملك.
أنا أقول: بُطولة، لأن الإنسان يتخيلها أحياناً بجمع المال، يتخيلها بالقوة، يتخيلها بالسيطرة، يتخيلها بالبيت الفخم، يتخيلها بالزوجة التي تروق له، يتخيلها بأولاد نجباء، يتخيلها بالرحلات، يتخيلها بالحفلات، يتخيلها بإنفاق المال، يتخيلها بكسب المال الوفير، يتخيلها في العزة والسلطان، هكذا يتوهم الإنسان الدنيا، ولكن الدنيا زائلة، أقول: البطولة:
ليس من يقطع طرقاً بطلاً إنما من يتقي الله البطل
* * *
أقول لك: يا أخي هذا بطل في الجري، هذا بطل في اللعبة الفلانية، هذا بطل في رفع الأثقال، إذا قلت: البطولة من هذا النوع فلا يوجد ميزة للإنسان إلا وفي غير الإنسان ما يسبقه بها، أي هذا الذي يفتخر بحاسة شمه هناك حيوان أترفع عن ذكر اسمه تفوق حاسة شمه الإنسان بمليون مرة، الذي يفتخر بحدة بصره، النسر يرى ثمانية أضعاف ما يراه الإنسان، أي ما من صفة يمكن أن تُعدَّ بطولة في الإنسان إلا وفي الحيوان ما يسبقه بها، إذاً: بطولة الإنسان في معرفة الله، خلقتُ لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب، وخلقتك من أجلي فلا تلعب، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عمّا افترضته عليك.
العاقل اللبيب يرى الشيء بتجربته قبل وقوعه:
مَثَلاً: ترى طالباً يمضي وقته بلا دراسة، مع أصدقاء السوء في سهرات لا طائل منها، في القيل والقال، في لعب النرد، أنت كإنسان عاقل حكيم، عندك خبرة في الحياة، ترى مستقبل هذا الشاب تعيساً، الآن يرتدي ثياباً أنيقة، لكنّك تعلم أنه إذا لم يبنِ مستقبله بنفسه، إن لم يهتم بتحصيل شيءٍ يعينه على مواجهة الحياة، ربما رأيته في مستقبل حياته في عمل لا يُرضي، وفي فقر مدقع، وفي زاوية مهملة في الحياة، فصاحب الخبرة والتجربة يرى الشيء قبل أن يكون، يرى ما ينبغي أن يكون قبل أن يكون، هذه يسميها الناس: الرؤية المستقبلية، ترى المرابي مصيره الدمار، يرابي وتنمو أمواله، ويزداد إنفاقه، وتعلو مكانته، ويغير بيته، ويغير مركبته، وينتقل من بلد إلى بلد، وهو يقول: أنتم الأغبياء، أنا الذي جمعت هذا المال من طريق حرام، لكنني تفوقت عليكم، ما هو إلا وقت يسير حتى تأتي ضربة الله القاصمة، فالمؤمن يرى النتيجة، يرى وعدَ الله حقاً،
أذكرَ قصة رجل قرأ:
الأمانةُ غنىً، فوعدَ النبي الأمينَ بالغنى، وعد المنافق بالصغار، وعد الصادق بالعز، وعد المصلي ببركة الوقت، ابحث عن وعود الله عز وجل في القرآن والسنة، وكن كسيدنا سعد بن أبي وقاص، حينما قال:
العاقل يكشف في القرآن والسنة قوانين معاملة الله للعباد:
مثلاً: زواج توافرت له كل أسباب النجاح، شاب وسيم، صاحب معمل، بيته فخم، دخله كبير، صحته جيدة، تزوج فتاة في مستواه، هذا الزواج بمقاييس الأرض توافرت له كل أسباب النجاح، إن لم يبنَ على طاعة الله، تولّى الشيطان التفريق بين الزوجين، على الرغم من كل وسائل النجاح لهذا الزواج كثيراً ما ينتهي بالطلاق، وبالخصومة، وبالشقاق، وبالملاعنة، وبالضرب، وبالشتم، لأن الشيطان يتولّى التفريق بين الزوجين، إذا بُنِيَ زواج على طاعة الله عز وجل قد يفتقر هذا الزواج إلى كل أسباب نجاح الزواج، لا بيت، ولا دخل، ولا عمل، ومع ذلك إذا جاءت رحمة الله، وشملت هذين الزوجين بالعناية، نما هذا الزواج، وازداد الوئام بين الزوجين، هناك قوانين يجب أن تضع يدك عليها، هذه بطولة أيضاً، أن تكشف القوانين التي يعامل الله بها عباده، إنسان ترفّع عن المال الحرام يجب أن توقن يقيناً قطعياً أن الله سبحانه وتعالى لابد من أن يكرمه بمال حلال قريباً أو بعيداً، وكلما سمعت قصة تؤكد هذه الحقيقة تقول: يا رب لك الحمد، هذه عدالتك، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اعرف الحقيقة وأنت شابٌّ:
إذاً:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)﴾
رجل كان عنده ملاهٍ، ودور قمار، مطاعم فخمة، وهو على فراش الموت، بلغت ثروته قريباً من ألف مليون، حينما أيقن بمغادرة الدنيا، وأيقن بأن مصيره ليس كما ينبغي، طلب أحد أهل العلم، وقال له: ماذا أفعل؟ سامحه الله، قال له: والله لو أنفقت هذا المال كله لا تنجو من عذاب الله، كله محصّل بطريق غير مشروع، من قمار، من ملاهٍ، من حفلات لا ترضي الله عز وجل، استيقظ بعد فوات الأوان:
مثلاً: رأى شخصٌ عُلبةً في الطريق، علبة أنيقة جداً، وقد لفت بورق فخم، وعليها شريط حريري، يا ترى ساعة؟ ترى سوار؟ يا ترى مطيف؟ يا ترى لؤلؤ؟ ذهب به الخيال إلى أن في هذه العلبة شيئاً ثميناً، فلما فتح هذه العلبة وجد فيها كُناسة محل تجاري، فقال: وا أسفاه، أدرك الحقيقة المرة، وكذلك الدنيا، نُعلق عليها الآمال، وقد يأتي ملك الموت قبل أن نَسكن هذا البيت، وقبل أن نتزوج، وقبل أن نسافر، وقبل أن نقطف ثمار أتعابنا، إنسان فتح دار سينما، وجمع أموالاً طائلة، كان ابن أخته أحد طلابي، قال لي: حضرت نزع خالي، صار يبكي ويقول: أنا حصلت الملايين لأنفقها في خريف عمري، وأستمتع بها، هذا المرض قد عاجلني، ولم يسمح لي أن أستمتع بهذا المال الذي حصلتُهُ من هذه الدار، وصار يبكي، فلذلك:
خطر في بالي من أيام إذا كان هناك شخص- وهذا مثلٌ افتراضيٌ - معه خمسة ملايين دولار، وشعر ببرد شديد، فأشعلها ناراً، وتدفأ بها، أيكون رابحاً بهذا العمل؟ يقول لك: يا أخي والله تدفأت، خمسة ملايين تساوي 250 مليون ليرة، تأخذ أفخر بيت، أفخر مركبة، أفخر مزرعة، أفخر عمل، تدفأت بهم خمس دقائق، هذا الذي اشترى بآيات الله ثمنا قليلاً.
﴿
باع دينه وآخرته بعرض من الدنيا قليل، باع هذه الحياة الأبدية بسنوات معدودة، مشحونة بالتعاسة والشقاء:
الغرور هو الشيطان:
أما القسم الثاني:
﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)﴾
الشيطان يوسوس، والمَلك يُلهم، فإذا استمعت إلى وسوسة الشيطان فقد خسرت كل شيء، لأن مهمته أن يُضِلك عن سبيل الله، يوجد آية:
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ
هذا الذي رفض أن يسجد لأبيكم تكريماً لكم تَتّخذونه ولياً؟ تتخذونه هادياً لكم إلى جهنم؟
كيف نغتر بالله عز وجل؟
يطالعنا سؤال الآن، يمكن أن نغتر بالدنيا، فنراها بحجم أكبر من حجمها الحقيقي، فكيف نغتر بالله عز وجل؟ هل يعقل أن الله أقلّ مما تظن؟ مستحيل، الدنيا ممكن، الدنيا هي أقلّ مما تظن، لكن كيف تغتر بالله عز وجل؟ العلماء قالوا: تغتر بالله إذا طمعت في رحمته، ولم تستجب لأمره، إذا طلبت الجنة بلا عمل، إذا أقمت على معصية، ورجوت الله أن يعفو عنك، إذا أكلت المال الحرام وقلت: أنا تبت إلى الله يا رب، رُدّ المال لأصحابه، أن تغتر بالله أن تطمع بعفوه من دون أن تتوب، أن تطمع بجنته من دون أن تستعد لها، أن تطمع بعطائه من دون أن تدفع ثمنه، هذا هو اغترار بالله عز وجل.
هل من الممكن أن تدخل إلى بائع سجاد، وتطلب منه أفخر سجادة عنده، وثمنها أربعون أو خمسون ألفاً وتدفع له عشر ليرات ثمناً لها؟! ماذا يفعل بك بعد أن أتعبته ساعة أو ساعتين؟ فهذا الذي يطلب الجنة بركعتين وليرتين وهو مقيم على معاصي الله عز وجل، هذا مغتر بالله عز وجل، هذا هو الاغترار بالله عز وجل؛ أن تظن أن هذا القاضي العادل يرتشي، أن تظن أن هذا الأستاذ العظيم يعطيك الأسئلة مقابل مبلغ من المال، هذا اغترار به، لن يفعل هذا أبداً:
﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ
الشيطان أول عدوٍّ للإنسان:
الله العظيم يقول عن عذابه: إنه شديد:
العذاب الشديد أنواع كثيرة في الدنيا:
أحياناً تأتي مصيبة، والإنسان يكرس كل طاقاته لمواجهتها، يقول لك: حاصرتها، لكن ربنا عز وجل حينما يقرر أن يصيب الإنسان بعذاب شديد يبتليه بالفقر، وبالمرض، ليس معه ثمن الدواء، وقد يبتليه بالشقاق الزوجي مع مرضه وفقره، هو وزوجته في خصام شديد، وقد يبتليه بمشكلة خارج بيته، وقد يبتليه بعدة مصائب في آن واحد، فالإنسان أحياناً ربما استطاع أن يواجه مصيبة واحدة أو مصيبتين، ولكن إذا أراد الله عز وجل أن يصيبه بعذاب شديد تأتيه الأمور من كل جانب، تستحكم حلقاتها.
للمؤمن مغفرة من ربه وعطاء كبير:
(( أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))
مصيبة المصائب أن تفعل السيئات وأنت تعتقد أنك تفعل الصالحات:
أما الشيء الذي يُعدُّ مصيبة المصائب فهو قوله تعالى:
الإيجاز القرآني: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا كمن كان عمله صالحاً:
لذلك:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿
مستحيل.
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
﴿
مستحيل.
الإضلال الجزائي المبني على الضلال الاختياري:
إذاً:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين