الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
سرّ ترتيب آيات الله عز وجل:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثامن من سورة فاطر.
وصلنا في الدرس الماضي إلى نهاية الآية السادسة والعشرين، واليوم نبدأ بالآية التالية، وهي قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27)وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ قبل أن نمضي في شرح هذه الآية نقف وقفة متأنية أو قصيرة عند سرّ ترتيب آيات الله عز وجل.
تلاحظون أن الله عز وجل في السورة الواحدة يُنَوِّع بين آيات كونية إلى أحكام فقهية إلى أخبارٍ عمن قبلنا إلى وعد إلى وعيد، قد يسأل سائل: لمَ لم يكن القرآن مرتباً ترتيباً موضوعياً؟ لمَ لا تكون آيات الكون في فصل، والأحكام الفقهية في فصل، والتاريخ في فصل؟ هذا السؤال جوابه فيما يلي: إن هذا القرآن كتاب هداية، ومادام كتاب هداية ينبغي أن يتمشى مع طبيعة النفس، فإذا جلست إلى طعام ينبغي أن تأكل طعاماً دسماً، وفواكه، ومقبلات، وشراباً، وحلويات، أيعقل أن تأكل لأسبوع بشكل مستمر طعاماً من نوع واحد أسبوع مقبلات أسبوع فواكه؟ فربنا عز وجل جمع في السورة الواحدة موضوعات شتى كل هذه الموضوعات في مجملها تشكل وحدة إرشادية، فتارة تحتاج إلى آية كونية ترقى بها إلى الله، وتارة تحتاج إلى حكم فقهي تطبقه لتصلح دنياك، وتارة بحاجة إلى خبر عن الأقوام السابقة لتتعظ، فتنوع الموضوعات في السورة الواحدة من لدن حكيم خبير، وترتيب القرآن كما تعلمون ترتيب توقيفي جاء به الوحي السماوي، فحينما ننتقل من حديث عن الدنيا والآخرة إلى حديث عن الكون إلى حديث عن الأمم السابقة إلى وعد إلى وعيد إلى مشهد من مشاهد الآخرة، هذا الترتيب يجب أن نأخذه بعين الاعتبار، ويجب أن نعتقد جميعاً أن هذا الترتيب ترتيب خالق الكون، ترتيب مُنَزل هذا القرآن.
في قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي هذه الآية بين يدي الإنسان:
الآن ننتقل إلى صفحة من صفحات الكون، ربنا سبحانه وتعالى يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ..هذه الرؤيا رؤية القلب أو العلم، أي ألم تعلم؟ كلكم يعلم أن فعل رأى على نوعين، رأى بصرية ورأى قلبية، قد تقول: رأيت الشمس ساطعة، هذه رأى البصرية، وقد تقول: رأيت العلم نافعاً، هذه رأى القلبية، فهذه رأى هنا تشير إلى رؤية القلب أو إلى العلم، ألم تر أيها الإنسان؟ أي ظاهرة إنزال المطر أليست ظاهرة بين يديك؟ ألا تراها في كل فصل؟ الذي عاش أربعين عاماً مضى عليه أربعون شتاءً، ألم ير فيها هطول الأمطار؟ كيف أن هذه المساحات الواسعة من المسطحات المائية تتعرض لأشعة الشمس فتتبخر فينشئ الله بها سحاباً، تأتي الرياح تسوق هذا السحاب إلى أرض عطشى تنعقد مطراً، تُنْبت زرعاً، تأكل منه أنعامنا ونأكل منه نحن.. أي هذه الآية في متناول الناس جميعاً، فإذا قال الله عز وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أي أن هذه الآية بين يدي الإنسان.
محور الآية التالية يدور حول ظاهرة الألوان:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً﴾ ..الحديث عن هطول الأمطار، وعن تشكل السحاب، وعن علاقة الهواء بالماء، وعن علاقة الهواء ببخار الماء، وكيف أن الهواء يتحمل بخار الماء، وفي كل درجة من درجات حرارة الهواء يتحمل بها كمية من الماء، فإذا انخفضت هذه الدرجة تخلى عن بعض الماء الذي حمله، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)﴾
[ سورة النبأ ]
طبيعة المطر، وإنشاء السحاب، وانعقاد حبات المطر، وهطول الأمطار، هذا موضوع دقيق جداً يحتاج إلى دراسات طويلة، لكنه آية من آيات الله الدالة على عظمته، وهي بين أيدي الناس، الأرض عطشى، الأشجار يابسة، تأتي الأمطار فتجعل الأرض جنة، وتجعل الأشجار منتعشة مروية تحمل الثمار، وما يلذ للإنسان، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً﴾ لكن محور هذه الآية يتحدث عن ظاهرة الألوان، الآية كلها عن ظاهرة اللون، كلكم يعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الكون ونوره، فالشمس جعلها الله جلّ وعلا مصدر الضياء.
﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5 ﴾﴾
[ سورة يونس ]
فاللون هو شيء دقيق جداً، حينما يُسَلط الضوء على شيء ما هذا الشيء يمتص كل الألوان، عدا لونٍ واحدٍ، اللون الذي لا يمتصه هذا الشيء هو لونه، أي السماء، طبقة الهواء تمتص ستة ألوان عدا اللون الأزرق، إذاً: لون السماء لون أزرق، الماء كذلك، فموضوع اللون متعلق بالضوء، فإذا لم يكن هناك ضوء فلا لون، والضوء كما تعلمون مؤلف من سبعة ألوان، فإذا اجتمعت هذه الألوان ظهر اللون الأبيض، وإذا أردت أن تعرف حقيقة هذه الظاهرة ضع مرآة في قعر إناء تحت أشعة الشمس ترى أن هذا الضوء الأبيض قد تحلل على الحائط إلى سبعة ألوان، فالضوء الأبيض مؤلف من سبعة ألوان، وما قوس القزح إلا تحليل لضوء الشمس، فهذه الألوان السبع المجتمعة بلون واحد هو الأبيض إذا سلطت أشعة الشمس على شيء فهذا الشيء يمتص الألوان الست عدا اللون الذي يبدو لأعيننا أنه لون هذا الشيء، فظاهرة اللون يتحدث الله عنها في هذه الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ ..
اختلاف الثمرات شكلاً وطعمًا ولونًا صغراً وكبرًا هذا من نعم الله:
انظر إلى لون التفاحة الأصفر، ثم إلى لون التفاحة الأصفر المشرب بالحمرة، أو إلى لون تفاحة أحمر، أو إلى لون تفاحة أحمر داكن، كل فاكهة لها لون يأخذ بالألباب، بل إن المهندسين ليهتدون بألوان الفواكه وألوان الفراشات وألوان النباتات في تصميم ألوانهم. إذاً: ربنا سبحانه وتعالى يلفت النظر إلى قيمة اللون في حياة الإنسان، إن بعض الحيوانات لا ترى إلا الأبيض والأسود، وفرق كبير بين أن ترى صورة ملونة بمنظر طبيعي وبين أن ترى صورة بالأبيض والأسود، فاللون من نعم الله العظمى على الإنسان، يبعث البهجة في النفس، وأحد أسباب متعة العين الألوان التي صممها الله عز وجل في هذا الكون، واللون كما قلت قبل قليل: لا يظهر إلا بالضوء، والله سبحانه وتعالى نور السماوات والأرض، فإذا نظرت إلى الفاكهة ربما كان اللون له دلالة مؤشراً على نضجها، فربنا عز وجل يقول:
﴿ وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)﴾
[ سورة النحل ]
فالإنسان الذي يعمل في الزراعة يهتدي إلى نضج الفواكه والثمار والخضراوات باللون، ادخل إلى حقل الطماطم - البندورة - ماذا ترى؟ هذه العناقيد كلها خضراء، أما الحمراء فتقطفها، كلما وجدت ثمرة حمراء اللون تقطفها هي الناضجة، فاللون علامة النضج، وهذا من فضل الله على الإنسان، فكل شيء أعطاه علامة دالة على مضمونه، فاللون من جهة متعة بالغة للإنسان، ومن جهة ثانية مؤشر على حالة معينة للفاكهة، فالفاكهة الخضراء لا تؤكل.
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)﴾
[ سورة الأنعام ]
ينعه أي نضجه، كيف نعرف نضجه؟ من لونه، فالإنسان إذا أمسك فاكهة ليأكلها فلينظر إلى دقة هذا اللون.
الآن: الكرز له لون رائع، المشمش له لون دقيق، التفاح، العنب..إلخ، أحياناً اللون يثير الشهية، من جهة يثير المتعة، متعة العين، اللون الذي تصطبغ به الفاكهة يثير شهية الإنسان، واللون مؤشر على نضج الفاكهة، فهذه الآية الكونية التي أشار الله إليها في هذه الآية يجب أن نهتم بها.
الإنسان لا ينبغي أن يأكل كما تأكل بقية المخلوقات، يجب أن يأكل كما يأكل الإنسان العاقل، أن يجعل من طعامه دليلاً على الله عز وجل، وهكذا قال الله عز وجل:
﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)﴾
[ سورة عبس ]
انظر إليه، انظر إلى لون الفاكهة، أضف إلى اللون حجم الفاكهة، أضف إلى حجمها رائحتها، أضف إلى رائحتها شكلها، قوامها، ما فيها من مواد غذائية، اجمع بين المواد الغذائية مع النضج مع القِوام مع الحجم مع الشكل مع اللون مع الرائحة مع طريقة التناول، مع امتداد فترة القطاف، لو أن الفواكه تنضج في يوم واحد لأتلفناها، لكن الفواكه التي نأكلها تنضج تباعاً، وهذا من نعم الله العظمى، بينما المحاصيل تنضج في يوم واحد، أكمل شيء في المحاصيل أن تنتج في يوم واحد، وأكمل شيء في الفاكهة أن تنضج تباعاً، بل إن مجموع الفواكه التي نستفيد منها في فصل واحد تنضج أيضاً هي تباعاً بحسب أنواعها. فالذي عنده حقل أو عنده بستان فيه من كل الثمرات يقطف نوعاً نَوعاً بالتدريج، وهذا من فضل الله، هذه اسمها: برمجة، الفواكه مبرمجة، والنوع الواحد مبرمج، وهذا من فضل الله عز وجل.
حدثني أحدهم أنه ضَمِن حقلاً للبطيخ خلال ثلاثة أشهر كان يقطف منه ما يملأ سيارة شحن كل يوم! إذاً هذا الحقل يعطيك هذه الفاكهة الصيفية على مدار تسعين يوماً، هذه برمجة، لو أن هذا البطيخ نضج كله في يوم واحد، ماذا نستفيد منه؟ إذاً إذا نظر الإنسان إلى الفاكهة، وتأمل في ألوانها ليعلم أن اللون له وظيفة، تارة يثير الشهية، وتارة يدل على النضج، وتارة يُمْتِع العين، بل إن هناك من يضع صورة للفواكه في غرفة الطعام على أنها قطعة فنية، منظر الفاكهة بألوانها اليانعة، بألوانها بعد أن تصبح يانعة هذا لون يثير الحاسة الجمالية في الإنسان، ربنا عز وجل يقول: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ التركيز في هذه الآية لا على فائدة الفاكهة، ولا على طعمها، ولا على ما فيها من مواد غذائية، ولا على تناسُبِها مع طبيعة الإنسان، التركيز هنا على اللون، أي ظاهرة اللون. ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا﴾ مع أنها تسقى بماء واحد، هذه البذرة فيها قِوام النبات، وفيها عمر النبات، وفيها عطاء النبات، وفيها نوع الفاكهة، وطعم الفاكهة، ولون الفاكهة، وقوام الفاكهة، كلها معلومات موضوعة في نويّتها، وهذه المعلومات كما قلت قبل حين تزيد عن خمسة آلاف مليون معلومة ومبرمجة، لذلك هذه البذرة تزرعها في التراب، فإذا هي شجرة زيتون، أو شجرة تفاح، لها طباع، لها حاجات دقيقة، لها عمر معين، لها إنتاج معين، حتى إن الفاكهة الواحدة منها أنواع منوعة أي بالمئات، أية فاكهة تخطر في بالكم في العالم أنواع منها بالمئات، هناك نوع كبير الحجم، نوع صغير الحجم، نوع يظهر متأخراً، نوع باكوري، نوع حامض الطعم، أنواع منوعة لا يعلمها إلا الله، يكفي أن من العنب في بعض حقول التجارب عندنا ما يزيد عن ثلاثمئة نوع، والتفاح كذلك، وكل أنواع الفواكه والثمار أنواع منوعة، هذه للنقل، وهذه للمائدة وهذه للصناعة، وهذه للعصير، وهذه نسيجها متماسك، وهذه ماؤها كثير، وهذه كروية الشكل، وهذه صلبة النسيج، أنواع منوعة، فإذاً نوع الفاكهة ونوع الطعام هذا دليل على عظمة الله عز وجل، والإنسان العاقل ينبغي أن يجعل من طعامه دليلاً على عظمة الله عز وجل.
ظاهرة اللون كما أنها في الفواكه هي في التضاريس أيضاً:
إذاً: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ﴾ .. أيضاً هذه الجبال، تذهب إلى مكان فترى جبلاً أحمر اللون، وفي مكان آخر ترى جبلاً أبيض، وفي بلاد الحجاز الجبال سوداء اللون بلون الحديد، في أماكن الجبال حمر، في أماكن الجبال كلسية بيضاء اللون، فهذه ظاهرة اللون كما أنها في الفواكه هي في التضاريس، كل تربة لها لونها الخاص، كل منطقة لها طبيعة خاصة، إذا ذهبت إلى منطقة حوران فالتربة لها لون، إذا ذهبت إلى منطقة أخرى فالتربة لها لون آخر، إذا ذهبت إلى جبال معينة فهذه الجبال لها لون، قال تعالى: ﴿وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾ ..هي الطرق، الطرق في الجبال تراها تارة بيضاء، وتارة حمراء، وتارة سوداء، ﴿وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا﴾ حتى لو أن هذه الطرق حمراء اللون إنها متفاوتة في هذا اللون، اللون الواحد متفاوت.
الإنسان فرد متميز ومن علامة فرديته تميزه بلون خاص:
﴿وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ ..دعك من الجبال، ودعك من الفواكه والثمار، وانظر إلى لون الإنسان، هذا أبيض ناصع، وهذا حنطي اللون، وهذا أسمر داكن، وهذا أسود غربيب، فما هذا اللون الذي منحه الله لبني البشر؟
قرأت مقالة عن اللون أن أشد الناس تلوناً فيه مادة لا يزيد وزنها على واحد بالألف من الميليغرام! موزعة في جلد الإنسان، يصبح لونه بهذا الشكل أو بشكل آخر، فلو جئت بآلة تصوير، وصورت عشرة أشخاص لرأيتهم بلون واحد في الصورة، أما لو نظرت إليهم بعينيك لرأيت كل إنسان منهم ينفرد بلون لا يزاحمه فيه أحد، وهذا اللون من فضل الله على الإنسان، الإنسان من تكريم الله له أنه جعله فرداً متميزاً، ومن علامة فرديته أنه يتميز بلون خاص، له لون خاص، وملامح خاصة، ونبرة خاصة، ورائحة جلد خاصة، هذه الفردية في الإنسان تكريم من الله عز وجل. إذاً.. ﴿وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ﴾ ..غرابيب سود أي أسود داكن، شديد السواد، أو لون أحمر مختلف في درجاته، أو لون أبيض مختلف في نصاعته.
ظاهرة اللون في المخلوقات:
﴿وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ﴾ ..أيضاً هذه الدواب انظر إلى ألوان البقر، بقرة صفراء فاقع لونها، بقرة سوداء، بقرة بيضاء، بقرة بيضاء وسوداء، هذا من حيث البقر، والجِمال كذلك، هناك جمل أسود، وجمل أشهب، وجمل أبيض، وجمل أشقر، وكذلك الغنم، وكذلك الماعز، حتى الدواب بشكل عام، وحتى الأنعام بشكل خاص لها ألوان متفاوتة، فكأن هذه الآية أرادت أن تُلْفِت نظر الإنسان إلى ظاهرة اللون، وكيف أن الإنسان مكرم بأنه أُعطِي عينين يرى بهما الألوان، فلو أن هذه الألوان الصارخة الجميلة التي بثها الله في الكون كانت موجودة، لكن عيني الإنسان لا تريان إلا الأبيض والأسود ما قيمة ذلك؟ لو أنك صَوَّرت منظراً جميلاً فيه من الأزهار من كل الأنواع، والفيلم أبيض وأسود، كل هذه الألوان تنطمس، ولا قيمة لها، وشتان بين صورة ملونة وصورة بيضاء وسوداء، فرق كبير بينهما، فلذلك: ﴿وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ﴾ أي ظاهرة اللون في البشر، وفي الحيوانات، وفي النباتات، وفي الجماد، فربنا عز وجل ذكر ظاهرة اللون في كل الأنواع، في نوع الجمادات، ولاسيما الجبال، وفي نوع النباتات، ولاسيما الثمار، وفي نوع المخلوقات، ولاسيما الحيوانات، وفي الأخص الأنعام، وفي نوع الإنسان، فظاهرة اللون ظاهرة تُلْفِت النظر، وهي موضوع للتفكر في خلق السماوات والأرض.
أب وأم يأتيان بأولاد مختلفي الألوان، من ولد ناصع في بياضه، إلى ولد داكن في تلوينه، والأم والأب من نوع واحد! وهذا أيضاً من دلائل الله عز وجل على عظمة خلقه.
العلماء وحدهم الذين يخشون اللهَ فالعلم طريق الخشية:
أيها الإخوة الأكارم؛ في هذه الآية تعقيب دقيق جداً، هذا التعقيب يقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ ومعروف لديكم أن (الله) لفظ الجلالة مفعول به مقدم، و(العلماء) فاعل مؤخر، أي: إنما العلماء يخشون الله، ولو قلنا: العلماءُ يخشون اللهَ، لا يمنع من أن يخشى الله غير العلماء، لكن حينما قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ ..وهذا كلام خالق الكون، يجب أن نعلم علم اليقين أن العلماء وحدهم يخشون الله، وهذا يعطينا معلومات دقيقة في أن طريق الخشية هو العلم، ليس هناك من طريق إلى الله عز وجل إلا العلم، لأن الخشية في هذه الآية محصورة ومقصورة على العلم، فإذا أردت الله عز وجل فعليك بالعلم، أولاً: العلماءُ وحدهم يخشون الله.
وثانياً: من لم يخشَ الله عز وجل فليس عالماً، ولو قال لك: أنا أحمل أعلى شهادة في العالم، ولو أظهر لك شهاداته كلها، مادام يعصي الله، ولا يخشى الله عز وجل فليس بعالم، بإمكانك أن تدمغه بالجهل.
العاصي مدموغ بالجهل:
أيّ إنسان يعصي الله، ومعنى يعصي الله أنه لا يخشاه، هذا الإنسان مدموغ بالجهل بنص هذه الآية، فإذا كنت مصدقاً لكلام الله عز وجل، إذا كان هذا الكلام كلام الله ملء سمعك وبصرك وملء جوانحك، وأنت معتقد أن كل ما فيه حق، وأن هذا الكتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، إذا كنت معتقداً أن هذا كلام الله، كلام خالق الكون، وهو يقول: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ استنبطت الحقائق التالية: أولاً طريق الخشية هو العلم، ولا شيء غير العلم.
ثانياً: من لم يخشَ الله فليس بعالم، ولو حفظ آلاف الكتب، لذلك كفى بك علماً أن تخشى الله، كل من خشي الله هذا وسام شرف أنه عالم، كل من خشي الله، يؤكد لك من خلال هذه الآية أنه يعرف الله، لو أنه لا يعرفه لم يخشه، وكل من يعصِ الله عز وجل وصمة عار في جبينه! إنه جاهل، فلك أن تؤكد أن الذي يعصي الله جاهل، ولك أن تؤكد أن الذي يطيعه عالم بالله بنوع أو بآخر.
و(إنما) تفيد القصر، أي العلماء وحدهم، ولا أحد غيرهم يخشى الله، طريق العلم، طريق الخشية هو العلم.
مفهوم الخشية:
﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ ..الخشية أيها الإخوة؛ قد يفهمها بعضهم خوف العقاب، هذا معنى ضيق، المعنى الضيق للخشية أن تخشى عقابه، لكن المعنى الواسع للخشية من دون أن تخشى عقابه حينما تتصور عظمته ينكسر قلبك خضوعاً له، انكسار القلب وخضوع القلب لعظمة الله عز وجل هي الخشية.
وقال بعض العلماء: هذه الخشية إما أن تحصل بطريق التصور، وإما أن تحصل بطريق التجلي، إما أنك من خلال التفكير في الكون تتصور عظمة الله عز وجل فيخشع قلبك، وإما أن يتجلى الله عليك فتخشاه، على كلٍّ الأول كسبي، والثاني وهبي، خشية الله من خلال بالتفكر في الكون كسبية، بإمكان أي إنسان أن يحصل عليها، إذا فكر في آيات الكون الدالة على عظمته يمتلئ قلبه استعظاماً لله عز وجل، فإذا تصور عظمة الله عز وجل خضع قلبه لله، أما إذا تجلى الله عليه بأنواره خشع قلبه.
﴿ لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)﴾
[ سورة الحشر ]
مفهوم الخشية:
علاقة الخشية بالعلم علاقة طردية:
شيء آخر؛ الخشية علاقتها بالعلم علاقة طردية، كلما نما العلم نمت معه الخشية، فإذا أردت مؤشراً للعلم فعليك بالخشية، الذي يخشى الله هو الذي يعرفه، والذي لا يخشى الله لا يعرفه، تكاد تكون الخشية متوازية في حركتها مع الخط العلمي، فإذا أردت مزيداً من الخشية فعليك بمزيد من العلم، وإذا بدا منك مزيد من الخشية فهذه علامة أنك على علم جيد بالله عز وجل، وهناك علم حجمه لا يكفي لخشية الله عز وجل، إذاً هذا العلم ليس منجياً، العلم المنجي هو الذي في مجموعه يحملك على خشية الله عز وجل، والنبي أعلَمُنا بالله، إذاً هو أشدنا لله خشية، وهكذا قال عليه الصلاة والسلام، وفي الحديث:
(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه يقول جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا وقال آخر أنا أصوم الدهر ولا أفطر وقال آخر أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال أنتم الذين قلتم كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني. ))
[ متفق عليه ]
((والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له)) وللشيخين من حديث عائشة:
(( ما بالُ أقوامٍ يتَنَزَّهونَ عن الشيءِ أصنَعُهُ؟ ! فواللهِ إِنَّي لأعْلَمُهُمْ باللهِ ، وأشدُّهم لَهُ خشيَةً. ))
[ صحيح الجامع : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
والعبرة هي الخشية، العلم ثمرته الخشية، فمن تعلم ولم يخشَ فلم يتعلم، طالب يدرس حتى يكون له دخل معقول، فلو تعلم ولم يُوظف مثلاً ما قيمة هذه الشهادة في نظام الحياة؟ العلم الديني مؤداه الخشية، فمن لم يخشَ ما قيمة هذا العلم؟ كالخشوع في الصلاة ليس من فضائلها، بل من فرائضها، والفلاح في القرآن جاء مرة:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)﴾
[ سورة الأعلى ]
وجاء مرة:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)﴾
[ سورة المؤمنون ]
فلذلك الخشية والخشوع من ثمرات العلم، فإذا أردت أن تخشى الله عز وجل فعليك بالعلم، والعلم بلا خشية كالشجر بلا ثمر ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ .
تلخيص لما سبق :
الآية أصبحت: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27)وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ﴾ ظاهرة اللون في الجماد، الجبال، في النبات، الثمار، في الحيوانات، الأنعام، وفي البشر، ظاهرة اللون ظاهرة معقدة جداً، علاقتها بالنور وعلاقتها بإسقاط النور على الأشياء، وعلاقتها بامتصاص الشيء للألوان، وعدم امتصاصه لبعض الألوان، واللون له عدة وظائف؛ مرة يُثير المتعة في الجبال، وفي الآكام، وفي مظاهر الطبيعة، ومرة يثير الشهية في الفواكه والثمار، ومرة يدل على حقيقة متعلقة بالنبات، تحت قوله تعالى: ﴿وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ﴾ هذه معرفة الله من خلال الكون، الكتاب المفتوح، وهناك معرفة بالله من خلال قرآنه.
الدين في مجمله معرفة بالله واتصال به وإحسان إلى خلقه:
يقول الله عز وجل بعد هذه الآية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ ..هنا يتلونه حقّ تلاوته، ومعنى يتلون كتاب الله يتلونه بتدبر، ومع التدبر إدراك، ومع الإدراك خشوع، ومع الخشوع عمل، وبعد العمل سعادة، تدبر، إدراك، خشوع، تطبيق، سعادة، كل هذه المعاني منطوية في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ﴾ مادام قد تلا كتاب الله شعر بحاجة إلى أن يتصل به، وأقاموا الصلاة، تلوا كتاب الله؛ يتلون كتاب الله حق تلاوته، ينطقونه حقّ النطق، يفهمونه حقّ الفهم، يطبقونه حقّ التطبيق، كل هذه المعاني، معنى التلاوة: القراءة، ومعنى الفهم، ومعنى التطبيق كلها تحت قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ أي الدين في مجمله: معرفة واتصال، وإحسان، معرفة بالله، واتصال به، وإحسان إلى خلقه.
الإنفاق مطلَق:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً﴾ .. هؤلاء تعرفوا إلى الله إما من خلال الكون، أو من خلال كلامه، أو منهما معاً، وأقاموا الصلاة، اتصلوا بالله عز وجل، وأنفقوا مما رزقناهم، وهذه آية مطلقة، إذا آتاك الله علماً، إذا آتاك الله جاهاً، إذا آتاك الله قوة، خبرة، أي شيء آتاك الله إياه يجب أن تنفق منه.
التجارة مع الله رابحة بكل المقاييس:
﴿وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ ..في الحقيقة: التجارة أن تنفق شيئاً، وتأخذ أكثر منه، التجارة مهما تنوعت هناك رأس مال، وهناك مبيع، والفرق بينهما هو الربح، فأنت في الدنيا تتاجر مع الله، والله جلّ في علاه يحب أن تتاجر معه، وأن تربح عليه، لكنك في تعاملك مع الله لا تربح الربح القانوني الذي يربحه التجار، بل تربح مع الله أضعافاً مضاعفة، أضعافاً كثيرة، أي حينما ترى مقامك في الجنة ترى أن هذا المبيع لا يتوازن أبداً مع ثمن الشراء، أي الذي بذلته في الدنيا لا يتناسب أبداً مع العطاء في الآخرة، إنه ألوف ملايين الأضعاف، لذلك المؤمن من علامات خجله أنه يعرق حينما يرى مقامه عند الله عز وجل، ماذا فعل؟ بالتجارة تشتري بمئة وتبيع بمئة وخمسين مثلاً، بمئتين، ربح فاحش، بثلاثمئة، بألف، لكنك مع الله عز وجل:
﴿ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)﴾
[ سورة البقرة ]
أي أضعاف مضاعفة، لذلك قال الله عز وجل:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾
[ سورة البقرة ]
معنى التجارة وارد في آيات أخرى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)﴾
[ سورة الصف ]
اسأل تاجراً اشترى شيئاً ما بمئة، وباعه بعشرة آلاف، تجده يكاد يقفز عن الأرض قفزاً، يقول لك: هذه بيعة، إذا اشترى شيئاً بثمن بخس، وباعه بأضعاف مضاعفة الربح مسعد، التجار يعرفون طعم الربح، لكنك إذا تاجرت مع الله عز وجل فالأرباح مضمونة، وأضعافها كثيرة، ولا يعلمها إلا الله، لذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ أحياناً التجار حينما تزدحم عليهم الزبائن، وحينما تروج بضاعتهم، وحينما يبيعون بأرقام خيالية ينسون صلاتهم وعباداتهم، ويظنون أنهم سعداء بهذه الأرباح الطائلة، بينما الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة من مسجد إلى مسجد، ومن درس علم إلى درس علم، ومن طاعة إلى طاعة، ومن بذل إلى بذل، فهؤلاء يبدو أنهم خاسرون، وهؤلاء التجار الكبار هم الرابحون، ولكن ما قولكم لو عكست الآية؟ هؤلاء الذين يتلون كتاب الله، وأقاموا الصلاة، وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية، هؤلاء وحدهم يرجون تجارة لن تبور، هذه التجارة الرابحة مع الله، أحياناً الإنسان بعمله يكون له هداية دعوة إلى الله، أنا إذا رأيت أخاً كريماً له حرفة وله دعوة، أقول له: والله إن سعيك لهداية فلان أربح تجارة تفعلها في حياتك، وإن كل أعمالك التجارية مهما كَبُر حجم أرباحك لا تساوي هداية إنسان، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال لعلي: ((لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس، خير لك من حُمَر النعم، خير لك من الدنيا وما فيها)) . عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِي اللَّه عَنْه سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ:
(( لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ، فَقَامُوا يَرْجُونَ لِذَلِكَ أَيُّهُمْ يُعْطَى، فَغَدَوْا وَكُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَى فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ فَقِيلَ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ فَأَمَرَ فَدُعِيَ لَهُ فَبَصَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ ! مَكَانَهُ حَتَّى كَأَنَّه لَمْ يَكُنْ بِهِ شَيْءٌ فَقَالَ: نُقَاتِلُهُمْ حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا فَقَالَ: عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، فَوَاللَّهِ لأَنْ يُهْدَى بِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ. ))
[ صحيح البخاري ]
فالإنسان السعيد الذي يتاجر مع الله، إذا تاجرت مع الله الربح مضمون، والربح نسبه عالية جداً، نسبه فلكية، وخيالية، وقد لا يُصَدق حجم الربح مع الله عز وجل، لكنك إذا تاجرت في الدنيا الربح له سقف، يوجد منافسة، يوجد من ينافسك في البيع، وقدرتك على الاستمتاع بهذه الأموال محدودة، فإذا جاء الموت ليس لك شيء، القدرة على الاستمتاع بالمال محدودة، مهما كنت غنياً ليس في إمكانك أن تأكل فوق ما يملأ معدتك، وليس في إمكانك أن تنام إلا على سرير واحد، ولا أن تلبس إلا ثياباً معدودة، وألا تكون إلا في مكان واحد، في وقت واحد، فالقدرة على الاستمتاع بالمال محدودة، والأرباح محدودة، والسقف موجود، وحينما يموت الإنسان يَدَع كل شيء، الذي حصّله في حياته يوماً بيوم يفقده في ثانية واحدة، بينما إذا تاجرت مع الله عز وجل أرباح مضمونة لا سقف لها، وبإمكانك أن تسعد بها إلى أبد الآبدين، فلذلك أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً. هؤلاء: ﴿يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ .
أجر الله وافٍ مع الزيادة:
﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ..أي تعبك في الدنيا، أداؤك الصلوات في أوقاتها، ذهابك إلى مجالس العلم، غضّ بصرك، ورعك عن مال حرام، قولك دائماً: إني أخاف الله رب العالمين، ضبط شهواتك، ضبط جوارحك، ضبط لسانك، إنفاق مالك، إنفاق وقتك، تحمل المشاق، الصبر على الطاعات، الصبر عن الشهوات، والصبر على الملمات، هذا كله سوف تجده في صحائفك يوم القيامة، ولن يضيع عليك شيء منه من قِبل الله عز وجل:
﴿ فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)﴾
[ سورة محمد ]
﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ أي من فضله فوق الأجور، أي هذا الشيء ثمنه ألف مثلاً خذ مليوناً، أخذت الثمن وزيادة، ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ..غفر لهم أخطاءهم وذنوبهم، وشكرهم على أعمالهم الصالحة، غفور شكور: أخطاؤك غفرها لك، وحسناتك ضاعفها لك، وشكرك عليها.
وحيُ الله حقٌّ:
﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾. .هذا القرآن الذي أوحاه الله جلّ في علاه إلى النبي عليه الصلاة والسلام هو الحق، والحق الشيء الثابت الذي لا يتبدل، ولا يتغير، ولا يُعدل، ولا يلغى، والباطل الشيء الزائل، فأنت إذا كنت مع الحق فأنت في طمأنينة وفي يسر وفي بحبوحة، فإذا كنت مع الباطل فأنت مغامر ومقامر، تغامر بسعادتك الأبدية، وتقامر بها، لأن الباطل كان زهوقاً، فإذا زهق الباطل زُهِق الإنسان معه، فكن مع الحق وإلا فهناك مغامرة ومقامرة.
من اتبع كلام الخبير فهو في سعادة وطمأنينة:
﴿وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ ..خبير هو الذي خلقهم، يعرف طبيعة النفس، يعرف ما يصلحها، ما يسعدها، ما يطمئنها، ويعرف ما يشقيها، وما يبعدها، فإذا اتبعت كلام الخبير فأنت في سعادة، وأنت في حياتك الدنيا ماذا تفعل؟ في كل قضية تبحث عن الخبير، إذا أردت أن تشتري مركبة تبحث عن خبير يفحصها لك، وإن أردت أن تشتري بيتاً تبحث عن خبير، يقيّم لك هذا البيت، وإذا أردت أن تشتري آلة تبحث عن خبير، فأنت بحاجة ماسة إلى الخبير، فإذا أردت أمر آخرتك، فإذا كنت حريصاً على سلامتك وعلى سعادتك وعلى نجاتك وعلى دخولك الجنة فعليك بكلام الخبير.
اجتماع الخبرة مع البصر في الله عز وجل شيء عظيم:
الله عز وجل يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾ ..خبير بهم، وبصير بأحوالهم، هناك خبير غير بصير، وبصير غير خبير، لكن اجتماع الخبرة مع البصر في الله عز وجل شيء عظيم، خبير وبصير، فكم من خبير ليس بصيراً، أنت لم تقل لي، لماذا لم تقل لي؟ ليس بصيراً، وكم من بصير ليس بخبير! يقول لك: لا أعرف، شاهدت لكن لا أعرف أن هذا الشيء خطير، هناك من يرى، وليس عنده خبرة، وهناك من عنده خبرة، وعلمه محدود لا يرى، طبيب في بيته وأخوه في منزل آخر ، فالطبيب خبير، لكن ليس بصيراً، يقول له: لماذا لم تخبرني يا أخي؟ مادام ضغطك بهذا المستوى أخبرني، فقد تجد الخبير ليس بصيراً، وقد تجد البصير ليس خبيراً، لكن الله جلّ في علاه خبير وبصير.
الحق لا يتغير ولا يتعدد:
﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(29)لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30)وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ﴾ الحق الشيء الثابت الهادف الذي لا يتبدل ولا يتغير. ﴿مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من الكتب السماوية، لأن المصدر واحد، بيد يدي النبي التوراة والإنجيل، جاءت قبله والقرآن يصدقها لأن الحق لا يتغير ولا يتعدد.
القرآن الكريم منحة السماء إلينا:
﴿بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ﴾ ..
هذا الكتاب ؛ القرآن أورثه الله جلّ في علاه لعباده، اصطفاه لهم وأورثهم إياه، هذا الكتاب منحة السماء إلينا، منهج فيه كل شيء، فيه خبر من قبلنا، نبأ من بعدنا، فيه حكم الله في كل شيء، هذا حلال، هذا حرام، هذا مقبول، هذا مرفوض، هذا يرضي الله، هذا لا يرضي الله، فيه وعد، فيه وعيد، فيه أمر، فيه نهي، فيه حلال، فيه حرام، فيه مشاهد مستقبلية، فيه ومشاهد مضت.
ظِلم الإنسان لنفسه يكون بعدم تطبيق كلام الله عز وجل:
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ ..أهمله، لم يعبأ به، جعله وراءه ظهرياً، لم يهتم به، قرأه تبركاً، لكن حياته في واد، وأحكام القرآن في واد، هذا الذي لم يفقه مراد الله من هذا الكتاب، لم يفهم حِكَمه، لم يأخذ بأوامره، لم ينته عما عنه نهى، قرأه قراءة جوفاء، ولم يقف عند حقائقه الدقيقة فكأنه ظلم نفسه بذلك، شخص أعطاك تعليمات خطيرة جداً في شأن موضوع خطير، أنت لم تستخدمها لماذا؟ لأنك لم تعبأ بها، عدم اهتمامك بها جعلك تهملها، فهذا الذي ظلم نفسه، ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ فمن عبادنا ليس من الذين اصطفينا، من عبادنا ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ ، أحياناً يقول طبيب للمريض: مرضك ليس خطيراً، إذا اتبعت هذه التعليمات تشفى، أما إذا أهملتها يتفاقم، وعندئذٍ يصبح خطيراً، فهذا المريض لو لم يعبأ بهذه التعليمات، ولم يهتم بها، بل سخر منها، يكون ظلم من؟ ظلم نفسه، ما ظلمت أحداً، الطبيب قال لك: هذه الأكلات تؤذيك، وهذه الحركات تؤذيك، وهذه الشدائد النفسية تؤذيك، ابتعد عن هذه وهذه وتلك، إذا أردت أن تشفى من مرضك فعليك بهذه التعليمات، فإن أخذت بها فقد نجوت، وإن أهملتها فقد ظلمت نفسك، فهذا الذي ظلم نفسه بعدم تطبيق كلام الله عز وجل.
الإنسان مخير بين أن يكون من المقتصدين وبين أن يكون من السابقين:
﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ ..المقتصد بعضهم قال: هو الذي يجمع الحسنات والسيئات، هذا تفسير.
التفسير الآخر: أنه يقف في الحدود الدنيا، أحلّ الحلال وحرم الحرام، لكنه ليس سبّاقاً إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
هناك سابق، وهناك أصحاب اليمين، وهناك أصحاب الشمال، هناك هالك، وهناك ناجٍ، وهناك متفوقٌ، المتفوق جعل كل حياته، وكل جهده، وكل وقته، وكل ماله، وكل شبابه، وكل عمره لله عز وجل، هذا باع نفسه لله، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
[ سورة التوبة ]
باع حياته كلها.
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162)﴾
[ سورة الأنعام ]
وقته لله، عضلاته لله، خبراته لله، عقله لله، قلمه لله، لسانه لله، زواجه لله، حرفته لله، لهوه لله، كل سكناته وحركاته في سبيل الله، هذا هو السبّاق.
﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)﴾
[ سورة الواقعة ]
كم عندكم الزكاة يا سيدي؟ قال له: عندنا أم عندكم؟ قال: ما عندنا وما عندكم؟ قال: عندكم واحد في الأربعين، أما عندنا فالعبد وماله لسيده، هذا عندنا، فأنت مخير بين أن تكون من المقتصدين، وبين أن تكون من السابقين، لكن إياك أن تكون من الظالمين، ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ ، ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ﴾، ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ(10)أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾ .
موازنة بين الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات:
حينما تصلي صلوات، وحينما تحرص على صلواتك، وحينما تصلي صلوات النفل، وتنفق زكاة مالك، وفوق الزكاة صدقة، وحينما تتعلم ما كان فرض عينٍ، وما كان فرض كفاية، وحينما تعمل آناء الليل وأطراف النهار بما يرضي الله عز وجل، فأنت من السابقين، وأنا أعجب ممَن يطمح في الدنيا ولا يطمح في الآخرة، ممن يزهد في الآخرة، أو يرضى فيها بأدنى المراتب، ولا يرضى في الدنيا إلا بأعلى المراتب، من هو الزاهد؟ هو الذي زهد في الآخرة الحقيقة.
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ أدى الصلوات الخمس، وغضّ بصره عن الحرام، وتحرَّى الحلال في دخله، ثم أعطى نفسه المباحات، لا أقول: المحرمات، لا، المباحات، فهذا الذي فعل من الدين الحدود الدنيا لم يفعل إلا الفرائض، لم يفعل إلا الأوامر، وترك المنهيات وأطلق نفسه للمباحات، هذا مقتصد، وأما الذي وقع في الحرام، وترك الأمر والنهي فهذا ظالم، أما الذي فعل الأوامر وترك النواهي، وفعل النوافل. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ:
(( مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ... ))
[ صحيح البخاري ]
هذا هو السابق، إذاً: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا﴾ الله أعطى التعليمات، أعطى المنهج، الذي عليه قدمه، هدانا وانتهى الأمر، هدانا لهذا الكتاب، هذه التعليمات والتوجيهات، وافعل ولا تفعل، والحرام والحلال والمباح، والخير والشر، والسعادة والشقاء، وطريق الإيمان والتفكر، كله في هذا الكتاب، هذه هداية الله عز وجل، ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ - من عبادنا- ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ﴾ بإهماله، هذا الكتاب بين يدينا، إن أحببت أن تقرأه، وتطبقه هنيئاً لك، وإن أحببت أن تهمله ليس لديك وقت، تقرأ جرائد كل يوم وتسمع أخباراً فقط وأحاديث فارغة، لابأس، ظلمت نفسك بعدم اتباع الكتاب، الإنسان يطّلع على ما يجري لكن لا ينسى كلام الله عز وجل، إذا ترك القرآن نهائياً جعله وراء ظهره فقد ظلم نفسه، يجب أن تفقه ما حولك، هذا شيء واجب، لكن أن يشغلك عن ذكر الله، أن يشغلك عن كلام الله عز وجل، عن تلاوة القرآن، والله هذا ظلم كبير للنفس.
﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ أي الحدود الدنيا، الخطبة فقط يحضر الخطبة، أما الدروس فلا يحضرها، هذه فرض، وهذا مقتصد، أما السابق بالخيرات فيريد مزيداً من العلم، يريد أن يتعلم كلام الله، الحديث الشريف، السيرة المطهرة، أمر الله عز وجل ، يريد أن يصبح داعية، ويهدي الناس، فهو طموح.
التفوق والفوز لمن كان سبّاقاً في الخيرات:
﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ هذا التفوق، هذا الفوز، هذا النجاح، هذا الفلاح، هذه السعادة، هذا الذكاء، فلان ذكي، هذا الذكي، أي اختار أن يكون سابقاً بالخيرات، فالإنسان لا يكون في الدنيا سبّاقاً وفي الآخرة زاهداً ليعكس الآية، ليكن في الدنيا قنوعاً وفي الآخرة سبّاقاً، ليكن طموحاً إلى مراتب عليا عند الله عز وجل.
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)﴾
[ سورة القمر ]
﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ﴾ ..كلمة (هو) تفيد القصر، أي هذا وحده هو الفضل، لا الدنيا، الإنسان أحياناً يرى بيتاً فخماً يسيل لعابه، ويظن هذا البيت فضلاً كبيراً منحه الله لصاحبه، يرى سيارة فارهة يظنها فضلاً كبيراً، يرى منصباً رفيعاً يظنه فضلاً كبيراً، يرى فلاناً اقترن بزوجة من مستوى رفيع يظن ذلك فضلاً كبيراً، يرى فلاناً عنده بساتين ومزارع وأموال منقولة وغير منقولة، يظن ذلك فضلاً كبيراً، لكن الله عز وجل يخبرنا أن الفضل الكبير أن تكون سابقاً بالخيرات، أن يكون باعك بالخيرات كبيراً، الغنى غنى العمل الصالح.
ما هو الفضل الكبير؟ ثمنه هذا السبق في الخيرات، ثمرته: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ﴾ أوصاف الجنة ليس لنا أن نزيد فيها، الله أعلم ما نوع الذهب، وما نوع اللؤلؤ، وما نوع الحرير الذي يلبسه أهل الجنة، لكن الأصل في أن الأوصاف الغيبية نكتفي بنصها دون أن نزيد عليها، لأن أية زيادة على الإخباريات زيادة ظنية ليست راجحة، بل مرجوحة.
الحياة كلها أحزان:
﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ ..الدنيا كلها أحزان يا أخوان،لا أعتقد أن هناك إنساناً إلا والحزن معه دائماً، يكون المرء طفلاً صغيراً فيدخل المدرسة، أمامه عقوبة، لم يكتب الوظيفة، تأخر، من مرحلة لأخرى، كل مرحلة فيها متاعب، إن كان طفلاً بالابتدائي، بالإعدادي، دخل الجامعة، تزوج، جاءه أولاد، كبر ، متاعب بصحته، الحياة كلها أحزان، من عرفها لم يفرح لرخاء، ولم يحزن لشقاء، أجمل كلمة: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ إذاً: الدنيا كلها حزن، كلها قلق، كلها متاعب، كلها هموم، هكذا شاء الله أن تكون، ركبها على ذلك كي نتوق إلى الله عز وجل. أوحى ربك إلى الدنيا أن تمرري، وتكدري، وتضيقي، وتشددي على أوليائي حتى يحبوا لقائي..لكن ليس في الآخرة قلق، شخص إذا كبر يحزن، شاب شعره يتألم، ضعف بصره يتألم، ضعف جسمه يتألم، الزمن ليس في صالح الإنسان في الدنيا، الزمن يسير نحو الأتعب، نحو الأضعف، نحو النهاية، إذاً: الحياة مركبة على الحزن، لكن الآخرة ليس فيها حزن، أي الإنسان انتقل من دار إلى دار فقال: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ معنى ذلك أن الدار الأولى كلها حَزَن، كأن الدنيا مركبة على الحَزَن، أساسها الهموم، وأكبر حزن فيها تركها، مفارقتها، أي إذا تعلق الإنسان بالدنيا تعلقاً شديداً، ولم يعمل للآخرة، يصيب قلبه من الحزن حين فراقها، حينما يشعر بدنو أجله يأتيه حزن لا يوصف، هذه الدنيا دار عمل، وليست دار أمل، ممر وليست مقراً، دار تكليف لا دار تشريف، فأساسها من عرفها، عرف حقيقتها جعلها دار ممر، من لم يعرفها جعلها دار مقر، فإذا نُزِعت منه حزن أشد الحزن، أي الانتقال من دار لدار، ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ الحزن إذاً وصف للدار الأولى، وصف للدنيا، من أجل ألا تكون دار حزن لنجعلها دار عمل، لنجعل التعلق في الآخرة، لنجعل محط الرحال في الآخرة، لنجعل الدنيا كلها مُسَخرة للآخرة، إذا جعلت الدنيا مزرعة الآخرة ومطية الآخرة، وإذا جعلت كل ما فيها في خدمة الآخرة، ماذا قال الله عز وجل؟
﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)﴾
[ سورة القصص ]
كل شيء آتاك الله في الدنيا من صحة وشباب، ومال وجاه وعلم، وخبرة ووقت، وعضلات اجعلها في سبيل الله، عندئذٍ لا تكون الدنيا دار حزن.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين