- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (035)سورة فاطر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، و أرنا الباطل باطلاً، وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الآيات الدالة على وجود الله ووحدانيته:
أيها الإخوة الأكارم؛ مع الدرس السادس من سورة فاطر.
وصلنا في الدرس الماضي إلى الآية الثانية عشرة، وهي قوله تعالى:
لعلنا في الدرس الماضي تبين لنا أن الله جلّ وعلا أراد أن يعرفنا بذاته من خلال آياته، والآيات هي العلامات الدالة على وجوده، وعلى كماله، وعلى وحدانيته، وعلى قدرته، موجود، وقدير، وكامل، وواحد، أبرز الصفات والأسماء التي يمكن أن تُجْمع من خلالها كل أسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى. من هذه الآيات أولج بمعنى أدخل، يتجلى اسم اللطيف في هذه الآية، نحن في حياتنا اليومية نضع يدنا على زر فيتألق المصباح فجأة، نضعها ثانية فينطفئ فجأة، أما هذا التدريج اللطيف، تغيب الشمس، لا تزال الدنيا مضيئة، كيف يدخل الظلام شيئاً فشيئاً، شيئاً فشيئاً، إلى أن يأتي وقت العشاء، فإذا الظلام قد عمّ الأرض، الله جلّ وعلا أولج الليل في النهار بلطف ما بعده لطف، لو أن الله جلّ وعلا كما نفعل نحن في حياتنا اليومية غابت الشمس فجأة، وغاب معها الضوء، لاشك أن الهواء الذي يغلف الأرض يقوم بعملية اسمها: تناثر الضوء، هناك أشعة شمس، وهناك ظلام دامس، وهناك منطقة فيها ضياء، وليس فيها أشعة، الهواء الذي يغلف الأرض يقوم بمهمة تناثر الضوء، إذاً الغلاف الهوائي نعمة من نعم الله عز وجل، هو الذي يجعل هذا الضياء يبدو بشكل تدريجي، وفي الصباح يولج النهار في الليل، ظلام دامس، يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، وبعدئذِ يزداد الضياء شيئاً فشيئاً، إلى أن تشرق الشمس، ويعمّ الضياء الأرض. هذه الآية الدالة على عظمة الله عز وجل، أولاً لولا أن شكل الأرض كرة لمَا تداخل الليل والنهار، ولولا أن سرعة الأرض سرعة بقدر لما تداخل الليل والنهار بهذا البطء وبهذا اللطف، ولولا أن الأرض يغلفها غلاف غازي لما تناثر الضوء، الإنسان إذا دخل إلى الظلمة فجأة لا يرى شيئاً، بعد حين تتسع حدقته شيئاً فشيئاً حتى تتبدى له بعض ملامح الأشياء، لو دخل الإنسان إلى سوق الحميدية أو سوق مدحت باشا الآن، فجأة وهو يقود مركبة بعد أن يدخل هذا السوق لا يرى شيئاً إطلاقاً، لأنه انتقل من الشمس المتألقة إلى منطقة أقل إضاءة، وإذا انتقل الإنسان من مكان مظلم إلى مكان مضيء تضيق حدقة العين شيئاً فشيئاً حتى تأخذ الضوء الكافي، وأنت لا تدري، لكن الله جلّ في علاه جعل تداخل الليل والنهار تداخلاً لطيفاً، وتداخلاً مريحاً، وتداخلاً يوحي بعظمة الله عز وجل، هذا معنى قوله تعالى:
أحياناً هناك دليل فطري على أن هذا الكلام كلام الله، دليل فطري يُعَبر عنه بالمثل التالي: أنت لو سمعت إنسانين يتحدثان من وراء حجاب أو في غرفة أخرى، بينهما باب ينتقل الصوت عبره، قال لك: البارحة عيَّنا مديراً عاماً للبريد، من المتكلم؟ وزير المواصلات، أنت لا تعرف من المتكلم! لكن فحوى الكلام يُنْبئُك بالمتكلم، حسناً، حينما يقول تعالى:
تسخير الشمس والقمر للإنسان:
وظيفة الآيات الكونية:
بالمناسبة أي شيء خلقه الله عز وجل من دون استثناء له وظيفتان خطيرتان، الوظيفة الأولى أن يدلك على الله، والوظيفة الثانية أن تنتفع منه، أهل الكفر والإعراض استفادوا من الوظيفة الثانية، سخروا كل ما في الأرض لمصالحهم، استنبطوا ثرواتها، ركبوا الهواء، غاصوا في البحار، الهدف الثاني تحقق، لكن أهل الإيمان استفادوا من الهدف الأول.
يجب أن نعلم أن كل شيء خلقه الله عز وجل خلقه من خلال هدفين؛ الأول: أن يدلك على الله، والثاني: أن تنتفع منه، لذلك يمكن أن نقول: إن الله جلّ في علاه سخر للإنسان السماوات والأرض تسخير تعريف وتسخير تكريم، فالتعريف يقتضي الإيمان، والتكريم يقتضي الشكر، فإذا عرفت الله آمنت به، وشكرته، فقد حققت المراد من خلقك، عندئذٍ تتوقف كل أنواع المعالجات، والمضايقات، لهذا قال تعالى:
﴿
كلام دقيق جداً، الكون سُخِّر للإنسان بنص القرآن:
﴿
﴿
خُلِق خصيصاً لكم، صُمِم من أجلكم، خُلِق موافقاً لحاجاتكم،
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
تتوقف كل أنواع المعالجات، لأن الهدف تحقق، أيضاً الإمام الشافعي رضي الله عنه استنبط من قوله تعالى في الآية السابقة أن الله لا يعذب أحبابه، أي أنت عرفت الله وأحببته، أنت في مجال التكريم، قال تعالى:
﴿
لو أن الله أقرهم على أنهم أحبابه لما عذبهم، إذاً إن الله لا يعذب أحبابه، معنى دقيق جداً
المصائب تختلف باختلاف الناس:
لكن بالمناسبة، ما كل مصيبة تصيب الإنسان هي تعذيب، بعض المصائب تكريم، ابتلاء، امتحان، رفع درجات، إذا قلنا: إن المصائب مضايقات وشدائد يسوقها الله للإنسان كي يدفعه إلى باب العبودية فهذا من قبيل الحديث عن العصاة، أما المؤمنون فلهم معاملة خاصة:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)﴾
أي يريد الله عز وجل أن يُعَرِّف المؤمن بإيمانه، أنت يا عبدي مؤمن والدليل: سقت لك هذه الشدة، فلا غيرت، ولا بدلت، ولا تركت الصلاة، ولا ظننت بالله ظنّ السوء، أنت على ما أنت عليه، فحينما يصاب المؤمن بخوف، أو بنقص من الأموال، والأنفس، والثمرات، هذه مصائب الترقية، ومصائب الكشف، ومصائب الدفع، لكن مصائب أهل الدنيا العصاة مصائب القصم، والردع، بينت هذا في دروس سابقة، هناك مصيبة قصم، قال تعالى:
﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)﴾
حينما يبتعد الإنسان بعداً شديداً عن الدين، ويستحيل عليه العودة يُقصم، وحينما يقع في مخالفة شديدة، وفي معصية بليغة، تصيبه مصيبة الردع، فلعل الله جلّ وعلا يردعه بهذه المصيبة، أما أهل الإيمان فمصائبهم مصائب دفع ، تسريع، ومصائب رفع، ومصائب كشف.
تحرُك كل شيء في الكون لأجل مسمى:
كل ابـن أنثى وإن طالت سـلامته يـوماً عـلى آلة حدباء محمول
فإذا حملـت إلى الـقبـور جـنــازة فـاعـلم بأنك بعـدهـا محمــول
* * *
هذا هو الزمن، الزمن حركة محدودة تنتهي بنقطة الصفر، يقول لك: عدّ تنازلي، تسع، ثمان، سبع، ست، خمس، أربع، ثلاث، اثنان، واحد، صفر. انتهى، تفضل، شرِّف معنا، هكذا الدنيا..
الـدنيا سـاعة اجعلها طاعـة والنفس طماعة عـودها القناعة
* * *
سبحان الله! الزمن يمضي سريعاً فيما مضى، كل واحد منا له عمر، كيف مضت هذه السنوات الثلاثون؟ يقول لك: والله كلمح البصر، كيف مضت الأربعون عاماً؟ الخمسون عاماً؟ العشرون عاماً؟ وعلى هذا فقس، والإنسان يسأل نفسه سؤالاً محرجاً: هل بقي بقدر ما مضى؟ أغلب الظن لمن تجاوز الأربعين لا، لأن معترك المنايا بين الستين والسبعين، فمن بلغ الأربعين أغلب الظن أن الذي بقي أقلّ مما مضى، هذا معنى:
خيار الإنسان مع الإيمان خيار وقت فقط:
مرة ثانية: ليست مشكلة الإيمان أن تؤمن أو ألا تؤمن، لا بد من أن تؤمن ولكن بعد فوات الأوان، فالبطولة أن تؤمن قبل فوات الأوان، البطولة أن تؤمن وأنت شاب، وأنت في ريعان الشباب، طاقة، قدرة، أن تُشَكِّل حياتك وفق قواعد الإيمان، أن تختار عملك الذي يرضي الله عز وجل، أن تتعلم كي تستفيد من علمك في الحياة الدنيا، لا أن تتعلم بعد فوات الأوان، بعد أن مضت السنون، وبعد أن دفعت الثمن بالغاً، يا ليتني فعلت كذا! يا ليتني لزمت مجالس العلم! يا ليتني أديت الصلوات كلها! يا ليتني فعلت كذا وكذا! كلمة ليت هذه تجرح الفؤاد.
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
اقرؤوا الآيات التي تتحدث عن ندم الإنسان حينما يلقى الله عز وجل، فليست القضية أن تؤمن أو ألا تؤمن، لابدّ من أن تؤمن، فرعون آمن:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ
الشيء الثاني: ما من واحد على وجه الأرض يُنْكِر حادث الموت، ولكن البطولة أن تستعد له، الموت خارج حساب الناس، يحسب لكل شيء حساباً، كنت في مكان أنتظر، وسمعت بأذني: قال له: بعد عشرين عاماً في التدفئة المركزية إذا حدث أي خلل في الأنابيب فلن أكسر البلاط ولكن أجري تمديداً خارجياً، هذا شيء جيد، بعد عشرين عاماً، يحسب الإنسان حساباً لكل شيء إلا مغادرة الدنيا، يصعق حينما يأتي ملك الموت، فالمؤمن يستعد لها قبل أن تأتي، يستعد لها بالإيمان، يستعد لها بالاستقامة، يستعد لها بالعمل الصالح، يستعد لها بطلب العلم، يستعد لها بإنفاق الأموال، يستعد لها ببذل الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، حتى يشعر أنه في رضوان الله.
ما من شعور يُسْعد الإنسان في الدنيا أعظم من أن يشعر بأن الله راضٍ عنه:
أيها الإخوة الأكارم؛ كلمة أقولها لكم: والله الذي لا إله إلا هو ما من شعور يُسْعد الإنسان في الدنيا أعظم من أن تشعر أن الله راضٍ عنك:
فليتك تحـلو والحـيـــــــاة مـريــرة ولـيتك تـرضى والأنام غضاب
ولـيت الذي بيني وبينك عـــــــامرٌ وبيـني وبين العـالمين خـــراب
وليـت شـرابي من ودادك ســـائغٌ وشـربي من ماء الفرات سراب
إذا صحّ منك الوصل فالـكل هينٌ وكـل الذي فوق التراب تـراب
* * *
المؤمن رباني، معنى رباني أي علاقته مع الله حسنة، علاقة ود، علاقة حب، علاقة شوق، علاقة طاعة، علاقة عبودية، علاقة خضوع، علاقة انسياق لأمره، وقّاف عند كلام الله. إذاً:
الله خالق الكون بكلِّ ما فيه:
من هو الله؟ الذي فعل كل هذا، الذي خلق الكون، الذي خلق السماوات، خلق المجرات، خلق الكازارات، خلق المذنبات، بين مجرتين ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية، كلام ثابت.
والله مرة في سهرة من السهرات أجريت حسابات لأعرف ماذا يعني أقرب نجم ملتهب من الأرض، أحياناً الأرقام لا تعني شيئاً، يقول لك: عشرة قوة عشرين، هذه الأرقام لا تعني شيئاً، فأردت أن أوضح لإخواني أن هذا أقرب نجم بعده عنا أربع سنوات ضوئية، شيء جميل، الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، على الآلة الحاسبة ثلاثمئة ألف ضرب ستين بالدقيقة ضرب ستين بالساعة ضرب أربع وعشرون باليوم ضرب ثلاثمئة وخمسة وستين يوماً في السنة ضرب أربع، أي أربع سنوات ضوئية فالناتج رقم فلكي، سنركب مركبة سرعتها مئة في الساعة، نقسمها على مئة، نتج كم يقطع في الساعة، حسناً كم ساعة نحتاج إلى أن نصل؟ تقسيم أربعٍ وعشرين كم يوم، تقسيم ثلاثمئة وخمسة وستين كم سنة، نتج معنا أن هذا النجم أقرب نجم إلى الأرض من أجل أن نصل إليه نحتاج إلى ثلاثة وأربعين مليون سنة، يجب أن تركب مركبة، وأن تقودها ولن تستطيع الوصول، ثلاثة وأربعون مليون سنة كي تصل إلى أقرب نجم ملتهب إلى الأرض، أربع سنوات ضوئية، فكم تحتاج كي تصل إلى نجم القطب؟ أربعة آلاف عام، أقرب نجم أربع سنوات، القطب أربعة آلاف قفزة واحدة، المرأة المسلسلة مليون سنة ضوئية، أحدث مجرة ستة عشر ألف مليون سنة ضوئية:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75)وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ(76)﴾
لو تعلمون، تعلم.
الله الخالق وهو المستحق للعبادة:
(( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً. ))
معنى هذا أن الإنسان لا يجوز أن يحب غير الله، ولا أن يعطي شبابه لغير الله، ولا أن يعطي حياته لغير الله، ولا أن يعطي قلبه لغير الله، ولا أن يعطي ولاءه لغير الله، هذا الذي يوالي إنساناً، الإنسان فانٍ، في أحسن الدرجات ماذا يفعل معك هذا الإنسان لو جاءك شيء لا يقوى أن يرده عنك؟ إن الله يمنعك من يزيد، ولكن يزيد لا يمنعك من الله، أي الإنسان حينما يتجه لغير الله، وحينما يوالي غير الله، وحينما ينفق شبابه لغير الله، وحينما يفني عمره لغير الله، وحينما يعطي ماله لغير الله، وحينما يوالي غير الله، فقد احتقر نفسه، لذلك من عرف نفسه عرف ربه، ويمكن أن نقول: ومن عرف ربه عرف نفسه.
الله عز وجل كامل له الملك وحده:
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)﴾
في أحسن تقويم،
الأصنام بأنواعها لا تضر ولا تنفع:
المال لا يحل كلّ المشاكل والمصائب:
لو أن إنساناً أصيب بمرض عضال، وله صديق قوي في الحياة، يده طولى، قال له: أرجوك، يقول له: ليس بيدي، أحياناً الإنسان يتوهم أن المال يحل كل شيء، من توهم أن المال يحل كل شيء، هذا يُؤَدّب بطريقة أو بمشكلة لا يحلها المال أبداً.
أنا مرة كنت عند طبيب، فجاءه هاتف: أيها الطبيب، أعطنا إشارة لأيّ مكان في العالم نأخذه، أيّ مبلغ ندفعه، قال له: والله ليس هناك أمل، الورم من الدرجة الخامسة، وهو مستعصٍ على الشفاء، شعرت أنا من خلال الهاتف أن ذوي المريض مستعدون أن ينفقوا عليه أكبر مبلغ، هناك حالات لا يكون للمال قيمة فيها، لا يحل مشكلة أبداً، فكل من يعتقد أن المال يحل مشكلة هذا يُؤَدب بمشكلة لا يحلها المال أبداً.
دققوا في هذه الناحية أيها الإخوة، أحياناً الإنسان إن اغتنى يقول لك: الدراهم مراهم، كل إنسان دعه يفعل ما يشاء بالمال، هذا الإنسان يُؤَدب بطريقة معينة، له تأديب خاص، الله يسوق له مشكلة لا قيمة للمال في حلها أبداً، إلا أن يقول: يا الله! فالإنسان المؤمن يقول: يا الله، دائماً، إن كان غنياً أو كان فقيراً، لذلك النبي الكريم عليه الصلاة والسلام كان يستعيذ بالله مما يهتم له، ومما لا يهتم له، أحياناً شيء بسيط جداً يعكر صفاءك، شيء بسيط جداً يعكر مشروعك، عقبة تافهة جداً تَحُول بينك وبين هدفك، فالإنسان يجب أن يستعيذ بالله، لا من شيء عظيم، من شيء حقير، إني أعوذ بك مما أهتم له، ومما لا أهتم له، والدعاء الشهير: اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً.
أبداً إذا عسَّر الله عز وجل الأمر فتجده كله معقَّدًا، وإذا سهَّله فشيء لا يصدق، لهذا الكلمة الشهيرة: إذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان الله عليك فمن معك؟ تنبع المشكلات نبعاً، من بيته، من زوجته، من أولاده، من عمله، من شريكه، من سيارته، من تجارته، أينما تحرك يوجد مشكلات، فالإنسان يجب أن يشعر أن الله راضٍ عنه أو غير راضٍ، من معاملة الله له، أحياناً يكون هناك خلل فتجد صار هناك مشكلة، الإنسان يفهم على الله عز وجل، وإذا بدأ يفهم على الله عز وجل هذه لأجل ذلك، هذه يا عبدي من أجل ذلك، من هذا الموقف، من هذه النظرة، من هذه الكلمة، من هذا الدفع، من هذا المنع.
حكى لنا أخ من إخواننا عنده محل تجاري، وبيعه بالجملة، دخل إليه أحدهم، وقال له: نريد قطعة أو اثنتين بالمفرق، اعتبرها إهانة له، قال له: أنا أبيع بالجملة، ولا أبيع بالمفرق، يقسم لي بالله أنه خلال ستةٍ وعشرين يوماً ما دخل إلى محله إنسان، قال لي: لقد جفّت دمائي في العروق، هذا تأديب إلهي، أنت تكبرت عن بيع قطعتين أو ثلاث، فربنا عز وجل له ترتيب، فإذا دخل الإنسان في المعالجة فليفرح، إذا شعر أن الله يحاسبه، يتتبعه، يسوق له مشكلة لكل قضية، معنى هذا أنه ضمن العناية المشددة، معنى هذا أنه مطلوب، أما إن كان الإنسان لا يوجد منه أمل فيقول الطبيب لذويه: أطعموه ما يشاء، مهما طلب أطعموه، يكون مرضه خطيراً ومستفحلاً، فالطبيب لا يعطي حمية شديدة، ويضغط على المريض، وينبهه من خطورة الملح، إلا إن كان هناك أمل في الشفاء، طالما هناك أمل فهناك ضغط، إن لم يكن الأمل فلن يكون الضغط، فإذا شعر الإنسان أن الله عز وجل يحاسبه حساباً دقيقاً، أي يعاتبه أحياناً، يحجبه أحياناً، يسوق له بعض الشدة أحياناً، معنى ذلك هو ضمن العناية المشددة فليفرح، معنى ذلك أنه مطلوب، معنى ذلك أنه ليس ميئوساً منه، هناك أمل، داخل بالزمرة التي يمكن أن تنجو، ليست الناجية، يمكن أن تنجو..
على الإنسان أن يدعو السميع المجيب دائماً:
إذاً يجب أن نعبد مَن إذا دعوناه سمعنا، قد تدعوه ليلاً، نهاراً، صبحاً، مساءً، في سفر، في حضر، على سرير، في مستشفى، في بيتك، في مركبتك، في مكان موحش، في مكان آهل، الإله يجب عليك أن تدعوه في أي وقت ويسمع، أما إن كان لك صديق وأعطاك أرقام هواتفٍ لديه، وقال لك: في أي لحظة تخبرني، أنت قد تكون في مكان لا هاتف فيه أحضره لنرى، وقد يكون لديك هاتف ولكن هاتفه معطل، دعه يأتي الآن ليخلصك من الأزمة التي وقعت بها، تحدث كثيراً، يكون واثقاً أن معه ثمانية أرقام هواتف، كلهم شخصيات مهمة، ربنا كيف يؤدب هذا الإنسان؟ إما أن يعطل له هاتفه، أو يعطل هواتف الآخرين، تجده لا يستطيع أن يعمل شيئاً، عاملوه معاملة في منتهى القسوة، ولو اتصل الشخص المطلوب لرفعوه لأعلى عليين، ولكن ربنا عز وجل يؤدب من اعتمد على غيره بهذه الطريقة، فلذلك: ما من عبد يعتصم بي دون خلقي، أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض، إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني، أعرف ذلك من نيته، إلا أهويت الأرض من تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه،
﴿ إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)﴾
خفي عمَّن حوله، فما قولك بإله عظيم وأنت ساكت تقول له: يا رب ليس لي إلا أنت، يا رب أنقذني، يا رب يسر لي هذا الأمر، يا رب ليّن قلوب الآخرين، يا رب هيئ لي أسباب الفرج، وأنت ساكت، وهذا الفم مطبق، واللسان صامت، والله يسمعك ويستجيب لك.
من علق الآمال على غير الله فقد خسر وخاب:
بينما الآخرون تدعوهم، ترجوهم، تتوسل إليهم، يعتذرون بلباقة، يقول لك أحدهم: ما عندي نقد، وآخر يقول: القضية ليست بيدي أتمنى أن أخدمك، على عيني ورأسي، ولكنني لا أستطيع، تشعر أنه انسحب من خدمتك بانتظام، فحينما تعلق الآمال على غير الله يأتيك الرد القاسي، يأتيك التخلي، يأتيك أن يُسْلموك، وسبحان الله كل من اعتمد على غير الله، وبالغ في الاتكال عليهم لابد من أن يُؤَدب بمشكلة يُظْهر له تخليهم عنه، رحمة به، وتقريباً إليه، أي هؤلاء يا عبدي لا ينفعونك، لذلك ففي أول ليلة يوضع فيها الميت في القبر يقول الله عز وجل: عبدي رجعوا وتركوك، رجعوا ليأكلوا على روحك وتركوك، وفي التراب دفنوك.
مرة فتحوا قبراً فوجدوا مياه الصرف الصحي محولة عليه، سألوا ابن المتوفى فقال لهم: ضعوه ماذا سنفعل؟ فانتقل من منزل أربعمئة متر، فيه أثاث بمئات الملايين، إلى قبر في باب الصغير مفتوحة عليه مياه الصرف الصحي، وفي التراب دفنوك ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا، وأنا الحي الذي لا يموت، فالبطولة أن تعرفه وأنت حيّ، أن تعرفه وأنت شاب، أن تعرف حقوقه عليك، وحقك إني لك محب، فبحقي عليك كن لي محباً.
كلُّ مَن تعتمد عليه من دون الله يتبرأ منك يوم القيامة:
وجوب اتباع تعليمات الصانع:
أحياناً أنا أترنم بكلمة تعليمات الصانع، نحن ألفنا أنه إن كان عندك آلة معقدة غالية، غالية عليك جداً، دفعت ثمنها مبالغ طائلة، تخاف أن تصاب بالخلل، أو بالعطب، لأن منها أرباح جيدة، هناك بعض أصحاب المعامل إن تعطلت عندهم آلة يصلحها الساعة الثانية ليلاً، يقول لك: وردية الليل مدفوع ثمنها، فعندما تكون الآلة غالية عليك يكون كتاب الصيانة الخاص بها ترتيبه بعدها، تعليمات الصانع، فإن كنت أنت غالٍ على نفسك فأغلى شيء عليك يجب أن يكون القرآن الكريم، لأن هذا القرآن تعليمات الصانع، فمن أحبّ ذاته، من كان مفرطاً في الأنانية عليه أن يتبع تعليمات الصانع، أي علامة حرصك على سلامتك، وعلى سعادتك اتباع تعليمات الصانع، أحياناً لا تروق لي كلمة كأن أقول للإنسان: هذه تعليمات الصانع، لماذا تغض بصرك عن محارم الله؟ قال: هذه تعليمات الصانع، لماذا لا تصافح؟ تعليمات الصانع، لماذا لا تفعل كذا؟ هكذا وجهني ربي عز وجل، فالإنسان السعيد يسير على منهج، تعليمات لكن:
﴿
﴿
الافتقار إلى الله عز وجل:
لذلك هل عرفتم مقام الربوبية؟
فأنتم همُ الحق لا غيركم فيا ليت شعري أنا من أنا
* * *
يجب أن تعرف من أنت؟ أنت لا شيء، أنت شيء بقدرة الله، شيء بتوفيق الله، شيء بلطف الله، شيء بإمداد الله، فإذا تخلى الله عنك أنت لا شيء.
الله هو الغني والعبد مفتقر إلى الله الغني:
المشكلة مرة سمعت مثلاً أعجبني: أنت صفيحة مملوءة ذهباً، فإذا قـلت: أنا ذهب، لا، الذهب ليس منك، الذهب وُضِع فيك، إذا عرفت من أنـت فأنت ذهب، فإذا قلت: أنا ذهب، فأنت لست بذهب، أحياناً يضربون الأمثلة مثل المزراب، ممر للماء، فإذا قال المزراب: انظروا إلى عطائي، أنـت لست عطاء، أنت ممر للعطاء، فالإنسان إذا عرف قدره عرف ربه:
﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
في كل مهنة هناك دلائل على عظمة الله عز وجل، التاجر يقول: يا رب تجبر، أخي هذه البضاعة جميلة! لا، الجميل الذي يباع، فقد لا تباع هذه البضاعة، وتتراكم في المستودع حتى تصبح هماً على قلب صاحبها، لذلك ربنا لما تكلم عن التجارة قال:
﴿ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا
الكساد شيء صعب جداً، بضاعة في المستودع لا تُباع ولا تُشترى، رأسمال مجمد، فالإنسان إن كان تاجراً أو مدرساً أو طبيباً أو محامياً أو كان مهندساً فبلطف الله.
الافتقار إلى الله يجلب التوفيق:
إذاً كلما افتقر الإنسان إلى الله وفقه الله، وكـلما اعتز بفهمه وخبراته وقدراته تخلى الله عنه، هي عملية واضحة جداً، إن اتكلت على الله كفاك، وإن اتكلت على نفسك أوكلك الله إياها، هذه هـي القصة كلها، في حقل التجارة، بالصناعة، بالزراعة، أحياناً يأتي صقيع كل ذكائك وكل خبرتك لا تفيد شيئاً مع الصقيع..
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)﴾
في الطب، في الهندسة، في التدريس، في المحاماة، في أي مصلحة، في أي مهنة، قل قبل أن تفعل شيئاً: اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي، والتجأت إلى حولك وقوتك، يا ذا القوة المتين، حتى في الزواج، أريدها كذا وكذا، الحسب والنسب، ثم يقع على رأسه شكاً في النهاية، بعد كل هذه الشروط الصعبة تجدها من أسوأ الزوجات، وتجد حياته جحيماً، فدائماً الأمور بالتوفيق، بالتوفيق والتوكل والسعي..
﴿
فالإنسان أنا المخلوق الأول المكرم، إذا استقمت، أما إن لم تستقم فلا قيمة لك عند الله، إذا هان أمر الله عليك هنت على الله، كما ترون، إذا هان أمر الله على الناس هانوا على الله، أي أمورهم بأيدي أعدائهم
﴿ مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ
الخير كله عائد إليك، كما لو أن إنساناً اشترى صندوقاً، وضع فيه المال، ومعه مفتاحه، يقول: دفعت اليوم كذا، الصندوق مفتاحه معك، وهذا المال لك، فالأمور كلها تعود إليك..
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين