- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (040)سورة غافر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثامن عشر من سورة غافر، ومع الآية الواحدة والستين، وهي قوله تعالى:
﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ(61)﴾
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا
1 ـ الكون مسخَّر للإنسان:
أيها الإخوة، في هذه الآية نقطة دقيقة؛ وهي أن الإنسان أحياناً يتوهَّم أنه استغلَّ الطبيعة، وجد هذه الطبيعة على نحوٍ أو آخر فكشف خصائصها واستغلَّها، والحقيقة عكس ذلك، هذا الذي أمامك؛ من ليلٍ ونهار، من شمسٍ وقمر، من جبال، من وديان، من ينابيع، من معادن صُمِّمَت خصيصى من أجلك، والدليل:
الفكر العلماني يرى أن الطبيعة لها خصائص، والإنسان كشف هذه الخصائص، واستغلَّها فانتفع بها، لكن التفكير الإيماني أن كل شيءٍ خلقه الله في الأرض، خصائصه، صفاته مصمَّمٌ بشكلٍ خاص لينتفع الإنسان به، فليس عبثاً أن معدناً كالرصاص ينصهِر في درجة مائة، وأيُّ إنسان لو وضع رصاصًا في وعاء، وسخَّنه ينصهر هذا المعدن، بينما الحديد لا ينصهر إلا في الدرجة ألف وخمسمائة، أما الرصاص بمائة، وليس من باب الصُدفة أن هذا المعدن إذا برَّدته يزداد حجمه.
مِن هذه الخاصَّة يمكن أن تُعامل المعادن مع الأحجار، احفر حفرةً في حجر، وضع فيها معدناً، اسكب الرصاص، أصبح المعدن والحجر قطعة واحدة، فإذا توهَّم الإنسان أن المعدن هكذا صفاته ونحن استفدنا منه، فهذا شيء، أما إذا آمن أن هذا المعدن خلقه الله عزَّ وجل بهذه الخصائص، وبهذه الصفات، وأنه ينصهر بدرجات متدنية، وأنه إذا برَّدته يزداد حجمه، وأن الشيء الذي يزداد حجمه على التبريد يمكن أن يقدِّم لك خدمات جُلَّى، فهكذا تفكير المؤمن، وهذا هو الحق، كلُّ هذا المعنى من لام التعليل.
2 ـ الليلُ سكنٌ:
الأرض كرة، والشمس كرة، والأرض تدور حول الشمس، والأرض تدور حول نفسها، لو دارت حول نفسها بمحور عمودي لأُلْغِيَت الفصول، أو بمحور أفقي لأُلغِي الليل والنهار، لو توقَّفت لأُلغِي الليل والنهار، إذاً: ليلٌ ونهار مختلفان، يطول أحدهما تارةً ويقصر أخرى، واختلاف الليل والنهار أن يأتي الليل بعد النهار والنهار بعد الليل، هذا معنى، وأن يختلف الليل في الطول عن النهار، وأن يختلف النهار في الطول عن الليل، هذا معنى آخر، فاختلاف الليل والنهار آيةٌ من آيات الله الدالَّة على عظمته.
وقد قلت لكم في درسٍ سابق: إن الإنسان لو نام ساعاتٍ مديدة في النهار، لا يشعر أنه قد سكن وارتاح، لا يسكن جسمه إلا إذا نام في الليل، لأن الخليَّة في الإنسان لا تستعيد نشاطها إلا في الظلام، لو نمت في النهار نوماً طويلاً فلابدَّ من سكون، ولابدَّ من الظلام.
﴿
3 ـ هل عرفت مَن هو الله ؟
قلت لكم في درسٍ سابق: المؤمن يعيش مع هذه النِعَم، والكافر كذلك، الكافر ينام في الليل، والمؤمن ينام في الليل، والكافر يستمتع بأشعِّة الشمس في النهار والمؤمن كذلك، لكن الفرق بين المؤمن والكافر أن المؤمن يتجاوز النعمة إلى المُنعِم، والكافر يبقى عند النعمة، فالذين عبدوا الشمس، والذين عبدوا البقر، والذين عبدوا الأمطار، والذين عبدوا بعض الحيوانات، رأوا أن البقر له خيرٌ عميم على البشر، فلم يتجاوزوا هذه النعمة إلى خالقها، لم يتجاوزوا هذه النعمة إلى مُوجِدها، وقفوا عندها فعبدوها من دون الله.
4 ـ الناس غيَّروا نمط المعيشة في الليل:
إذاً:
﴿ أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا(78) وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا(79)﴾
هذا الوقت، وقت السّحَر، وقت التجلي:
﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا(6)﴾
هذا فَقدَهُ معظم الناس؛ لأنهم غيَّروا خلْق الله، لأن الليل مديد، وينام الإنسان المتحضِّر -بتعبيره هو- إلى ساعةٍ متأخِّرة، ويسهر إلى ساعةٍ متأخِّرة، فكأنه غيَّر خلق الله، غيَّر التصميم الإلهي.
(( سبحان الله! فأين الليل إذا جاء النهار؟ ))
الليل فيه وحشة، الليل في البحر موحش، والليل في الغابات موحش، فإذا طلعت الشمس ذهبت الوَحشة وعمَّ الأُنس.
فالمؤمن يدلُّه الليل على الله، والنهار يدلُّه على الله، والشمس تدلُّه على الله، والقمر يدلُّه على الله، وكأس الماء يدلُّه على الله، وطعامه يدلُّه على الله، وابنه الذي كان نقطةً من ماءٍ مَهين يدلُّه على الله.
وفي كلِّ شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنَّه واحدُ
قال سبحانه:
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
1 ـ إذا أردت معرفة قيمة النعمة ففكِّر في نقيضها:
فمن أجل أن تعرف قيمة هذه الآية فكِّر في خلافها، فكِّر في حياةٍ بلا ليل، فكِّر في ليلٍ بلا نهار، فكِّر في ليلٍ طويل، فكر في نهارٍ طويل، فكِّر في ليلٍ حار، كيف تنام الليل؟ فكِّر في نهارٍ بارد، الإنسان في الليل في أغلب الظن في بيته، وفي البيت التحكم بالحرارة ممكن، أما في النهار فهو في الطرقات، وفي الأعمال، وفي الحقول، فدائماً حرارة النهار أعلى من حرارة الليل، فكيف تكون الحياة لو كان العكس! فمن أجل أن تعرف قيمة الآية التي تحياها، والنعمة التي تستفيد منها لابدَّ من أن تفكِّر في خلاف ما هي عليه.
﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ(71)﴾
والآية الثانية:
﴿
هذه من آيات الله الدالَّة على عظمته.
2 ـ البُعد عن الله ينسي الإنسانَ نعمَ الله:
قال سبحانه
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ(61) ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(62)﴾
ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
1 ـ الله خالِقٌ مسيِّر:
هذه الآية جمعت الخلق، والتربية، والتسيير في آنٍ واحد -ولله المثل الأعلى- فلو صمَّم الإنسان آلة، وأمدَّها بالطاقة، وحرَّكها، فالمُصمِّم هو الخالق، والمُمِد بالطاقة هو المربِّي، والمحرِّك هو المسيِّر، فربنا سبحانه وتعالى خالق، وربنا ربٌ كريم، ومسيِّرٌ حكيم، إذًا: هو خالقٌ، ربٌ، مسيِّر، ولن تكون عارفاً بالله إلا إذا عرفت أنه هو الخالق، وأنه هو الرب، وأنه هو المسيِّر.
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)﴾
﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ
من أمدَّك بالهواء؟ من ثبَّت نسبة الأوكسجين في الهواء؟ كيف أن النبات يحتاج إلى غاز الفحم الذي تطرحه أنت، وأنت تحتاج إلى الأكسجين الذي يطرحه النبات، ما هذا التوازن العجيب؟ ثبات نِسَب الغازات في الهواء.
2 ـ أمرُ المخلوقات بيد الله:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾
هذه الآية تبثُّ الطمأنينة، تبثُّ الراحة النفسيَّة، أي شيءٍ مهما بدا لك قوياً أو مخيفاً أو شريراً فهو بيد الله عزَّ وجل.
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ(55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)﴾
اِجمَعْ هذه الآيات.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
أيْ أنّه ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كلَّه عائدٌ إليه، وإذا أيقن الإنسان أن أمره كلَّه بيد الله طابت نفسه، واطمأنّ قلبه، وتوازن، ونجَّاه الله من النفاق، ومن التزلُّف، ومن التذلُّل، ومن كل الصفات التي تزري به كإنسان، أمرك بيد الله، وكلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً.
3 ـ من الذي ينبغي أن تعبده ؟
﴿
مَن الذي ينبغي أن تعبده؟ هو المربي الذي يمدُّكم، من الذي ينبغي أن تعبده؟ هو المسيِّر، فإذا كان الله هو الخالق، وهو المربي، وهو المسيِّر فإلى أين تلتفت؟ إلى أين؟
4 ـ إذا لم تنصرف إلى الله فإلى أين تنصرف ؟
في الدنيا أحياناً أثناء الخلافات الزوجيَّة مثلاً، يقول بعض الأشخاص للزوجة: كل مصلحتك مع زوجك، كل مصلحتك مع رضاء زوجك عنك، مستقبلكِ مع زوجك، إلى أين تلتفتين؟ بمعنى أن الإنسان إذا ترك الله عزَّ وجل، ولم يؤمن به، ولم يلتفت إليه، ولم يستقم على أمره فإلى أين يذهب؟ إلى مخلوقٍ ضعيفٍ لئيم؟ إلى إنسانٍ لا يملك لك شيئاً؟
عندما قال ربنا عزَّ وجل:
﴿
فالعلماء طبعاً فسَّروا هذه الآية، أيْ: إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فَلأَن لا يملك لغيره من باب أَوْلى، يجب أن تؤمن أنَّ أيَّ مخلوقٍ كائناً من كان، ومهما علا شأنه، لا يملك لك شيئاً أبداً، الأمر بيد الله، فلذلك:
فالشيء الدقيق جداً أيها الإخوة أنه كلّما كبُرَ عقلُ الإنسان، وكلَّما نضج عقله توجَّه إلى الله عزَّ وجل.
﴿
هو الرافع والخافض، هو المعزُّ والمُذِل، هو المعطي والمانع، هو النافع والضار، هو القابض والباسط، هو الموفِّق، هو المُعَسِّر.
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)﴾
وبصراحة في الكون حقيقةٌ واحدة، إن عرفتها عرفت كل شيء، وإن غابت عنك غاب عنك كل شيء، هو الله، في الكون موجودٌ واحد، ولا موجود سواه، إن عرفته عرفت كل شيء، وإن فاتك فاتَك كل شيء، هو الله عزَّ وجل، الحق، ما الحق؟ كلَّما اقتربت من هذه الحقيقة فأنت على حق، كلَّما ابتعدت عنها فأنت في الباطل.
كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ
﴿ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(63)﴾
أُفِكَ أي انصرف،
﴿ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)﴾
ينصرف عنه من ينصرف، لكن من الذي ينصرف عن الله عز وجل؟ من الذي يتجه إلى زيدٍ أو عُبيد؟ من الذي يعلِّق آماله على إنسانٍ لئيم؟ من الذي يضع رجاءه في عنق إنسانٍ ضعيف؟ هو الجاهل، قال:
1 ـ كلُّ إنسان يجحد بآيات الله سينصرف إلى غير الله:
لذلك إذا توهَّمت أيها الإنسان أن مخلوقاً ينفعك، هذا المخلوق ما نفعك إلا بعد أن أذن الله، ما نفعك إلا بعد أن سمح الله له أن ينفعك، ما نفعك إلا بعد أن ألهمه الله أن ينفعك، هكذا، فكل إنسان يرى نعمةً جاءت إليه من إنسان، إذا رآها من هذا الإنسان فقد أشرك، يجب أن يراها من الله عزَّ وجل، فالمؤمن العاقل إذا أصابته نعمةٌ عن طريق إنسان يسجُد لله أولاً على أن الله سبحانه وتعالى سخَّر له هذا الإنسان، وألهمه، وسمح له، ثمَّ بعدها يشكر هذا الإنسان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( لَا يَشْكُرُ اللَّهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ. ))
﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(64)﴾
آيةٌ ثانية:
2 ـ مِن لم يرَ النعمةَ وهي موجودة رآها وهي مفقودة:
في هذه الآية نقطة دقيقة جداً، وهي أن هذه النعم التي أكرمنا الله بها، إن لم نرها وهي موجودة رأيناها وهي مفقودة، والدعاء:
فنعمة العقل مثلاً، لو رأيت إنسانًا فقَدَ عقله فأنت لا تعرف نعمة العقل إلا عند فقْدِ العقل، فالبطولة أن يكون عقلك في رأسك، وأن ترى نعمة العقل، لأنك إن رأيت نعمة العقل أكرمك الله بدوامها، لأنه:
﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ
فالنبي الكريم علَّمنا أنه إذا رأى الإنسانُ إنسانًا مبتلى، ففيما بينه وبين نفسه يقول:
(( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا. ))
دون أن يسمعه.
فالنقطة أنه لابدَّ من أن ترى نعمة العقل، إذاً فكِّر بهذه النعمة، واحمد الله على توافرها ولو ضاقت بك الأمور، لأن نعمة العقل لا تعدلها نعمة.
نعمة القوَّة، إذا خدم الإنسان نفسه بنفسه، وقضى حاجته من دون مساعدة أحدٍ له، فهذه نعمةٌ لا تعدلها نعمة، لذلك كان عليه الصلاة والسلام يقول:
(( وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا وَاجْعَلْهُ الْوَارِثَ مِنَّا. ))
عندما يفقد الإنسان حركته يصبح ثقيل الظل على أقرب الناس إليه، بل يتمنَّى أقرب الناس إليه أن يخفِّف الله عنه، فنعمة الحركة، نعمة القوة، نعمة السمع، نعمة البصر، نعمة النُطق، نعمة سلامة الأعضاء، نعمة سلامة الحواس، نعمة سلامة الأجهزة نعمٌ عظيمة.
نِعمُ الله لا تُعدّ ولا تُحصى ؟
فيا أيها الإخوة الأكارم، المؤمن يرى نِعم الله وهي موجودة، أما إذا كفرها وهي موجودة رآها وهي مفقودة، لذلك قالوا:
فمثلاً: نعمة الاستقرار، أن الأرض مستقرَّة هذه نعمة كبرى، متى نعرف هذه النعمة؟ بالزلازل، ثلاثون ألف إنسان مصاب بالهند بثوانٍ، خمس درجات على مقياس رختر، فكل الأبنية أصبحت في الأرض، ثلاثون ألف إنسان مشرَّد، فاستقرار الأرض من نعم الله الكبرى، لكن هذه الزلازل، وتلك البراكين، وهذه الفيضانات، وهذه الحروب الأهليَّة هذه كلُّها معالجاتٌ إلهيَّة.
﴿
صواعق أو صواريخ
﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)﴾
﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا(59)﴾
البقرة ذلول، إذا توحَّشت، وبعد أن دفعت ثمنها سبعين ألف ليرة صرت مضطرًا أن تقتلها، لأنها قتلت رجلين، تذليل البقرة نعمة.
﴿
هذه نعمة.
فأيها الإخوة: بالشكر تدوم النعم.
(( يا عائشةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ تَعالَى فإنَّها قَلَّ ما نَفَرَتْ من أهلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أنْ تَرْجِعَ إليهِمْ. ))
إذا دخل الإنسان بيته يجب أن يشكر الله على أن آواه، وكمْ مِن الناسِ مَنْ لا مأوى له. وإليك دعاء من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام حينما يستيقظ، فإنه يقول:
(( الحمدُ للهِ الذي عافانِى في جَسَدِي،
لأن النوم موت مؤقَّت. كان عليه الصلاة والسلام إذا ألقى رأسه على الوسادة يقول:
(( باسْمِكَ ربي وضعتُ جَنْبِي، وبك أَرْفَعُه،
معنى هذا أن الإنسان عندما ينام هناك احتمالان أن يستيقظ أو ألاّ يستيقظ
فإذا سمح الله عزَّ وجل للإنسان أن يحضر مجلس علم، سمح له أن يسمع الحق، أعطاه قوَّة على طاعة الله عزَّ وجل،
﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾
هذه نعمةٌ كبرى، ونعمةٌ عُظمى.
﴿
ما دام أسمعنا الحق إذاً علم فينا خيراً إن شاء الله تعالى، هذه من نعم الله الكبرى أن أسمعك الحق، أسمعك كتابه، عرَّفك برسوله، عرَّفك بأهل الحق هذه نعمةٌ لا تعدلها نعمة، أعانك على طاعته، فهو يربّيك، إذا حصل تقصير، أو خلل، أو زلَل تأتي المعالجة سريعاً.
(( إذا أحب اللّه عبداً ابتلاه. ))
(( إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا. ))
(( إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا عاتَبهُ في منامِهِ. ))
عندما يشعر الإنسان أن ربنا عزَّ وجل يتابعه، يضيِّق عليه أحياناً، يؤدِّبه أحياناً فهذه علامةٌ طيِّبةٌ جداً، أنه مقبول عند الله، ومطموعٌ فيه، لأنه:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾
معنى استقرار الأرض:
المعنى الأول:
المعنى الأول: الأرض مستقرَّة مع أنها متحرِّكة:
﴿
هناك أشياء بديهيَّة الآن أقولها لك، يعرفها طلاب الثانوي جميعاً، الأرض في حركتها حول الشمس تقطع في الثانية الواحدة ثلاثين كيلو مترًا، الدرس بدأ الساعة السادسة، والآن الساعة السادسة والنصف مثلاً، أمضينا ثلاثين دقيقة، ثلاثون كيلو مترًا في الثانية ضرب ستين يصبح ألفا وثمانمائة كيلو متراً بالدقيقة، ضرب ثلاثين، نحن من أول ما بدأ الدرس وقلنا: بسم الله الرحمن الرحيم مع الدرس الثامن عشر إلى الآن قطعنا مئات ألوف الكيلو مترات.
وحينما تضطرب الأرض يكون الزلزال، وحينما يكون الزلزال تكون الضحايا، الذي حصل بمصر أن الزلزال استمر خمسين ثانية، لو استمر أكثر من دقيقة ونصف ما بقي في مصر شيء، فالله عزَّ وجل قادر، بناء أربعة عشر طابقاً أصبح كومةً من الأنقاض في ثوانٍ؛ ببيوته، ومكاتبه، وأثاثه، وسكَّانه، أشهر بناء وقع في الجيزة.
المعنى الثاني:
فالإنسان الذي وزنه في الأرض ستون كيلو غرامًا يصبح على القمر وزنه عشرة كيلو، لذلك أي قفزة ينطلق بها عشرة أمتار نحو الفضاء؛ لأنه ليس له وزن، القمر جاذبيَّته أقلّ، إذاً وزن الإنسان يَعدل في القمر سُدس وزنه في الأرض، فمن صمَّم هذه الأرض بهذا الحجم، وبهذه السرعة، وبهذه الجاذبيَّة؟ فالإنسان وزنه معقول في الأرض، فمن جعل هذه الأشياء تنشدُّ إلى الأرض، تستقرُّ عليها؟ قوة الجذب.
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا
هذا يؤكد معنى آية أخرى، حينما قال الله سبحانه وتعالى:
﴿
لأن السماء بناء، لكن تصوَّر -كما قرأت مرَّة في مقالة علمية- أن الأرض، وهي في مسارها حول الشمس، طبعاً مرتبطة بالشمس بقوة جذب، كلكم يعلم أن الكون مؤلَّف من مجرَّات، وعدد المجرَّات يقترب من مَليون مليون مجرَّة، وعدد كواكب كل مجرَّة يقترب من مليون مليون كوكب.
وأما معنى قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا
وهناك نقطة دقيقة جداً أيها الإخوة، ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
معنى الزوال في اللغة: الانحراف، يقول لك: وقت الظهر بعد زوال الشمس عن كبد السماء، أيْ بعد انحرافها، فالزوال له معنيان: معنى الانحراف، ومعنى التلاشي، لو أن الأرض انحرفت عن مسارها، وسارت في الفضاء الكوني لحُرِمَت من أشعة الشمس، وحينما تُحرَم من أشعة الشمس تُصاب بشيء اسمه: الصفر المُطْلَق، الصفر المطلق أيْ مئتان وسبعون درجة تحت الصفر، في هذه الدرجة تتوقَّف الذرَّات عن الحركة، تتلاشى، لو أنها انحرفت عن مسارها لتلاشت.
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
(( اللَّهُمَّ كما حَسَّنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقِي. ))
أولاً الخيَّاط يأخذ لك قياس كُمٍّ واحد، لماذا؟ لمَ لا يأخذ الاثنين معاً؟ لأن هناك تناظراً تاماً في جسمك، أقل من ميلي، كُمٌّ واحد، ورِجْلٌ واحدة، وكتِفٌ واحد، لأن الثاني مثله، معنى هذا أن في الإنسان تناظراً.
لو رسمنا خطًّا يبدأ من منتصف رأس الإنسان إلى أسفل جِذعه لكان هذا الخط مُنصِّف لجسمه، وما على اليمين يساوي ما على اليسار بأدق الدقائق، إذاً:
ولاحظ الأذنين، قال تعالى:
﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9)﴾
لماذا أذنان؟ لو كان هناك أذن واحدة يصل الصوتُ إليك، لكن لا تعرف جهته، من تفاضل وصول الصوتين إلى الأذنين، التفاضل واحد على ألف وستمائة وعشرين جزءاً من الثانية، يكتشف الإنسان من أين الصوت، من اليمين أو من اليسار، لو سمع بوق سيَّارة ينحرف على عكس الصوت وهو لا يدري.
إذاً لك أذنان، ولك عينان، ولك أنفٌ فوق الفم، إذا كان الطعام فاسدًا فإن رائحته تجعلك تلفِظه، والأنف نحو الأسفل، لو كان بالأعلى لكانت مشكلة، نحو الأسفل ونحو الفم، والهواء، هواء الزفير هو الصوت، تتنفَّس بصوت، ولسان المزمار شرطي مرور يعمل ليلاً نهاراً ثمانين سنة، وأنت نائم، يغلق مجرى الهواء، ويفتح مجرى المريء من أجل أن يصل اللعاب إلى معدتك، العضلات، الأوعية، القلب، الرئتان، الدسَّامات.
لو أوكل الله عزَّ وجل لك التنفُّس هل تستطيع أن تنام بالليل؟ لا تستطيع، هناك مرض يصيب بعض الأشخاص، ولكنَّه نادر جداً، مركز التنفُّس النّوبي يتعطَّل، فإذا نام الإنسان يموت فورًا، وهناك أدوية حديثة جداً يجب أن يأخذ كل ساعة قرصاً، فيربط المنبِّه الساعة العاشرة، يأخذ القرص الأول، وينام، ويستيقظ الساعة الحادية عشرة، قرصًا آخر، وهكذا على مدار الساعة، لو الله عزَّ وجل أوكل لك التنفُّس، أو أوكلَ لك ضربات القلب، أو أوكلَ لك الهَضم، بعد ما أكلت تحتاج إلى خمس ساعات لتقوم بعملية هضم الطعام في المعدة، البنكرياس، والصفراء، والاثنا عشر، والأمعاء الدقيقة، والكيلوس، هذه مشكلة صعبة جداً، الله عزَّ وجل يقول:
فالعظام، عظم الحوض يتحمَّل خمسمائة كيلو، عظم عنق الفخذ كل واحد يتحمَّل مئتين وخمسين كيلو من الضغط، فإذا كان فوق الإنسان نصف طن لا ينكسر هذا العظم، وقد كان ماءً مهينًا.
ميناء الأسنان فيه قساوة تأتي بعد الماس، إنه كان ماء مهينًا.
وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ
لذلك:
مرَّة قال لي رجلٌ مضطر ليأكل علبة سردين بلا مفتاح، وكان حبيسًا، قال لي: أكثر من خمس ساعات، وأنا أعالجها على الأرض إلى أن فُتِحت معي، أما البيضة فبنقرة واحدة تُفْتَح وحدها، البيضة لا تحتاج إلى مفتاح، ففي الخَلق لطفٌ، وفيه ما يريح الإنسان، إذاً:
فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ
﴿
هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
القيوم، هو الحي على الدوام، هو الباقي، مصدر حياة الخلق.
(( يا معاذ، أخلص دينك يكفك القليل من العمل. ))
الإخلاص عبادة القلب، العمل لا يُقْبَل عند الله عزَّ وجل إلا بشرطين، إلا إذا كان خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السُنَّة.
﴿ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(162)﴾
وفي درسٍ قادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(66)﴾
والحمد لله رب العالمين.
لو نزلنا إلى خط الاستواء، وسرنا حول الأرض كلها؛ المحيط الهادي، والأطلسي، والخليج العربي، وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، لو درنا حول الأرض في نصف ساعة فقط، ثلاثين دقيقة لقطعنا أربعاً وخمسين ألف كيلو متراً، الأرض تسير حول الشمس، ذلكم الله رب العالمين، مع الاستقرار دون اضطراب، اركب أرقى طائرة تجد الجناح يتحرك، يوجد اضطراب دائم، اركب أرقى سيارة وأرقى قطار تجد هناك اضطراب، لكن الأرض مستقرة استقراراً تاماً، فلذلك اعتقد:
ذلكم الله رب العالمين، هذا الإله العظيم أيُعصى؟ أيُستغنى عنه؟ أنطيع مخلوقاً ونعصي خالقاً؟
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.