- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (040)سورة غافر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس عشر من سورة غافر، ومع الآية السابعة والخمسين، وهي قوله تعالى:
﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ(57)﴾
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ
لهذه الآية معانٍ عدَّة، من أبرز معانيها:
المعنى الأول:
إن الله سبحانه وتعالى يبيِّن للناس أنكم إذا أنكرتم البعث، بعث الأجساد يوم القيامة لتُحاسَب على كل ما فعلته في الدنيا، إذا أنكرتم البعث، لاستحالة البعث فهذا إنكارٌ موهوم، لأن الذي خلق السماوات والأرض قادرٌ على أن يُعيد هذه الأجساد إلى ما كانت عليه، وقادرٌ على أن يحاسبها، لأن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس.
هناك قريب من مليون مليُون مجرَّة، وإذا كان في المجرَّة قريب من مليون مليون نجم، وبعض النجوم يكبُر الشمس بملايين المرَّات، وبعض النجوم يتِّسع للأرض والشمس مع المسافة بينهما، ونجومٌ لا يعلم عددها إلا الله، والكائنات في تنوُّعٍ عجيب، ولقد قرأت قبل أيام كلمة أن هناك مائتي مليون نوع من الكائنات الحيَّة.
المعنى الثاني:
أما المعنى الثاني: إنّ الإنسان إذا سميناه صانعاً من باب المجاز إذا صنع هذا الشيء فهو إذًا صانع، إذا وازنَّا بين صنعة الإنسان وصنعة الله عزَّ وجل فهناك فرقٌ كبير، فالكُلية الاصطناعيَّة لها حجمٌ كبير يزيد عن حجم هذه الطاولة، والإنسان يحتاج إلى أن يبقى ثماني ساعات ليُنظَّف دمه في عملية غسيل من حمض البول، ويُحتاج هذا في الأسبوع مرَّتين، يُعطَّل عن عمله، ويدفع أجراً باهظاً، وهذه الكلية الصناعيَّة لا ترقى إلى الطبيعيَّة إطلاقاً، فلابدَّ من أن يبقى من حمض البول نسبة في الدم لا تستطيع الكلية الصناعيَّة أن تنقّي الدم منه.
لكن الكلية الطبيعيَّة، للإنسان كليتان صغيرتان تعملان بلا صوت، فيهما طاقةٌ للتصفية تزيد عشرين ضعفاً على حاجة الإنسان، أي أن كل كلية حجم تصفيتها عشرة أمثال حاجة الإنسان، تعملان بلا صوت، بلا ألم، بلا تعطيل.
وازن بين هذه العين وبين آلة التصوير، بينهما مسافةٌ كبيرةٌ جداً، هذه العين تلتقط الصور آناً بعد آن مباشرةً، وتراها بحجمها الطبيعي، وبألوانها الزاهية دون أن تحتاج إلى سحب الفيلم، وطبع الفيلم، وتحميض الفيلم، مباشرةً بالحجم الطبيعي، ولو أتيت بأرقى آلة تصوير لمَا أمكنك أن ترى هذه الألوان الدقيقة التي في وجوه الناس، والعين البشرَّية ترى من اللون الواحد ثمانمائة ألف درجة، أي لو درَّجنا اللون الأخضر ثمانمائة ألف درجة لأدركت العين الصحيحة السليمة الفرق بين درجتين، دقَّةٌ ما بعدها دقَّة، وتنوُّعٌ ما بعده تنوُّع.
يكفي أن العين البشريَّة فيها عملية المطابقة التي يعجز عن تصوُّرها الإنسان، عدسةٌ مرنة يزداد تحدُّبها، أو يزداد انبساطها، حيث إن خيال الشيء المنظور يبقى على الشبكيَّة دائماً، وعمليَّة المُطابقة عمليَّةٌ تأخذ بالألباب، فلو جئت بعدسة من البلور، ووضعت أمامها شمعة، وضعت خلفها ورقاً مقوَّى، وحرَّكت هذه الورقة، إلى أن ترى خيال الشمعة صغيراً ومقلوباً في مكانٍ ما من الورقة، هذا المكان الذي يبعد عن العدسة اسمه المِحْرَق، لو أبعدت هذه الصفيحة من الورق المقوَّى ميليمترًا لأصبح الخيال غير واضحٍ، فكيف أن العين ترى مَن في الطريق يتحرَّكون؟
أحياناً تُلاحظُ العينُ الكرةَ في الملعب، كيف ترى العين دائماً الأشياء بوضعٍ دقيقٍ صحيحٍ واضح؟ والشبكيَّة بعدُها ثابت عن العدسة، ولابدَّ أن العدسة هي التي يزداد تحدّبها وانبساطها حيث يبقى الخيال على الشبكيَّة دائماً، هذه عملية إدراكها صعب فضلاً عن إحداثها.
أي شيءٍ إذا أردت أن تتصوَّره
إذاً: لو أردت أن تمايز بين العقل البشري وبين هذا العقل "الحاسوب" الذي صنعه الإنسان لوجدت فرقاً كبيراً جداً، يمكن أن تسير في هذا الموضوع أشهراً عديدةً، بل سنواتٍ وأنت توازن بين صنعة الإنسان وصنعة الواحد الديَّان.
تبرِّدُ الهواء بأجهزة لها تكاليف باهظة، أثمانها باهظة، والطاقة باهظة، قد تأتِي نسماتٌ عليلة تلغي كل أجهزة التكييف في البلد، يقول لك: نسمات منعشة، إذا أراد ربنا عزَّ وجل أن يجعل النسيم لطيفًا وعليلًا، فما هي إلا لحظات يسيرة و يصير الجو لطيفًا إلى حدٍّ قد لا يصدق.
انظر إلى وردةٍ صناعيَّةٍ من البلاستيك، مهما بالغنا في إتقانها ضع إلى جانبها وردة طبيعيَّة، تشعر بفرقٍ كبيرٍ جداً بين الوردتين، الأولى نابضة بالحياة، تتمنَّى أن تشمَّها، وأن تضمها، والثانية بعد أيامٍ عديدة في البيت تعافُّها، ما دخلت إلى بيت إلا ورأيت أن الذين يضعون الأزهار الصناعيَّة يعافونها بعد فترة، لأنه لا حياة فيها، لكن الأزهار الطبيعيَّة فيها حياة، فيها رائحة، فيها جمال، فيها ألوان دقيقة جداً، هذا شيء لا ينتهي الحديث عنه.
أكثر الناس غافلون عن مصيرهم في الآخرة:
لا يعلمون أنهم سوف يُحاسَبون، لا يعلمون أنهم سوف يدفعون ثمن أخطائهم باهظاً، لا يعلمون أن هناك حياةً أبديَّةً لا نهاية لها، إما في جنةٍ يدوم نعيمها، أو في نارٍ لا ينفد عذابها، لا يعلمون أن كل درهمٍ تأكله حراماً سوف تُحاسَب عليه، لا يعلمون أن كل نظرةٍ لا يحقُّ لك أن تنظرها سوف تُحاسَب عليها، لا يعلمون أن كل كلمةٍ تتفوَّهُ بها في حق أخيك من دون دليلٍ، من دون مستندٍ شرعيٍ تُحاسَب عليها، لا يعلمون أن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليجزيَهم على أعمالهم، إن خيراً فخير، وإن شرَّاً فشر.
إن أردنا المعنى الأول: فالذي خلق السماوات والأرض ظاهرةٌ قدرته، ظاهرٌ علمه، ظاهرةٌ حكمته، فالذي خلق السماوات والأرض قويٌ، قديرٌ، غنيٌ، عادلٌ، رحيمٌ، قادرٌ على أن يعيد الأجساد إلى ما كانت عليه، وإلى أن يحاسبها على كل ما اقترفت في الحياة الدنيا.
لا مقارنة بين خلق الله وصنع الإنسان:
وإن أردت أن تُفهَم الآية فهماً آخر، أنك إذا وازنت بين خلق السماوات والأرض وبين صنع الناس ترى البون شاسعاً، والمسافة كبيرةً جداً.
ثمَّ يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ(58)﴾
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ
1 ـ المؤمن بصير والكافر أعمى:
أدقُّ وصفٍ للمؤمن أنه بصير، وأبلغ وصفٍ للكافر أنه أعمى، وأنت إذا كنت مبصراً، ورأيت إنسانًا فاقد البصر يتحرَّك في طريقٍ وعرٍ، فيه حفرٌ وأكَماتٌ وحشراتٌ، ورأيت كيف أنه يتحرَّك دون هدايةٍ، يتَّجه نحو الحفرة وهو لا يدري، يكاد يصطدم بالشجرة وهو لا يدري، تعرف قيمة البصر، فربنا سبحانه وتعالى أراد أن يُجَسِّد حالة المؤمن بأنه كالبصير، يرى الأشياء على حقيقتها؛ يراها بأحجامها، وبأشكالها، وبألوانها، وتفاصيلها، يرى الحقيقة، يرى سرَّ وجوده، يرى غاية وجوده، يرى علَّة وجوده، يرى عظمة ربِّه عزَّ وجل، يرى منهج الله الحكيم، يرى ذلك الصراط المستقيم، يعرف أنه إذا خرج عنه سوف يُحاسَب، وسوف يخسر لأن منهج الله عزَّ وجل فيه بذور نتائجه.
أحياناً لا ترى علاقةً علميَّةً بين الشيء وبين ما يَتْبَعهُ، وأحياناً ترى أن هناك علاقة علميَّة، فإذا مسست بإصبعك المدفأة وهي مشتعلة، فمسُّك لهذه المدفأة من نتائجه الحتميَّة احتراق اليد، فاحتراق اليد نتيجةٌ حتميَّةٌ لِمَسِّ المِدفأة، نقول: بين المسِّ والاحتراق علاقةٌ علميَّةٌ، علاقة سببٍ بنتيجة.
2 ـ كل معصيةٌ هي سببٌ لنتائجها:
وإذا كنت متعمِّقاً في الدين ترى أن كل معصية هي سببٌ لنتائجها، فإطلاق البصر سببٌ للشقاء الزوجي، وأكل المال الحرام سببٌ لإتلاف المال، والأمانة سببٌ للغنى، وضبط اللسان سببٌ لسعادة الإنسان، ونزاهة الإنسان سببٌ لرفعته بين الناس، فكل طاعةٍ لها نتيجةٌ نابعةٌ من الطاعة نفسها، وكل معصيةٍ لها نتيجةٌ نابعةٌ من المعصية نفسها، ففي الطاعات بذور النتائج، وفي المعاصي بذور النتائج.
كل إنسان لو أُتيحت له معرفة المؤمن لصار مؤمناً، ولسلك سلوك المؤمن بالتمام والكمال.
3 ـ غضُّ البصر قيد للسلامة لا قيد للحريات:
أضرب مثلاً من واقع حياتنا الدنيويَّة: لو أنّ طبيبًا هادئًا جداً وضَّح للمريض أن هذه الأكلة هكذا تفعل في جسمك، والملح يرفع ضغط الدم، وبرفع ضغط الدم تصبح معرَّضاً لانفجار شريانٍ في الدماغ، وانفجار شريان في الدماغ يعني سكتة دماغيَّة، مما يعني الموت المحقَّق، فحينما توضِّح للمريض أخطار ارتفاع الضغط، وأخطار استعمال المِلح الزائد بالدليل العقلي يقنع، بدافعٍ من حرصه على حياته، وبدافعٍ من خوفه من أن يُصاب بمرضٍ عُضال يتَّبع التعليمات، فالأزمة أزمة علم فقط، وأي إنسان لو أقنعته أن في طاعة الله سعادةً، وفي طاعة الله سلامةً، وفي طاعة الله توازناً، وفي طاعة الله طمأنينةً، أيّ إنسانٍ إذا أقنعته أن أمر الله عزَّ وجل ليس حدًّا من حريَّتك، ولكنَّه ضمانٌ لسلامتك، فحينما تتحرَّك في حقل تُفاجأ بلوحة كُتِبَ عليها: انتبه حقل ألغام، ممنوع التجاوز، هل تشعر بحقد على من وضع هذه اللوحة؟ بالعكس تشعر بامتنان بالغ له، لأنه أراد سلامتك، يقال: يا أخي قيَّدونا، هذا ليس قيدًا، فمن يقول لمن وضع لوحةً تنبِّه المارة إلى أن بعد اللوحة حقل ألغام: إن هذا قيد، الذي يقول: إنهم قيَّدونا وضيَّقوا من حريَّتنا، هذا جاهل، أما العاقل فيشكرهم على هذه اللوحة لأنها ضمانٌ لسلامتنا.
فإذا كنت عاقلاً وفهمت أوامر الدين هذا الفهم فإنك لا ترى أن في غضِّ البصر تقييداً لحريَّتك، بل فيه ضماناً لسلامتك، لا ترى في كسب المال الحلال تضييق للمكاسب، بل هو سلامةٌ لها، لا ترى في اختيار الزوجة الصالحة تضييق لمجال الاختيار، لا، إنك تضمن سعادتك الزوجيَّة طوال حياتك حينما تبحث عن امرأةٍ مؤمنةٍ صالحة، فكلَّما ازداد إيمان الإنسان يرى أن أوامر الله عزَّ وجل ونواهيه ضمانٌ لسعادته، وسلامته، وأنه كلَّما ضعف إيمانه يرى أوامر الشرع ثقيلةً عليه، تجده يقول: الدين كله أعباء، الإنسان من دون تديُّن مرتاح أكثر، طليق.
ربنا عزَّ وجل وصف الفاسقين بأنهم في ضلال، كلمة (في) تشير إلى دخول شيء في شيء، الفاسق بارتكابه أغلاطاً كثيرةً؛ بكسب المال الحرام، بإطلاق شهواته على عواهنها، لابدَّ من أن يقع في مغبَّة أعماله الشريرة، لابدَّ من أن يقع في فَخ، لابدَّ من أن يقع في مَطَبّ، لابدَّ من أن يدفع الثمن باهظاً لذلك يشعر بأنه محبوس، إنه مُقَيَّد، إن هذه النفس مقيَّدةٌ بمعصيتها.
﴿ بَلَىٰ مَن كَسَبَ سَيِّئَةً
﴿ أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مِّن رَّبِّهِ ۚ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ
أما المؤمنون:
﴿
الهُدى يرفعهم، الهدى في ظاهره أنه قيود، أما في حقيقته رِفْعَة، وعلو، وسمو، وطلاقة، قال تعالى:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ(38) إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39)﴾
المستقيم عندما قيَّد نفسه ملك حريَّته، والفاسد لما أطلق لشهواته العِنان فَقَدَ حريَّته، أليس هذا واضحاً في المجتمع؟ الذين يسرقون، أو يزنون، أو يرتكبون الموبقات ثم يُلقى القبض عليهم، ويودعون في السجون سنواتٍ طويلة، هؤلاء ألم يكونوا أحراراً؟ ولأنهم تحرَّكوا بلا منهج، بلا دستور فقدوا حريَّتهم، أما الذين انضبطوا بالمنهج بقوا أحرارًا طوال حياتهم، ففي الحياة مفارقة، كلَّما ضبطت نفسك ضبطاً ذاتياً ملكت حريَّتك، وكلَّما تفلَّتَّ من قواعد الشرع فقدت حريَّتك، وأبلغ مثل: الذي أمضى حياته في طاعة الله، وفي تحري الحلال، وفي خدمة الخلق، وفي الأمر بالمعروف، وفي النهي عن المنكر، وفي تلاوة القرآن، وفي تعلُّم القرآن، وفي تعليم القرآن، الذي أمضى حياته بقيود ما بعدها قيود فيما يبدو للناس، إذا جاءه ملك الموت كيف تكون حاله؟ يقول له: مرحباً، نحن مشتاقون إلى لقاء الله عزَّ وجل، أما الذي أطلق لشهواته العِنان في الدنيا، إذا جاءه ملك الموت فهو من أشقى الناس؛ لأن كل هذه الحريَّة الموهومة، والتفلُّت من قواعد الشرع جعلته في قيودٍ ما بعدها قيود، جعلته أسير معاصيه، رهن مخالفاته، إذاً:
4 ـ الناس رجلان مؤمن أو كافر:
الحقيقة أن التصنيف الدقيق للناس ليس أشكالهم، فمقياس الشكل ليس له قيمة، ولا لمقياس المال قيمة، ولا لمقياس النسب قيمة، ولا لمقياس الذكاء قيمة، ولا لمقياس النسب، والذكاء، والمال، والوسامة، والجمال قيمة، وإنما المقياس أهو أعمى أم بصير، الأعمى يتحرَّك تحرُّكاً عشوائياً، ولابدَّ من أن يقع في مطَّباتٍ كثيرة، لكن البصير يرى الطريق أمامه واضحاً، يرى الهدف واضحاً فيتحرَّك حركةً صحيحةً.
بالمناسبة: ربنا جلَّ جلاله إذا وصف شيئاً وصفه صفةً جامعةً مانعةً، صفةً مترابطةً مع الموصوف ترابطاً وجودياً، المؤمن بصير، والكافر أعمى، والدليل: كلَّما رأيت كافراً يتحرَّك رأيت في حركاته الحُمْقَ الشديد، والرُّعونة البالغة، رأيت في حركته انحرافاً عن مبادئ فطرته، انحرافاً عن العدل، انحرافاً عن الرحمة، انحرافاً عن الحكمة، انحرافاً عن الفطرة، قد تعجب، فلك أن تعجب، ولك ألّا تعجب فهو أعمى، فإذا رأيت أعمى انزلق في الهاوية فهل تغضب عليه؟ إنك تتألَّم لمصيبته، فالكافر أعمى، وأنا بدوري كلَّما قال لي إنسان: هذا العمل أمعقول أن يفعله فلان؟ أين حكمته؟ أقول له:
﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ(1)﴾
لأنه انقطع عن الله عزَّ وجل، حرَّكته شهواته، والشهوة عمياء رعناء، تدفعه نحو كسب مكاسب أرضيَّة سخيفة، هذه المكاسب الأرضية السخيفة تجعله مُعرَّضًا للتهمة، وللمصائب، وللموبقات، وأقرب مثل بين أيدينا: الذي يذهب إلى بلدٍ غربي، وتزلُّ قدمه يعود مصاباً بمرض يدمِّره، فذلك مرضه أصاب زوجته وولده، والآخر أصاب أمَّه، وكل أسبوعين أو ثلاثة تجد واقعة مذهلة، نقرؤها في الصحف اليوميَّة، ونسمع أشياء لا تُصدَّق، إنسان دمَّر حياته، دمَّر زواجه، دمَّر والدته، دمَّر أولاده، هو نفسه تدمَّر وهو في ريعان الشباب، فكل إنسان يبحث عن سلامته وعن سعادته عليه بطاعة ربِّه؛ لأنك آلة معقَّدة جداً، والله عزَّ وجل هو الصانع، وهذا القرآن فيه تعليمات الصانع، بدافعٍ من حبِّك لذاتك، بدافعٍ من حرصك على سلامتك عليك بطاعة ربِّك.
(( فَالنَّاسُ رَجُلانِ: بَرٌّ تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ. ))
(( قد تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك. ))
5 ـ المؤمن معه من الله حافظٌ:
فأحياناً تلاحظ إنسانًا في حياته الزوجية يتحرَّك وكأنه أعمى، لسببٍ تافهٍ جداً يطلِّق امرأته وعنده خمسة أولاد، يطلِّقها ويركب رأسه، والسبب تافه جداً، أولاده شٌرِّدوا، زوجته نقمت عليه، خرجت من دينها نِكايةً به، أسرة شُرِّدت، الأولاد ضاعوا، لنزوةٍ طارئةٍ ولغضبٍ طارئٍ، أما المؤمن فمعه مَلَكٌ يُسَدِّده، معه من الله حافظ.
﴿
الله وليُّك، فتصوَّر إنسانًا يتولى خالقُ الكون أمره؛ يسدِّده، يلهمه رشده، يهديه إلى سواء السبيل، يحذِّره، يؤدِّبه أحياناً، يعالجه، يعلِّمه، يجمعه مع أهل الحق، هذا معنى:
6 ـ فرق كبير بين المؤمن والكافر:
مثلاً: المؤمن مؤنِس، وذاك موحِش، المؤمن يطيِّب القلوب، وذاك يكسرها، المؤمن يُثني، بينما الكافر نقّاد، ونقده لاذع، وكلماته جارحة، المؤمن يؤلِّف، وذاك يفرِّق، المؤمن يصل بالله، والكافر يقطع عن الله، المؤمن يحبِّب بالآخرة، وذاك يحبِّب بالدنيا، المؤمن يرحم، والكافر يقسو، المؤمن ينصف، والكافر يظلم، المؤمن يتلطَّف، وذاك يتواقح، فالمسافة بينهما كبيرة جدًا.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ
1 ـ لابد من العمل الصالح مع الإيمان:
لذلك ربنا وعزَّ وجل وصف العمل الصالح الذي يصلح للعرض على الله بأنه العمل الذي سبقه الإيمان.
أوضح مثل: إنسان عليه سند، تسديد قيمة السند عمل صالح، ولكن يا ترى ما الدافع؟ لعله تاجر له اسم مرموق بين التجار، فإن لم يسدد قيمة السند يلطِّخ اسمه في الوحل، إذا لم يسدد فخصمه قويٌ يشكوه للقضاء، فيحجز خصمه محلَّه التجاري، وخصمه يضع السند في التنفيذ، فإذا بادرت إلى تسديد السند فهذا عمل مدني -سلوك مدني- لكن متى يكون عند الله عملاً صالحاً؟ إذا كان خصمك لا يملك عليك أية وثيقة، وقد أعطاك المال، وتوفَّاه الله، ولا أحد في الأرض يطالبك، وأنت بدافعٍ من إيمانك بالله عزَّ وجل، وخوفك منه، وخوفك من الوقوف بين يديه يوم القيامة، تتوجَّه إلى ورثة هذا الصديق، وتدفع لهم المال.
والله حدَّثني أخ برسالة كتبها، أنا لا أعرفه، قال لي: والله دفعت عشرين مليون لجهةٍ لا تملك عليَّ أية وثيقة، أنا محتفظ بهذه الورقة عندي، على أثر درس الأمانة، دفع مبلغاً ضخماً هو في ذمته، لكن الذي أعطاه إياه في حياته مات، وليس بينهما أية وثيقة، والأهل لا يعلمون بذلك، فبادر إلى أداء الأمانة لأصحابها، فهذه هي الأمانة حقًا.
العفو مثلاً، العفو عمل صالح، ولكن من هو الذي يعفو؟ هو الذي يكون له عدوٌ نال منه أشدَّ النَيْل، ثم وقع العدو في قبضة الأول، وكان قادراً على أن يوقِع به ما يشاء من عقوبة، وأن يكيل له الصاع عشرة، عندئذٍ عفا عنه، فالعمل الصالح الذي يسبقه الإيمان رائع جداً، عمل نزيه، عمل مُبرَّأ عن الشبهات، مُبرَّأ عن الدوافع الخسيسة، عمل يبتغي به صاحبه وجه الله عزَّ وجل، إذاً:
2 ـ المؤمن محسن والكافر مسيءٌ:
طبعاً الأعمى سوف يسئ، لأن المحرِّك شهوته، والشهوة عمياء، أما البصير فهو الذي عرف الله عزَّ وجل، إذاً صار محسناً.
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ(18)﴾
أكبر خطأ حينما تتوهَّم أن الأعمى كالبصير، وأن المؤمن كالكافر، وأن المحسن كالمسيء، وأن المستقيم كالمنحرف، وأن المُتَّصل كالمُنقطع، أكبر خطأ يقع في حياة الناس هو التوهُّم أن القضيَّة بالمال، والقضيَّة بالذكاء، والقضيَّة باحتلال مركز اجتماعي مرموق، والقضية بزوجة تملأ قلب الزوج سروراً بشكلها وحركاتها، دون أن ننتبه إلى فضائلها وقيمها.
﴿ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ(59)﴾
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ
فما علاقة هذه الآية بهذه؟
1 ـ علاقة هذه الآية بما قبلها:
معنى ذلك أن الأعمى يتحرَّك تحرُّكاً عشوائياً، وسوف يقع في أخطاء كثيرة، فهذه الأخطاء محاسب عليها.
2 ـ كلُّ عملٍ يظهر على حقيقته يوم القيامة:
إذاً:
3 ـ تهديد ووعيد:
هذا تهديد، أي اعمل، وكثِّر مما تعمل، افعل ما شئت، فهناك وقفةٌ بين يدي الله عزَّ وجل، فالأعمى يدفع ثمن العمى الباهظ، طبعاً العمى وحده لا يكفي، العمى يَتبعه معاصٍ، العمى يتبعه عدوان، العمى يتبعه انحراف، العمى يتبعه تجاوز الحدود، العمى يتبعه أذى، الأعمى
البصير؛ البصير مستقيم، البصير ورِع، البصير مُحسن، البصير مُنصف البصير عادل، أيضاً
4 ـ الكفر العملي بالآخرة:
كيف يأكل مالاً حراماً؟ معنى ذلك أن الآخرة ليست داخلة في حسابه.
كيف يعتدي على أعراض الناس؟ معنى ذلك أن الآخرة ليست داخلة في حسابه.
كيف يتجاوز الحدود؟ معنى ذلك أن الآخرة ليست داخلة في حسابه.
عندما تتحقق من إيمان الإنسان بالآخرة أو عدم إيمانه انظر إلى انضباطه، إذا لم يكن منضبطًا ممكن أن يقول لك: "حلال على الشاطر"، هذه كلمة الشيطان، أيُّ شاطر؟ مع الله لا يوجد شاطر، ولو كان فيما يبدو أنك أكلت مالاً وفيراً من طريق غير مشروع، فالله عزَّ وجل قدير على أن يدفعك الثمن باهظًا في الدنيا قبل الآخرة، إذاً:
5 ـ الفرق بين العاقل وغير العاقل:
بعضهم يقول لك: أعطني عمرًا لتلك الساعة، نحن الآن أولاد الحاضر، فتفكيره تفكير آني، تفكير من لا عقل له إطلاقاً، فدائماً الإنسان كلَّما ارتقى عقله خاف بفكره، وكلَّما قلَّ عقله خاف من عينه، حتى يجابه الخطر يخاف، أما العاقل فالخطر يستنبطه، ويتأقلم معه، ويتكيف معه منذ الآن، فالتكيف مع الأخطار المُقبلة دليل عقل.
أبسط مثل نضربه التدخين، فهل من الممكن لإنسان مهما أقنعته أن هذا التدخين يضر بالرئتين، يسبِّب جلطة، يسبِّب ضيقًا بالأوعية، يسبِّب ارتفاعَ الضغط، يسبِّب تسرُّعًا في القلب، يسبِّب سرطانًا بالرئة، يسبِّب مثلاً شللَ الأهداب في القصبة الهوائيَّة، يسبب احتمال موات الأعضاء، الغرغرين، مهما أقنعته فلن يقتنع، أما حينما يواجه أحد الأخطار يقول لك: نعم والله، والله هذا الذي حصل، كلما خاف الإنسان بعينه، وخاف حينما يواجه الخطر فهو ضعيف العقل، وكلما تصوّر الخطر وتكيّف معه منذ الحاضر فهو راجح العقل، لهذا قيل: "أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حباً".
أما أن يصل الإنسان مع نفسه لطريق مسدود، فيواجه مغبّة عمله، يواجه مصيبة كبيرة جداً سببها انحرافه، أو أكله للمال الحرام! فإذا قلت له: يا أخي هذا الربا حرام، هذا غش، فإنك تراه لا يعبأ بذلك أبداً، وعندما تأتي الضربة الإلهيَّة القاصمة يقول لك: نعم والله كلامك صحيح، يا ليتني قبلت نصيحتك.
إذاً من أجل أن تعرف إذا كنت عاقلاً أو غير عاقل، انظر هل تدرك الأخطار في وقت مبكِّر، وتتكيف معها أم أنك لا تعرفها إلا إذا واجهتها؟ ضعاف التفكير لا يكشفون الأخطار إلا مع مواجهتها، لكن العقلاء يتوقَّعون الأخطار قبل أن تقع، فالعاقل هو الذي يتوقَّع الخطر قبل أن يأتيه الخطر.
خاتمة:
إذاً:
والحمد لله رب العالمين.