- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (040)سورة غافر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع عشر من سورة غافر، ومع الآية الثالثة والخمسين، قال تعالى:
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ(53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(54)﴾
هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ
في هذه الآية شيءٌ يلفت النظر، ولهذه الآية مثيلات.
1 ـ العقل السليم طريق إلى الهدى:
2 ـ تطابقُ صريح العقل مع صحيح النقل حق:
أيْ أنّ كل ما جاء به هذا الدين فالعقل يقبله، وكل انحراف عن أحكام هذا الدين فالعقل يرفضه، فدعوة الأنبياء متطابقةٌ مع العقل، وقد أَلَّف علماءٌ كثيرون كتباً قيمةً في تطابق العقل مع النَقل، تطابقُ صريح العقل مع صحيح النقل، بل إن هذا التطابق حتمٌ لازم، والعقل لا يقبل التناقض بين النقل والعقل، ولا يقبل الازدواجيَّة في الكون، إلهٌ واحد، نواميس واحدة، كتابٌ واحد، نبيٌ واحد، مقاييس واحدة، فطرةٌ واحدة، نفسٌ واحدة، عقلٌ واحد.
فالذي أقوله دائماً: الكون خلْقُه، والعقل مقياسٌ أودعه فينا، والقرآن كلامه، والفطرة ميزانٌ نفسيٌ فطرنا عليها، وتطابق العقل مع النقل مع الفطرة مع الواقع شيءٌ حتميٌ لابدَّ منه، لكن هذا الذي يعطِّل عقله، وتجمح به شهوته، ويركب رأسه كما يقولون، ويتنكّر للواقع، للمنطق، للمبادئ، للقيَم، ينجرف مع هوى نفسه، مثل هذا الإنسان قد لا يستجيب للحق، وإليكم آيةً حاسمةً في هذا الموضوع:
﴿
3 ـ المتّبع للهوى لا يستجيب للحق:
فالإنسان مع العقل أو مع الهوى، فإذا كان مع العقل قاده عقله لهذا الكتاب، وللهدى الرباني بشكل واسع، وإنْ كان مع الهوى وقف حجرَ عثرةٍ أمام الهدى، دخل في الحوار، والمجادلة، والكلام غير المنطقي، والأدلَّة الواهية، والحجج السخيفة، والطرح غير المَوضوعي، دخل في متاهة الجدال. إذاً: فالآيات التي تشير إلى ذلك كثيرة منها:
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ
﴿ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۚ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ
﴿
مجمل هذه الآيات تبيِّن أنّ هناك مرحلة في الهدى لابدَّ من أن تقوم بها أنت، وهي تأمُّلٌ صحيح، تحكيم العقل، سماعٌ لنداء الفطرة، استقامةٌ على أمر الله، إنابةٌ لله عزَّ وجل، من كان كذلك تجده سريع الاستجابة، والدعاة لهم تجربة في هذا الموضوع، هذه التجربة أن الداعية يقول كلاماً رائعاً منطقياً، مدعَّماً بالأدلَّة والشواهد، والآيات الكونيَّة، والقرآنيَّة، والتكوينيَّة، ويتفنَّن في عرض الفكرة، وفي أدلَّتها، وفي تعليلها، وفي تنويع الأساليب؛ فمن أسلوب قصصي، إلى أسلوب حوار، إلى أسلوب علمي، إلى أسلوب تقريري، إلى أسلوب مباشر، وأمامه شخصان: شخصٌ كأنه يتغذَّى بهذا الكلام، وشخصٌ يرفضه، فما سرُّ ذلك؟
أيُّ داعيةٍ لو سألته لأجابك، ظاهرةٌ تلفت النظر، إنسان يستجيب وكأنَّك تعرفه من خمسين عاماً، إنسان يتفاعل مع كلامك الحقِّ تفاعلاً رائعاً، إنسان يدخل الهدى إلى كل خليَّةٍ في جسمه، تتفاعل كلمات الحق مع كريات دمه، وإنسانٌ آخر كالحجر الأصم، كالصخر الجلمود لا يستجيب، لا يتأثَّر، لا يتفاعل، يا ربِّ ما السر؟ هذا هو السر:
آية ثانية تؤكِّد هذا المعنى:
﴿
إذا أصغى الإنسان للحق، فرَّغ نفسه للحق، استمعَ للحق وفكَّرَ فيه؛ حلَّله، تأمَّله، بحثَ عن دليله وتبنَّاه، فذلك دليل أنه صادق، أما إذا أعرض عنه فهو يبحث عن شيءٍ آخر.
أنا أشبِّه الذي يبحث عن الدنيا وتسوقه قدماه إلى مجلس علم، فهو يبحث عن الدنيا؛ يبحث عن ملذَّاته، عن مصالحه، عن شهواته، يعيش للذَّته، لو ساقته قدماه إلى مجلس علم، يشبه تماماً آلة التصوير الغالية جداً، من أرقى مستوى، ولكن ليس فيها فيلم، فمهما استخدمها الإنسان لا يستفيد منها.
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ
تسأله: ماذا سمعت في الدرس؟ يقول: والله كلام يا سيدي، كله كلام في كلام، فهو إذًا لا يعي الخير، فالإنسان الذي يطلب الحق يشبه آلة تصوير فيها فيلم، فكل منظرٍ يُطبَع على هذا الفيلم، فالصدق وجود هذا الفيلم في الآلة، لكن الكذب، وأن تريد الدنيا، وأن تُساق إلى مجلس علم، فتشعُرُ بالضيق، والسأم، والضجر لأنك في وادٍ وموضوع الدرس في وادٍ آخر.
إذاً:
الإنسان بين مجاراة الهوى ومتابعة العقل السليم:
فأنت إما مع العقل أو مع الهوى، إن كنت مع العقل فالعقل يقودك إلى الله، وإن كنت مع الهوى فالهوى يقودك إلى المعصية، والمعصية إلى البعد عن الله عزَّ وجل، وأنت بين أمرين؛ إما أن العقل هو الذي يحرِّكك، وإما أن الهوى هو الذي يدفعك، وهنيئاً لمن كان العقل رائده، والويل لمن كان الهوى رائده.
﴿
إلهه هواه، شهوته فوق كل شيء، قبل كل شيء، مقدَّمةٌ على كل شيء، مصلحته، وشهوته، وملذَّته، ودنياه، وماله، وبيته فوق كل شيء، لكن المؤمن يؤثر الحق ورضاءَ ربه، والجنَّةَ، والعملَ الصالح على كل شيء، فمن شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين.
والله أيها الإخوة كلمة لا أشبع من تردادها، وهي عميقةٌ جداً مع أنها موجزة:
(( من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته فوق ما أعطي السائلين ))
(( اعمل لوجهٍ واحدٍ يكفك الوجوه كلها. ))
(( من جعل الهمومَ همًا واحدًا همَّ آخرتِه؛ كفاه اللهُ همَّ دنياه ))
هُمْ في مساجدهم، والله في حوائجهم، جرِّب؛ مع أن الله لا يُجَرَّب، جرِّب أن تتجه إلى الله، أن تخلص له، أن تستقيم على أمره، أن تتوب إليه، وانظر كيف أن الله ينصرك، ويرفع ذكرك، ويسعدك، وييسِّر عملك.
قانون التيسير والتعسير:
الآن تطالعنا قضيَّة محيِّرة للناس، يقولون: فلان محظوظ، هذا كلام ليس له معنى، فلان حظُّه قليل، هذا هراء أما الصواب فإنّ في القرآن تيسيرًا أو تعسيرًا فقط، والتيسير له قانون، والتعسير له قانون، أما التيسير:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى(5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى(7)﴾
كلام واضح كالشمس.
﴿ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى(8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى(9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى(10)﴾
والنبيُّ اللهمَّ صلِّ عليه من عادته إذا رأى شيئًا صعبًا كان يقول:
(( اللهمَّ لا سهل إلا ما جعلته سهلاً ))
إذا يسَّر الله أمرًا فعندئذٍ تجد العجب، تجد الغريب يخدمك، عدوُّك اللدود في خدمتك، وإذا عسَّر الله عزَّ وجل أمرا تجد أن أقرب الناس إليك يتخلَّى عنك، تنشأ المشكلات تِباعاً، قضية شائكة، عقبات، كلَّما حللت قضيَّة تنشأ قضايا، فإذا كنت مع الله لا يضل عقلك، ولا تشقى نفسك، ولا تندم على ما فات، ولا تخشى مما هو آت، هكذا الآيات.
﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
والذي ساقني لهذا الكلام قوله تعالى:
هناك ناس من غير لبٍّ وعقلٍ:
ماذا ينفع أن تبثَّ محطّة الإذاعة برامجها الرائعة، وليس عندك جهاز استقبال، مهما تكن هذه البرامج رائعة، أحاديث عميقة، برامج إخباريَّة واسعة جداً، محاضرات قيِّمة، ولكن ليس لديك جهاز استقبال، الله عزَّ وجل هدى الخلق؛ هداهم بالكون، وهداهم بالقرآن، وهداهم بالأنبياء، وهداهم بأفعاله، وهداهم بالفطرة، وهداهم بالمعالجة النفسيَّة، وهو يهديهم دائماً، العقبة أن تهتدي أنت، أن تملك جهاز الاستقبال، فالشيء العجيب أن أكثر الناس يقولون لك إذا دعوتهم إلى الهدى: "حتى الله يهديني"، هذا كلام لا معنى له، كلام مضحك تماماً، فالله هداك في كل شيء، وليس لشيء واحد، بقي عليك أن تستجيب أنت.
إذاً: هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
﴿
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ
1 ـ الدنيا قائمة على الاجتهاد والصبر:
الدنيا أساسها بذل الجهد، أساسها الكَدح، أساسها الامتحان، أساسها الابتلاء، أساسها كشف الطويَّة، أساسها أن يأخذ الإنسان أبعاده، أساسها أن يُمتَحَن الإنسان، والآيات كثيرة جداً.
﴿
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ(142)﴾
﴿
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2)﴾
بهذه البساطة! هناك جامعة رائعة جداً، عظيمة جداً، فهل إذا داوم الإنسان محاضرتين ينال دكتوراه بهذه البساطة؟ وبهذه السذاجة؟ لابدَّ من امتحان، وهل كل إنسان ادَّعى أنه مؤمن صار مؤمنًا، واستحقَّ الجنَّة؟
2 ـ وعدُ الله حقٌّ:
وهنا نقطة دقيقة جداً، وعدُ الله حق، العلماء فرَّقوا بين الوعد والوعيد؛ الوعيد لغير الخير، والوعد للخير، عندما وعد ربنا عزَّ وجل المؤمن بالجنَّة، أو وعده بالنصر، أو وعده بالتوفيق، أو وعده بالحفظ، أو وعده بالعِز، وعده أن ينصره، وأن يحفظه، وأن يعزَّه وأن يوفِّقه، فوعد الله حق، فإذا رأينا رؤيةً ساذجة أن هذا الوعد لا يتحقَّق أو لم يتحقَّق، كيف نفسِّر ذلك؟
التفسير بسيط، فهذا الذي وُعِدَ بالهدى ليس في مستوى الوعد، لو أني وعدت طالبًا نال مائتي درجة في الثانوية أن أدخله مثلاً الفرع الفلاني، الوعد صحيح، والوعد حق، ولابدَّ من أن يقع، لكن هذا الطالب نال مائة وخمسين درجة، ولم ينل مائتين درجة، فكل إنسان يقرأ وعدًا من الله للمؤمنين ولا يراه قد حقق واقعيًا، فليس له إلا تفسير واحد؛ وهو أن هذا الذي وُعِد ليس في مستوى الوعد، فالله وعد المؤمنين، والآيات واضحة.
﴿
هذا وعد، هل هناك جهة أعظم من الله عزَّ وجل؟
﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ
هذا تعجُّب تقريري.
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ
واللهِ زوالُ الكون أهون على الله من ألاّ يفي بوعده، البطولة أن تكون أنت الموعود، أن تتحقَّق فيك صفات الموعود، الله قال:
الانتماء الفكري للإسلام لا يكفي:
الفكر البشري إذا فكَّر في المبادئ يرى أن مبادئ الإسلام أعظمها واقعيَّةً، أعظمها منطقيَّةً، أقربها إلى ذاته، فهناك الآن إسلام فكري، والإنسان العاقل الذكي المفكِّر يقرأ فيقول: والله الإسلام شيءٌ عظيم، هذا دين ودولة، ودين متوازن، وفطرة، وعقل، وواقع، وجسد، وعلاقات اجتماعيَّة، يتفلسف ساعة على ميِّزات الدين، وهو في الأساس ليس مطبّقاً لمبادئه، فالانتماء الفكري للدين لا يكفي، وأساساً الشيطان قال:
﴿ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)﴾
الانتماء الفكري وحده ليس له قيمة، فأنا أفكِّر فأجد الإسلام عظيمًا؛ أجلْ إنّ الإسلام عظيمٌ، فمتى كان الإسلام غير عظيم؟
أضرب مثلاً واحدًا: شخص نظر إلى قرص الشمس، تأمّلَ تأمَّل وفكَّرَ، درس، قطَّبَ حواجبه، حكَّ رأسه، ثم قال: الشمس ساطعة، ومن قال لك: إنها غير ساطعة؟ ومن يصدِّقك إذا قلت: غير ساطعة؟ إنها ساطعة، أنت ماذا فعلت؟ ما فعلت شيئاً، ولم تضف جديداً.
فإذا قلت: الدين حق، والإسلام حق، والقرآن حق، يا أخي الشرع حق، وهذا الدين عظيم، وهذا دين المستقبل، وهذا دين الأمَّة، هذا كله كلام، فنحن نريد التطبيق، أين أنت منه؟ أين مواقفك؟ أريد بيتًا إسلاميًا، أريد عملاً إسلاميًا، أريد أخلاقًا إسلاميَّة، أريد وقوفًا عند الحلال والحرام، أريد معاملة إسلاميَّة، أريد إنسانًا المالُ تحت قدمه أمام حكم شرعي، فلو كان فيه شُبهة جعله تحت قدمه.
إنّ الدنيا تجذبنا، والمال يجذبنا، والمصالح تحرِّكنا، وانتماءاتنا فكريَّة، يقول لك: الإسلام حق، يا أخي سمعنا كلمة رائعة جداً، ما شاء الله على هذا الخطيب، فهل استجبت لكلامه؟ لا لم أستجب، والله يا أخي الحياة صعبة ومعقَّدة، ونسأل الله ألاَّ يبتلينا، فنحن عبيد إحسان، ولسنا عبيد امتحان، ونحن ضِعاف يا سيدي، لا يسعنا إلا عفوه وكرمه، هذا النموذج الحديث، لذا ألف مليون مسلم لا وزن لهم في العالَم اليوم، و في الحديث الصحيح:
(( وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ. ))
اثنا عشر ألفًا لن يُغْلَبوا، أما المليار والمائتا مليون فيُغلبون، لأن الشرط اللازم هو:
الشكليات لا تنفع:
النقطة في هذه الآية التي أتمنى على الله أن تكون واضحةً عندكم، كلَّما قرأت القرآن، ورأيت وعداً من الله للمؤمنين، ولم ترَ على الساحة تحقيقاً لهذا الوعد، فإيَّاك أن تشكَّ بالوعد، ثمّ إيَّاك؛ لكن لك أن تشكَّ في الشخص الذي وعده الله، لم يحقِّق المستوى المطلوب، لم يأتِ بالعلامات المطلوبة، لم يأتِ بالحد الأدنى حتى يُنَفَّذ له الوعد، الله هوَ هو لم يتغيَّر، فالإله الذي نصر أصحاب رسول الله حتَّى فتحوا العالَم من أطرافه هوَ هو ما تغيَّر، القرآن الذي قرأه أصحاب النبي، واستوعبوه، وطبَّقوه، فاستحقوا أن يكونوا سادة الأمم هو ذاته القرآن الذي تلاه الصحابة، وانتصروا به؟ الآن هو مطبوع طبعات مُذهلة، كلمة الله بالأحمر، وكلمة رب بالأحمر، ومذَهّب، وآيات، وفهارس، ومعاجم، تحتاج إلى مصحف، تريد الشرط هو موجود، تريده مرتَّلاً فهو موجود، وكذلك إن كنت تريده مجوَّدًا.
سمعت من مدَّة أنّ في المغرب بَنَوا جامعًا، وهو ثاني أكبر جامع في العالم الإسلامي، لكن روعة هذا الجامع أن قبلته صُمِّمَت وفق أشعة الليزر، أيْ إذا وقفت أمام محراب هذا المسجد فأنت على سِمت القبلة تماماً، لا تنحرف عنها ولا نصف درجة، علَّقت على هذا الخبر التعليق التالي، قلت: لو أن إنساناً مستقيماً، منيباً، طائعاً، تائباً، عابداً، يعرف الله حق المعرفة، وهو مستقيمٌ على أمره، ممتلئٌ قلبه حبَّاً، وإخلاصاً له، لو كان في فلاةٍ، واجتهد في معرفة القبلة فصلَّى، ثم تبيّن له أنه صلى بعكس اتجاه القبلة، هو أقرب إلى الله ألف مرَّة من إنسانٍ صلى في ذلك المسجد، وكانت صلاته على أشعة الليزر باتجاه القبلة، لكنه كان عاصياً لله عزَّ وجل.
نحن نريد حقائق، مسجد النبي عليه الصلاة والسلام الذي انطلق منه أصحاب رسول الله كانت أرضه من الرمل، الآن تحتار للرخام الذي يغطي أرضه، فهذا رخام يمتص الحرارة، هناك أجهزة تكييف وأجهزة تدفئة، وقد دخل إخوة إلى جوامع في بعض البلدان الإسلاميَّة فلو مددت يدك للحنفيَّة تحت الضوء لنزل الماء آليًا، ولتوقف آلياً (إلكترون)، ومع ذلك ليست كلمتنا هي العُليا، كل هذا التقدُّم التكنولوجي، والجوامع الفخمة مظاهر، فالعبرة في التطبيق.
فأيها الإخوة الكرام، إذا قرأتم القرآن، وقرأتم آياتٍ كريمة تَعِدُ المؤمنين بالنصر، أو تعدهم بالحفظ، أو تعدهم بالتوفيق، فهل غفلتم عن قوله تعالى:
﴿ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)﴾
نصر عزيز، هناك نصر غير عزيز، هذه الوعود كلُّها إن لم تقع فعلينا أن نشكَّ في أنفسنا، أن نشكَّ في استقامتنا، أن نشكَّ في إيماننا، أن نعتقد الخلل في عقيدتنا، وأن نعتقد الخلل في منهجنا، أن نعتقد الخلل في استقامتنا.
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ(1)﴾
قال لي شخص: واللهِ أنا ما رأيت هذا الشيء، وما رأيت هذه الحادثة، بل سمعت بها، ولكن ما رأيتها، والله يقول:
﴿
معنى هذا أنه لم يأتِ بعد، انظر التعبير القرآني
لذلك أحد الصحابة قال:
صحابي آخر قال:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الْحَلِفُ مُنَفِّقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مُمْحِقَةٌ لِلْبَرَكَةِ. ))
فيها التدليس، فيها الكذب، فيها الغش، فيها بيعٌ لا يرضي الله عزَّ وجل، فيها بيعٌ يشبه الربا، هذه أسواقنا، وهذه بيوتنا، فإذا كنت قد قرأت في القرآن وعدًا للمؤمنين بالنصر، ولم تجد هذا النصر، وقرأت وعدًا للمؤمنين بالحفظ، ولم تجد هذا الحفظ، قرأت وعدًا للمؤمنين بالتوفيق، وما وجدت التوفيق، فالقضيَّة بسيطة جداً، عليك أن تشكَّ بالموعود لا بالوعد، هذه فكرة دقيقة.
﴿
هذا وعد إلهي لكل مؤمن، هذه الآية لا علاقة لها بالظروف المستجدَّة، لا علاقة لها بالأزمات، لا علاقة لها بالفَقر، لا علاقة لا بالضَعف، لا علاقة لها بالمرض، إنه وعدٌ إلهي
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
من معاني استغفار النبي من الذنب:
وبعضهم فسَّر ذنب النبي عليه الصلاة والسلام تفسيراً رائعاً وهو أن النبي كلَّما عرف الله في درجة، ثمَّ عرفه في درجة أعلى يشعر أنه قد وقع في ذنب، ذنبه أنه ما عرفه حقَّ المعرفة، ما قدَّره حقَّ التقدير، هذا تفسير أيضاً.
إما:
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ
1 ـ معنى العشي والإبكار:
وقال بعضهم: قبل أن تُفْرَض الصلوات الخمس كانت صلاتان؛ صلاةٌ في الفجر، وصلاةٌ قبل النوم.
2 ـ لابد من التسبيح في كل وقت:
على كلٍ القصد أن المؤمن عليه أن يسبِّح الله عزَّ وجل في أوقاتٍ دوريَّةٍ في يومه وليله، لأن ذكر الله غذاءٌ للقلوب، والأطبَّاء يتحدَّثون دائماً عن الغذاء المتوازن، تحتاج إلى بروتين، تحتاج إلى نشويات، وتحتاج إلى معادن، تحتاج إلى فيتامينات، تحتاج إلى خضار، فواكه، مواد بروتينية مثلاً، والتعبير الآخر لابدَّ من غذاءٍ متوازن، فأنت تحتاج إلى غذاء لجسمك، وهذا معروف وبديهي، وليس له مشكلة، لكنك تحتاج إلى غذاء لعقلك، وهو العلم، تحتاج إلى غذاء لقلبك، وهو الذكر، وتلاوة القرآن تقع في رأس الذكر، والاستغفار يعد من الذكر، والدعاء يعد من الذكر.
3 ـ لابد من محبَّةِ الله المنعِم:
(( أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي. ))
أيْ أنّ عليك أن تحب الله لهذه النعم التي أنعمها عليك، فأنت من فَرْقِك إلى قدمك مغموسٌ بنعم الله عزَّ وجل، أقرب نعمة لك ذاتك، جسمك الذي بين جنبيك.
نعمة البصر، أحد الأدباء الذين فقدوا بصرهم، كان يذهب إلى بلد أوروبي يصيِّف فيه -توفي هذا الأديب- خطر في بالي مرَّة أنه لو وُضع في قرية من قرى الصعيد بغرفة فيها مكيَّف فشأنه كما لو كان في ذاك البلد الغربي، لأنه لا يرى شيئاً؛ جمال الطبيعة، جمال الجبال، ، جمال الزهور، جمال البحار، كل ما خلق الله من جمال لا معنى له بلا هذه العين، معنى ذلك؛ نعمة البصر من أعظم النعم، نعمة السمع، نعمة النطق، نعمة العقل، نعمة الحركة:
(( وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا. ))
نعمة السُمْعَة الطيِّبة بين الناس، نعمة الأهل في البيت، نعمة المأوى، نعمة الأولاد، فأنت مغمور بالنعم، وأقلُّ شيء في الجسم القناة الدمعيَّة لو سُدَّت لصار الدمع دائماً يسيل على الخد، والدمع قلوي يحدِث التهابات في الجلد، فتحتاج إلى مراهم، وإلى محارم، وإلى مناديل، لأن القناة الدمعيَّة سُدَّت، كل شيء يعمل بانتظام؛ القلب يعمل بانتظام، الرئتان، المعدة، الأمعاء، البنكرياس، الغدَّة الدرقيَّة، الغدد الأخرى تعمل بانتظام، الكظر، والنخاميَّة، الأجهزة، العضلات، الأعصاب، الأوتار، جهاز الإدرار، كله يعمل بانتظام، هذه كلها نِعَم، نعمة الهدى.
نعمة الإيجاد والإمداد والرشاد:
لذلك قال العلماء: هناك ثلاث نعم كبرى، نعمة الإيجاد، فأنت موجود.
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)﴾
ونعمة الإمداد؛ أمدَّك بالهواء، أمدَّك بالماء، بالطعام، بالشراب، بالأهل، بالبنين، بالمأوى.
وأخيرًا نعمة الهُدى والرشاد، وهي في رأس النعم كلِّها.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(56)﴾
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ
1 ـ الجدل لردّ الحقّ:
هذه الآية وهي قوله تعالى: (
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ۚ
لأن أساس حياته شهوته، فإذا دعوته إلى دينٍ يحدُّ من شهوته، فإنه يرفض هذا الدين، كيف يرفضه؟ يدَّعي أن هذا الدين كذب، يدَّعي أنه سِحر، يدَّعي أنه كِهانة، يدَّعي أنه خيالات، يدَّعي أنه أوهام، يدعي أنه غيبيَّات، فما يقوله أعداء الدين من أن الدين غيبيَّات، أو أوهام، أو مشاعر نفسيَّة مرضيَّة، أو شعور بالضعف أمام قوى الطبيعة، هذا الذي يقوله أعداء الدين ما هو إلا جدل، والسبب أنهم توهَّموا أن اتباع الهدى يحدُّ من شهواتهم، وأن اتباع الهدى يقيِّدهم، أو أن اتباع الهدى يفقدهم مراكزهم، أو أن اتباع الهدى يفقدهم دخلهم الكبير، لذلك يلجؤون إلى محاربة الدين، ويلجؤون إلى الطعن بالدين، وإلى تفنيد حقائق الدين، كما يلجؤون إلى أدلَّةٍ واهيةٍ لا قيمة لها، فماذا قال الله عزَّ وجل في شأن هؤلاء؟ لقد قال سبحانه:
2 ـ الجدال بغير حُجّةٍ طمعا في المكانة العليّة:
بدون حجَّة، وبدون دليل، ومن غير هدى، ومن دون كتاب منير، ولا نقل صحيح، ولا عقل صريح، قال:
3 ـ المجادل بغير حق لا يبلغ هدفه الدنيوي:
لكن الشيء المؤسف أن هذا الكبر
(( من حاول أمرا بمعصية كان أبعد مما رجا، وأقرب لمجيء ما اتقى. ))
هذا مثل يوضِّح الفكرة: لو أن إنسانًا يقود سيارة وأمامه طفل، فخاف أن يدهسه، فوضع رجله على البنزين بدَل المكبح، ما الذي يحدث؟ يقتله، أخطأ الطريق، وأخطأ الهدف، هذا الحديث اجعلوه شعاراً لكم:
﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا ۚ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ
لذلك؛
احفظوا هذا القول:
هنا يقول:
(( يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَسْمَعُوا؟ وَأَنَّى يُجِيبُوا، وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا. ))
4 ـ المعصية لا تقودك إلا إلى الخسارة:
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ(3)﴾
فبشكل عام لا تمنعك مكانتك، علمك، شهادتك، مكانتك الماليَّة، مكانتك الاجتماعيَّة أن تحضر مجلس علم، لا تمنعك مكانتك أن تستجيب لإنسان مخلص في دعوته، يهدف إلى إرساء الحق في المجتمع، أخي أنا أكبر منه في السن، أنا أفهم منه، أنا أذكى منه، أنا لي مكانة أسمى، هذه عنعنات جاهليَّة، قال جِبِلَّة بن أيهم لعمر الخليفة:
كيف ذاك يا أمير هو سوقةٌ وأنا عرشٌ وتاج؟
كيف ترضى أن يخرَّ النجم أرضَاً؟
قال له:
الإسلام سوَّى بين الناس، الإسلام أعطى قيَمًا خالدة.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ
زعيم قريش وقف في باب عُمر ساعات لم يؤذن له، أما بلال وصهيب يدخلان بلا استئذان، قال له بعد طول انتظار:
5 ـ الكبر ماديٌّ ومعنويٌّ:
فالنقطة في الآية
فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ
المعرِض عن الحق غواه الشيطان فلابد من الاستعاذة منه:
﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا
الدنيا لديه لعب ولهو، عنده سهرة ولعب، ويوم لديه أعمال كثيرة في السوق، فدائماً يؤثر الدنيا على الآخرة، لذلك:
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.