- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (040)سورة غافر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني عشر من سورة غافر، ومع الآية الثامنة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(38)﴾
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ
الذي آمن هو مؤمن آل فرعون، موضوع القصة في هذه السورة، هناك وقفةٌ متأنّيَة، عند كلمة:
1 ـ لابد للناس أن يتبعوا هدى الله:
من الذي ينبغي أن يتبعه الناسُ؟ هذا سؤال كبير، إذا كانت لديك آلةٌ بالغة التعقيد، عظيمة النفع، كثيرة الرِبح، إذا تعَطَّلت هذه الآلة تسأل مَن عن إصلاحها؟ تهتدي بهدي مَن في تشغيلها؟ إذا أصابها خلل عمّن تبحث؟ الحقيقة أن الإنسان بالفطرة إذا كانت عنده آلة بالغة التعقيد وأصابها خلل يسأل صانعها، يسأل الخبير، لذلك قال تعالى:
﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ ۚ
لو كان لك صديق تحبه حباً لا حدود له، وعندك جهاز حاسب بالغ التعقيد تعطَّل، هل تسأله لإصلاحه؟ لا، مع أنك تحبه حباً لا حدود له، بل تسأل الصانع، تسأل الشركة الصانعة، تسأل الخبير.
فهناك سؤال: أنا كوني إنسان من الذي ينبغي أن أتبعه؟ مَن؟ أيُعقل أن أتبع إنساناً ضالاً؟ فأضل معه، أو أتبع إنسانًا منحرفًا فأنحرف معه، أو إنسانًا جاهلاً فأجهل معه، من الذي ينبغي أن أتبعه؟ لا تستطيع أن تتبع إلا هدى خالقك، ولأن الله سبحانه وتعالى رحيمٌ بخلقه، خلق الخلق وأرشدهم.
﴿
خلق السماوات والأرض ونوّرها بهديه.
﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ
جاعل اسم فاعل يقتضي الاستمرار، فلا يعقل أن تخلو الأرض من الحق، لا يعقل أن تخلو الأرض من الهدى، لا يعقل أن تخلو الأرض من خطاب السماء، بطولتك أيها الإنسان أن تصل إلى خطاب السماء، أن تصل إلى هدى الله عزَّ وجل، أن تصل إلى ما أنزله الله على الأنبياء والمرسلين، إذاً لا يُتَّبَع إلا الرسل الذين جاءهم الوحي من عند الله، هذا بادئ ذي بدء.
2 ـ اتباع العلماء العالمين بشرع الله:
من هم العلماء؟ هم الذين نابوا عن الرسل في تبليغ الحق، العالم ليس له وجود إلاّ أن يَشِفُّ عن شريعة الله، يشف عن رسالة الأنبياء، ثم ينقُل لك بأمانةٍ، وهي قد سُمّيت أمانة التبيين، أمانة التبليغ ينقل لك بأمانةٍ ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام، إذاً قال تعالى:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ
خالق الكون ينهاك عن أن تتبع إنساناً تائهاً، إنساناً شارداً، إنساناً ضالاً، إنساناً غافلاً
﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ
3 ـ أهمُّ رجلٍ في الحياة هو الذي يدلّك على الله:
بالمناسبة أيها الإخوة، نحن كوننا أشخاص في حياتنا رجال كثيرون، في حياة كل واحد منكم آلاف الرجال، رجل علّمهُ تعليماً عصرياً، رجل علّمه رياضيَّات، رجل علّمه فيزياء، رجل علّمه لُغة، إنسان خاط لك الثياب، إنسان عالجك من المرض، ففي حياتك آلاف الرجال، لكن أخطر رجل في حياتك هو الذي يدلُّك على الله، لأن هؤلاء الرجال مهما كثروا تنتهي مهمَّتهم عند الموت، الذي خاط لك الثياب تنتهي مهمته عند انتهاء الخياطة، الذي عالج زيداً من مرضه تنتهي مهمته عند موت الإنسان، فعند الموت تنتهي مهمة كل الرجال الذين كانوا في حياتك، إلا رجلاً واحدًا هو الذي دلَّك على الله، فآثار هدايته تبدأ بعد الموت.
فأخطر إنسان في حياتك هو الإنسان الذي تهتدي به إلى الله، فإن كان على حق فقد نجحت وأفلحت، وإن كان على باطل، وإن توهمت أنه على حق، وهو ليس على حق فقد ضحّيت بسعادتك الأبدية.
لذلك الوقفة هنا عند الاتباع، فلا يُتَّبع إلا الخبير، والله وحده هو الخبير، لا يُتَّبع إلا الخالق، لا يُتَّبع في الآلات إلا الصانع، والخالق جلَّ جلاله أنزل كتباً على رسله، ونحن أمة خاتم النبيين، وهذا الكتاب هو كتاب الله عزَّ وجل، إذاً الاتباع للنبي عليه الصلاة والسلام، ولمن يَشِفُّ عن دعوة النبي بأمانةٍ مطلقة.
4 ـ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ
إلى الله، سبيل الرشاد قالوا: سبيل الهدى، وقالوا: سبيل الجنة، لأن الجنة هي مطمح الآمال، ومحط الرحال، ومبتغى كل كائنٍ حي.
﴿
يجب أن تدعو على بصيرة، أو أن تتلقى العلم على بصيرة، والبصيرة الدليل والتعليل، هذا الشيء حرام، وهذه الآية، وهذا الحديث، وهذا الشيء حلال وهذه الآية وهذا الحديث، لأن الله عزَّ وجل يقول:
﴿
إلى مَن تُردُّ أحكام النزاعات ؟
﴿
يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ
1 ـ الدنيا متاعٌ عابر زائل:
فالمتاع الشيء الطارئ، الشيء العابر، الشيء الذي ليس له أثر، لو أن إنسانًا فرضاً قام بنزهة، وسُرَّ بها، لكن هذه النزهة ليس لها مردود في المستقبل، أما لو حَصَّل شهادة عليا، بهذه الشهادة يستفيد، لو أسس عملاً، بهذا العمل يستفيد، هناك أعمال لا مردود لها، هناك أعمال لا أثر لها، أثرها معدوم، فالدنيا متاع، أيْ لذةٌ عابرةٌ تنقضي، كما وُصِفَت: "الدنيا تغر وتضر وتمر" لذةٌ عابرة نهانا الله عزَّ وجل عن أن نغتر بها، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ
معنى:
﴿
الله عزَّ وجل أثبت لأهل الدنيا أنهم يعلمون ظاهرها، لأنّ الإنسان عندما يطَّلع على بعض مظاهر الترف، ومظاهر الدنيا عند أهل الدنيا، يأسِره ذوقهم، وأناقتهم ودقتهم، ومصنوعاتهم الراقية، الله عز وجل أثبت لاهل الدنيا أنهم يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ، لكن الله عزَّ وجل أثبت لهم ظاهرها، ولم يثبت لهم حقيقتها، فهم ما عرفوا حقيقة الدنيا.
2 ـ طبيعة الدنيا كبَد ومشقة:
حقيقة الدنيا أنها دار عمل، حقيقة الدنيا أنها دار إعداد، حقيقة الحياة الدنيا أنها دارٌ تُكتسب بها أهلية لسعادة أبدية، حقيقة الدنيا كما قيل: "إن هذه الدنيا دار التواء"، فلا تجد إنسانًا أموره تامة، لحكمةٍ بالغةٍ أرادها الله، عنده زوجةٌ ممتازة، لكنّ أولاده ليسوا على ما يرام، عنده أولاد أبرار وزوجته ليست على ما يرام، عنده زوجةٌ وأولاد قرة عين لكن دخله ليس على ما يرام، أو أنّ دخله جيد، وفي جسمه علةٌ تنغِّص حياته، لأن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى الدنيا أن تكدري، وتمرري، وتضيقي، وتشددي على أوليائي حتى يحبوا لقائي، أما الكافر فقد رضي بالحياة الدنيا، واطمأن لها، وهو عن آيات ربه معرض.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ(7)﴾
أخطر شيء في الدنيا أن تركن إليها، أن تستمرئها، أن تخلد إليها، أن تحبها، أن تؤثرها على طاعة الله عزَّ وجل، لذلك قيل: "إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء، ومنزل ترحٍ لا منزل فرح" مشحونة بالمتاعب، مشحونة بالمصائب، مشحونة بالامتحانات، مشحونة بالبلاء، أساس الدنيا قائم على السعي، أساس الدنيا قائم على الكدح.
﴿ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ(6)﴾
فمن أجل أن يصل الشاب إلى بيتٍ صغير، وإلى زوجةٍ متوسطة الحال، وإلى دخلٍ يكفيه نصف الشهر، يعاني الأمرّين، هذه الدنيا مبنية على الكدح.
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(4)﴾
أيْ أنَّ طبيعةَ الحياة فيها تَكَبُّد المشاق.
أنا أذكر حقائق الدنيا:
الضغوط على الإنسان تؤثر على قلبه، وأكثر أمراض القلب أساسها الضغط النفسي، لكن الحياة أمدها قصير، الإعداد لها أكبر بكثير من أمدها، إذاً الدنيا فيها كدح، الدنيا فيها تكبُّد، الدنيا مبنية على السعي، أما الآخرة:
﴿ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ
الآخرة مبنية على العطاء بالطلب فقط، اطلب تُعطَ، وإلى أبد الآبدين، لا فقر فيها، ولا مرض فيها، ولا قلق فيها، ولا موت فيها، ولا مشاحنة زوجية، ولا دخل قليل، ولا تجارة بائرة، ولا بضاعة كاسدة، ولا ظلامات، سعادةٌ ما بعدها سعادة:
(( أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. ))
هذه الآخرة، لذلك الدنيا:
كم من إنسان أشاد بيتاً لا يوصف بروعته، وما سكنه؟ كم من إنسان حصَّل شهادةً، ولم ينتفع بها؟ كم من إنسان سافر ولم يعد؟ كم من إنسان دخل بيته ولم يخرج؟ نام ولم يستيقظ، تزوَّج ولم يدخل، نال شهادة ولم ينتفع بها، الدنيا تأخذ الإنسان على حين غِرَّة، لذلك معظم الناس ضحكت عليهم الدنيا، وأما المؤمن فقد ضحك عليها، عرف قيمتها، وعرف شأنها، وعرف قصر أمدها، وعرف أنها زائلة، وأنها عابرة، وأنها مؤقَّتة، وعاش كمسافرٍ استظل بشجرة، وعما قليل يرحل، فإذا عرف الإنسان أن الدنيا قصيرة سعد بها، إذا عرفها أنها مديدة، وأنها هي كل شيء شقي بها، وهكذا قال علي رضي الله عنه: "إن أسعد الناس بها أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها"
وقيل:
إنَّ أروع ما في حياة المؤمن أنه عرف حقيقة الدنيا، الدنيا للعمل الصالح، إن عرفت الله بها، وعملت الصالحات، لا تندم على مغادرتها، لأن الله عزَّ وجل قال:
﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى
لا خوف عليه لمَا هو قادمٌ عليه، ولا يحزن على ما فاته منها، وقد وُصف الصديق رضي الله عنه بأنه لم يندم على شيءٍ فاته من الدنيا قط.
أنت مؤمن يجب أن تعرف حقيقة الدنيا؛ لئلا تغترَّ بها، لئلا تظنها بحجمٍ أكبر من حجمها، فأنا أروي قصة تقليدية تعبِّر عن حقيقة الدنيا: إنسان كان يعمل في محل تجاري، وكان يحب إزعاج الآخرين، فكان يكنس هذا المحل، ويضع قمامته في عُلبة أنيقة ويلفها لفة رائعة بأوراق هدايا، وشريط أحمر، ويضعها على الرصيف، فيأتِي مارٌّ يظنها شيئاً ثميناً، يظنها تحوي قطعة ذهبية أو ساعة، أو قِطعة ثمينة، فيأخذها، ويمضي بها مسرعاً، وهو يتبعه، بعد مئة مترٍ يَفُكُّ الشريط الحريري، بعد مائة مترٍ أخرى يفك الورق الأنيق، ثم يفتح ليرى الساعة الذهبية فإذا هي قُمامة المحل التجاري.
والله هذه الحكاية تنطبق على الدنيا أشد الانطباق، في بدايات الحياة يظن الإنسان أن المال هو كل شيء، يسعى له بأي طريق، بأي أسلوب، من طريق مشروع أو غير مشروع، في وسط حياته، وفي كهولة الحياة يرى المال شيئاً، ولكن ليس كل شيء، أما إذا اقترب من النهاية يراه ليس بشيء، ويرى طاعة الله هي كل شيء، فالبطولة هذه الرؤية الأخيرة أن تراها في مقتبل الحياة، وعند الموت ترى الحقيقة.
3 ـ لابد من الإيمان في الوقت المناسب:
وأنا أردِّد دائماً أيها الإخوة: علاقتك بالإيمان، أو مقولة الإيمان، أو معادلة الإيمان ليست أن تؤمن أو ألاّ تؤمن، معادلة الإيمان متى تؤمن؟ معادلة وقت، وليست معادلة قبول أو رفض، متى تؤمن؟ لا بد من أن تؤمن، ففرعون آمن، فرعون أسلم:
﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ۖ
لكن بعد فوات الأوان، إذاً كلنا سوف نؤمن، ما أتعس الذي يؤمن على فراش الموت، ما أتعس الذي يؤمن بعد الموت، ما أتعس الذي:
﴿ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)﴾
ما أتعس الذي يعض على يديه.
﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا(27)﴾
ما أتعس الذي:
﴿ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه(25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه(26) يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ(27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه(28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه(29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32) إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)﴾
4 ـ لابد من معرفة حقيقة الدنيا:
فيا أيها الإخوة الكرام، مؤمن فرعون عرف حقيقة الدنيا، وأنتم أيها المؤمنون لا بد من أن تعرفوا حقيقة الدنيا؛ لِئَلّا تجذبكم إليها، لئلا تستهلككم، لئلا تحتويكم، لئلا يصبح الإنسان في الدنيا مستَهْلَكًا، معظم الناس يستيقظ، يأكل، ثم يذهب إلى عمله، ثم يعود لينام، وتعود الكرة، يستيقظ، يأكل، إلى أن تأتيه مشكلة في صحته، قاضية، عناية مشددة، عظَّم الله أجركم، قضى ومات، الله يرحمه، لكن لِمَ كان هذا غافلاً؟ أين معرفته بالله، يقول لك: لا وقت لي، احضُرْ هذا المجلس، فيجيبك: والله ليس عندي وقت، أنا مثقل بالأعمال، إنسان ناجح بعمله جداً، هذا يسير بطريق مسدود، كل الذي يُجَمِّعُهُ في الدنيا يتركه عند الموت، وهناك أدلة كثيرة جداً.
الأغنياء الكبار حينما يموتون ماذا يأخذون معهم؟ انظر إلى بيتٍ رائع أنشأه رجل، ومات، وغادر الدنيا، أين هو الآن؟ تحت الثرى، تحت التراب، هذا البيت يستمتع به أهله.
أيها الإخوة الكرام، ينبغي أن تضحكوا على الدنيا، لا أن تضحك عليكم الدنيا، والإنسان حينما يأتي إلى الدنيا أهله يفرحون، ويزغردون ويحتفلون، وهو يبكي، أكثر وقت الطفل الصغير يبكي، تارةً يريد طعاماً، تارةً يكون مريضاً، تارةً يريد أن ينظَّف، هو يبكي دائماً، وأهله فرحون، لكن حينما يأتيه ملك الموت أهله يبكون، فإذا كان بطلاً يضحك في هذه الساعة، إذا كان قد عرف الله في حياته، وأعد لهذا اليوم عُدَّتَهُ، وعمل الأعمال الصالحة، عندئذٍ يضحك، فبطولة الإنسان أن يضحك حينما يبكي من حوله، أما أن يبكي ومن حوله يضحكون فهذا شيء طبيعي، أما البطولة أن تضحك ومن حولك يبكي.
﴿ قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)﴾
هذه السعادة الكبرى أن تغادر الدنيا، وقد رضي الله عنك، أن تغادر الدنيا، وقد عرفت الله في الدنيا، أن تغادر الدنيا، وقد أطعت الله في الدنيا، أن تغادر الدنيا، وقد سَخَّرْتَ حظوظ الدنيا لطاعة الله عزَّ وجل، أعطاك الله صحة أطعت الله بها، أعطاك مالاً أنفقته في سبيل الله، أعطاك علماً بذلته، أعطاك وجاهةً أنفقتها في نصرة الضعيف.
إذاً: دققوا عند حقيقة الدنيا، فالمؤمن الحق ينبغي أن يعرف حقيقة الدنيا.
مؤمن آل فرعون قال:
وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ
المستقَرُّ، مَحَطُّ الآمال، منتهى الرغائب، حيث لا قلق، ولا خوف، ولا حُزن
الدخول في وعد الله من أسباب السعادة:
سألني مرة أخ: كيف تقول: إن المؤمن سعيد في الدنيا، وهو يعاني كما يعاني كل الناس فيها؟ كل شيء يعانيه الناس فالمؤمن يعاني مثلهم، فمن أين له هذه السعادة؟ ضربت له مثلاً وقلت له: لو أن إنساناً فقيراً جداً، فقره مُدقِع، عنده أولادٌ كثيرون، دخله قليلٌ جداً، بيته بالأجرة، عليه دعوة إخلاء، له عمٌّ يملك أكثر من سبعمائة مليون، وهو قابضٌ يده، وليس له أولاد، وتوفي هذا العم في حادث سير فجأةً، أليست كل هذه الثروة الطائلة لعمه ستنتقل إليه؟ نعم، قبل أن يقبض أي مبلغ قد يمضي سنة أو سنتين في إجراء معاملات حصر الإرث وضريبة التركات، لماذا في هذين العامين يكون من أسعد الناس، مع أنه لم يقبض قرشاً واحداً، ولم يأكل أكلةً واحدةً زيادة عن وضعه السابق؟ لأنه دخل في الوعد، إذْ شعر بأن هذا الوعد العظيم، أن يملك سبعمائة مليون، فهذا الوعد يمتص كل متاعب السنتَين، كلما رأى بيتاً فخمًا يقول سأشتري مثل هذا البيت، سأقتني مثل هذه المركبة، سأفعل كذلك.
المؤمن كذلك بصراحة فهو يعاني ما يعانيه الناس، وهو مواطن مع المواطنين، كائن مع هؤلاء الذين حوله، لكن المؤمن وعدَه الله بالجنة، هذا الوعد العظيم من خالق الكون يمتصُّ كل متاعب الحياة، يقول لك: لن تطول الحياة، وعْدَ الله عزَّ وجل، قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
إذاً: في الدنيا أحد أسباب السعادة فيها الانصراف عنها، أحد أسباب السعادة في الدنيا أن المؤمن موعود من قِبَل الله عزَّ وجل بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، أحد أسباب السعادة في الدنيا أنه يطبِّق منهج الله، يطبق تعليمات الصانع، ليس لديه مشكلات:
﴿
لأن الله عزَّ وجل حينما خلق الدنيا خلق لها نظاماً، فغضُّ بصره يسعده في البيت، صدقه وأمانته يرفعانه عند الناس، فكل طاعة لله عزَّ وجل فيها بذور نتائجها، وكل معصية فيها بذور نتائجها، إذاً: أحد أسباب السعادة في الدنيا تطبيق منهج الله، تحقيق وعد الله عزَّ وجل، انصراف الإنسان عن الدنيا، وهذا مما يسعده في الدنيا.
﴿
مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا
هنا تطالعنا نقطة دقيقة جداً، أيْ أنّك إذا اعتقدت أن كل سيئةٍ تعملها لا بد من أن تُعاقَب عليها فإذا اعتقدت ذلك فلن تعمل سيئة.
فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ
معنى بغير حساب؛ أي مهما بذلت من عمل صالح في الدنيا فليس هذا العمل ثمن جنة، العمل الصالح في الدنيا ليس ثمن الجنة، ولكنه مفتاح الجنة.
من الممكن أنّ بيتًا ثمنه ثلاثون مليوناً يكون ثمن مفتاحه ست عشرة ليرة، ثلاثون مـليوناً ثمن البيت، وست عشرة ليرة ثمن مفتاحه، فكل أعمالك الصالحة ليست ثمناً للجنة، ولكنها سبب لدخول الجنة، فرقٌ بين أن تملك المفتاح، وهو السبب وبين أن تملك الثمن، لذلك عطاء الله لا يُقدَّر بثمن، عطاء خالق الكون، خالق الكون إذا أعطى أدهش، فالإنسان يعطيك شيئًا ينتهي عند الموت، لذلك فالله عزَّ وجل لم يسمِّ عطاء الدنيا عطاءً، قال:
﴿ فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ(15)﴾
هذه مقولته، ليس هذا هو الإكرام.
﴿
ربنا عزَّ وجل نفى هذا المعنى، وردعنا عنه، كَلا، ليس عطائي إكراماً، إنه ابتلاء، وليس حرماني إهانةً، إنه دواء، فالإنسان إذا رأى أهل الدنيا وهم ينعمون في دنياهم، وظن أنه محروم فهو لا يعلم شيئاً، لأن الله يعطي الدنيا لمن يحب، ولمن لا يحب، أعطى المُلْك لعدوه فرعون، وأعطاه لسليمان نبيه الكريم، إذاً عطاء الدنيا ليس مقياساً، أعطى المال لصحابةٍ أجلاَّء، وأعطاه لقارون، إذاً عطاء الدنيا ليس مقياساً، يعطي الدنيا لمن يحب، ولمن لا يحب، ولكِنَّه يعطي العلم والحكمة لمن يحب.
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(22)﴾
فأنت ابحث عن شيء ثمين، إن نلته من الله كان هذا الشيء علامة حب الله لك.
إذاً:
انظر إلى صغر ما قدمت، ثم انظر إلى عظم الأجر والجزاء:
فمن يعرض عليك هذا العرض: هات ليرة واحدة وخذ مليارًا؟ هذا العطاء ليس معقولاً، وهذا شيء قليل أيضاً، ماذا قدمت أنت؟ عشت عدة سنوات غضضت فيهن بصرك عن محارم الله، حضرت مجالس العلم، صليت، صمت، وحججت، تزوجت، وأكلت، وشربت، ولكن كنت وفق الشرع، فهذا الانضباط، وهذه الطاعة التي استمرت لسنواتٍ معدودة أورثتك جنةً عرضها السماوات والأرض إلى أبد الآبدين:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا(20)﴾
﴿ فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(17)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيه(19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيه(20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ(24)﴾
هذه البطولة.
والله أيها الإخوة، من عرف حقيقة الدنيا عمل ليلاً ونهاراً أعمالاً صالحةً يرجو بها رحمة الله، من عرف حقيقة الدنيا ما غفل عن الله لحظة، من عرف حقيقة الدنيا فإنه يستوي عنده التِّبْرُ والتراب، فإذا كان المؤمن آمنًا في سربه، معافىً في جسمه، عنده قوت يومه، فكأنما مَلَك الدنيا بحذافيرها، ماذا في الدنيا فوق ذلك؟ أن تكون آمناً من قبل الله عزَّ وجل، لا ترتكب معصيةً تستوجب عقاب الله، وتكون معافىً في جسمك، وعندك قوت يومك، فكأنما ملكت الدنيا بحذافيرها.
أحد الملوك ذات مرة سأل وزيره: مَن الملك؟ الوزير أُحرِج واضطرب، ما هذا السؤال؟ يسأل الملك مَن هو الملك؟ فقال له: أنت الملك، قال له:
فكل مؤمن عرف الله، وعرف منهجه، وطبق منهجه في بيته، فهو والله من ملوك الآخرة، هذا الملك، هذا المُلك الحقيقي، لأنه لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف.
فلو شاهدت عيناك من حـسننــا الذي رأوه لما وليت عنا لـغيرنـا
ولو سمعت أذناك حسن خطابنا خلعت عنك ثياب العجب و جئتنا
ولو ذقت من طعم المحبــة ذرةً عذرت الذي أضحى قتيلاً بـحبنـا
ولو نسمَتْ من قربنا لك نسمـةٌ لَمِتَّ غريبـــــاً واشتيقـــاً لقربنـــا
ولو ذقت من طعم المحبـة ذرةً عذرت الذي أضحى قتيــلاً بحبنـا
المؤمن التقي لا يشيخ:
يا إخوان، الدنيا والله مملة، والإنسان ينتهي بها إلى السأم والضَجَر، يقول لك: مللت، أحياناً تجلس مع واحد متقدم بالسن، تحس بالملل يلفّحه من كل جانب، يشعر أن حياته غدت هامشية، أما المؤمن فإنه لا يشيخ أبداً، هو شابٌ دائماً إلى أن يأتيه الأجل، لأن هدفه كبير، تجده في السبعين والثمانين شاباً.
أحد العلماء في مصر بلغ مائة وثلاثين سنة، وهو بأعلى درجة من ملكاته العقلية والذهنية، عالم جليل في الشام تخرّج من تحت يده أربعة أجيال، كان يقول للطالب: أنت طالبي، وكان أبوك تلميذي، وجدك تلميذي، مات في السابعة والتسعين، وهو بأعلى درجة من النشاط، منتصب القامة، حاد البصر، مرهف السمع، أسنانه في فمه، يا سيدي، ما هذه الصحة؟ يقول:
والله إنّ المؤمن له شيخوخة تحتار بها العقول، يزداد مكانة، يزداد وعيًا، يزداد إدراكًا؛ والعياذ بالله إذا أمضى الإنسان شبابه في معصية الله فيُردّ إلى أرذل العمر، تجد أهله يضيقون به ذرعاً، ظله ثقيل، يعافه الناس، ينفَضُّون من حوله
يا أيها الإخوة الكرام، حينما تتعرفون إلى الله عزَّ وجل، وتلتزمون أمره ونهيه، ضمنتم سعادة الدنيا والآخرة.
﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ
فاز.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ
اركلوها بأقدامكم، إنسان من أجل المال يعصي الله عزَّ وجل؟! لا خير في دنيا جاءت على معصية الله، المؤمن كما أقول لكم: يستوي عنده التبر والتراب، أيْ أنّ مائة مليون تقدَّم إليه مع شبهة يركلها بقدمه.
والله أخ من إخواننا لا أعرفه، ولكنه أعطاني ورقة، قال لي: سمعت درس الأمانة بجامع العثمان قبلِ سنة، وبيدي عشرون مليون لجهة، وتوفي صاحبُ هذا المبلغ، ولم يُعلِم أهله بهذا المبلغ، فذهبت ونقدته للورثة إرضاءً لله عزَّ وجل، هذا المؤمن يستوي عنده المائة مليون مع الليرة، المبلغان كبيره وصغيره سيّان في جنب طاعة الله عزَّ وجل.
إذًا: القضية قضية خطيرة جداً، مصير أبدي، فالإنسان إذا اصطلح مع الله شعر بسعادة كبرى، دخل في السلام؛ في علاقاته مع ربه دخل بالسلام، في علاقاته مع من حوله دخل بالسلام، وحياة المؤمن سلامٌ في سلام. هذا معنى قوله تعالى:
في الدرس القادم إن شاء الله تعالى نفسّر قوله:
﴿ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41)﴾
دعوة إلى النجاة ودعوة إلى النار:
احذروا الدعوة إلى جهنم:
هناك دعوتان، دعوةٌ إلى النجاة من قِبَلِ أهل الحق، ودعوةٌ إلى النار من قبل أهل الدنيا، فإذا قال لك واحد: ضعها برقبتي، غب من الدنيا بقدر ما تقدر -هذه دعوة لجهنم- أطلق بصرك، تمتع بالحياة، دعوة إلى جهنم، خذ المال ولا يهمك، حلال على الشاطر -هذه دعوة إلى النار- آلاف التوجيهات يلقيها الناس بعضُهم على بعضٍ كلها دعوةٌ إلى النار، يقول له: ما زلت صغيراً، التفت إلى شبابك، تمتع بالحياة، دعوة إلى النار، فانتبه هناك دعوةٌ إلى الجنة، وهناك دعوة إلى النار.
إذا: دُعيت إلى أكل المال الحرام فهي دعوةٌ إلى النار، إذا دعيت إلى اقتناص الشهوات من أي طريق فهي دعوةٌ إلى النار، إذا دعيت إلى معصيةٍ فهي دعوةٌ إلى النار، إذا دُعيت إلى الدنيا والانغماس بها فهي دعوةٌ إلى النار.
إذا دعيت إلى معرفة الله، فهي دعوةٌ إلى النجاة أولاً، ثم إلى السعادة ثانياً، إذا دعيت إلى طاعة الله، إذا دعيت إلى أن تقف عند حدود الله، إذا نُهِيَت عن عملٍ سيِّئ، إذا نهيت عن كسبٍ حرامٍ، إذا نُهِيت عن تجاوزٍ للحدود، فانتبه هناك دعوة إلى النار، وهناك دعوة إلى الجنة، دعوةٌ إلى النجاة، ودعوة إلى الهلاك، دعوة إلى السعادة، دعوة إلى الشقاء، وأنت بين دعوتين، ولحكمةٍ بالغةٍ جعل الله الدعاة من الصنفين متوافرين في كلِّ مكان.
لا تدقق هذه الكلمة البسيطة: (لا تدقق) دعوةٌ إلى جهنم، لمَ لا أدقق؟
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92)عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
يقول لك: الله غفور رحيم.
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8)﴾
اعلم أن الحساب بالذرات، وهذه آيات قرآنية، فأية دعوة إلى التفلُّت، إلى التساهل، إلى كسب المال غير المشروع، إلى اقتناص الشهوات هي دعوة إلى جهنم، يقول لك: يا أخي نحن هكذا ربينا، يقول لك: سيفرق العائلة، لكن أخت زوجته حرام عليه، وزوجة أخيه حرام عليه، فهي أجنبية بالنسبة له، يقول: هكذا نشأنا، وهكذا أبي علَّمنا، فهل أبوك نبي؟ أبوك شخص من عامة الناس، قد يكون مخطئاً، هناك شرع لله عزَّ وجل، هناك دعوةٌ إلى النار، وهناك دعوةٌ إلى الجنة، هناك دعوةٌ إلى الهلاك، وهناك دعوةٌ إلى النجاة.
إنّ الإنسان إذا تعفف عن دخل حرام يَعتَبِرهُ الناس مجنوناً، ويقولون له: فرصة سنحت لك اغتنمها وخذها، حرام، المال غير مشروع، يُتهم الورعُ بعقله بآخر الزمان، لذلك:
(( بدأ الإسلامُ غريبًا وسيعودُ غريبًا كما بدأ فطُوبِى للغرباءِ، وفي روايةٍ قيل يا رسولَ اللهِ: مَن الغرباءُ؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناسُ، وفي لفظٍ آخرَ قال: هم الذين يُصلِحون ما أفسد الناسُ من سنتي. ))
هذا معنى الآية:
﴿ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ(41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ(42)﴾
والحمد لله رب العالمين.