- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (040)سورة غافر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس العاشر من سورة غافر، ومع الآية التاسعة والعشرين، ولكن قبل أن نمضي في الحديث عن الآية التاسعة والعشرين، لا بد من وقفة قصيرةٍ مرةً ثانية عند قوله تعالى:
﴿
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
1 ـ كتمان للإيمان:
الله سبحانه وتعالى وصف هذا المؤمن بأنه يكتُمُ إيمانه، والإنسان قد يكتم إيمانه من خلال ثيابه، فيرتدي ثياباً عادية، وقد يكتم إيمانه من خلال سكوته أحياناً، من خلال أثاث بيته، أو أثاث مكتبه، فهناك مظاهر إسلامية، وهناك بيت لا يوجد فيه أي مظهر إسلامي، تجد مكتباً أو محلاً فيه آيات وأحاديث، وتجد مكتباً آخر أو محلاً لا يوجد فيه أي مظهر إسلامي، فكتمان الإيمان يكون تارةً بالسكوت، وتارةً بالثياب، وتارةً بوضع مقر العمل، أو مقر السكنى من دون أي مظهر، هذا كتمان للإيمان.
على كلٍّ، هذا المؤمن هل كتم إيمانه إلى ما لا نهاية؟ لا لم يكتم إيمانه أبدًا، بلْ صرَّح بإيمانه وأظهره.
2 ـ متى ينبغي أن نكتم الإيمان، ومتى ينبغي أن نجهر به ؟
إن الإنسان إذا كتم إيمانه إلى ما لانهاية فأين إيمانه؟ وما قيمة إيمانه؟ هناك من يقول: أنا مسلم من ثلاثين عامًا، أو من خمسين عامًا، بعض النصارى أحياناً يقولون: نحن مسلمون، فلمَ لم تظهر إيمانك؟ لا بد من إظهار الإيمان، هذا الذي يعمل من دين آخر كيف يستطيع أن يهدي الآخرين؟ أن يدفع الآخرين إلى الإيمان؟
إذاً: هذا المؤمن مؤمن آل فرعون كتم إيمانه في مرحلة، ثم أعلن عن إيمانه في مرحلةٍ أخرى، فإذا كان كتمان الإيمان يجر الإنسان إلى معصيةٍ فينبغي أن يظهر إيمانه، وإذا كان كتمان الإيمان يجره إلى تضييع حقٍ فينبغي أن يظهر إيمانه، إذا كان كتمان الإيمان يؤدي به إلى اقتراف معصية ينبغي أن يظهر إيمانه؛ أما إذا كان إظهار الإيمان يسبِّب لك متاعب كثيرة من دون أن تحرز أية مكاسب فلا داعي لإظهاره.
ففي مجال العمل أحياناً لو أظهرت إيمانك ما كسبت شيئاً، على العكس قد يجرّ ذلك إلى متاعب لا نهاية لها، فنحن نكتم إيماننا حينما لا يكون في إظهار الإيمان أي ثمن أو أي مكسب، أما إذا كان كتمان الإيمان يؤدِّي إلى معصيةٍ، أو إلى انحرافٍ، أو إلى هضم حقٍ، أو إلى مجاراة مُبطِلٍ، أو إلى مداراة مبتِدعٍ، أو إلى تطمين منحرفٍ، هذا ليس كتمان إيمان، بل هذا عدم إيمان، الإيمان لا بد من أن يظهر.
كل إنسان مؤمن لا بد من أن يظهر إيمانه بشكلٍ أو بآخر، من خلال حركاته، من سكناته، من بيته، من عمله، من علاقاته، من ورعه، من غض بصره، من صدق لسانه، من نعومته، لا بد من إظهار الإيمان، ولكن أحياناً الإنسان يظهر إيمانه دون أن يكسب شيئاً، على العكس يدفع ثمنه باهظاً، فلا داعي حينها؛ فإذا كان الإنسان منكر، بعيد عن الدين بعد الأرض عن السماء، ولو علم أنك على شيء من التدين لأقام عليك الدنيا ولم يقعدها، لا مانع أن تظهر إيمانك دونك أن تحقق أي مكسب، اما لو أن كتمان الإيمان أدى بك إلى هضم حق، أو إلى إقرار باطل، أو إلى تشجيع مبتدع، أو إلى الانسياق إلى معصية عندئذ لا بد من أن يظهر الإيمان.
إذاً: هذا المؤمن، مؤمن آل فرعون، كتم إيمانه في بادئ الأمر، فلما رأى أن فرعون سيتَّجه إلى قتل موسى هل بقي ساكتاً؟ عندئذٍ لم يسكت، وأعلن عن إيمانه، إذاً أن تتكتم على إسلامك وإيمانك إلى ما لانهاية، وأن يكون كتمان إيمانك سببًا لاقتراف معصيةٍ، لترك صلاةٍ، لمماراة مبتدعٍ، لمصانعة قويٍ، لمداهنةٍ، لهضم حقٍ، لعدوانٍ على حقوقٍ أخرى، لئلا يظهر أنني مؤمن سأفعل كذا، لا، فمؤمن آل فرعون في بادئ الأمر كتم إيمانه، ثم لم يلبث أن أظهر إيمانه.
سُقْتُ هذا الكلام لأنك تستمع أحياناً كثيرة إلى رجل من دينٍ آخر يقول لك: أنا من ثمانين عاماً مسلم، كنت أخاف أن أعلن إسلامي فيقوم علي بنو قومي، هذا كلام غير مقبول، لأن بعض العلماء قال: إن لم تبدِ إيمانك فلست مؤمناً، ومن علامة الإيمان أن تنطق بالشهادة، أن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، الحق وسط بين طرفين، أن تمضي إلى ما لا نهاية في كتمان الإيمان على حساب ورعك، على حساب فرائضك، على حساب واجباتك الدينية، على حساب إحقاق الحق، فمثلاً إذا كان هناك إنسان مظلوم مؤمن، وأنت مؤمن ومركزك قوي، لئلا يعرف الناس أنك مؤمن هذا الإنسان ظُلِم، وبقيت ساكتاً، كتمان الإيمان إذا أدى إلى معصية أو انحراف أو تقصير، أو ترك واجب، أو ممالأة قوي، أو مداهنة مبتدع، هذا الكتمان ليس مقبولاً، والدليل هذا المؤمن الكريم الذي وصفه الله عز وجل بأنه مؤمن وهو يكتم إيمانه حينما رأى أن فرعون سيقتل موسى بادر وأعلن إيمانه.
السكوت عن المنكر سبيل الهلاك:
لقد آمنت إذًا، وإذا أعلنت أنك لا تشرب الخمر لأن هذا محرَّم، لعلك تقوّي بعض الآخرين في مجال الإيمان، إذا قمت إلى الصلاة لعل كثيرين يقومون معك إلى الصلاة، أما إذا أنا سكتُّ، وهذا سكت وذاك سكت تُرٍكت الصلاة، ليس هذا المطلوب، قال تعالى:
﴿
سبب إهلاك بعض الأقوام أنهم:
﴿
خيرية هذه الأمة بأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المُنكر:
﴿ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)﴾
﴿ مِن دُونِهِ ۖ
تتعقّل إلى حد، وتتوكّل إلى حد، تتعقل وتكف عنك الأذى، ولا تسبب لنفسك متاعب لا حصر لها من دون أن تكسب شيئاً، التعبير الدقيق فلا داعي لأن تسبب لنفسك متاعب لا حصر لها من دون أن تكسب شيئاً، ولا داعي أن تسكت عن إيمانك إلى درجة أنك تذوب في مجتمع الكفر، تذوب وينسى الناس أنك مسلم، كلما تجاوزوا حدودهم معك سكتَّ لئلا يُعرَف أنك مسلم، لا.
أردت من هذا التعليق أن يقف المؤمن موقفاً متوازناً، متى ينبغي أن يظهر إيمانه، ومتى ينبغي أن يكتم إيمانه، إذا كان في إظهار إيمانه متاعب لا حصر لها دون أن يكسب شيئاً إطلاقاً، دون أن يُحِقَّ حقاً، دون أن يُبْطِلَ باطلاً، دون أن يهدي إنساناً، دون أن يُزيل منكراً، دون أن يأمر بمعروف، دون أن ينهى عن منكر إطلاقاً، فلا يوجد أي مكسب، لكن بإظهار الإيمان ربما وقعت بإشكالات لا حصر لها، وقد قيل: "ليس بحكيم من لم يدارِ من لا بد من مداراته".
(( إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، الصَّبْرُ فِيهِ مِثْلُ قَبْضٍ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِمْ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِهِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْهُمْ؟ قَالَ: أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ. ))
هذا مقياس دقيق.
إذاً: كتمان الإيمان مقبول إذا كان في إظهار الإيمان متاعب دون تحقيق مكاسب، وكتمان الإيمان مرفوضٌ إذا جَرَّ إلى معصيةٍ، أو مداهنةٍ، أو معاونةٍ، أو تضييع حقٍ، أو ترويج بدعةٍ، أو توقير منحرفٍ، إذا أدَّى الكتمان إلى السلبيات فلا خير في كتمان الإيمان، وأكبر شاهد هذا الرجل المؤمن الذي ذكره الله عزَّ وجل في القرآن الكريم، إذ كتم إيمانه في مرحلة، فلما رأى خطراً يتهدد هذا النبي الكريم انطلق، وأفصح عن إيمانه، ولم يبقَ إيمانه في حَيِّز الكتمان.
إذاً: دائماً الحق وسط بين طرفين، التطرُّف الأول أن تكتم إيمانك إلى ما لا نهاية، إلى درجة أن الناس ينسوا أنك مسلم، كلما تجاوزوا حدودهم، وكلما ضغطوا عليه خنعت، ورضيت حفاظاً على كتمان إيمانك، فليس هذا من أمر الشريعة في شيء، الله سبحانه وتعالى قال:
﴿ وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139)﴾
وإذا كان الله معك فمن عليك؟
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79)﴾
لا تأخذك بالله لومة لائم.
﴿
الأمر إذا وصل إلى تضييع حق، إلى ترويج باطل، إلى دعم مبتدع، إلى توقير مُنحرف، إلى تعظيم مُلحد، إلى تضييع حق، لا خير في كتمان الإيمان عندها، أما إذا أعلنت إيمانك، وسببت لنفسك متاعب لا حصر لها من دون أن تكسب شيئاً إطلاقاً، ليس بحكيم من لم يدار من لا بد من مداراته، فالحكمة ضالة المؤمن، والمؤمن الصادق يهتدي إلى ربه، قال عليه الصلاة والسلام:
(( إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي. ))
صدقك في طلب رضوان الله عزَّ وجل يهديك إلى الطريق الصحيح، وحينما تتحرَّك وفق منهج الله، ووفق تعليمات النبي عليه الصلاة والسلام، فإن الله سبحانه وتعالى يتولَّى أمرك، ولا يضيُّعك، ولا يتركك، ولا يسلمك لخصومك.
مؤمن آل فرعون لكلماته معانٍ دقيقة، ولنُطقه عِظاتٌ بليغة، يقول:
﴿
يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا
1 ـ المؤمن لا خوفٌ عليه ولا هو يحزن:
المعنى الضمني: أن الإنسان إذا كان قويًا، إذا كان غنيًّا، إذا أكرمه الله عزَّ وجل بمنصب رفيع، أو بدخل كبير، أو بمكانة اجتماعية عالية، فهذا الشيء الذي تفَضَّلَ الله به عليه لن يدوم إلى الأبد، فلا بد من يومٍ يزول عن صاحبه.
ولكن المؤمن -هذه النقطة مهمة جداً- إذا آتاه الله شيئاً من الدنيا فحظه من الآخرة أوفر، المؤمن خَطُّهُ البياني في صعودٍ مستمر، حتى لو جاء الموت، هو ما بعد الموت أسعد منه مما قبل الموت، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
فالمؤمن لا خوفٌ عليه ولا هو يحزن، لا خوفٌ عليه مما هو قادمٌ عليه، ولا هو يحزن على ما فاته، لكن غير المؤمن
هنا نقطة دقيقة، القوي يموت، والغني يموت، والمنحرف يموت، والمستقيم يموت، فالموت يلغي كل شيء، يلغي غنى الغني، وفقر الفقير، وقوة القوي، وضعف الضعيف، وحكمة الحكيم، وصحة الصحيح، ومرض المريض.
(( بادِرُوا بالأعمالِ سبعًا؛ ما تنتظِرونَ إلَّا فقرًا مُنسِيًا، أوْ غِنًى مُطغِيًا، أوْ مرضًا مُفسِدًا، أوْ هَرَمًا مُفنِدًا، أوْ موْتًا مُجهِزًا، أوِ الدَّجَّالَ؛ فإنَّهُ شرُ مُنتظَرٍ، أوِ الساعةَ، والساعةُ أدْهَى وأمَرُّ. ))
اغتنموا، سابقوا، فماذا ينتظر أحدكم بعد الموت؟
2 ـ كسبتَ كلَّ شيء، ثم ماذا ؟
تقول مثلاً: مرة كانت بعض الدروس تدور على محور "ثم ماذا"؟ فأنت عملت عملاً عظيمًا، ونلت مبالغ طائلة، ثم ماذا؟ الموت بعد ذلك، سوف تُحاسَب عن كل ما فعلته، هذا المال من أين اكتسبته وفيمَ أنفقته؟ سوف تُحاسَب عليه، ولو بلغت أعلى منصب ثم ماذا؟ لابد من الموت بعدها، إنك ميتٌ وإنهم ميتون، ولو تمتّع الإنسان بكل مباهج الحياة، لم يدعْ شهوةً إلا ومارسها، لكن ثم ماذا؟ بعد ذلك الموت، لو تمتع بمجد رائع جداً، ثم ماذا؟ بعد ذلك الموت، لهذا قال عليه الصلاة والسلام:
هل تنتظرون إلا...
ماذا في الدنيا؟ انظروا إلى الناس، الإنسان في أول حياته له اهتمامات، اهتماماته مدرسية، بعد ذلك اهتمامات عمل، بعد ذلك زواج، بعد ذلك سكن، بعد ذلك تزويج أولاده وبناته، بعد ذلك صحة، بعد ذلك عظَّم الله أجركم، وهي مرحلة لا بد منها، الحياة تمضي، والإنسان يتحرك نحو مصيره المحتوم، ماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ يقول عليه الصلاة والسلام:
إذاً:
مؤمن آل فرعون أدرك أن الأمور تتحول، كل حالٍ يزول.
هناك ملِك قال لوزيره: قل لي كلمةً إن كنت فرحاً أحزن، وإن كنت حزناً أفرح، قال له:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا(1)﴾
يوم مفقود و يوم مشهود و يوم موعود و يوم مورود و يوم ممدود:
فقال:
فهذه إشارة دقيقة، أي أنتم يا آل فرعون لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض، لكن هل هذا الملك إلى ما شاء الله؟ لا، هناك موت، الحياة تنقطع وتنتهي، فإذا انقطعت الحياة، ولم نكن نعرف الله عزَّ وجل، وفعلنا ما فعلنا، وأكلنا ما أكلنا، وانتهكنا ما انتهكنا، واعتدينا ما اعتدينا، وجاء أمر الله عزَّ وجل ليحاسبنا عن كل صغيرةٍ وكبيرة.
فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا
﴿ بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)﴾
كلمة بالغة:
قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى
1 ـ الفراعنة كانت لهم حضارة:
2 ـ لا يكون الاتباع المطلق إلا للنبي عليه الصلاة والسلام:
الإنسان العاقل لا يمكن أن يكون مطية خطأ لإنسان، ولا يمكن أن يكون ضحيةً لإنسان، ليس على وجه الأرض إلا إنسان واحد يمكن أن تكون مُتّبعاً له، هو النبي عليه الصلاة والسلام لأنه نبي، ولأنه معصوم، ولأنه رسول، ولأنه لا ينطق عن الهوى، ولأنه من عند خالق الكون، ولأن الله أمرك أن تتبعه، وأمرك أن تنتهي عما عنه نهاك، والذين يعلّمون الناس من بعده إذا اتبعوا سنته وشفّوا عن حقيقته.
أي أننا إذا قلنا لك: اسمع كلام هذا المرشد، أو هذا العالم، أو هذا الداعية، لا يمكن أن يأتي من عنده بشيء، هو يشفُّ عن سنة رسول الله، فمن بعد النبي الصحابة والتابعون، والعلماء العاملون، والفقهاء والمحدثون، والدعاة والمرشدون، والمربون والأساتذة، هؤلاء الذين جاؤوا من بعد النبي عليه الصلاة والسلام، والذين ينوبون عن النبي صلى الله عليه وسلم في تبليغ الناس هؤلاء لا يستطيعون أن يأتوا من عندهم بشيء إطلاقاً، إنما أنا متبع، ولست بمبتدعٍ، والنبي عليه الصلاة والسلام هو المشرِّع، وهو الذي يُوحَى إليه، وهو المعصوم، إذاً أنت بإمكانك أن تتبع إنساناً واحداً وأنت مغمض العينين، ومع ذلك قال تعالى:
﴿
عَلَى بَصِيرَةٍ، لكنه معصوم ويُوحَى إليه، وقد أُمِرْنَا أن نتبعه بنص القرآن الكريم، أمّا أيُّ إنسان نقل لنا بأمانة سنة النبي علينا أن نتبعه، وهذا ليس اتباعاً له إنما هو اتباعٌ للنبي، فليس على وجه الأرض إنسان يمكن أن تتبعه لذاته، إن فعلت هذا كنت ضحيةً له، كنت أحد أخطائه.
ألم تسمعوا قصة أصحاب النبي عليهم رضوان الله، حيث أمَّر عليهم أحدهم، وأمَّرهم بسريةٍ بمهمةٍ، فلما غادروا المدينة تغاضبوا، ولحكمةٍ بالغةٍ بالغة كانت هذه القصة، فقال أميرهم
(( لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. ))
ماذا قال سيدنا الصديق؟ قال:
لا يزاد في الدين ولا يُنقص منه:
عندنا في حياتنا إنسان واحد يمكن أن نطيعه من دون مراجعة، هو النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه جاء بهذا القرآن، ولأن هذا القرآن فيه إعجاز، إذاً هو كلام الله، والله يأمرنا أن نتبعه، وهو المعصوم عن أن يخطئ في أقواله وأفعاله وأحواله، وأي إنسانٍ بعد النبي عليه الصلاة والسلام ينقل لك سنة النبي كما هي من دون زيادة أو نقصان، أو تحريف أو تأويل، أو تكلُّف، فعليك أن تطيعه، وحينما تطيعه أنت بالتأكيد لا تطيعه، ولكنك تطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعبارة بسيطة أقول: العلماء من بعد النبي يجب أن يكونوا كلوح الزجاج يشفّون عن سنة النبي، دون أن يكون لهم أي تدخل، لا بزيادة ولا بنقصان.
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ۚ ذَٰلِكُمْ فِسْقٌ ۗ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ
هكذا، بهذه الطريقة يستمر الإسلامُ كما بدأ، أما لو رأيت نهراً في منبعه صافيَ الماء، عذب الماء، ثم جاءته الروافد، إلى أن يصل في نهايته إلى مستوى يصبح الماء فيه أسود اللون، ولذلك نحن الآن نحتاج إلى أن نعود إلى ينابيع الدين، إلى أصل الدين، إلى الكتاب والسُنَّة، ولا نرضى إلاّ بإنسان متبعٍ للنبي عليه الصلاة والسلام يشفّ عن حقيقة النبي، وعن حقيقة الشرع، لأن الله عزَّ وجل يقول:
قال
(( يا ابن عمر، دينك، دينك، إنما هو لحمك ودمك، فانظر عمن تأخذ، خذ الدين عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا. ))
(( إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. ))
لا تقبل شيئاً إلا بالدليل من كتاب الله، وسنة رسوله، ولا ترفض شيئاً إلا بالدليل، اقبل بالدليل، وارفض بالدليل، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، إن كنت ناقلاً فالصحة، مُبتدعاً فالدليل، إذا فعلت شيئاً لم يفعله أحد قبلك فأنت مبتدع، هل لديك دليل على أن هذا العمل يقاس على عمل مشروع بالقياس أو بالإجماع؟ إن كنت ناقلاً فالصحة، إن كنت مبتدعاً فالدليل، عوّد نفسك أن تقبل الأشياء بأدلتها، فهذا الفكر إذا قبل الأشياء دون أدلة انطمست بصيرته، أما إذا ناقش الأدلة، صار إنساناً واعياً:
(( فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ))
ماذا يقول فرعون
يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟
فرد عليهم: ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟ من أنتم؟ نحن ليس لدينا إلا الله عز وجل ورسوله فقط، أكثر من ذلك لا يوجد عندنا،
يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند؟
أنت محور العالم؟ أنت مشرع؟ كأن يقال: هذه لم تعجبني، ومن أنت؟ هذه لم أقتنع بها، ومن أنت؟ هذه غير معقولة، فيها شرع إلهي، مثلاً إنسان سئل سؤال عن موضوع، فقال: هذا الموضوع لاينبغي أن يُطرح كسؤال، قيل: لماذا؟ لأن الله عز وجل أنزل فيه حكمه:
﴿
انتهى الأمر.
على الإنسان إلا يكون ضحية وخطيئة أحد:
يُستشَف من هذه الآية ألا يكون الإنسان ضحية لأحد، ألا يكون خطيئة أحد،
﴿ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَىٰ(79)﴾
﴿ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا ۗ
هذه متى عرفت؟ بعد فوات الأوان، تمشي مع إنسان يدعوك إلى معصية وترك الدين ومعاداة أهل الحق، ثم يأتي ملك الموت فإذا أنت الضحية، تقول: يارب فلان قال لي ذلك، يقال: أنت أين عقلك؟
﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(88 (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
نحن يا بني هكذا نشأنا وهكذا تربينا، اسمع كلامي لا تخطئ، ضعها على عاتقي، هذا كله كلام فارغ يجعلك ضحية لإنسان، خطأً لإنسان.
﴿
﴿
(( لا طاعَةَ لمخلوقٍ في مَعصيةِ الخالقِ ))
اجعل هذه الكلمة شعاراً لك،
كل إنسان أقوى منك وضغط عليك اعلم علم اليقين أن الله يمنعه منك، ولكنك إذا اتبعت توجيهه لا يمنعك من الله مهما بدا لك قوياً، الله لديه أمراض وبيلة تجعل حياة الإنسان جحيماً، ماذا نفعل؟ أمرك بيد الله، صحتك بيد الله، الدسامات بيد الله، الشريان الأبهر التاجي بيد الله عز وجل، الكليتان بيد الله؛ الفشل الكلوي مخيف جداً، ولا حلّ له، عملية زرع الكلية تكلف مليون ليرة على الأقل، ونسبة نجاحها 30%، الأمور كلها بيد الله عز وجل، دخلك بيد الله، عملك بيد الله، أهلك بيد الله.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
لذلك
﴿ قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ ۖ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَىٰ (71 (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72)﴾
انتهى الأمر، هذا هو المؤمن،
فالأساس
﴿
﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)﴾
هؤلاء الذين تحزّبوا على الأنبياء وقاموا لهم، وحاربوهم، وأخرجوهم، وكذبوهم، وسخروا منهم، وائتمروا على قتلهم، هؤلاء الأحزاب الذين تحزّبوا على الأنبياء صلوات الله عليهم هؤلاء مُنوا بهزيمة منكرة، وأهلكهم الله عز وجل، النبي عليه الصلاة والسلام في أعقاب معركة بدر خاطب القتلى من كفار قريش بأسمائهم:
(( عن أنس بن مالك أن رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عليهم فَنَادَاهُمْ، فَقالَ: يا أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ يا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ يا عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ يا شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُوا وَأنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمع لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ. ))
هذه الساعة عصيبة.
إياك أن تكون في خندق مُعادٍ لأهل الحق:
﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30)مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31)﴾
انظر دقة الآية، فالله عز وجل نفى عن نفسه إرادة الظلم، عندك إرادة وحدث، الإنسان أحياناً لا يظلم، ولكنه يريد أن يظلم إلا أنه لم يُتح له، لكن الله عز وجل
الإنسان العاقل لا يمكن أن يكون في خندق معاد للحق، إن فعل هذا فإنما هو يحارب الله ورسوله، لا يوجد أي داعٍ إلى النصر، تحارب الله! يُقاس على ذلك ألا يطعن الإنسان بالدعاة إلى الله، ولا ينتقصهم، ليبقَ بعيداً عن ذلك أفضل؛ لأن لحم العلماء مسموم، إنسان يستفيد منه الناس إياك أن تحاول تحطيمه، إياك أن تحاول الطعن به؛ لأن هذا عمل غير أخلاقي، وغير ناجح، ولا يُجدي، هؤلاء الذين استفادوا من شخص دعهم يستفيدون منه، ولا تكن حجر عثرة، ولا تكن عدواً للحق، ولا تكن سبباً في إزاحة الإيمان عن قلوب الناس.
يوم التناد كل إنسان ينادي الطرف الآخر فلا يستجيب له
﴿ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ (31)وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32)﴾
يوم القيامة، حذّرهم من مغبّة الخِزْي والهزيمة في الحياة الدنيا إذا هم ناهضوا وعادوا الأنبياء، وحذّرهم من يوم القيامة الذي سماه الله عز وجل يوم التّناد.
سألت السيدة عائشة سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام فقالت:
(( فهَل تَذكُرون أهليكُم يومَ القِيامةِ؟ فقال: أمَّا في ثلاثةِ مواطنَ فلا يذكرُ أحدٌ أحدًا: عِندَ الميزانِ، حتَّى يَعلمَ أيخفُّ ميزانُه أم يثقُلُ، وعند تطايُرِ الصُّحُفِ، حتَّى يعلمَ أينَ يقعُ كتابُه في يمينِهِ أم في شِمالِه أم وراءَ ظهرِه، وعِندَ الصِّراطِ إذا وُضِعَ بين ظهرَيْ جهنَّمَ، حتَّى يَجوزَ. ))
فلو أن إنساناً وقعت عينه على عين أمه هل يعرفها؟ وقعت عينها على عين زوجها هل تعرفه؟ وقعت عينه على عين أخيه، وقعت عينه على عين ابنه هل يعرفه؟ فقالت:
يوم التناد تنادي الأم ابنها فلا يستجيب لها، ينادي الابن أمه فلا تستجيب له، ينادي الأخ أخاه فلا يستجيب له، ينادي التابع المتبوع فلا يستجيب له، ينادي الضعفاء الأقوياء فلا يستجيبون لهم، يوم التناد كل إنسان ينادي الطرف الآخر فلا يستجيب له.
الإنسان يضل باختياره:
﴿ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)﴾
الإنسان إذا أضل نفسه عن الله عز وجل، أي إذا ضل ضلالاً اختيارياً فاستحق الإضلال الجزائي، كقوله تعالى:
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ
هذه الآية بعضهم يراها مشكلة، وهي واضحة تماماً، وأوضح مثل عليها: طالب جامعي لا سجل في الجامعة، ولا داومَ، ولا قدّم امتحاناً، ولا اشترى كتباً، فأُرسِل له إنذار تلو الإنذار، فلما يئست إدارة الجامعة من استجابته أصدرت قراراً بترقين قيده، متى أصدرت هذا القرار؟ بعد أن اتخذ ذلك الموقف، فهل قرارها ظالم؟ لا والله، هذا معنى قوله تعالى:
﴿
والحمد لله رب العالمين.