- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (028)سورة القصص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
إعجاز القرآن في إيجازه:
أيها الإخوة المؤمنون؛ مع الدرس العاشر من سورة القصص.
وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى:
أيها الإخوة الأكارم؛ هذه الآية غنيةٌ جداً، كيف أن الله عزَّ وجل، أو كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام حينما قال مثلاً: عن أبي بكرة نفيع بن الحارث :
(( لا يَقضِيَنَّ القاضي بيْنَ اثنَينِ وهو غَضْبانُ، ولا يَقضِيَنَّ في أمْرِ قَضائَينِ. ))
لماذا نهى النبي عليه الصلاة والسلام القاضي عن أن يقضي وهو غضبان؟ لأنه مُغَوَّش، حكمه غير صحيح، رؤيته غير صافية، ذهنه غير صافٍ، لذلك جاء العلماء، وحملوا على هذا الحديث حالات كثيرة جداً، فالقاضي لا ينبغي أن يقضي وهو جوعان، ولا ينبغي أن يقضي وعنده قضيةٌ تشَوِّشُ ذهنه، ابنه مريض، عنده مشكلة، غضبان، جائع، مريض، كل هذه الحالات مأخوذةٌ من علَّة واحدة، كيف أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا
ما العلَّة في ذلك؟ العلَّة ألا تؤذي أمك وأباك، إذاً أيّ شيءٍ آخر غير كلمة أُف يؤذي أمك وأباك إذاً محَرَّم، يُحْمَل على هذا، القرآن إعجازه في إيجازه.
الواقع يحكم على جهل الناس:
نعود إلى هذه الآية:
مثلاً: لو أنك طبيبٌ، ورأيت شخصاً يدَّعي أنه طبيب، ونصح مريضاً، قال له المريض: ضغطي مرتفع، قال له: هذا جيِّد، كلما ارتفع الضغط فهو حالة طيبة جداً، ألا تحكم على هذا المُدَّعي أنه جاهلٌ جهلاً قاطعاً؟ يتكلم كلمة هذا الذي يدّعي أنه طبيب، والذي يطمئن مريضه أنه كلما ارتفع الضغط كان إشارةً على صحة الجسم، تقول: هذا جاهل جهلاً قاطعًا.
القصة التي تعرفونها جميعاً؛ أن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه كان يُلْقي درساً في الفقه مع طلابه، ويبدو أن التكلف مرفوع بينه وبين طلابه، كان متألماً من رجله مدَّها مرةً، فدخل شخصٌ طويل القامة، عريض المِنْكَبَين، ذو هيئة فخمةٍ، فأُخذ أبو حنيفة بهذا الشخص، فاستحيا أبو حنيفة النعمان رضي الله عنه، ورفع رجله، هذا الرجل الوقور جلس في حلقته، وفي أثناء الدرس طرح سؤالاً، طبعاً الموضوع في صلاة الفجر، هناك فجرٌ كاذبٌ، وفجرٌ صادقٌ، وهناك طلوع الشمس، وصلاة الفرض بينهما، فقال له هذا الرجل المهيب: يا سيدي كيف نُصَلِّي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ فنظر إليه وقال: عندئذٍ يَمُدُّ أبو حنيفة رجله، مِن كلمة واحدة حكم عليه أنه جاهل.
لو أن مهندساً مثلاً قلتَ له: إن هناك شَقًّا في الدعامة الأساسية للبناء، وهذا الشق يتفاقم، قال لك: لا، هذا الشيء لا قيمة له إطلاقاً في البناء، ألا تحكم على هذا الشخص المهندس الذي يدَّعي أنه مهندس أنه جاهل؟ لو قلت له: إن الحديد سعره مرتفع جداً، ما قولك يا أستاذ أن نلغي الحديد من البناء؟ قال لك: لا مانع، ووجود الحديد أساساً ثانوي في البناء، ألا تحكم على هذا الإنسان أنه جاهل جهلاً قاطعاً؟ ألم يعرف أن الإسمنت يتحمَّل قِوى الضغط، لكِنَّه لا يتحمل قِوى الشد، فعند الشد لابدّ من تسليح، الإنسان يتكلم كلمة واحدة فتحكم عليه حكماً قاطعاً أنه جاهل. لو أن إنسانًا قال لك: أنا مُخْتَص في اللغة العربية، فقلت له: أعرب كلمة جاء المعلِّمون، فقال المعلمون: فاعل منصوب، ما هذا المنصوب؟ المعلمونَ، ألا تحكم على هذا الإنسان أنه جاهل دون مستوى الكفاءة حتى دون مستوى الابتدائية؟ الأمثلة كثيرة جداً، الصيدلي لو أن دواءً فيه مرهم اليود، وقال لك: هذا للاستعمال الداخلي، هذا الصيدلي، مجرم وجاهل، قد يقضي على هذا المريض، في كل المهن والحرف؛ طبيب، مهندس، مدرس، محامٍ، تاجر، محاسب مثلاً قال لك: أخي الربح أساسه ثمن الشراء + ثمن المبيع = الربح، ما هذا الكلام؟ معنى ذلك أنه جاهل جهلاً قاطعًا في أمور المحاسبة.
توهم ضرر الطاعة جهلٌ كبير:
الآن لِمُجَرَّد أن تتوهَّم أن طاعة الله تضرك، وأن معصيته تنفعك فهذا هو الجهل بعينه، مهما حَصَّلت من علوم، مهما ارتفع مستواك العلمي، مهما درست، مهما اطلعت، تجد شخصًا يقول: أنا دَيِّن، والحمد لله، يفتخر بأنه ديِّن، ولكن يتوهَّم أحياناً أنه إذا أطاع الله عزّ وجل في هذا الموضوع خَسِرَ، يقول لك: أنا مضطر، هذا هو الجهل بعينه. مثلاً: إنسان أراد أن يتزوج، ورد: "من تزوج المرأة لجمالها أذلَّه الله، ومن تزوجها لمالها أفقره الله، ومن تزوجها لحسبها أذله الله، فعليك بذات الدين تربت يداك"، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ؛ لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاك. ))
وهو يخطب عثر على امرأةٍ غنيةٍ، لكن دينها ضعيفٌ جداً، قال: أنا أَحُلُّ مشكلتي بغناها، ولم يعبأ بقول النبي عليه الصلاة والسلام، ولا بقوله تعالى:
﴿ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ (221)﴾
هذا إذا توهَّم أن هذه المرأة الغنية تُسْعِدُهُ بمالها، أو تسعده بجمالها، أو تسعده بوجاهتها وأسرتها ونسبها، على حساب رقَّة دينها، هذا الإنسان في الدين جاهل، لأنه لم يعبأ بقول الله تعالى، ولم يعبأ بقول النبي عليه الصلاة والسلام، بل توهَّم أن طاعة الله في اختيار الزوجة ذات الدين خسارة، وأن اختيار الزوجة الغنية الجميلة ربحٌ كبير، هذا هو الجهل.
الآن: في معاملة الزوجة، تزوج امرأةً ما، في معاملتها لمجرد أن يعتقد أنه إذا قسا عليها قسوةً بالغةً سعد بها، ولم يعبأ بقوله تعالى:
﴿ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ (19)﴾
هذا إنسان جاهل، يجب أن تنتبه في أي حركة من حركاتك، في أي سكنة من سكناتك، الزوجة لمجرَّد أن تُؤثِر خاطباً غنياً رقيقاً في دينه على خاطب فقيرٍ متينٍ في دينه، جاهلة، أخي تصلي قيام الليل، خير إن شاء الله، حافظة للقرآن، خير إن شاء الله، لمجَرَّد أن تختار الغنى مع رقة الدين، وتدع صلابة الدين مع الكفاف فهي فتاةٌ جاهلة، لا تعرف أن هذا الزوج المؤمن يسعدها، والله عزّ وجل معه، وإن كان فقيراً فسيغنيه الله، وأن هذا الزوج رقيق الدين سيستهلكها، وسيستمتع بها، ثم يلقيها لأدنى سبب، وسيحملها على معصية الله، وسيكون طريقاً لها إلى النار، هكذا، هذا في الزواج.
في تربية الأولاد؛ من أجل أن يكون ابنك في مركزٍ مرموق تُضَحِّي بدينه، فأنت غير مُرَبٍّ، لا تعرف من التربية الدينية شيئاً، آثرت دنياه على دينه، آثرت دنياه على آخرته، أي في اختيار الزوجة مثلاً أنت صاحب مصلحة، هذه البضاعة الآن رائجة جداً، وهي بضاعة محرمة، ماذا أفعل؟ الآن هذه هي الرائجة،
الطبيب مثلاً: إذا اعتقد أنه إذا أَلْقَى في رُوع المريض أن مرضه خطير، وأنه عليه أن يزوره كل أسبوع، إذا اعتقد هذا الطبيب أنه بهذه الطريقة يجلب له رزقاً وفيراً فهو جاهل، أما إذا اعتقد أن هذا الإنسان يجب أن يخدمه، وأن يُهَدِّئ من روعه، وأن يَبُثَّ في نفسه الطمأنينة، وأن يعطيه العلاج المناسب في الوقت المناسب، فهذا طبيبٌ يعرف الله عزّ وجل، يأتيه رزقٌ وفير من طريقٍ مشروع.
المحامي مثلاً: إذا اعتقد أنه إذا تَكَلَّم الحقيقة المرة للناس لمَا استلم دعوى واحدة، أما إذا أوهمهم، وإذا زيف الحقائق أمامهم فيربح ربحاً وفيراً، إذا اعتقد أن الكذب طريقٌ إلى سعادته، وإلى وفرة دخله، وإلى بحبوحته، وأن الصدق يصرف عنه رزقاً وفيراً، لمجرد أن تعتقد أن الطاعة تَضُرُّك، وأن المعصية تنفعك فأنت لا تعرف شيئاً، احكُمْ على نفسك بالجهل المُطْبق. الآية واسعة جداً:
﴿
هذا الإله العظيم الذي تعبده أيعقل أن يتخلى عن عباده المؤمنين؟ أيعقل أن تكون معصيته طريقاً إلى السعادة، وأن تكون طاعته طريقاً إلى الهلاك؟
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
لا معنى أن تعبد الله عزّ وجل، ولن يحميك من خصومك، لا معنى أن تعبد الله عزّ وجل، وأن ترى في عبادته خسراناً مبيناً.
لا تكليف سبيلُه معصية:
إذاً هذه الآية الكريمة:
﴿
الله لم يكلفك من أجل كسب الرزق أن تعصيه، لم يكلفك من أجل أن تطلب ما أنت بحاجةٍ إليه أن تقع في مخالفةٍ لأمره، في الزواج، في معاملة الزوج، في اختيار الزوج، في اختيار الزوجة، في معاملة الزوجة، في تربية الأولاد، في المِهَن، مثلاً تقول: إن هذا الصانع إذا علَّمته هذه الحرفة ربما نافسني، إذاً يجب أن أبقيه جاهلاً، وقد جاء به أبوه إليك، وهو صديقك من أجل أن تعلِّمه هذه الحرفة، فأنت إن تُطِع الله عزّ وجل وتكن معه مخلصاً، وتعلمه هذه الحرفة تقع في خسارة كبيرة، إذاً: لابدَّ من أن تعصي الله، وتخون صديقك، وتَدَع هذا الطفل الذي أخرجه من المدرسة، ووضعه عندك جاهلاً في هذه الحرفة، إلا أنك تستغله في خدماتك الشخصية، لن تفلح أبداً إذا فعلت هذا، كل واحد بحسب حرفته، بحسب اختصاصه، بحسب مهنته، بحسب عمله، يعلم كيف تكون الطاعة لله عزّ وجل، وكيف تكون المعصية.
من يزداد إيمانه تصلح قراراته:
دائماً بمنطق الناس، بمنطق الحياة هناك مقاييس، وفي منطق الإيمان يوجد مقاييس أُخرى، يجوز أنت بمنطق الحياة كلما خَفَّضت أجر هؤلاء العمال ازداد ربحك، هذا كلام رياضي، كلما قَلَّت النفقات ازداد الربح، أما إذا أعطيتهم رواتب معقولة، ورفعت من مستواهم المعيشي بدافعٍ من إخلاصك لله عزّ وجل، وحبِّك لعباد الله، الله سبحانه وتعالى في منطق الإيمان يُجْرِي الأمور على نحوٍ خاص، بحيث تزداد أرباحك عما هي عليه قبل أن ترفع رواتبهم، المشكلة أن صاحب المتجر، وصاحب المعمل، والموظَّف، والطبيب، والمحامي، والمهندس، والمدرس. المدرّس إذا ألقى في روع الطلاب أنهم ضعفاء جداً، وأعطاهم علامات متدنية جداً، لعلهم يأتونه ليأخذوا دروساً خاصة فيربح، هذا منطق الناس، أما إذا أنصف الطالب الذي بذل جهداً كبيراً، وله أبٌ ظالم، أعطاه علامته المستحقة، وهو لا يرجو إلا أن يرضي الله عزّ وجل، لعل الله عزّ وجل يجري الأمور على نحوٍ آخر فيأتيه دخلٌ مشروع من طريقةٍ مشروعة، دائماً حينما يزداد إيمانك تَصْلُح قراراتك، كلما ارتفع مستوى الإيمان أصبحتَ موَفَّقاً في اتخاذ القرار، لأنك تتخذ القرار في ضوء قواعد الدين لا في ضوء قواعد الدنيا.
ما عند الله لا يُنال بالحرام:
أيها الإخوة الأكارم؛ آيةٌ يجب أن نطبقها في كل شؤون حياتنا، يجب أن تعتقد أن ما عند الله لا ينال بمعصية الله، يجب أن تعتقد أنه "من ابتغى أمراً بمعصيةٍ كان أبعد مما رجا، وأقرب مما اتقى".
أي إذا كذبتُ على هذا الإنسان أربحُ منه أرباحاً طائلة، فإذا صدقت، ورد: "كفى بها خِيَانَةً أَنْ تُحَدِّثَ أَخَاكَ حَدِيثًا هُوَ لَكَ بِهِ مُصَدِّقٌ، وَأَنْتَ لَهُ بِهِ كَاذِب"، هذه خيانة كبيرة جداً، أتمنى على كل أخ كريم في مهنته، وفي بيته، وفي كل علاقاته الاجتماعية، أن يضع هذه الآية نُصْبَ عينيه:
لا مساومات في الدين:
إذا كنت أريد أن أجعل السهرة غير مختلطة أتكلَّف أكثر، أما المختلطة ففيها ضيافة واحدة، أنت آثرت أن توفِّر شيئًا بالضيافة، آثرت ذلك على طاعة الله عزّ وجل، وإذا لم أجلس مع أخوات زوجتي فإنها تغضب، وإذا غضَبْت تعذبني، فسأرضيها، والزوجة إن لم تطع زوجها في معصية الله فإنه يطلقها، هذا هو الجهل بعينه.. عن عمران بن الحصين :
(( لا طاعةَ لِمخلوقٍ في معصيةِ اللَّهِ. ))
افعل ما بدا لك، قالت أم سعد لابنها:
دائماً قواعد الدين قواعد قَطْعِيَّة لا يوجد فيها مساومات، شخص يقول لك: هذا التيار الكهربائي فيه خطر الموت، ستة آلاف فولت، مرسوم عليه جمجمة وعظمتان، هذا ليس قيداً، إن هذه الدولة تقيد حريتنا، تجد أحد الناس أحب أن يتسلَّق العامود، يقولون: ممنوع، هذا ليس تقييدا للحرية، بل هو ضمان لسلامتك، هذه قضايا قطعية، هذا شيء ثابت ليس فيه مساومات، إذا كان لا يرانا أحد هل نصعد؟ التيار وحده يعاقبك حتى لو لم يَرَك أحد
الطاعات سبب للسعادة والمعاصي سببٌ للشقاء:
الله عزّ وجل جعل الطاعات أسبابًا لسعادتك، وجعل المعاصي أسبابًا للشقاء، فكل طاعة فيها بذور نتائجها، أي توجد علاقة علمية بين الطاعة ونتائجها، وتوجد علاقة علمية بين المعصية ونتائجها، ادفع الثمن، ربنا عزّ وجل قال:
﴿ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
وفي آية أخرى:
﴿ الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ
كل أوامر الشرع لمصلحة الإنسان:
يجب أن تعلم أن كل شيءٍ أمرك الله به لمصلحتك، فإذا أحببت نفسك، فإذا كنت مسرفاً في حبّ ذاتك، إذا كنت كما فطرك الله عزّ وجل؛ مفطوراً على حبّ وجودك، وعلى سلامة وجودك، وعلى كمال وجودك، وعلى استمرار وجودك فعليك أن تطيع الله عزّ وجل، هذه الأشياء الفطرية لن تتوفر إلا في طاعة الله، في طاعة الله الله عزّ وجل يحفظك من كل مكروه، ويطمئنك، ويكرمك، وتشعر وأنت مؤمن على طاعة الله عز وجل أن الموت مرحلةٌ إلى حياةٍ أبديةٍ أشدُّ سعادةً من هذه الحياة، هذا الحال وحده يكفي أن تَسْعَد، فلذلك يمتحن الإنسان نفسه، لا يتوهم أنه مؤمن إيماناً كاملاً، أخي الحمد لله أنا مؤمن، أصلي، سيدنا عمر قال:
يجب أن تكون تصَوُّراتك كلّها متوافقة مع مقاييس القرآن الكريم، لذلك ما الذي أهلك الناس؟ أنهم جعلوا الدين صوماً وصلاةً وحجاً وزكاة فقط، وما سوى ذلك فهم واقعون في شرك، وفي توَهُّم، وفي اعتقاد أن المعصية تضر، أخي أنت متزمت جداً، لا يوجد تزمت هنا، أمر إلهي يجب أن ينفذ، أي يجب أن نسكن مع بعضنا هكذا تريد أمي، وإلا ستغضب عليّ، والأمر الإلهي هذا الشرع ماذا نفعل به؟ أيهما أهم غضب الله أم غضب أمك؟ يشعر أنه إذا عصى الله عزّ وجل، وأطاع أمه يرتاح، يقول لك: ارتاحت أذني، يجب أن تقِيم موازنات، الله عزّ وجل قال:
حرص الإنسان على شيئين ؛ على رزقه وعلى وجوده:
﴿
﴿ وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) ﴾
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ
فإذا جئت إلى منطق القرآن، وقلت:
﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)﴾
كلما عَظَّمْتَ أمر الله عزَّ وجل، إذا أردت أن تعرف مالك عند الله فانظر ما لله عندك، شأن الناس اليوم هان الله عليهم فهانوا على الله، أي طاعته ومعصيته سِيَّان، كسب المال الحلال كالحرام، يقول لك: لا تدقق، ما دام الله قد هان عليهم إذاً هم هانوا على الله، أي يسوق الله إليهم من الشدائد ما لا يطيقون. النبي عليه الصلاة والسلام جاءه أعرابي قال له:
متابعة المقاييس الشرعية ومراعاتها:
أنا أتمنى من كل أعماقي أن كل أخ حاضر معنا، بكل حركة من حركاته يلاحظ مقاييسه، أي إذا أطاع الله عزَّ وجل يخسر؟ يقول لك: هذا مطعم، مطعم درجة أولى، إذا لم نبع فيه الخمر لا نربح، ماذا نفعل؟ نحن مضطرون، جاهل، إيمانك صفر، إذا كنت تعتقد أن الربح يأتي من معصية الله فأنت لا تعرف من الدين شيئاً، قيسوا أشياء كثيرة جداً. أحياناً يغش الإنسان، الكيلو في بعض المواد الغذائية سعره مرتفع إذا غششتها، بعض الأشخاص قالوا لي: يضعون مع الطحينة مادة الإسبيداج لتبيض، ويزداد سعرها ليرتين، صاحب معمل طحينة أتبيع مادة تُخَرِّش الأمعاء من أجل أن تربح وبعد ذلك يصلي في أول صف؟ هذا جاهل عند الله عزَّ وجل، هذا ليس ديّناً إطلاقاً، إذا كنتَ تعطي المسلمين مادة غذائية تؤذيهم من أجل أن يزداد ربحك، وتصلي فالدين في واد، والحياة في واد آخر، الدين هو الحياة، الدين في معملك، الدين في بيتك، الدين في متجرك، الدين في وظيفتك، الدين في عيادتك، الدين في مكتب المحاماة، هنا الدين، ليس الدين في المسجد، المسجد هذه عبادة شعائرية، هذه من أجل تقويم العبادة التعاملية، المسجد، الصلاة، الصوم، الحج، ثلاث ساعات امتحان. لو فرضنا أن طالبًا جاء إلى هذه الساعات الثلاثة وقد ارتدى أجمل الثياب، شيء جميل، جاء بشطيرة لعلَّه يجوع، أربعة أقلام احتياطاً، وحبات من الأسبرين لعلَّه يتألَّم من رأسه، وماء بارد، ولكنَّه لم يدرس إطلاقاً، ما نفعُ هذه الأقلام الأربع وهذه حبات الأسبرين وهذه الشطيرة وهذه الثياب الجميلة؟ شيء مضحك، هذه الساعات الثلاثة أساسها الدراسة، أساسها عام دراسي بأكمله، فكلما كان هناك جهدٌ كبير في أثناء العام الدراسي، كانت هذه الساعات الثلاثة مجدية ونافعة، هذه هي المشكلة، حينما فهم المسلمون أن الدين أن تصلي، وأن الدين أن تصوم مع الناس، هذا رمضان، وأن الدين أن تحُج البيت، وانتهى الأمر، هذا هو الدين، لا تدقق، الدين يسر، يفعل ما يشاء، يكذب كما يريد، يأكل مالاً كما يشتهي، ينفق كما يريد، علاقاته الاجتماعية كلها غير صحيحة، يعطي نفسه ما تشتهي، هذا الفهم للدين فهم سقيم، هذا الفهم للدين جعلنا في مؤخِّرة الأمم، هذا الفهم للدين جعل للكافرين علينا سبيلاً:
﴿ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
أما حينما يستقيم الإنسان استقامةً تامةً في عمله، وفي علاقاته، وفي كسب ماله، عندئذٍ يعرف ماذا يعني الدين، الدين أخطر شيءٍ في حياة الإنسان،
على كل إنسان أن ينتبه إلى كلامه:
قول آخر:
﴿
لابد أن ينتبه كل إنسان إلى كلامه، لمجرَّد أن تقول: الله لا يريد أن يهديني، لم يشأ الله بعد، الله ما ألهمني أن أصلي، لمجرد أن تعتقد هذا فأنت مشرك،
﴿
﴿
يقول لك: أنا مضطر، هكذا يجب أن أعمل لكي أحافظ على مركزي، لا تنسَ قول هذا التابعي الجليل لأحد ولاة يزيد، جاءه توجيه خلاف الحق، فسأل التابعي: ماذا أفعل؟ قال:
الإنسان لا يعلم إلا إذا جاءت تصوُّراته وفق ما في القرآن:
ماذا ردَّ الله عليهم:
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا
الأخذ بالمقاييس الشرعية:
يا إخوان؛ القضية دقيقة جداً، في مقاييسك، اعمل دائماً موازنة بين مقاييسك ومقاييس القرآن، أنت تعظم أهل المال فقط وتهمل المؤمن الذي حالته المادية وسط؟ هذه مشكلة، هذا مقياس دنيوي، أما أن تقيس الأمور بمقاييس الشرع والقرآن، يجب أن تحترم هذا المؤمن كائناً من كان، بأي مرتبة اجتماعية، بأي مستوى اقتصادي، بأي درجة علمية، ما دام مؤمناً فهذا جدير أن تحترمه، فبتقييم الناس لاحظ مقاييسك قرآنية أم شيطانية؟ بطرق كسب المال تتحرى الحلال؟ هل تفرح بدخل كبير حرام؟ تعدَّ نفسك ذكيًا شاطرًا؟ دَبَّرت نفسك، ركزت وضعك، أمَّنت مستقبلك على معصية الله عزَّ وجل، أتفرح بدخل حرام حلّ لك كل مشاكلك؟ طبيبٌ مثلاً، طبيب ناشئ ليس عنده شيء في الحياة، عُيِّن طبيبًا شرعيًا، وكُلِّف بفحص جثة، إذا قال: الموت طبيعي، أعطوه خمسة ملايين، وإذا قال: الموت مشبوه بحادث قتل، لا يأخذ شيئًا، هذا الطبيب حسب إيمانه، إذا كان مؤمنًا بالله عزَّ وجل، إذا أطاع الله عزَّ وجل الله سيكرمه، أما إذا قال:
العلاقة بين الآيتين:
إن اتبعوا الهدى مع النبي يُتخطَّفوا من أرضهم، إذاً أنكروا الرسالة وكفروا بالنبي، حفاظاً على مكتسباتهم، ومكانتهم، وزعامتهم، ودخلهم، وشهواتهم.. إلخ.
الموت نهاية كل شيء:
ثم ماذا؟ هنا سؤال، فكِّر، قلت أمس لإنسان: الجماد شيء له طول وعرض وارتفاع، له حيِّز، صخرة لها وزن، ولها أبعاد، طول، عرض، ارتفاع، النبات شيءٌ يشغل حيزاً وينمو، الحيوان شيءٌ يشغل حيزاً وينمو ويتحرَّك، الإنسان شيءٌ يشغل حيزاً، له وزن، طول وعرض وارتفاع، وينمو، ويتحرَّك، ويفكر، لو أن إنسانًا غارقًا في المعاصي، هناك سؤال يوقفه عن حده، ثم ماذا؟ وبعد هذا؟ إذا جاء ملَك الموت، فعلت ما فعلت، أكلت ما أكلت، شربت ما شربت، سكنت ما سكنت، ترَفَّهت، ذهبت، عُدت، سهرت، سَمُرت، استمتعت.. إلخ، ثم ماذا؟
الليل مهـما طـال فلابدَّ من طلوع الفجر والعمر مهما طال فلابدَّ من نزول القبر
* * *
أي أنتم يا أيها المشركون تعتقدون أنَّكم إذا اهتديتم، أو اتبعتم الهدى مع النبي تُتَخطَّفون من أرضكم، إذاً اكفروا، وبعد أن تكفروا، ثم ماذا؟
الله تعالى إليه يرجع كل شيء فعلى الإنسان أن يتعظ:
تسمع عن أشخاص قد يعود أحدهم إلى بلده ومعه شهادة عُليا فلا يمارسها، يتزوَّج فلا يدخل، يعمر بيتاً فلا يسكن، هذه حالات يومية:
الإهلاك الإلهي جزائيٌّ موافقٌ لحجم الجريمة:
أما هذا الإهلاك ليس إهلاكاً عشوائياً، ولا مزاجياً، ولا خبط عشواء كما يقول بعض الجهلة، قال:
﴿
هذه البراكين، هناك قرية في إيطاليا، الساعة الثانية بعد الظهر ثار بركانٌ اسمه (فيزوف)، هذا البركان ثار، وصَبَّ على قريةٍ تقع في سفحه هذا السائلَ البركاني فغمر القرية ثمانية أمتار، بعد مئات السنين أثناء التنقيب في هذه المنطقة وجدوا أحجارًا على شكل أشخاص، حقنوها بجبس سائل، ثم كَسَّروا هذه المستحاثات، فإذا بلدةٌ جاءها هذا البركان، وقد ماتت عن آخرهم، حتى ملامح الناس، حتى الأم مع طفلها، حتى من في البيوت الغنية يجمعون الحلِي، منظر وله تحقيقات رائعة جداً:
خلاصة الدرس:
الآية اليوم:
أنواع المصائب:
وردني سؤال؟ هل نستطيع أن نحكم على كل من نرى عليه مصيبة أن هذا من ذنبٍ فعله؟
هذا الحكم خاطئ، لأن المصائب أنواع منوَّعة، هناك مصائب القصم، وهناك مصائب الردع، وهناك مصائب الدفع، وهناك مصائب الرفع، وهناك مصائب الكَشف، كل مؤمن له مصيبة خاصة به، قد يكون مؤمنًا مستقيمًا على أمر الله، لكن ربنا عزَّ وجل يحبُّ أن يحثَّ الخُطا إلى الله، هذه دفع، قد يكون المؤمن لو جاءته مصيبة فصبر عليها يرتفع عند الله أكثر، هذه مصيبة رفع، وقد يكون الكمال منطوياً في نفس إنسان لا يظهر إلا بظرف صعب، هذه مصيبة كشف، هناك دفع، وهناك رفع، وهناك كشف، هذه مصائب المؤمنين، أما مصائب غير المؤمنين، إما قصم وإما ردع.
ليس من الشرع الحكمُ على الناس:
ليس كل إنسان شاهدتَ عليه مصيبة بإمكانك أن تحكم عليه، هذا من شأن الخالق، دائماً عوِّد نفسك الأدب، لا تحكم على الأشخاص، هذا ليس من شأنك، هذا من شأن خالق الإنسان، أنت إذا رأيت إنسانًا مصابًا تقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه، من دون أن تُسمعه هذا الدعاء، منتهى الفظاظة أن تُسمعه هذا الدعاء.
رأيت إنسانًا مبتلىً بعاهة، بمشكلة، بفقر، يجب أن ترحمه، يجب أن تعطف عليه، أن تساعده، هذا كلام العوام: (إن رأيت الأعمى طُبُّه)، هذا كلام الجهلة، يجب أن تساعده إلى أقصى درجة، وأن تدعو هذا الدعاء، أما أن تحكم عليه، هذا لا تعرف ماذا فعل؟ لا، هذا منتهى الجهل.
موقف المؤمن إذا أصابت المصيبة أخاه المؤمنَ:
لذلك المؤمن الكامل إذا ألمَّت به مصيبة يتَّهِم نفسه، فإذا حلت بأخيه يحسن الظن به، دائماً قاعدة، أنت مع نفسك مهما بالغت في اتهامها أفضل، قل مع نفسك: "ما من عثرةٍ، ولا اختلاج عرقٍ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله أكثر"، ممتاز مع نفسك، مهما أسرفت في اتهامها فهو أفضل، أما أخوك فإيَّاك أن تفعل معه ذلك، أخوك لعلها رفعٌ، لعلها دفع، لعلها كشف، لعلها رُقِيّ، لذلك ماذا قيل؟ قال ابن عطاء الله السكندري:
يجب أن تأخذ موقفًا دقيقًا جداً، إذا وقع أخوك بذنب أو بمصيبة، إذا وقع أخوك بذنب الله عزَّ وجل يحميني من أن أقع كما وقع، والله يتوب عليه ويغفر له، ادعُ لنفسك بالحفظ وله بالمغفرة، أما أن تشمت به فإنك تبتلى بهذا الذنب، أما أن تعَيِّره فإنك ستبتلى به، تذكره للناس اغتبته، ترضاه عنه شاركته في الإثم، هذا الذنب، المصيبة: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه، لأنه يوجد عندك آية:
﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) ﴾
هذه مصائب المؤمنين
﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ
أنت لست الخبير، الله الخبير، أنت لست خبيرًا.
ليس لخمر الآخرة من خمر الدنيا إلا الاسم فقط:
السؤال الثاني؛ ما المقصود بكلمة وردت في هذه الآية:
﴿
ليس لخمر الآخرة من خمر الدنيا إلا الاسم فقط، لا غولٌ فيها، خمر الجنة لا تغتال العقل، لكن هذا تقريب لأذهان الناس، ففي الجاهلية كانوا غارقين في شرب الخمر، ليس لخمر الآخرة من خمر الدنيا إلا الاسم فقط، وهو من نوع آخر.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين