- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (042)سورة الشورى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أساس الحياة الدنيا الكسب والسعي والمجاهدة:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس السابع من سورة الشورى، ومع الآية العشرين وهي قوله تعالى:
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ(20)﴾
أيها الأخوة المؤمنون؛ الإنسان في الأصل مخلوق للدار الآخرة، لأن الدار الآخرة أبدية، فالله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليرحمهم في دارٍ لا موت فيها، ولا نَصَب، ولا تعب، ولا هم، ولا حزن، ولا شيء مما يُنَغِّص الحياة فيها، مخلوقٌ للآخرة، وما الحياة الدنيا إلا إعدادٌ لها، سمَّاها الله حياة دنيا لأنها إعدادٌ لحياةٍ عليا، الحياة الدنيا أساسها الكسب، والسعي، وبذل الجهد، والمكابدة، والكدح، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)﴾
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)﴾
الحكمة من جعل الدنيا دار التواء لا دار استواء:
أساس الحياة الدنيا بذلٌ الجهدِ، واكتساب العمل الصالح، وأساس الحياة الآخرة الطلب.
﴿ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)﴾
لمجرد أن تطلب شيئاً هو بين يديك، لمجرَّد أن يخطر على بالك شيء هو في متناولك، حياةٌ أبديةٌ سرمدية، لا يوجد مرض، ولا قلق، ولا خوف، ولا سيطرة، ولا حسد، ولا نقص، ولا تراجع، كل منغِّصات الدنيا منتفيةٌ في الآخرة، بل إن الله سبحانه وتعالى شاءت حكمته أن يجعل الدنيا دار التواء، لماذا؟ كي ننصرف إلى الآخرة، لو أن الدنيا جاءت كما نشتهي لكرهنا لقاء الله عز وجل، ليس من الحكمة أن تأتينا الدنيا كما نريد، إذاً نركن إليها، ونكره لقاء الله عزَّ وجل.
المؤمن إن لم ينقل اهتماماته إلى الآخرة فعذابه شديد فيها:
لو دققت في حياة الناس لوجدت كل إنسان له مشكلةٌ تجعله ينفر من الدنيا؛ إما فقرٌ، أو قلقٌ، أو حياةٌ زوجية ليست سعيدة كما يتمنى، أو أولاد ليسوا أبراراً، أو أولاد أبرار والزوجة ليست وفيَّة، أو الزوجة وفية والأولاد أبرار والدخل أقل مما ينبغي، الدخل جيد، الزوجة جيدة، لكن في الإنسان مرضاً، طبيعة الحياة الدنيا طبيعة مؤقَّتة، فكل من تعلق بها:
الإنسان إذا عرف حقيقة الحياة الدنيا دار إعداد، غرفة الصف لا ينبغي أن يكون المقعد فيها وثيراً، لو أن المقعد وثيرٌ لاستغرق الطالب في نومٍ عميق، لا بد من مقعدٍ خشن، لابد من جوّ بين البرودة والحرارة، لو كان الجو لطيفًا، دافئًا جداً، و كان المقعد وثيراً جداً، وكل أنواع المقبِّلات، والموالح، والشطائر في غرفة الدرس لنسي الطالب المحاضرة، فطبيعة الحياة الدنيا من أجل أن تكون منطلقاً فيها إلى الله عز وجل.
الحقيقة الإنسان إذا عرف حقيقتها لا يتألم مما فيها، أما إذا ظنها دار استقرار، دار نعيم، دار متعة، إذا نشد فيها الراحة المُطلقة، والنعيم المقيم، والعِز، والمال، والجاه، هذا الذي ينشده في الدنيا مستحيل أن يصل إليه، لأنها مركَّبة على النقص، إذا علمت أنها مُركبة على النقص ترضى بها، وتنطلق منها إلى الله عزَّ وجل، وتجعل الهدف الكبير هو الآخرة، لا تعوِّل عليها كثيراً، تعوِّل على ما عند الله كثيراً، لذلك المؤمن ما لم ينقل اهتماماته الأساسية إلى الدار الآخرة فإنه معذبٌ فيها أشد العذاب، بل إن طبيعة الإنسان إذا تقدَّمت به السن تضعف قواه، تضعف ملكاته.
العاقل من أعدّ العدة لآخرته لا لدنياه:
ربنا عز وجل – يوجد نقطة مهمة جداً- كتب علينا أن ننتقل من الدنيا إلى الآخرة، فلو أن كل واحد منا جاءته الدنيا كما يشتهي تماماً، وحقق كل أهدافه فيها لكان أصعب يومٍ عليه ساعة الفراق، شيء صعب جداً لكن ربنا من رحمته بنا يكرِّهنا بالدنيا من خلال بعض المشكلات، حتى إذا جاء لقاء الله عزَّ وجل اشتاق المؤمن إلى هذا اللقاء.
على كل جزء من عقيدة المسلم الأساسية أن يعرف حقيقة الحياة الدنيا:
إنسان يسكن في بيت مستأجر، والنظام القائم أن مالك البيت بإمكانه أن يُخرج المستأجر من دون سبب، ومن دون إنذار، ومن دون مبرِّر، فهل يعقل أن يأتي هذا المستأجر وينفق كل دخله في تزيين هذا البيت المستأجَر؟ لهذا المستأجِر بيت في البادية، بيت متداعٍ، أليس من العقل أن يرمم ذلك البيت؟ أن يؤسسه؟ أن يزيِّنه؟ هذا البيت البعيد فيه المُستقر، وفيه الإقامة الدائمة، الآن خَرِبٌ متداعٍ، أينفق دخله في البيت المستأجر أم في البيت الذي سيستقر فيه دائماً؟ العقل أن تسعى للدار الآخرة، لذلك قيل:
الدنيا ليست مطلوبة لذاتها ولكنها مطلوبة لغيرها:
لذلك يمكن أن ألخص لكم هذا الكلام كله بكلمتين، واللهِ الذي لا إله إلا هو هاتان الكلمتان لو عقلهما الإنسان لسعد في الدنيا والآخرة:
الآخرة تحتاج إلى عمل وتفوق:
طبعاً الآخرة تحتاج إلى عمل، والعمل يحتاج إلى تفوّق؛ تفوق إما في علمك، أو في مالك، أو في قوتك. القوة أنواع ثلاث، قوة المال، وقوة العلم، وقوة السلطان، إن كنت على شيءٍ من الدنيا ووظَّفت هذا الشيء من أجل الآخرة ربحت الدنيا، لذلك يوم القيامة:
﴿
لولا الدنيا لما كانت الآخرة، لولا أن الله عزَّ وجل جاء بك إلى الدنيا من أجل أن تتعرف إلى الله فيها، وأن تعمل عملاً صالحاً يصلح للعرض عليه يوم القيامة، فنحن إذا ذممنا الدنيا، ذممنا الدنيا المقصودة لذاتها، أما إذا مدحنا الدنيا فكمدرسة لا تصل إلى الآخرة إلا بالدنيا.
الدنيا مزرعة الآخرة وتمهيد لها:
لو أن طبيباً أخذ أعلى شهادةـ، وحقق حياة مستقرة، ودخلاً مريحاً، ألا يذكر أيام الجامعة بخير؟ لولا هذه الأيام، ودراسته، والشهادات العليا التي أخذها، لما استطاع أن يجلس في العيادة، ويأتيه الناس أفواجاً وزُرافاتٍ يدفعون له ما يريد، إذاً ما ينعم به من بحبوحة، ومن مكانة اجتماعية، ومن استقرار نفسي وأسري، هذه الميزات التي هو فيها الآن بسبب سنوات الجامعة التي أمضاها جاداً دؤوباً، فنحن إذا ذممنا الدنيا نذم من يطلبها لذاتها، أما إذا مدحنا الدنيا فلأنها مدرسة، لأنها مزرعة الآخرة، لأن الدنيا تمهيدٌ لها، سمَّاها الله حياة دنيا لأنها تمهيدٌ لحياةٍ عُليا، لذلك لا تسبّوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا، الآن قيل:
على الإنسان أن ينظر بمنظار الإيجابية إلى الدنيا:
الجنة تحتاج إلى عمل، والعمل يحتاج إلى مال، فإذا كانت لك حرفةٌ، أو اختصاصٌ، أو مهنةٌ، وكسبت من خلالها المال، فبالمال تنفق على أهلك فترقى، وتنفق على الفقراء فترقى، إذاً نعم مطية المؤمن الدنيا.
إن كان لك في الحياة الدنيا علم وأنفقته في سبيل الله ارتقيت في الآخرة، إن كنت قوياً وجعلت قوتك حمايةً للضعفاء، وعوناً للمظلومين، ارتقيت بقوتك إلى الله عزَّ وجل، فهذه النظرة الإيجابية للدنيا.
النظرة السلبية: من كانت الدنيا أكبر همه، ومبلغ علمه فقد ضلّ سواء السبيل، لكن من جعلها في يديه، وكان قلبه متعلقاً بالله عزَّ وجل كانت قوةً له على آخرته.
من كان متفوقاً في عمله انتزع إعجاب الناس به وبدينه:
إذاً أنا أتمنى على كل إخواننا الكرام، وعلى كل المؤمنين أن يتفوَّقوا في الدنيا، أن يتفوقوا في العمل، أن يتفوقوا العمل، المؤمن الصادق في عمله قمةٌ، والطالب الصادق في دراسته قمةٌ، والمؤمن الصادق في عمله أو منصبه قمةٌ في الإخلاص واليقظة، لأنك بالدنيا تصل إلى الآخرة، وأقول لكم هذا الكلام الدقيق الآن: عامة الناس، أو الطرف الآخر غير المؤمن لا يُقبلون على الدين إلا إذا كان المؤمنون متفوقين؛ في عملهم مَهَرَة، في دراستهم أوائل، لأن الذي يرمق المؤمن لتفوقه في الدنيا يحترم دينه، ويحترم صلاته، ويحترم مبادئه، لا يمكن أن يحترم الناس مبادئك، ولا اتجاهك الديني، ولا انتماءك إلا إذا رأوك علماً في الحياة، لذلك إتقان العمل ضروري، التفوق في الدراسة ضروري، إن كان لك حرفة يجب أن تكون فيها الأول، إن كنت مدرساً، إن كنت محامياً، إن كنت طبيباً، إن كنت مهندساً، إن كنت تاجراً، إن كنت موظفاً فيجب أن تكون متفوقاً في عملك حتى تنتزع إعجاب الناس بك، فإذا انتزعت من الناس إعجابهم بك، احترموا دينك، وصلاتك، واتجاهك، وانتماءك الديني.
الحقيقة أنّ الإنسان إذا انسحب من الحياة وقال: مالي وللدنيا، خسر الدنيا والآخرة، أنا حينما أُقَرِّع من أحبّ الدنيا أقرّع من أحبها لذاتها، لكن أنت محتاج إلى زواج، والزواج يحتاج إلى دخل، والدخل يحتاج إلى حرفة، لابد لك من حرفةٍ تتقنها وتخلص بها، إما أن تكون لك حرفة، أو اختصاص، أو شهادة عليا، أو طريقة من طرق كسب الرزق حتى تؤسس بيتًا، حتى تتزوج امرأة مؤمنة، حتى تنجب أولاداً طاهرين، حتى يكون بيتك نموذجاً للمسلم؛ أنت نموذج، وزوجتك نموذج، وأولادك نموذج، وعملك نموذج.
من كان بحاجة إلى عدوه فلن يتمكن من اتخاذ القرار السليم:
الدعوة إلى الله قضية معقدة جداً، أحد أبرز معالم الدعوة أن يرى الناس إنسانًا كاملاً، إنسانًا مخلصاً، إنسانًا صادقاً، إنسانًا ذا مبدأ، إنسانًا يضع رضا الله فوق كل شيء، فوق كل اعتبار، إنساناً يضحي بمصالحه من أجل مبادئه، إنساناً يضحي بحاجاته الأساسية من أجل مُثُلِهِ العليا، فهو إنسان منضبط بالقيَم، القيم فوق كل شيء، فإذا لا يوجد إنسان متمثل بهذه المبادئ كيف يتسع الحق وينتشر؟ لا ينتشر.
العالم الآن أحد أكبر أخطاء المسلمين أنه ليس هناك مجتمع مسلم يطبق هذا الدين تطبيقاً حقيقياً حتى ينتزع إعجاب العالم، لو نظر العالم إلى المسلمين ماذا يرون؟ يرون تخلفاً، يرون فقراً، يرون أن المسلمين عالة على أعدائهم، فكل المصنوعات من إنتاج أعدائهم، وقطع الغيار من إنتاج أعدائهم، وكل الأشياء الأساسية في الحياة من إنتاج أعدائهم، هم عالة على أعدائهم، فكيف يُعجب الناس بالإسلام إن رأوا المسلمين متخلفين؟ إن رأوا المسلمين مصيرهم بيد خصومهم؟ لم يكتفوا ذاتياً، في كل حاجاتهم عالةٌ على من سواهم.
سيدنا عمر أيها الأخوة دخل إلى بلدةٍ متفقداً أحوالها، فهاله وأدهشه أن كل أصحاب الصناعات فيها من الأقباط، أي من غير المسلمين، فتألم أشدّ الألم، وعَنَّفَ أصحاب هذه البلدة أشدّ التعنيف، فما كان منهم إلا أن قالوا المقولة الساذجة:
معرفة حقيقة الدنيا جزء من عقيدة المسلم:
أنا حينما أتحدَّث عن الدنيا مُقَبِّحَاً شأنها إذا أردتها لذاتها، إذا أردت الاستمتاع بها، إذا رأيتها دار نعيم مقيم، هي دار قلق، ممر وليست مقراً، أما إذا تحدثت عن الدنيا من زاويةٍ ثانيةٍ إيجابيةٍ فالدنيا مطية الآخرة، الدنيا ممر للآخرة، في الدنيا تعمل وفي الآخرة تجازى على عملك، الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف، الدنيا دار للعمل الصالح والآخرة دار للنعيم المقيم.
يا إخواننا الكرام؛ جزءٌ من عقيدتك الإسلامية أن تعرف حقيقة الدنيا، كما قلت قبل قليل: لا يمكن أن تنتزع إعجاب الناس باتجاهك الديني إلا إذا كنت متفوقاً في الدنيا، يجب أن يكون المحامِي المؤمن أول محامِ، والطبيب المؤمن أول طبيب، والمهندس المؤمن أول مهندس، والمدرس المؤمن أول مدرّس، وأصحاب الصَنعات المؤمنون أصحاب الصنعات المتقنة المحكمة، كيف تنتزع إعجاب الآخرين؟
أنت الآن وأنت لا تدري إن رأيت جهاز حاسوب، تساءلت في نفسك: من الذي اخترعه؟ ما أعظم هذا الذي اخترعه ! تجد نفسك وأنت لا تشعر تُعظِّم أصحاب هذه الاختراعات، فكيف تريد من أهل الدنيا أن يحترموا دينك إن كنت أنت عالةً عليهم؟ مستهلكاً لبضاعتهم؟ لا تقوَ على فعل شيء وكل شيء بيد خصومك؟ هذه دعوةٌ.
على المؤمن أن يكون متميِّزاً عن بقية الناس:
نحن في أول الدرس ذممنا الدنيا، ذممناها إذا جعلتها هدفاً بذاتها، أما إذا جعلتها مطيةً فالدنيا نعم مطية المؤمن إلى الجنة.
إخواننا الكرام؛ في الدنيا تتزوَّج، حينما تتزوج فتاةً مؤمنةً وتأخذ بيدها إلى الله ترقى إلى الجنة، وحينما تنجب أولاداً أطهاراً، تربِّيهم على حبّ الله وحبّ رسوله، تأخذ بيدهم إلى الجنة، وحينما تظهر أمام الناس مسلماً، صادقاً، ورعاً، عفيفاً، أميناً، متقنًا، أيضاً تقدِّم للناس نموذجاً خَيْراً، إذاً تأخذ طريقك إلى الجنة، فالدنيا مطيةٌ للآخرة، ممرٌ للجنة، فحينما نفهم الدنيا فهماً معكوساً، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟
(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ ثَلاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، قَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلا أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا. فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: «أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟
يجب أن تُقدم للمجتمع نموذجاً كاملاً، زواجاً إسلامياً، بيتًا إسلامياً، عملاً إسلامياً، تجارة إسلامية، تعاملاً إسلامياً، نُزهة إسلامية في مكان بعيد عن الاختلاط، بعيد عن الموبقات، بعيد عن الغناء، ممكن أن تتنزه نزهةٌ إسلامية، ممكن أن تسهر سهرةً إسلامية مع إخوان طيبين تتذاكرون كتاب الله وسُنَّة رسوله، المؤمن متميِّز في سهراته، في لقاءاته، في ندواته، حتى في سفره، حتى في إقامته، حتى في معمله، حتى في مكتبه، حتى في دراسته، حتى في عطائه، حتى في أخذه، المؤمن له هوية، فالمؤمن يجب أن يبدو واضحاً جداً متميِّزاً عن بقية الناس.
من آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً:
إذاً:
﴿
كلمة: ﴿حرث﴾ تفيد أنك ألقيت شيئاً وأخذت أشياء، هذا الحرث، ألقيت حبةً وأخذت أضعافاً مضاعفة، فالآخرة تقدِّم لها العمل الصالح فتسعد فيها إلى أبد الآبدين، إذاً هي حرث.
أشدّ الناس خسارة يوم القيامة من طلب الدنيا ونسي الآخرة:
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)﴾
الدنيا مهما عَلَت، ومهما كبرت منقطعة بالموت.
من أحبه الله منحه العلم والحكمة:
﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)﴾
هذا كلامه، الله قال له:
﴿
من كانت دنياه وفق منهج الله تعالى فمرحباً بها:
إذاً أيها الأخ الكريم؛ ابحث عن العطاء الذي يليق بك كمؤمن، إن جاءتك الدنيا أهلاً بها ومرحباً، لكن وفق منهج الله، سيدنا عبد الرحمن بن عوف كان من أغنياء الصحابة، سمع أن أم المؤمنين عائشة قالت:
اليد العليا خير من اليد السفلى، كن معطياً لا تكن آخذاً، لا تتناقض الدنيا مع الدين أبداً، ولكن تتناقض المعصية مع الدين.
في الإسلام لا يوجد دنيا وآخرة لأن الإنسان كلّه لله:
الآن هناك سؤال سوف أجيب عنه: هل هناك من ضابط علمي للتفريق بين حبّ الدنيا واتِّخاذها وسيلةً للآخرة؟ الضابط لهذا الموضوع أن الدنيا إذا شغلتك عن فريضةٍ إسلامية؛ عن صلاةٍ، عن صيامٍ، عن حجٍ، عن زكاةٍ، عن طلب علمٍ، عن عملٍ صالح، إذا شغلتك الدنيا عن هذه المطالب الرفيعة فهذا حبّ مرضيّ للدنيا، أما إذا لم تشغلك عن الآخرة وكنت فيه متفوقاً فقد جعلتها مطيةً لك.
إخواننا الكرام؛ أقول لكم دائماً: عملك، حرفتك، تجارتك، صناعتك، وظيفتك، زراعتك، طبيب، مهندس، مدرس، محامِ، حرفتك إذا كانت في الأصل مشروعةً، ومارستها بطريقةٍ مشروعة، وابتغيت بها كفاية أهلك وأولادك ومن يلوذ بك، وابتغيت بها خدمة المسلمين، ولم تشغلك عن فريضةٍ، ولا عن واجبٍ، ولا عن طلب علمٍ، انقلبت حرفتك إلى عبادة، في الإسلام لا يوجد دنيا وآخرة، لا يوجد ساعة لك وساعة لربك، أنت كلك لله؛ حياتك، حرفتك، مهنتك، دراستك، نشاطك، كل حركاتك لوجه الله عزَّ وجل، فالمؤمن الصادق يعرف حقيقة الحياة الدنيا، أما الذي يريد الدنيا للدنيا فالويل له، قامر وغامر، قامر بها، كل هذه الدنيا تخسرها في ثانية واحدة إذا توقَّف القلب.
الموت مصير كل إنسان:
قال: في أمريكا ألف ومئتا إنسان في وقت قصير - أذكر أنه أسبوع أو أقل- يصابون بسكتة دماغية، وهناك سكتة قلبية، اضطراب بكهرباء القلب يتوقف القلب فجأةً، كل هذه الدنيا التي بين أيديهم يخسرونها في ثانيةٍ واحدة، فإذا وضع الإنسان كل أمله فيها قيل:
الدين مبعث تفوق للإنسان لا مبعث تخوّف:
أنا ما أردت أبداً أن أصرفكم عن طلب الرزق، ولا عن طلب العلم، ولا عن التفوّق في الدنيا، لكن ما أجمل الإنسان إذا تفوَّق فيها وفق منهج الله! هل من الدنيا ألا تتزوج؟ لا واللهِ، هل من الدنيا ألا تنجب أولاداً؟ لا، أنجب أولاداً، وربِّهم تربيةً إسلامية، ليكونوا عناصر طيِّبة في المجتمع، أليس لك عمل؟ أتقن عملك، إتقانه من الدين، أخلص في عملك فإخلاص عملك من الدين، الدين مبعث تفوق لا مبعث تخلُّف.
الآن أعداء المسلمين أكبر وهم يتوهمونه أن الدين سبب التخلف، واللهِ الدين سبب التقدم وسبب التفوق، لكن الدين الذي أراده الله عزَّ وجل ليس الذي ترونه بين الجهلة: طقوس لا معنى لها، تمتمات، مواقف متناقضة، ليس هذا هو الدين، المؤمن شخصية فذَّة.
المؤمن أسعد الناس لأنه موصول بالله:
كنت أقول مرةً: واللهِ لو اجتمع ذواقو الغناء في العالم لا يستمتعون بأغانيهم المفضلة كما يستمتع أقل مؤمن بكتاب الله حينما يتلوه، إنسان يتلو كتاب الله، أو يستمع إلى كتاب الله، أو يمدح النبي عليه الصلاة والسلام، أو يستمع إلى أذان من صوتِ شَجي يذوب قلبه وجداً وطرباً، ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن، المؤمن له أذواق رائعة جداً، وله أشواق، وله أحوال،
المؤمن سعيد جداً، إذا لم يقل لك: أنا أسعد الناس لا تصدقه، غير مؤمن، ما دام مؤمنًا فهو أسعد الناس، لأنه موصول بالله، موصول بمصدر السعادة، المؤمن معنوياته عالية جداً، لأن الله يدافع عنه.
﴿
الإسلام انتماء حقيقي وليس انتماء تاريخياً:
المؤمن حكيم جداً، لأنه مسدد من الله عزَّ وجل، المؤمن يتحرك وفق منهج من قِبل الصانع، لو أنت اشتريت آلة معقدة، وفتحت التعليمات، ونفذتها، طبعاً تضمن سلامتها ومردودها العالي.
فكلمة مؤمن كلمة كبيرة جدًّاً، لكن مع تخلُّف المؤمنين والمسلمين، قد يقول أحدهم: هذا الشيخ! يقولها استهزاءً، هل تعلم من هو المؤمن؟ شخصية من الشخصيَّات النادرة، أولاً: لا يسخر من القيَم، ولا يُسَخِّرُهَا، بل يحتكم إليها، يحتكم إلى القيم من دون أن يسخر منها أو يُسخرها له وعي عميق، وإدراكٌ دقيق، يرى ما لا يراه الآخرون، يسمع ما لا يسمعون، أحاسيسه مرهفة جداً، سعيد في بيته، سعيد في عمله، شخصية نادرة جداً، هذا المؤمن، لكن مع ضياع الناس، ومع تقصيرهم، ومع المعاصي والمخالفات التي يقترفونها ضيَّعوا ثمرة إيمانهم، لذلك ترى المسلم شخصاً عادياً كهؤلاء لم يلتزم بدينه، لم يطبق، عندما لم يطبق صار له انتماء تاريخياً فقط، هذا مولود مسلم، من أبٍ وأمّ مسلمَين، هذا ليس إسلاماً، هذا الانتماء التاريخي إلى أبٍ وأمّ مسلمَين لا يعدُّ إسلاماً، فالإسلام هو انتماء حقيقي، هو إدراك، هو عقل، هو مبدأ، هو اتجاه.
المؤمن كل شيء مدخر له بعد الموت لأنه عرف حقيقة الحياة الدنيا عكس الكافر:
دخلنا بموضوع:
﴿ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ(20)﴾
أيها الأخوة الكرام؛ الإنسان يرتقي في الدنيا درجة درجة، تصور إنسانًا طالعاً درجاً وصل إلى الدرجة الخمسين ثم سقط من علٍ إلى الحضيض، والله القضية خطيرة جداً، الإنسان يبدأ متواضعاً، يبدأ دخله قليل، محدود، لا يوجد عنده بيت، ينمو شيئاً فشيئاً، هل من المعقول عندما تبلغ قمَّة النجاح، وقمَّة الفوز، جمعت المال الوفير، وارتفعت مكانتك في سماء الشهرة، وأنت في أوج نجاحك يأتي الموت فيأخذ منك كل شيء؟!! والله مشكلة، مشكلة كبيرة جداً، الناس في غفلة، أي الذي تجمعه في عمرٍ مديد يأخذه منك الموت في ثانيةٍ واحدة، لا تستطيع أن تأخذ شيئاً معك، هذا الموت، إلا المؤمن، المؤمن كل شيء مدخر له بعد الموت، لأنه عرف حقيقة الحياة الدنيا فتحرَّك فيها وفق منهج الله عزَّ وجل، وكسب أعمالاً تنفعه بعد الموت.
العاقل من أعدّ لساعة الفراق عدّتها:
من باب التمثيل: لو أنّ إنساناً باع أرضه وأرسل ثمنها لبلد آخر، باع دكانه وأرسل ثمنه لبلد آخر، كل شيءٍ يملكه باعه وحوَّل المبلغ إلى بلدٍ آخر، ما بقي عليه إلا أن يلتحق بماله، فإذا أخذ جواز السفر وركب الطائرة شعر بسعادةٍ كبرى، لماذا؟ لأنه قدَّم ماله أمامه فسرَّه اللحاق به، أما لو أن إنسانًا كان في أعلى درجات النجاح وقيل له: عليك أن تغادر خلال ساعتين ودع كل شيءٍ في بلدك، هذه مصيبة كبيرة جداً؛ ترك بيته، وأرضه، وسيارته، وكل شيء يملكه، فالمؤمن يشبه إنسانًا قدّم ماله أمامه فسرَّه اللحاق به، وغير المؤمن إنسان أُمِر أن يغادر فجأةً من دون أي تأخير، هكذا المؤمن.
إخواننا؛ إذا عزَّى أحدُنا بعضَ المتوفين، لاحظ الفرق الكبير بين بيته الذي كان يسكنه وبين مقبرة باب الصغير، يقول لك: بيت ثمنه خمسة وعشرون مليونًا، ثلاثون مليوناً، أربعون مليونًا، ثلاثمئة متر، رخام إيطالي، وجبصين، وثريات، وسجاد، أين صاحبه؟ في القبر، صار بمتر ونصف، وبعرض ستين سنتيمتراً، تحت أطباق الثرى، حادث الموت خطير جداً، الناس نيام، الناس في غفلة، الإنسان يجب أن يزور القبور، ولو لم يكن له أقرباء يتبع الجنائز، يلاحظ اللحظة الحرجة حينما يفتح النعش، ويُحمل الميت في كفنه ويوضع في القبر، وحينما توضع هذه الحجارة، وحينما يأتي الحَفَّار فيردم التراب، وحينما يقف أولاد المتوفَّى يقبلون التعازي، قال له:
والله أيها الأخوة؛ ما رأيت إنسانًا أعقل من الذي يعدُّ لهذه الساعة؛ والله أرجحكم عقلاً من أعدّ لهذه الساعة عدّتها، أعد لها استقامةً، أعدّ لها دخلاً شرعياً حلالاً، أعدّ لها بيتاً مسلماً، زوجته، بناته، أولاده، أعدّ لها عملاً صالحاً، عمله المِهَنِي مشروع، فيه صدق، فيه أمانة، لا يوجد فيه كذب، ولا غش، ولا احتيال، فإذا الإنسان أعدّ لهذه الساعة بيتاً إسلامياً، وعملاً إسلامياً، واستقامةً على أمر الله، وعملاً صالحاً، إذا جاء الموت هو في أسعد لحظات حياته.
اليأس والإحباط يصيب أهل الدنيا عند مفارقتها:
اقرؤوا سير الصحابة ماذا تجدون؟ تجدون أن كل أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم، كانوا في أسعد لحظات حياتهم عند مفارقة الدنيا، والآن اسأل طبيباً مشرفًا يعاين حالات الوفاة - أطباء القلب يعرفون ذلك- انظر إلى فزع الإنسان عند الموت، إذا أيقن أنه سيغادر هذه الدنيا يختل توازنه، يصبح كالطفل، يصيح، ويبكِي، ويندب حظه، اسأل طبيباً يعمل في أمراض القلب قل له: صف لي حالة بعض المرضى؟ يقول لك: انهيار عصبي كامل حينما يوقن أنه انتهى.
لي قريب زار صديقًا له على وشك الموت، كان قد أعدَّ بيتًا فخماً جداً، فرآه متألماً جداً، حاقداً، ناقماً، وقال له: غداً أموت، وزوجتي هذه تتزوج ويأتي زوجٌ غيري يأخذ البيت، ما هذا الشعور؟ شعور مدَمِّر، حتى تمَّ بناء هذا البيت مات ألف موتة، بعد أن نضج لم يستمتع به صار معه مرض خطير، سوف يغادر، ورأى أن زوجته غير وفية، وسوف تأتي بزوج حسب مزاجها يستمتع بهذا البيت الذي تعب هو فيه، هذه مشاعر أهل الدنيا.
الدنيا تغر وتضر وتمر، شعور أهل الدنيا حين المفارقة شعور لا يصدَّق، شعور اليأس، الإحباط، أما المؤمن:
تصور طالباً يدرس على حسابه في بلد أجنبي يسكن غرفة قميئة، يعمل ليلاً نهاراً حتى أخذ الدكتوراه، موعود في بلده بمنصب رفيع جداً، وبأجمل بيت، وأجمل زوجة، عندما يأخذ الدكتوراه يعمل مصدقة لها ويصدقها، يركب الطائرة، يمكن هذه أسعد لحظات حياته حينما يصعد سلم الطائرة ليعود إلى بلده.
أحد العلماء سئل: كيف القدوم على الله؟ قال:
لو غاب إنسان عن أهله ثماني سنوات، يتفننون في الطعام الذي يحبه، يطبخون له ست أو سبع طبخات، أجمل الأكلات يحبها يعملونها له، غرفة خاصة، سرير فخم، ملاءات نظيفة، برنامج احتفالات، زيارات، سهرات، إذا شخص غائب جاء إلى أهله، هكذا المؤمن.
على كل إنسان أن تكون دنياه مطية للآخرة لا هدفاً لذاتها:
لذلك نحن نريد أن نضع آمالنا بالآخرة، أما الدنيا فنعمل بها، نتفوق، ولكن بنية عالية، بين أيدينا لا في قلوبنا، علامة الدنيا التي لا ضير من أن تعمل بها ألا تشغلك عن طاعة، إذا كانت صلواتك، صيامك، زكاتك، حجك، انضباط بيتك، عملك وفق الشرع إذاً عملك في الدنيا ليس من الدنيا، صار للآخرة، أما إذا كان الأمر: عندنا موسم فتركنا الدروس، يوجد موسم لم نصلِّ الظهر والعصر، نجمعهما مساءً، هذا حب الدنيا، إذا ضيّع الإنسان صلواته، ضيَّع مجالس علمه، ضيَّع طلبه للعلم، وهو منهمك في دنياه فهذا من حبّ الدنيا، أما إذا كان عندك حرص شديد على طاعة الله فالدنيا عندئذٍ بين يديك، لا بد من عمل تكسب منه رزقك، العمل مشروع، العلم مشروع، الحرفة مشروعة.
الذي أريد من هذا الدرس إذا ذممت الدنيا في أول الدرس فأنا أذم من طلبها لذاتها، من جعلها كلّ همه ومبلغ علمه، من جعل الدنيا ديدنه، من أراد أن يستمتع بها، من أراد أن يرتاح بها، من أراد أن يقتنص الشهوات فيها، أنا ذممتها من هذه الزاوية، أما حينما أجعلها مطيةً للآخرة فلابد من أن تكون مثقفاً، أو صاحب حرفةٍ، أو صاحب مالٍ، أو صاحب منصبٍ من أجل أن تبذل هذا المال، وهذه الوجاهة، وهذه الحرفة في طاعة الله.
الإتقان والإخلاص في العمل أساس طاعة الله:
الذين ينفقون أموالهم ليلاً ونهاراً هؤلاء ألا يغبطون على ذلك؟ هكذا قال عليه الصلاة والسلام: عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ:
(( لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ؛ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ.))
فالتفوق التفوق في الدنيا، لكن على أن تكون مطيةً لا على أن تكون هدفاً لذاتها.
سيدنا النبي اللهم صلِّ عليه أمسك يد عبد الله بن مسعود فرآها خشنة، فرفعها هكذا أمام أصحابه وقال: إن هذه اليد يحبها الله ورسوله، الذي له مصلحة، حرفة، يعمل فيها بإخلاص، يتقنها، يخدم المسلمين بها ويكسب رزقاً حلالاً ينفقه على أهله، هذا والله وليّ.
﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)﴾
امرأةٌ تُحْسن تربية أولادها، ترعى زوجها، تربيهم، تعتني بهم، لا تؤذي خلق الله بسفورها، هذه المرأة وليَّةٌ عند الله عزَّ وجل، طبعاً متزوجة، ولها زوج، ولها أولاد، تعتني بهم، تطبخ لهم، تنظف البيت، تعتني بهندامهم، بدارستهم، بمستقبلهم، بأخلاقهم، هذه ولية.
المسلم لا يرقى عند الله إلا بالعمل الصالح:
إنسان يعمل في مصلحة بإتقان، بإخلاص، بصدق، يربح طبعاً يجب أن يريح لأنه يريد أن يعيش، لكن سعره معتدل، ولسانه طيب، وعمله متقن، هذا وليّ، لا تظن أن الإيمان انسحاب من الحياة وتقعد في الجبل، من قال لك ذلك؟ الإيمان أن تعمل، والنبي قال لرجل يجلس في المسجد نهاراً قال له: من يطعمك؟ قال له: أخي، قال: أخوك أعبد منك.
أنا أدعوكم إلى العمل، ولإتقان العمل، وللإخلاص بالعمل، ولاختيار عملٍ يرضي الله، إيَّاك أن تختار عملاً يؤذي الناس، لأن ألصق شيء بحياتك عملك وزوجتك، ابحث عن زوجةٍ مؤمنة تُسعدك وتسعد بها، وابحث عن عملٍ يرضي الله، عمل فيه عطاء للناس، فيه خدمة، فيه حلّ مشكلاتهم، ما أكثر الأعمال التي تفسد أخلاق الناسّ ما أكثر الأعمال التي لا ترضي الله! أخطر شيء في حياتك عملك الذي تعيش منه، تقتات منه.
هناك عمل أساسه إيقاع الأذى بالناس، هناك عمل أساسه سلب أموال الناس، هناك عمل أساسه سلب مشاعر الناس الطيِّبة، هناك عمل أساسه الإيقاع بين الناس، إياك أن تختار عملاً يؤذي المجتمع، لا تنسَ هذه المقولة:
على كل إنسان أن يكون عمله الذي يرتزق منه زاده في الآخرة وسبباً لدخول الجنة:
لذلك أيها الأخوة يجب أن يرفع الناس رؤوسهم، رجل كان يمشي أمام سيدنا عمر مطأطئ الرأس فعلاه بالدُرَّة قال له:
﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ
فقانون العِز والذل، إتقان العمل يرفع رأسك، وإهمال العمل يخفض رأسك، فالعمل أساسي، وكل واحد يعتبر -أقول لكم هذا الكلام الدقيق-: يمكن أن يكون عملك الذي ترتزق منه زادك في الدار الآخرة، وسبباً لدخول الجنة؛ الطبيب المخلص، المحامِي المخلص، المهندس المخلص، المدرس المخلص، التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين يوم القيامة.
هذا الحديث أوقعني في حيرةٍ كبيرة، يا رب تاجر وباع واشترى وربح، لماذا صار مع النبيين؟ ماذا فعل؟ لأنه كان داعية إلى الله وهو لا يشعر، باع بضاعة جيدة بسعر معتدل، لم يغش الناس، ولم يكذب عليهم، وكان سموحاً معهم، فكان داعيةً وهو لا يشعر، فهذا داعية صامت.
لابدّ لكل إنسان من حرفة لتكون يده هي العليا:
أكبر دولة إسلامية الآن اليوم إندونيسيا ويبلغ عدد سكانها مئة وخمسون مليونًا وحدها، العرب كلهم مئة مليون، هذه فتحت لا عن طريق السيف بل عن طريق التجارة، أنت أيها التاجر قد تكون داعية وأنت لا تشعر.
الطبيب الذي لا يبتز أموال الناس، ولا يكذب عليهم، ولا يكبِّر حجم المشكلة، هذا الطبيب المؤمن داعٍ وهو لا يشعر.
والمحامِي كذلك، والمدرس، والمهندس، والموظف الذي يستقبل المواطن، ويلبي حاجته بتواضع من دون أن يكبِّر عليه المشكلة، هذا مؤمن، وهذا داعية، فإذا ذممنا الدنيا فنذمها من أحبها لذاتها، ومن جعلها حجاباً بينه وبين الله، ومن أراد الاستمتاع بها، ولكن من جعلها مطية نقول له: مرحباً بك، أنت على الحق، وأنت في الطريق الصحيح.
الإنسان لابدَّ له من حرفة، لابد له من عمل، لا بد له من أن تكون يده عليا، أما أن يقول: اتركها لسيدك، ويمد يده للناس، هذا الذي يَمد يده للناس مؤمن؟ يجب أن نعاون بعضنا، لكن الأصل أن تأخذ حاجتك عند الضرورة، وأن تسأل ربك من فضله.
على كل إنسان أن يكون له عمل وفق منهج الله وحدوده:
لذلك أيها الأخوة؛ أكثر الدعاة إلى الله والخطباء يذمّون الدنيا وأنا معهم لأنه حق، لكن الدنيا التي تقصد لذاتها، أما الدنيا التي يُبتغى بها وجه الله، الإنسان عندما يتزوج، عندما يختار عملاً تعليمياً، عملاً مهنياً، حرفياً، بإخلاص وإتقان يرقى عند الله، والمسلمون الآن بحاجة ماسة إلى التفوق في أعمالهم، إلى أن يكتفوا عن استيراد حوائجهم من الغرب، إذا أنشأ إنسان معملاً صغيراً، وأغنانا عن استيراد بضاعة أجنبية، ونقل العملة الأجنبية إلى الغرب، هذا عمل طيب، ولكن على أن يبقى في منهج الله، على أن يبقى وفق حدود الله، فنحن لا ننجح إلا إذا طبقنا منهج الله عزَّ وجل، لذلك معرفة أحكام الله الشرعية فرض عين على كل مسلم، وإلا يقع في حرج كبير.
أحياناً تستورد مادة غذائية أولية فيها شحم خنزير وأنت لا تشعر، أخي أنا عملت معملاً ولكنه يصنِّع مادة مشكلة، أحياناً هناك بعض المواد الغذائية فيها مواد مخدرة، حتى يصير إدمان عليها، فالمؤمن يعمل عملاً تاماً وفق الشرع مئة في المئة، اكتشفوا بعض الحلويات المستوردة فيها مواد تسبب عقماً لأطفالنا، وهذا عولج مرةً في مجلس الشعب، يجب أن نصنع غذاءنا بأنفسنا، وأن نصنع ثيابنا بأنفسنا، هذا الشيء مفخرة للمسلمين، وكلما رأيت مسلماً له عمل طيب، وينفع فيه المسلمين، والعمل وفق المنهج الإلهي، هذا إنسان عظيم، لأنه أولاً خدم أمته، وخدم بلده، وخدم المسلمين، وحصّنهم من كل انحرافٍ وأذى.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين