- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (042)سورة الشورى
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الأحرف التي تبدأ بها هذه السورة دليل الإعجاز في القرآن الكريم:
أيها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الأول من سورة الشورى، مع الآيتين:
﴿ حم(1)عسق(2)﴾
هذه الأحرف التي تبدأ بها هذه السورة، والأحرف الأخرى وقف منها المفسِّرون مواقف متباينة، وقد ذكرت لكم هذه المواقف في دروسٍ سابقة، والملخَّص هو أن هذه الحروف إما أن الله سبحانه وتعالى أعلم بمراده، وهذه وجهة نظر بعض المفسرين.
أو أن من هذه الحروف نُظِم هذا القرآن الكريم، وهذا دليل الإعجاز.
أو أنها أسماءٌ لله عزَّ وجل، أوائل أسماء الله عزَّ وجل.
أو أنها أوائل أسماء رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
عالَم الشهود وعالَم الغيب:
﴿ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3)﴾
كأن هذه السورة - سورة الشورى- تُلِحُّ على موضوع الوحي، وموضوع الوحي يقودنا إلى مقدِّمةٍ يسيرة، وهي أن في العالَم عالَم الشهود وعالَم الغيب، فعالم الشهود ما يتصل اتصالاً مباشراً بحواسِّنا، فالشيء قد تراه بعينك، أو قد تسمع صوته بأذنك، أو أن تشم رائحته بأنفك، أو أن تلمسه بيدك، فعالَم الحِس هو عالَم الشهود، وسبيل معرفة عالم الحس هو الحواس، فبالحواس نتعرَّف إلى عالم الحس، وما سُمِّيَ عالم الحس إلا لأن الحواس هي سبيل معرفته، لذلك هناك اليقين الحسي، أي اليقين الذي يعتمد على الحواس في معرفة ما حول الإنسان.
لكن كل شيءٍ غاب عنك أيها الإنسان هو عالم الغيب، غاب عن حواسِّك، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالخبر الصادق، فنحن الآن أمام عالمين، عالَم الحس وعالَم الغيب، عالم الحس نتعرَّف إليه من خلال الحواس، وعالم الغيب نتعرَّف إليه من خلال الخبر.
بشكلٍ مبسِّطٍ جداً: لو أنك في زيارة صديقٍ لك في بيته، الغرفة التي أنت فيها هذه بالنسبة إليك عالم الحس، لأنك تشاهد ما فيها؛ من أثاث، من ثريَّا، من مقاعد، من أدوات، من تزيينات، لكن الغرفة التي إلى جوارها بعيدةٌ عن حواسِّك لا تعلم عن مضمونها، وعن موجوداتها إلا من خلال إخبار صاحب البيت.
فأنت أمام شيئين: إما أن تتصل بعالم الحس من خلال الحواس، وإما أن تتصل بعالم الغيب من خلال الخبر، هذا شيء مبسَّط جداً.
الشيء الذي يعجز عقل الإنسان عن إدراكه الله تعالى أخبرنا به:
الشيء إذا ظهرت عينه فسبيل معرفته اليقين الحسي، إلا أن هناك حالةً بين الحالتين؛ شيءٌ غابت عينه وبقيت آثاره، فسبيل معرفته هو الاستنباط العقلي، لو رأيت وراء الجدار دخاناً، والعقل لا يفهم الشيء إلا بسبب تقول: لا دخَّان بلا نار، فيقينك بأن هناك ناراً خلف الجدار هذا يقين استدلالي وليس يقيناً حسياً.
لكن الشيء إذا غابت عينه وغابت آثاره لا سبيل إلى معرفته إلا باليقين الإخباري، فعالم الغيب كالمستقبل الذي لم يقع بعد، وكالماضي السحيق، وكالأشياء المُغَيَّبة عنك كعالم الجن، وعالم الملائكة، وذات الله عزَّ وجل، هذه عوالم لا نعرفها بحواسِّنا، إذاً الوحي هو الذي أخبرنا بها، وهذا الكلام مفاده أن الإنسان مهما نما عقله، ومهما اتسعت آفاقه، ومهما تعمَّقت ثقافته هو بحاجةٍ إلى وحيٍ إلهي يخبره عن شيءٍ غاب عنه وغاب عن قدرة عقله في فهمه.
ظاهرة الوحي جزء من عقيدة المسلم:
إذاً ظاهرة الوحي هي ظاهرة تُعدُّ جزءاً من عقيدة المسلم، أما الأشياء التي ضمن نطاق العقل، العقل عن طريق الاستدلال، أو الحواسُّ عن طريق المعاينة تدركها، الحواس أو العقل.
على كل العقل مبني على الحواس، العقل يأخذ الآثار ويستنتج النتائج، يأخذ الآثار أولاً التي عرفتها الحواس، ويبني عليها استنتاجات عن طريق محاكمة العقل، فعالم الحس هو عالم الشهود، وعالم الغيب هو عالم الوحي.
لماذا خلقنا الله عزَّ وجل؟ هذا نعرفه من خلال الوحي، أين كنا قبل أن نأتي إلى الدنيا؟ هذا نعرفه من خلال الوحي، ماذا بعد الموت؟ هذا نعرفه من خلال الوحي، لماذا كلَّفنا الله؟ هذا نعرفه من خلال الوحي، إذاً حقيقة الكون ومبدعه، حقيقة الحياة وفلسفتُها، رسالة الإنسان ومهمَّته هذا كله نتعرَّف إليه من خلال الوحي، إذاً العقل وحده لا يكفي، ربَّما أغناك العقل في معرفة الله عزَّ وجل، لأن الكون كلَّه تجسيدٌ لأسماء الله الحسنى وصفاته الفضلى، الكون يجسِّد أسماء الله الحسنى، فمن خلال عقلك ذي المبادئ المتوافقة مع نظام الكون
الوحي الذي يأتي الأنبياء من لوازم كمال الله عز وجل:
تقرأ القرآن من خلال عقلك تقول: هذا ليس من كلام البشر، لأن فيه إعجازاً؛ إعجازاً علمياً، وإعجازاً لغوياً، وإعجازاً تشريعياً، وإعجازاً إخبارياً، وإعجازاً تربوياً، تشعر بالدليل القاطع، الدليل تلو الدليل أن هذا الكلام ليس كلام البشر، هذا بالعقل تستنبطه، وتؤمن أيضاً أن الذي جاء بهذا الكلام هو رسول من عند الله عزَّ وجل معه معجزة، انتهى الآن دور العقل، العقل أوصلك إلى الله، العقل لا يحيط بالله لكن يصل إليه، وشتَّان بين الوصول والإحاطة، أوصلك إلى الله، وأوصلك إلى أن هذا الكلام كلامه، وإلى أن الذي جاء بهذا الكلام رسوله ونبيُّه.
الآن جميع الموضوعات التي يعجز عقلك عن إدراكها أخبرك الوحي عنها؛ أخبرك عن ذات الله، أخبرك عن أسمائه الحسنى، أخبرك عن سرّ وجودك على وجه الأرض، لماذا خلقك؟ ماذا بعد الموت؟ ماذا قبل الموت؟ ما سر هذه الحياة؟ ماذا ينبغي أن تفعل؟ هناك أمر وهناك نهي، وهناك توجيه، وهناك إنذار، وهناك وعد، وهناك وعيد، هذا كلُّه بالوحي.
لكن الوحي الذي يأتي الأنبياء ولاسيما النبي عليه الصلاة والسلام، هذا الوحي شيء من لوازم كمال الله عزَّ وجل.
رحمة الله عز وجل تقتضي دعوة عباده إلى الطاعة ليسعدهم في الدنيا والآخرة:
لذلك جاءت الآية:
﴿ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3)﴾
أي الوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليس شيئاً جديداً، ليس شيئاً مستحدثاً، ليس شيئاً لم يسبق له مثيل، لا، هذه سنة الله في خلقه، أي أبٍ - من باب التقريب والتمثيل- لابدَّ من أن ينصح ابنه إذا انحرف عن سواء السبيل، فأن ينصح الأب ابنه، وأن يبيِّن له طريق الفلاح والنجاح في الدنيا هذا شيءٌ من لوازم الآباء الصالحين، إن فعلها أبٌ ليس معنى هذا أنه عمل شيئاً لم يفعله أحد، شيءٌ طبيعيٌ جداً أن الله سبحانه وتعالى خالق الكون، رب العالمين، رحمن الدنيا ورحيم الآخرة لا يدع عباده من دون أمرٍ، ونهي، وتوجيهٍ، وإرشادٍ، ونصحٍ، ووعدٍ، ووعيدٍ، وإنذارٍ، وتبيانٍ.. الخ.
فكلمة
ما من نبي كُلِّفَ برسالةٍ إلا أوحى الله إليه كتاباً يكون منهجاً لأتباعه:
لكن:
﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)﴾
أسماء الله تعالى كلها حسنى، لذلك أية قصَّةٍ، أو أي تعبيرٍ ينتقص من كمال الله عزَّ وجل؛ من عدالته، من رحمته، من لطفه، من قدرته، من قوَّته، من غناه، من علمه، هذا الكلام مرفوضٌ لأن الله سبحانه وتعالى أسماؤه كلُّها حسنى، وصفاته كلُّها فضلى، إذاً:
من احتاج إلى العزيز نال منه العزة و الكرامة:
اجعل لربِّك كل عزِّك يستقرُّ ويثبت فإذا اعتززت بمن يموت فإن عزَّك ميتُ
* * *
الحكيم، كل شيءٍ وقع أراده الله، وكل ما أراده الله وقع، وإرادته متعلِّقةٌ بالحكمة المُطلقة، الإنسان أحياناً لا يكون حكيماً، لماذا؟ لأنه قد تنقصه المعلومات فيرتكب حماقةً بجهله، ولأنه قد يُضغَطُ عليه فيرتكب حماقة، وقد يغريه شيءٌ فيرتكب حماقة لأن هذا الشيء أغراه، لكن الله سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن كل هذه الصفات التي تُعَدُّ في الإنسان صفات ضعفٍ، فلذلك حكمة الله مطلقة، ومعنى حكمته المطلقة ذلك أن الذي وقع لابدَّ من أن يقع، ولو لم يقع لكان هذا نقصاً في حكمة الله، ولكان الله مَلوماً، فليس في الإمكان أبدع مما كان، هذه عقيدة إذا آمن بها الإنسان ارتاحت نفسه، وارتاحت أعصابه، وعلم أن الله سبحانه وتعالى حكيمٌ في أفعاله، وأن شيئاً في الكون لا يقع إلا بإذن الله، وأن كل شيءٍ يقع في الكون هو مزيجٌ من عدالته مع لطفه، مع قدرته، مع غناه، مع رحمته، كل أسمائه الحسنى داخلةٌ في أفعاله.
دخول أسماء الله عز وجل في أفعاله:
بعض المفسِّرين قال: حينما يتحدَّث ربنا عن أفعاله يستخدم ضمير الجمع فيقول:
﴿
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)﴾
أما إذا تحدَّث عن ذاته فيقول:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي(14)﴾
فضمير الجمع الذي يُستخدم في القرآن الكريم في معرض ذِكْرِ أفعال الله عزَّ وجل أي كل أسمائه الحسنى داخلةٌ في أفعاله.
معرفة أسماء الله الحسنى شيءٌ أساسي في عقيدة المؤمن:
إذاً:
والإنسان أيها الأخوة؛ إذا آمن بحكمة الله صان صحَّته من العطب، الإنسان حينما يتوهَّم أن هذا الذي أتاه ليـته لم يأتِ، وأن هذا لو لم يأتِ لكان كذا وكذا، في الأصل هذا التفكير ليس سليماً، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ،
الحقيقة أن تعرف أسماء الله الحسنى شيءٌ أساسيٌ جداً في عقيدة المؤمن، لأنك تقول: الله خالق الكون، هذا لا يكفي، أن تؤمن بوجوده، أن تؤمن بأنه هو الخالق، هو الرب هذا لا يكفي، والدليل أن إبليس قال:
﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾
الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله إيمان لا يقدم و لا يؤخر:
الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله ليس كافياً، لابدَّ من إيمانٍ يحدث فيك تأثيراً.
دائماً أيها الأخوة؛ هذه قاعدة أساسيَّة أي معتقدك إذا بقي في معزلٍ عن سلوكك هذا المعتقد غير كافٍ، المعتقد الصحيح هو الذي يفعل فعله في سلوكك، أي أنت في اللحظة التي تتريَّث تقول: هذا لا أفعله لأنه لا يرضي الله، وهذا أفعله لأنه يرضي الله، الآن إيمانك فَعل فعله فيك، أما إذا كان إيمانك لا يقوى على توجيه سلوكك فهذا الإيمان لا يكفي، لذلك ابحث عن إيمانٍ يكفي، ابحث عن إيمان يكون له أثرٌ واضحٌ في مواقفك، أما المواقف إن لم تكن متأثِّرة بالإيمان فهذه المعتقدات أو هذا الإيمان لا يقدِّم ولا يؤخِّر، العبرة أن يكون عملك صالحاً، ولا يكون عملك صالحاً إلا إذا عرفت الله المعرفة الكافية، لا أقول: المعرفة المطلقة، لأن المعرفة المطلقة ليست في مقدور أحد، إذ لا يعرف الله إلا الله، لكن المعرفة الكافية التي تحملك على طاعة الله، فمادامت معارفك، ومعتقداتك، ويقينيَّاتك تحملك على طاعة الله، ترك الحرام وأخذ الحلال، فالآن مبدئياً هذه العقيدة جيَّدة وكافية لاستقامتك على أمر الله.
الحسد والضيق واليأس مشاعر ناتجة عن ضعف الإيمان:
الحقيقة يا إخوان؛ الإنسان إذا ضَعُفت معرفته بالله ضاقت نفسه، وتبرَّم من حياته، وألجأه ضعفه في إيمانه إلى متاعب كثيرة جداً، يقع في الحسد، يقع في الضيق، يقع في اليأس، يقع في التشاؤم، يقع في الضجر، يقع في الشعور بالقهر، يقع في الشعور بالظلم، هذه كلها مشاعر ناتجة عن ضعف الإيمان، أما إذا آمنت بالله حقَّ الإيمان ورأيته هو المتصرِّف، وهو الحكيم، وهو القدير، وهو الفعَّال، والغني، وهو السميع، وهو المجيب، وهو العليم، وهو الرقيب، وهو القريب، وهو الذي إذا ناديته قال: لبَّيك يا عبدي، إذا تعاملت مع الله بهذه الطريقة، طريقة المعرفة، والسؤال، والدعاء، والجواب حُلَّت كل مشكلاتك.
ملكية الله عزَّ وجل للسماوات والأرض:
أيها الأخوة؛ أنت في مُلْك الله عزَّ وجل، أنت مِلْكُ الله، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(4)﴾
فأنت أين المفر؟ لو أنك عصيت الله عزَّ وجل أين المفر؟ أنت في قبضته، ودائماً في قبضته، وخللٌ بسيطٌ جداً جداً في جسم الإنسان يجعل حياته جحيماً، والمال عندئذٍ لا يقدِّم ولا يؤخِّر، ولا ينفع ولا يغني، فأنت إذا عرفت أنك في ملكه، فهل يعقل أن تكون في ملكه وأن تعصيه؟! هل يعقل أن تزور شخصاً في بيته وأنت تحت إشرافه وسيطرته وأن تستفزه؟! معقول هذا الكلام؟ مادمت في ملكه لابدَّ من أن تطيعه، مادمت في ملكه فهو رقيبٌ عليك، مادمت في ملكه فهو سيحاسبك، مادمت في ملكه فهو يعلم سرَّك ونجواك، سرَّك وعلانيَّتك، فكلمة:
المجرَّة التي تبعد عنَّا خمسة وعشرين ألف مليون سنة ضوئيَّة له إيجاداً وتصرُّفاً ومصيراً، والفيروسات التي لا تُرى إلا بالمجاهر الإلكترونيَّة التي تكبِّر الشيء ثلاثمئة، أربعمئة ألف مرَّة هذه له أيضاً، وأدق من الفيروس الذرَّة، بالتعبير الشائع من الذرَّة إلى المجرَّة له، وأنت من هذه المخلوقات.
العاقل من يطيع الله عز وجل ويشكر نعمه:
القصد أيها الأخ الكريم؛ أن تشعر أنك في ملكه، وأنك في قبضته، هو الذي خلقك، وهو قادرٌ في كل لحظةٍ على أن يتصرَّف بك إسعاداً أو إشقاءً، إعطاءً أو حرماناً، إكراماً أو إهانةً، إما أن يرحمك وإما أن يعذِّبك، إما أن ييسِّر لك الأمور وإما أن يعسِّرها أمامك، إما أن يعطيك وإما أن يمنعك، إما أن يسعدك وإما أن يشقيك، أنت في قبضته وفي ملكه.
فالشيء الطبيعي المنطقي المعقول أن تطيعه، تعصيه وأنت في ملكه؟! تعصيه وأنت في قبضته؟! تعصيه وإليه مصيرك؟! تعصيه وقد خلقك؟ تعصيه ويعلم سرَّك وجهرك؟ تعصيه ولا يعزب عنه شيءٌ من أمرك؟! كيف تعصيه؟
ورد في بعض الأقوال عن سيدنا بلال فيما أذكر:
رجل نال شهادة عُليا من بلد أجنبي، وعُيِّن في منصب رفيع جداً، لحكمةٍ أرادها الله عزَّ وجل فَقَدَ بصره، أجرى عمليَّة أو عمليتين، انتهت العمليتان بفقد بصره، جاءه البريد إلى البيت خلال شهر مع موظَّف يقول له: يا سيدي هذه المعاملة كذا وكذا، ما توجيهك؟ يقول له: موافق أو غير موافق، ثم سُرِّحَ من منصبه، يقول لأحد أصدقائه: والله يا فلان أتمنَّى أن أجلس على الرصيف أتكفَّف الناس وليس على كتفي إلا هذا الرداء وأن يُردَّ إليَّ بصري.
الإنسان كلَّما ارتقى يتعرَّف إلى نعم الله بوجودها لا بفقدها:
عينك بملكه، والأذن بملكه، واللسان بملكه، والعقل، لماذا وزَّع الله هؤلاء المختلين في أكثر أماكن البلد؟ بكل منطقة يوجد شخص مختل عقلياً، ما فائدة ذلك؟ من أجل أن تعرف نعمة العقل، كيف أن عقلك برأسك متوازن، تتكلَّم الكلمة المناسبة، تتحرَّك الحركة المناسبة، تقف الموقف الملائم، هذا دليل أنه يوجد عقل برأس الإنسان، لو لم يكن هناك عقل برأسه لأصبح أضحوكةً بين الناس، إذاً يا ربي عرَّفنا نعمك بكثرتها لا بزوالها، الإنسان كلَّما ارتقى يتعرَّف إلى نعم الله بوجودها لا بفقدها، النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا أفرغ مثانته يقول:
أي عمل الكليتين عمل عظيم، تعملان بصمت، بهدوء، من دون جلسات ثماني ساعات، من دون اصطفاف بالدور في المستشفيات، من دون دفع مبالغ طائلة، من دون آلام لا تُحتمل، كليتان تعملان بصمت، صغيرتان، هادئتان، كل كلية فيها طاقة تصفية عشرة أضعاف حاجتك، فالكلية نعمة كبيرة جداً.
الكبد له خمسمئة وظيفة، يعمل بانتظام، المعدة، الأمعاء، القلب، الرئتان، البنكرياس.
اليوم ذكرت في الخطبة أن وزن البنكرياس خمسة وتسعون غراماً، يقوم بوظيفتين خطيرتين، الأولى: إفراز مواد هاضمة مؤلَّفة من ثلاثة أنزيمات معقَّدة جداً وخطيرة جداً، والوظيفة الثانية فيه جزر، فيه من اثنين إلى ثلاثة ملايين جزيرة، مقياس كل جزيرة مئتا ميكرون، كل الجزر وزنها واحد بالمئة من وزن البنكرياس أي وزنها غرام، فثلاثة الملايين جزيرة وزنها غرام واحد، ثلاث خلايا: خلايا إلفا، وبيتَّا، وخلايا من نوع ثالث، أول خليَّة تفرز مادَّة مضادَّة للأنسولين، إذا هبط مستوى السكر في الدم تحث الكبد على طرح كميات من السكر زائدة، والخليَّة الثانية تفرز الأنسولين، هذا إذا نقص في الإنسان يصاب بمرض السكر، والثالثة لم تعرف وظيفتها إلى الآن، لو اختلَّت هذه الخلايا لأصبحت حياة الإنسان جحيماً.
أي أنت في ملكه ؛ البنكرياس، الكظر، الغدَّة النخاميَّة وزنها نصف غرام تفرز اثني عشر هرموناً، وكل هرمون تتوقَّف حياتك الفيزيولوجيَّة عليه.
العاقل من استخدم نِعم الله عز وجل في طاعته:
لا أريد أن أفصِّل أكثر من ذلك، ولكنني أريد أن يتحسس أحدكم ما معنى أنه في ملك الله؟ إذا كانت عيناه سليمتين، أذناه سليمتين، لسانه يتحرَّك بانتظام، بلعومه يعمل بشكل طبيعي، مستقيمه يعمل بشكل طبيعي، أمعاؤه، معدته، البنكرياس، النخاميَّة، الدرقيَّة هذه كلها تعمل بانتظام، هذه نعمة كبيرة جداً، أنت في ملكه، فإذا شكرت الله على سلامتك ليزيدنَّك صحَّةً إلى صحَّة، وقوَّةً إلى قوَّة، وتوفيقاً إلى توفيق، أما إذا كفرت هذه النعم وعصيت الله بها، أي أصعب شيء أن تعصي الله بنعمٍ أنعم الله بها عليك، وأكمل شيء أن تستخدم النعم في طاعة الله، إن استخدمت هذه النعم في طاعة الله فعندئذٍ يرضى الله عنك.
السماوات والأرض تسبِّح الله سبحانه وتعالى بالدليل القطعي:
الآن الآية:
﴿
التفطُّر التشقُّق، أي هذه السماوات هي جوامد، لكن ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ
معنى هذا أن هذه الجمادات، الأقمار، المجرَّات، الكواكب السيَّارة، الكواكب والنجوم، الكازارات، المذنَّبات، هذه السماوات الجمادات، وهذه الأرض وما فيها من جبال، ووديان، وصحارى، وأغوار، وشواطئ، وبحار، وبحيرات، وأسماك، وأطيار، وحيوانات، هذه السماوات والأرض تسبِّح الله سبحانه وتعالى أولاً، بالدليل القطعي،
عرض الأمانة على السماوات والأرض:
وقد قال الله عزَّ وجل:
﴿
معنى ذلك أن هذه السماوات والأرض عُرِضت عليها أن تحمل الأمانة فأبت وأشفقت من حملها، قال: هذه السماوات والأرض إن رأت غفلة الإنسان، وانقطاع الإنسان عن ربِّه، وشرود الإنسان عن شرعه، وشقاء الإنسان في البُعد عن الله، بل إن رأت معصية الإنسان، وكفر الإنسان، وجحود الإنسان، وفجور الإنسان، وجريمة الإنسان، قال: هذه السماوات والأرض تكاد تتفطَّر من هول جريمة الإنسان، من شذوذه، من كفره، من انحرافه، طبعاً هذا المعنى مأخوذ من آية أخرى في سورة مريم:
﴿
بآخر مريم تأتي آيةٌ تُفسِّر معنى التفطُّر هنا، حينما يدعو الإنسان مع الله إلهاً آخر، أو حينما يقول: إن لله ولداً، إذا قال هذا الكلام:
﴿
للمؤمنين، هؤلاء الذين آمنوا بالله عزَّ وجل، وكانت لهم أعمالٌ قبل إيمانهم، الملائكة يستغفرون للمؤمنين.
توعد الله عز وجل الإنسان العاصي بالعذاب الشديد:
﴿ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ
الشيء الأساسي أنه من أسماء ربنا عزَّ وجل أنه غفور، فمهما كنت تحمل من خطايا التوبة مقبولة.
﴿
﴿ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)﴾
لكن عندما قال الله عزَّ وجل:
﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54)﴾
قد يأتي العذاب إن لم تتب إلى الله عزَّ وجل.
باب التوبة مفتوح مادام في الحياة فُسحة:
إذاً أيها الأخوة؛ ما دمنا أحياء، مادام القلب ينبض، مادام في الحياة فُسحة، مادام الإنسان يتنفَّس باب التوبة مفتوح، وباب المغفرة مفتوح، وباب العطاء مفتوح، إذاً:
﴿ تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
أي حينما يتخذ الإنسان ولياً من دون الله، أي حينما يتحرَّك بتوجيه إنسان لا يعرف الله، حينما ينفِّذ نصيحة إنسانٍ جاهل، حينما يُرضي مخلوقاً ويعصي خالقه، حينما يطيع ضعيفاً ويعصي القوي، حينما يطيع الفاني ويعصي الأبدي، قال:
كل إنسان مخير لا مسير:
﴿
من الآيات السابقة نجد أن:
1 ـ الوحي ظاهرة مستمرة:
إذاً هذه الآيات نجد أن العالم مشهود وغيبي، عالم الشهود تتعرَّف إليه من خلال الحواس، فإذا غابت عين الشيء وبقيت آثاره فمن خلال العقل، أما عالم الغيب فلا تعرفه إلا بالوحي، إلا بالخبر الصادق، والله سبحانه وتعالى لابدَّ من أن يوحي إلى أنبيائه ورسله ليرشدوا الخلق إلى الحق، وإلى سرِّ وجودهم، وطريق سعادتهم.
إذاً الوحي ظاهرة مستمرَّة، الوحي ليس جديداً ولا مستحدثاً إنه قديم، مادام الله سبحانه وتعالى قد خلق الخلق ليهديهم إليه، إذاً لابدَّ من أن يوحي إلى أنبيائه.
2 ـ ملكيَّة الله سبحانه وتعالى ملكيَّةٌ تامَّة:
والنقطة الثانية موضوع المُلْكِيَّة، أنت في ملكه، وملكيَّة الله سبحانه وتعالى ملكيَّةٌ تامَّة، أي أنت ملكه خلقاً وتصرُّفاً ومصيراً.
مهمة الأنبياء التبليغ والإنذار والإنسان مخير بعد ذلك:
حينما يغفل الإنسان عن ربِّه، ويكفر به، ويجحد نعمته، وقد سُخِّر له الكون كله من أجله، عندئذٍ السماوات والأرض يتفطَّرن من فوقهن.
أما الذين أشركوا بالله عزَّ وجل، وتحرَّكوا وفق مشيئة غير الله، عصوا ربهم وأطاعوا مخلوقاً ضعيفاً طارئاً في حياتهم، قال هؤلاء
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ
﴿
عليك أن تبلِّغهم فقط، وعليك أن تنذرهم فقط، وهم مخيَّرون إن أحسنوا فلأنفسهم، وإن أساؤوا فعليها.
الكون يتفطَّر عجباً وإنكاراً للإنسان الغافل الشارد عن ربِّه:
أيها الأخوة؛ الآية التي وردت في سورة مريم عن تفطُّر السماوات والأرض، قال تعالى:
﴿ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا(91)وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92)إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا(93)﴾
فهذه الآية تفسِّر هذه الآية التي نحن بصددها وهي:
نزول الوحي باللغة العربية:
ثمَّ يقول الله عزَّ وجل:
﴿
الوحي الذي جاء النبي عليه الصلاة والسلام جاء هذا الوحي بلسانٍ عربيّ مبين،
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)﴾
بالمناسبة أحد كبار الجغرافيين أثبت أن مكَّة المكرَّمة، لو رسمنا القارات الخمس على مسطَّح، وأخذنا أقطار هذه القارات، أي الأطراف الأربع، وصلنا أول قطر وثاني قطر، لتقاطعت أقطار القارات الخمس هندسياً بدقَّةٍ بالغة في مكَّة المكرَّمة، فمكَّة المكرَّمة هي الوسط الهندسي للقارات الخمس، فقوله تعالى:
موضوعات القرآن الكريم واحدة أما أساليبها ولغاتها فمختلفة:
القرآن الكريم كموضوعات كبرى، ما موضوعاته الكبرى؟ الإيمان بالله؛ الإيمان بالله خالقاً ومربياً ومسيِّراً، الإيمان بالله واحداً، الإيمان بالله كاملاً، الوجود والكمال والوحدانيَّة. الإيمان بنبوَّة الأنبياء موضوع ثان كبير، الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بالكتب المنزَّلة على رسله.
الآن التكاليف؛ الأمر والنهي، والوعد والوعيد، ومشاهد الجنَّة ومشاهد النار، هذه موضوعات القرآن الكبرى، فيه آيات كونيَّة، فيه تكليفيَّة، فيه تكوينيَّة، فيه إيمان بالله، فيه توحيد، فيه بيان لأسمائه الحسنى، فيه بيان لوحدانيَّته، فيه بيان لوجوده خالقاً ومربياً ومسيِّراً، فيه بيان لأنبيائه ولكتبهم، فيه بيان لليوم الآخر، فيه تكاليف أمر ونهي، فيه وعد ووعيد، هذه موضوعات القرآن الكبرى، والعلماء يرجِّحون أن هذه الموضوعات الكبرى لكل الكتب السماويَّة، استنباطاً من كلمة،
العاقل من يهيئ لله عز وجل جواباً عن كل عمل يقوم به قبل يوم القيامة:
إذاً:
﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(7)﴾
الحقيقة الإنسان إذا آمن بالله وحده، ولم يؤمن باليوم الآخر لا يستقيم على أمره، أما إذا آمن باليوم الآخر فمعنى ذلك أن كل حركةٍ وسكنةٍ سوف يُسأل عنها يوم القيامة، إذاً عليه أن يهيِّئ الجواب لله عزَّ وجل.
نهاية الإنسان إما إلى الجنة أو إلى النار:
إذاً:
وفي الدرس القادم إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ(8)﴾
والحمد لله رب العالمين