- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (042)سورة الشورى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
مفاتيح كل شيءٍ في السماوات والأرض بيد الله عز وجل:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع من سورة الشورى، ومع الآية الثانية عشرة وهي قوله تعالى:
﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(12)﴾
كلمة: ﴿لَهُ﴾ هذه في رأي علماء النحو لام الاختصاص، أي له وحده، قد تملك شيئاً وبإمكان آخر أن يملكه، قد تقتني سيارةً وبإمكان آخر أن يقتني السيارة، لكن لام الاختصاص تعني أن هذا الشيء له وحده.
المؤمن لا يليق به أن يُحسب على أحد غير الله:
لو كنتم في مجلس يوجد فيه أشخاص عديدون، الأقوى أو الأعلم أو الأكثر طلاقة في حديثه تتجه الأنظار إليه، هو مَعْقِدُ عيون الحاضرين، فطبيعة النفس تتجه نحو الأقوى، نحو الذي بيده الأمر، يقول لك: فلان الرجل القوي في هذا المكان، الأنظار كلها إليه وتهمل ما سواه، فربنا عزَّ وجل من أجل أن تلتفت إليه، من أجل أن تعتمد عليه، من أجل أن تثق به، من أجل أن تجعله وكيلك في كل شيء، من أجل أن تتوكل عليه قال لك:
الله عز وجل خلق الإنسان ضعيفاً ليسعد بافتقاره:
لذلك الله عزَّ وجل يبين في هذه الآية ﴿له﴾ هنا لام الاختصاص، له وحده
الصحة بيد الله عز وجل فعلى الإنسان أن يشكره عليها:
الواحد منا بدءاً من جسمه، الكليتان من الذي يضمن له أن تعملا حتى نهاية عمره؟ الفشل الكلوي حتى الآن أسبابه مجهولة، فجأةً تجده، أوبئة الكبد، إذا تلف كبد الإنسان يعيش فقط ثلاث ساعات، الناس يخافون من القلب مع أن الكبد أخطر، الكبد والكلية أخطر من القلب، هذه الأجهزة الحساسة المصيرية التي إذا توقفت انتهت الحياة بيد من؟ بيد الله، والإنسان لو يقرأ بعض التفاصيل في عمل الأجهزة يرى أن المعجزة أن يستيقظ الإنسان سليماً، الدم له تحاليل، الغدة النخامية تفرز عشرة هرمونات، وزنها نصف غرام، لو اختل إفراز هرمون واحد لأصبحت حياة الإنسان جحيماً.
البنكرياس فيه مليون جزيرة، وزنها غرام، تفرز الأنسولين، لو تعطلت صار معه مرض السكر، له مضاعفات على العينين، مضاعفات على الأطراف، أكثر مرض الموات من السكر، إذا كانت هذه المليون جزيرة لم تفرز الأنسولين الكافي مشكلة، بيد من؟ هذه الجزر بيد من؟ الدرقية بيد من؟ النخامية بيد من؟ الكظر بيد من؟
معامل نقي العظام لكريات الدم، أحياناً تتوقف فجأة، المرض خطير جداً اسمه فقر الدم اللامُصَنِّع، هذا نقي العظام الذي يصنع في كل ثانية اثنين ونصف مليون كرية، هذا بيد من؟ من الذي يجعله يقف عن العمل؟ الإنسان يصاب بمرض خطير.
كل إنسان تحت ألطاف الله عز وجل:
معنى ذلك أن الإنسان بدءاً من دماغه هناك شرايين دقيقة جداً، والدم يسيل بها، لو تجمدت نقطة كرأس الدبوس في أحد شرايين الدماغ، هو وحظه، في محل يفقد ذاكرته، بمحل آخر يفقد حركته فينشل، بمحل آخر يفقد توازنه، بمحل ينسى أصدقاءه، بمحل يفقد بصره، نقطة دم كرأس الدبوس إذا تجمَّدت في أحد شرايين الدماغ يصاب الإنسان بأمراض مدمرة، هذه الشرايين بيد من؟ هناك تصلب بشرايين الدماغ، مرونتها بيد من؟ الدم سيولته بيد من؟ لو صار لزجاً مشكلة، القلب بيد من؟ الدسَّام بيد من؟ الشريان التاجي الذي يغذي القلب بيد من؟ المعدة، الأمعاء، الكليتان، الكبد، العمود الفقري، تراكم هذه الفقرات وهذه الطبقة الغضروفية بينهما، حينما تنقرص بعض الفقرات يقول لك: الحياة لا تطاق، آلام لا تطاق، الإنسان تحت ألطاف الله عزَّ وجل، قال لك: بيده ﴿لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ زوجتك بيده، أولادك بيده، تجارتك بيده، هذه الرياح بيده، تكون رياحاً لطيفة ثم تصبح مدمرة، بأمريكا تحدث أعاصير لا تبقي شيئاً في طريقها، سرعتها ثلاثمئة كيلو، لا تبقي شيئاً، خسائر إعصار واحد ثلاثون مليار دولار استمر ليلتين، بيد من الحرارة؟ الآن موجات الصقيع بأمريكا خمس وستون تحت الصفر، لم يبق شيء كل شيء تعطَّل، يوجد رياح، الزلازل بشرقي آسيا، بيت استغرقت دراسات هندسته سنتين، ونفذ بعشر سنوات وهدم بخمس ثوانٍ، شدة الزلزال ست رختر انتهى البيت، كان هنا بيت، بيد من؟ قال:
من كان قلبه معلقاً بغير الله فهذا عين النفاق ومن التفت إلى الله فهذا هو التوحيد:
نحن إذا آمنا بالله انتهت مشكلتنا، لأننا إذا آمنا بالله اتجهنا له، لكن الإنسان يبحث عن القوي، يتمتم: من القوي؟ هذه طبيعة الإنسان، يود القوي زيادة، يحترمه زيادة، إذا عطس: يرحمكم الله، على أدنى حركة تجده يقدم واجباته تجاهه، لأنه قوي، ليس معه أي مزح، أنت اعرف من هو القوي الحقيقي؟ هو الله عزَّ وجل، فإذا عرفت أن الله بيده كل شيء فعلاقتك مع جهة، خلصت من النفاق، انتهى النفاق إلى غير رجعة، إذا عرفت أن الأمر بيد غير الله فهذه مشكلة كبيرة جداً، لو صليت، لو صمت، لو زعمت أنك مسلم، لكن يوجد شرك، قلبك معلق بغير الله، يرجو غير الله، يخاف من غير الله، آمالك معلقة على غير الله عز وجل، هذا هو الشرك، هذا معنى قوله تعالى:
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)﴾
هو طقوسه لله، أما قلبه فلغير الله، الله يريد قلبك، لا يريد حركاتك، إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم، يريد قلبك، هذا القلب إلى أين هو ملتفت؟ إلى زيد أو عُبيد؟ فلان أو علان؟ شرك، أما إذا التفت إلى الله عزَّ وجل فهذا هو التوحيد.
على الإنسان أن يرضي الله عز وجل ولا يعبأ بغيره:
لذلك القرآن قد تعجب أن كل آياته على التوحيد، لأن الآيات كلها بالنهاية من أجل أن تلتفت إليه، ألا ترى غيره وأن تلتفت إليه، أما إذا تشعبت بك المذاهب فحياة الشرك صعبة جداً.
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾
إرضاء الناس غايةٌ لا تُدرك، ومن استطاع أن يرضي الناس جميعاً فهو منافق، معنى هذا أنه ذكي جداً ولكن ذكاءه شيطاني، من استطاع أن يرضي الناس جميعاً في وقت واحد فهو منافق، أنت عليك أن ترضي الله ولا تعبأ بغيره.
فليتك تحلو والحيــــاة مريــــــــرةٌ وليتك ترضى والأنام غضـــاب
وليـت الذي بيني وبينك عامـــــــرٌ وبيني وبين العالمين خــــــراب
وليـت شرابي من ودادك سائـــــغٌ وشربي من ماء الفرات سـراب
أقول لعذّالي مدى الدهر اقصـروا فكل الذي يهوى سواه يعـــــاب
* * *
أي أنت أيها الإنسان لا يليق بك أن تحب غير الله، ولا يليق بك أن تُحْسب على غير الله، يقول لك: هذا محسوب علينا، من أنت؟ أنت لست أهلاً أن يُحسب عليك إنسان، كن محسوباً على الله، سألوا أساساً عالماً في مرض: لماذا هذه المكانة العالية؟ قال: لأنني محسوب على الله، لست محسوباً على جهة أرضية، فهذه الكلمة فيها أدب، لم يقل: أنا أهل، قال: أنا محسوب عليه.
الرزق يحتاج إلى توفيق إلهي لأن السعي والتدبير شرطان لازمان غير كافيين:
﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
الرزق بيده، تجد شخصاً كتلة من الذكاء ولكن رزقه قليل، شخص آخر على دروشته تجد ماله وفيراً، ولكن يوجد حكمة، القضية ليست بالذكاء ولا بالسعي، مع أن السعي ضروري، والتدبير ضروري، لكن لا يكفي وحده، السعي والتدبير شرط لازمٌ غير كافٍ يحتاج إلى توفيق إلهي لأنه هو الرزاق.
قوانين اتساع الرزق:
1 ـ الاستقامة:
ربنا عزَّ جل بيده الرزق ولكن يوَسِّعه للمستقيم على أمره، أول قانون:
﴿ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16)﴾
﴿
﴿
هذا أول قانون لاتساع الرزق الاستقامة، صدق، أمانة، ورع، ورع شديد، ما دمت أنت بهذه الاستقامة وهذا الورع والأمانة إذاً الله عزَّ وجل يقدر لك رزقاً وفيراً.
2 ـ صلة الرحم:
الآن صلة الرحم تزيد في الرزق، إن كان له أخوات بنات، له أولاد أخوات، له أقارب، يتفقَّدهم من حين لآخر، بحاجة للمساعدة، إذا وصلت هؤلاء الأرحام زيارةً ومعونةً ودلالةً، الصلة لها ثلاثة معان؛ أقل شيء الزيارة؛ استأنسوا بك، ثانياً: المعونة، لا أن تذهب بيديك، ثالثاً: الدلالة؛ أعطهم شريطاً، أسمعهم درساً، أو أعطهم درساً من عندك، فزيارة ومعونة ودلالة، هذه الصلة تزيد في الرزق، هذا هو الشرط الثاني.
3 ـ الأمانة:
الشرط الثالث: قيل: "الأمانة غنى"ً، والأمين غني لأنه موثوق.
4 ـ الاستغفار:
الشرط الرابع: الاستغفار، فإذا غلط الإنسان واستغفر..
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)﴾
5 ـ إتقان العمل:
الاستغفار، وصلة الرحم، والأمانة، والاستقامة، بقي إتقان العمل، إذا أتقن الإنسان عمله لا يقف، لأنه عندما يدرس السوق من الذي يعمل مستمراً؟ هو المتقن، كل الناس يتحولون له، أما عندما يكون السوق قوياً جداً فيلتفون للكل، أما إذا برد السوق فيبقى المتقن يعمل لا يقف.
الدعاء طريق لحل مشكلات الإنسان بشرط أن يكون حقيقياً:
الإتقان، والاستقامة، وصلة الرحم، والأمانة، بر الوالدين، هذه كلها من عوامل زيادة الرزق، والرزق بيد الله عزَّ وجل، والإنسان يكون عزيز النفس، ويضع حاجته عند الله عزَّ وجل، وهذا الحديث القدسي الذي ينبغي ألا ننساه أبداً: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( إِنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَوَّلُ نَزَلَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَقُولُ: هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ؟ هَلْ مِنْ تَائِبٍ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ؟ حَتَّى يَنْفَجِرَ الْفَجْرُ. ))
الله يقول لك: اسألني، استيقظ بالوقت المناسب وصلِّ ركعتين واسألني وانظر، لأنه لم يأمرك أن تدعوه إلا ليستجيب لك، ما كان قال لك: ادعني، إله ما أمرك أن تدعوه إلا ليستجيب.
﴿
أنت بالدعاء أقوى إنسان، بالدعاء تحل كل مشكلاتك، لكن على أن يكون دعاء حقيقياً، وبشروط الدعاء.
﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)﴾
الدعاء يحتاج إلى إيمان بالله واستقامة على أمره وأن يكون من القلب:
بالمناسبة إذا كان إيمان الإنسان بالله ضعيفاً، وإيمانه بالناس قوياً، أي مشرك، إيمانه بزيد قوي لكن إيمانه بالله ضعيف، واستجابته ضعيفة لا يطبِّق أوامر الله، لا يوجد غير الله، يستحي، يوجد حجاب، عوامل بعد الإنسان عن الدعاء تلبسه بالمعاصي وشركه، الشرك والمعاصي لا تعينان الإنسان على أن يدعو الله دعاءً صادقاً، وهذه نقطة مهمة جداً، أما إذا كان الإنسان مستجيباً لله، آمن بالله إيماناً حقيقياً واستجاب له، أمتع ساعاته حينما يدعو الله عزَّ وجل، عندئذ:
وجدناك مضطراً فقلنا لك ادعنــا نجبك فهـــل أنت حقـاً دعوتنــا؟
دعوناك للخيرات أعرضت نائياً فهل تلقَ من يحسن لمثلك مثلنا؟
* * *
فالإنسان بالدعاء قوي جداً، أما الدعاء فيحتاج إلى إيمان بالله وإلى استقامة على أمره، ثم إلى دعاء حقيقي من قلبك، والنتائج مضمونة.
جميع الرسالات السماوية تهدف إلى الإيمان بالله وعبادته:
إذاً:
﴿
في أول السورة قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)﴾
أي يجب عليك أن تشعر أن هذه الرسالات السماوية واحدة، كلها من عند الله، وكلُّها تهدف إلى هدفٍ واحد أن تؤمن به وأن تعبده.
﴿ فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ
هذه الآية ذكرها كل الأنبياء.
الدين هو إيمان بالله واستقامة على أمره:
هناك آية أدق من ذلك:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
فالدين كله له منطلق فكري، وله سلوك عملي، المنطلق الفكري أن تؤمن به واحداً كاملاً موجوداً، أن تؤمن به خالقاً مربيّاً مسيّراً، واحداً في ذاته وفي أسمائه وفي أفعاله وفي صفاته، موجوداً، أي أن تؤمن به وأن تستقيم على أمره، هذا الدين كله.
النبي الكريم جاء في الترتيب قبل سيدنا إبراهيم وموسى وعيسى لبيان أنه سيِّد الأنبياء:
في أول السورة:
دين الله عز وجل في الأرض واحد والأنبياء دعوتهم واحدة:
لذلك جاءت الآية كما يلي:
﴿
مراد الله عزَّ وجل أن يكون دين الله في الأرض واحداً، وأن يكون أتباع الأنبياء مؤتلفين لا متفرِّقين، لا متعادين، لا متحاربين، هذا الذي بين أتباع الديانات الثلاثة لا يرضاه الله عزَّ وجل، بالعكس هذا مما يُغضب الله، فأن أقيموا الدين أي هذا الشرع طبِّقوه، اجعلوه قائماً بينكم، اجعلوا هذا الدين في بيوتكم وفي أعمالكم وفي كل نشاطاتكم.
﴿
الأنبياء دعوتهم واحدة أما الأتباع فمختلفون.
المشركون كَبُرَ عليهم أن يتنزَّل الوحي على محمدٍ صلى الله عليه وسلم:
(( كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لتوحيده، ولنعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء. ))
هذه الجاهلية، الجاهلية الأولى غير الثانية، الجاهلية الأولى:
النبي كان فقيراً ولكن له نسب عريق، وله استقامة ظاهرة، كان في الجاهلية اسمه الأمين، أساساً عندما هاجر إلى المدينة كان يضع في بيته الأمانات للكفار، كانوا يثقون به أيما ثقة لأمانته وصدقه، وقد عرف بالأمين.
المشركون كَبُرَ عليهم أن يتنزَّل الوحي على محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتمنون أن ينزل الوحي على الرجل من القريتين عظيم، فربنا عزَّ وجل قال:
من لم يطلب الهدى لا ينتفع بأي شيء إطلاقاً:
هناك نقطة مهمة جداً وردت في سورة البقرة أيضاً:
﴿ الم(1)ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2)الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)﴾
لو أن إنساناً يبحث مثلاً عن جهاز ضغط ليقيس ضغطه تجده مهموماً، دخل إلى مكتبة لا يعنيه منها شيء، يقول له: هذا كتاب جديد، هذا كتاب طبعة حديثة، ولكنه يسأل البائع: هل عندك جهاز ضغط؟ طلبه جهاز ضغط، أما لو طالب علم، عنده قائمة كتب، يدخل إلى المكتبة وعينه على الكتب كتاباً كتاباً، فالإنسان إذا لم يطلب الهدى فإنه لا ينتفع لا بالقرآن، ولا بالعلماء، ولا بالدعاة، ولا بخطب المساجد، ولا بالأحداث، ولا بأي شيء إطلاقاً.
الهدى قرار داخلي على الإنسان أن يسرع باتخاذه:
لو أن إنساناً ليس لديه بيت، كان عنده بيت وعليه دعوى إخلاء، أخلوه، فأصبحت زوجته عند أهلها وهو عند أهله وأولاده بين الجهتين، وهو معذب عذاباً لا يحتمل، ويمشي في الطريق هائماً على وجهه يبحث عن غرفة يأوي إليها، فقال له شخص: أتريد بيتاً؟ يمكن أن يقبّل رجله، يختل توازنه، إذا كنت طالباً الشيء فعندئذٍ تستفيد من كل شيء، وإذا لم تطلب الشيء، كأن يكون لديه بيت كبير، وعنده بيت ثان مغلق، وبيت ثالث يريد أن يبيعه، وسأله سائل: هل تريد أن تشتري بيتاً؟ تجده لا يجيبه إطلاقاً، يعرض عنه، فلاحظت ملاحظة في كتاب الله كله، كثير من الآيات:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾
﴿
أنت لك قرار سابق إذا لم تتخذه بطلب الهدى لا ينفعك الهدى إطلاقاً، لا تستفيد.
من لم يطلب الحق لا ينتفع به ولو كان بين يديه:
أوضح مثل على ذلك: لديك آلة تصوير وهي أغلى آلة لكن ليس فيها فيلماً، مهما تفننت بالتقاط المناظر، لا يوجد فيلم، معنى ذلك أنك لست طالباً، وإذا لم يطلب الإنسان الهدى فلا ينتفع بالهدى إطلاقاً، القرآن بين يديه، كله كامل، مطبوع أفخر طبعة، مسجَّل بأحدث القراءات، ومفسر، دروس علم، خطب، ولكن ليس هذا طلبه، طلبه الدنيا، فالإنسان إذا لم يطلب الحق فلا ينتفع به ولو كان بين يديه، وطالب الحق ينتفع ببصيصٍ من نور، ينتفع بورقة من كتاب، ينتفع بنصيحة من عالم، نصيحة واحدة، يقول لك: لا أنساها، فعليك أن تجهد لتتخذ هذا القرار، وأن تتخذ قراراً بطلب الهدى لكي تنتفع بالقرآن، تنتفع بالخطب والدروس، تنتفع بالأحداث التي تجري في العالم، تنتفع بالآيات الكونية.
إذاً هذا معنى قول الله عزَّ وجل:
من اتخذ قراراً بالهدى فالله عز وجل يهديه ويستعمله صالحاً:
إذا رجع الإنسان لنفسه، عاد إلى نفسه، تأمَّل في ذاته، في سرّ وجوده، في نهاية وجوده، في حقيقة الدنيا، في خالقه، واتخذ قراراً بالهدى، الآن الله يهديه.
تصور أباً رأى ابنه شارداً فتجده يسأله: خير يا بني ماذا تريد؟ فقال له: أريد أن أدرس، يقول له: تكرم، الأب مقتدر هيَّأ له مدرسة، وأقساطاً، وأساتذة خاصين، وغرفة خاصة، ودخلاً يكفي، وأعفاه من كل أعباء البيت، فلما يطلب الإنسان فالله يعطيه، أنت اطلب فقط..
﴿
أما إذا طلبت فالقضية أصبحت سهلة جداً،
البغي سبب من أسباب التفرقة بين الناس:
﴿
التفرق الآن بين المسلمين أقرب شيء لنا، التفرق بين المسلمين بغياً بينهم أي حسداً، أي طلبهم للرئاسة، رئاسة المجالس، هذا العالم الفلاني، وهذا الداعية الفلاني، طلبهم للزعامة، طلبهم للدنيا، طلبهم للتجمُّعات الكبيرة، هذه تجعلهم يطعنون ببعضهم بعضاً، التفرقة أسبابها البغي، قال الله تعالى:
علامة إخلاص المؤمن أن ينتمي إلى مجموع المؤمنين:
فيا أيها الأخوة الكرام؛ علامة الإخلاص أنك تنتمي إلى مجموع المؤمنين، وترحب بكل المسلمين، وتقدر كل العلماء المخلصين، وكل الدعاة الصادقين، وكل المستقيمين على أمر الله، أما علامة البغي فترفع نفسك على حساب الآخرين، ترتفع وتطعن بالآخرين، فهذا الطعن، تقاذف التهم، وتفتيت المسلمين، وشرذمتهم، وجعلهم جماعات جماعات، وفرقاً فرقاً، وطوائف طوائف، وكتلاً كتلاً، هذه بغياً بينهم، أي عداوةً وعدواناً وحسداً وتطلُّعاً إلى المكاسب الدنيوية الرخيصة،
كل إنسان عليه أن يتعاون مع إخوته تعاوناً قوياً:
المفروض في الإنسان أن يكون متعاوناً مع إخوانه تعاوناً قوياً، لأن ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا
تقولها مرة ثانية وثالثة وخامسة، وكل إنسان يتوهم أن الله فقط له، والجنة له فقط، وهو على الحق وحده، والناس كلهم ليس فيهم خير، قال:
(( عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِي تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى». ))
هكذا.
الشوكاني في نيل الأوطار، حكم المحدث : ثابت، الجملة الأولى صحيحة يد الله على الجماعة ، وأما الزيادة فلم نجد لها طرقا يشد من عضدها ويقويها .
(( عن رَجُلٍ قال: انتَهَيتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يقولُ: أيُّها النَّاسُ، عليكم بالجَماعةِ، وإيَّاكم والفُرْقةَ، أيُّها النَّاسُ، عليكم بالجَماعةِ، وإيَّاكم والفُرْقةَ، ثلاثَ مِرارٍ، قالها إسحاقُ. ))
(( عليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. ))
الإخلاص يرسخ الانتماء لمجموع المؤمنين:
إذاً التفرق سببه البغي، والبغي يعني الحسد، والبغي يعني العداوة، وطلب الوجاهة، والمكاسب الدنيوية، فإذا انسحبت العقلية التجاريَّة على الدعوة إلى الله رأيت الفرقة، والتشرذم، والعصبية العمياء، وتكريس الانتماء لجماعات صغيرة جداً، وتفتيت المسلمين، والآية واضحة كوضوح الشمس:
كنت أقول كلمة دقيقة: كلما انخفض مستوى الإخلاص تُرَسخ الانتماء لجماعتك، تطعن بالآخرين، وكلما ارتفع مستوى الإخلاص تُرسخ الانتماء لمجموع المؤمنين، هذه نقطة مهمة جداً، الإخلاص هو المحرِّك، أنت تنفذُ قوله تعالى:
﴿
أما إذا ضعف الإخلاص فيهمك كيانك الذاتي، والمكاسب المادية، والوجاهة الاجتماعية عندئذٍ تضطر لتطعن بالآخرين لكي تروج بضاعتك وتصرف الزبائن لعندك، طبعاً هذا منطق التجَّار، أما الدعاة إلى الله فلهم منطقٌ آخر، منطقهم الآخر إذا عزَّ أخوك فَهُنْ أنت، وإذا كانت الدعوة ماشية فأنت كن بخدمته، أخ لك أطلقه الله بالدعوة عاونه، بدلاً من أن تنافسه.
على كل مؤمن أن يساعد الداعية إلى الله إن كان على حق:
أقول هذه الكلمة: لك أخ وانطلق في الدعوة إلى الله، فأنت أمامك أحد أمرين إذا كان على خطأ فانصحه، وإذا كان على حق فعاونه، هل هناك أكثر من ذلك؟ أما إن كان على حق وتعمل له مشكلة فمعنى هذا أنه حسد، معنى هذا أنك حسدته، وكل إنسان يؤلمه تفوّق أخ، انطلاق أخ فقد وضع نفسه بخندق المنافقين وهو لا يدري.
﴿
لك أخ من سِنَّك الله أطلقه بالدعوة، وصار له دعوة واسعة، فإذا كان على باطل فانصحه، وإذا كان على حق فادعمه وعاونه، وإذا عزّه الله فسيعزَّك معه كذلك، أما هذه النفسية التي تريد كلما انطلق الإنسان نكبِّله، نطعن فيه، نشك بإخلاصه، هذا تمزيق للمسلمين، هذا لا يرضي الله أبداً.
الله عزَّ وجل أعطى كل إنسان اختياره وأعطاه أجلاً يتناسب مع اختياره:
إذاً:
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(14)﴾
هذه الآية دقيقة جداً أمضيت درساً بكامله في شرحها من قبل أسبوعين أو ثلاثة، أي إن ربنا عزَّ وجل أعطى الإنسان اختياره، وأعطاه أجلاً يتناسب مع اختياره، فلو أخطأ ضمن هذا الأجل لا يحسمه، يؤخره إلى الوقت الذي أعطاه إيَّاه.
المعنى الأعمق إن ربنا عزَّ وجل لو أنه حاسب الناس على أخطائهم لقضى عليهم وأهلكهم، لكنه يعطيهم مهلة لعلهم يتوبون، لعلهم يعودون، لعلهم يتفكرون، لعلهم يتذكرون، ومثال على إعطاء الأجل: لو فرضنا أننا أجرينا للطالب مذاكرة أول سنة فأخذ صفراً، فهل نرسبه رأساً؟ يوجد عنده فصل ثان وفصل ثالث وفحص أخير، وهناك فحص شفهي وتحريري ووظائف ونشاط، فليس من المعقول من أول مذاكرة أن ترسِّبه، أنت أعطيته مهلة تسعة أشهر، فيها فصلان دراسيان، وفيها مذاكرات، وفيها شفهي، وفيها كتابي، وفيها فحص نصفي، وفيها فحص أخير، وهناك علامات وهناك جَمع، ومتوسِّطات، فهل من المعقول من أول مذاكرة أن نرسبه؟ هذا لا يعقل.
وعندما يقول ربنا إنه يوجد أجل، أي أنت يا عبدي انتبه، أنت رسبت اليوم، لكن معك فصل ثان وفصل ثالث وهناك مذاكرات، وفحوص، فالإنسان لمّا يرسب فليس معنى ذلك أنه هلك، لكن لو بقي على هذا الوضع فقد هلك، ولكنه يستطيع أن يغيِّر، ويبدِّل، فربنا من رحمته يعطينا هذه المُهَل.
الخلافات بين الدعاة تبعد الآخرين عن الدين وتطعن به:
من فرّق بين المؤمنين ومزقهم ارتكب الكفر وهو لا يدري:
في آيات ثانية قال:
﴿
لما اختلفت الصحابة بين بعضهم الأوس والخزرج، بعض اليهود كَبُرَ عليهم هذا الوفاق، وهذا الود، وهذه المحبة، فدسوا شاباً ذكَّرهم بأشعار في الجاهلية تطعن ببعضهم بعضاً، فظهر بعض ضعاف العقول فاستل أحدهم سيفه والثاني استل سيفه فستصير مشكلة، فخرج النبي إليهم وقال: أتفعلون هذا وأنا بين أظهركم؟ نزل قوله تعالى:
لا قيمة للدعوة إلى الله إطلاقاً من دون استقامة على أمره:
هؤلاء أهل مكة لما رأوا هذه الخصومات بين أهل الكتاب وبين المسلمين، قال:
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ
يا محمَّد
على كل داعية أن يدعو إلى الله بلسانه و سلوكه:
هناك معنى آخر للآية: استقم على الدعوة أي اثبت عليها.
المعنى الثاني: ادع إلى الله وكن قدوةً لهم، ادع إلى الله بلسانك وبسلوكك
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين