- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (042)سورة الشورى
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الله عز وجل لو شاء لجعل الناس كلّهم في طاعته:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة الشورى، ومع الآية الثامنة وهي قوله تعالى:
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)﴾
هذه الآية أيها الأخوة في القرآن الكريم آياتٌ كثيرة مشابهةٌ لها.
﴿ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ
﴿
آياتٌ كثيرة تتمحور حول هذا المحور، أن الله عزَّ وجل لو شاء لجعل الناس أمةً واحدة، أو لجعل الناس كلهم في طاعة الله، أو لجعلهم غير مختلفين.
الإنسان حمل الأمانة وأمانته نفسه التي بين جنبيه:
الحقيقة هذه الآية يفهمها بعض الناس فهماً ما أراده الله عزَّ وجل، ليس المعنى أن الله عزَّ وجل شاء أن يضلنا، أو شاء ألا يجعلنا أمةً واحدة، المعنى أن الله سبحانه وتعالى شاء لنا أن نكون مخلوقاتٍ من نوعٍ خاص، لما قال الله عزَّ وجل:
﴿
الإنسان حمل الأمانة، فلما حمل الأمانة سخر الله له ما في السماوات وما في الأرض تسخير تعريفٍ وتكريم، ومنحه حرية الاختيار، وفطره فطرةً عاليةً، وأعطاه عقلاً، وفوق كل هذا أنزل على أنبيائه شرعاً ليكون ميزاناً دقيقاً على ميزاني العقل والفطرة، فهوية الإنسان أنه مخيَّر، جنسه مخلوقٌ مكلف، ومع التكليف تخيير، الإنسان حمل الأمانة، وأمانته نفسه التي بين جنبيه.
﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10)﴾
كل إنسان مُنح حرية الاختيار:
شاءت مشيئة الله أن نكون أصحاب مشيئةٍ حرة، وهذا تؤكِّده آياتٌ كثيرة في مقدمتها:
﴿
﴿
﴿
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ
آيات كثيرة جداً تؤكِّد أن الإنسان مُنِح حرية الاختيار، وما دام قد مُنِح حرية الاختيار فلابد من أن يختلف زيد عن عُبيد، وفلان عن عِلان، هذا اختار الهدى وهذا اختار الضلال، هذا اختار الإحسان وذاك اختار الإساءة، هذا اختار الإخلاص وذاك اختار الخيانة، هذا اختار ما يمليه عليه عقله وهذا اختار أن تسيِّره غريزته.
المخلوقات غير مكلفة يُسيّرها رب العالمين:
لذلك لو أن الله عزَّ وجل لم يشأ أن تكونوا مخيرين، لو أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يحمِّلكم الأمانة، لو أن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن تكونوا مكلَّفين، لو أن الله أجبركم وألغى اختياركم، وألغى تكليفكم، وألغى حمل الأمانة لجعلكم أمةً واحدة كبقية المخلوقات، انظر إلى مخلوقات الله عزَّ وجل ليس فيها اختلاف، ليس فيها مشكلات، يوجد انسجام، لأن المخلوقات غير مكلفة، ما دامت غير مكلفة إذاً هي مسيَّرة، والذي يسيّرها رب العالمين.
إذاً لا تجد اختلافاً إلا في عالم المكلَّفين، لا تجد إحساناً أو إساءةً، استقامةً أو انحرافاً، صلاحاً أو طلاحاً، خيراً أو شراً، إخلاصاً أو خيانةً، إلا في عالم المكلَّفين، أما عالم المسيَّرين كبقية المخلوقات فلا يختلفون أبداً، بل إن المخلوقات تتحرك وفق خطةٍ بالغة الدقة محكمةٍ لا خلل فيها إطلاقاً.
الاختلاف في عالم المكلفين لا في عالم المسيّرين:
هذا الذي يقول: لو أن الله عزَّ وجل جعلنا أمةً واحدة، أي ممكن أن يكون هناك امتحان حقيقي نزيه، وأسئلة دقيقة جداً، وأساتذة أقوياء مهرة متفوقون، والطلاب تفاوتوا في اجتهادهم، وفي حضورهم، وفي دوامهم، هل يعقل أن تأتي العلامات كلها متساوية؟ مستحيل، يوجد علامات متفوقة، يوجد علامات وسط، يوجد علامات ضعيفة، يوجد رسوب، يوجد نجاح، يوجد ممتاز، يوجد جيد جداً، يوجد جيد، يوجد مقبول، يوجد ضعيف، يوجد راسب، هذا شأن الاختيار، لكن لو أن إدارة الجامعة ألغت الامتحان إلغاءً كلياً، وأعطت علامات موحدة بلا امتحان، هذا الامتحان ليس له قيمة، هذه الشهادة لا قيمة لها إطلاقاً، لا قيمة لها لا عند رئاسة الجامعة، ولا عند الطلاب، أو عند أولياء الطلاب، إذا ألغي الامتحان النجاح ليس له قيمة، والشهادات لا معنى لها، هذا مما نفهمه أحياناً من قوله تعالى:
إذا أُلغي الاختيار في حياة الإنسان فالإنسان إذا عبد الله يعبده طوعاً:
أن يكون الناس نسخةً واحدة، شخصيةً واحدة، سلوكاً واحداً هذا ممكن، ولكن إذا ألغي اختيارهم، وإذا ألغي تكليفهم، وإذا ألغيت الأمانة، وإذا ألغيت هذه الميزة الكبيرة التي أعطاها الله الإنسان، الإنسان إذا عَبَد الله يعبده طوعاً، يعبده مبادرةً، يعبده من دون أن يكون مكرهاً، ولا مضطراً، ولا مجبراً، إن الله أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً.
أي الإنسان مسيَّر ومخير، مخير فيما كُلِّف، أنت كلفت بالصلاة، لك أن تصلي ولك ألا تصلي، كُلِّفت بغض البصر لك أن تغض البصر ولك ألا تغضه، كلِّفت أن تكون صادقاً لك أن تصدق ولك أن تكذب، لا قيمة للصدق إلا إذا كان عن اختيار، ولا حساب على الكذب إلا إذا كان عن اختيار، لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، لو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، لو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، أي هذا المعنى الذي يحلّ كلّ المشكلات التي قد يظنها المؤمن مشكلة.
الإنسان مسيَّر ومخير:
هل الإنسان مسير أم مخير؟ الإنسان مسيَّر ومخير، فيما مُكلف به مخيَّر، وفيما ليس مكلفاً به مسيَّر، أنت ابن من؟ ابن فلان وابن فلانة، جيء بك إلى الدنيا في الأربعينات، وولدت في بلد معيَّن، بإمكانات معينة، بقدرات معينة، ببيئة معينة، بخصائص معينة، من أم وأب معينين، تلقَّيت العلم من جهة معينة، هذه كلها ليست في اختيارك، لكن حينما قال لك الله:
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي
أنت الآن مخير بها، قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا
أنت مخير، قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
أنت مخير.
الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليكون سيِّد المخلوقات:
لك أن تجلس مع الكاذبين، مع أهل الدنيا، مع أهل الأهواء، مع أهل البِدَع، ولك أن تجلس مع المؤمنين في بيوت الله، أنت مخيَّر، فلو أن الله عزَّ وجل ألغى الاختيار لجعلكم أمةً واحدة، ألم يعد هناك اختيار، ألغى اختياركم، ألغى التكليف، ألغى حمل الأمانة، جعلكم مخلوقات كبقية المخلوقات، ليس لها هذه الدرجات العالية لأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليكون سيِّد المخلوقات.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)﴾
من دون استثناء:
﴿
بالمقابل:
العاقل لا يملك إلا الساعة التي هو فيها:
لا يوجد أيها الأخوة حلّ وسط، فالإنسان إما أن يتجاوز في مقامه الملائكة المقرَّبين أو أن يسقط إلى أسفل السافلين، إلى أسفل من مرتبة الحيوان، والأمر بيدكم، والاختيار موضوع فينا، والآية الكريمة:
﴿
لأنكم مختلفون إذاً أنتم مُخيَّرون، لأنكم مخيَّرون إذاً أنتم مخلوقات من الدرجة الأولى.
تكريم الله الإنسان بتسخير الكون له:
﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ
أنت حملت الأمانة وقلت: يا ربي أنا لها، لذلك كرَّمك الله بأن سخر لك ما في السماوات والأرض، كل ما في الكون مسخرٌ لهذا الإنسان، لكن الشيء المؤسف أن كل من في السماوات والأرض يسبح الله عزَّ وجل بنصِّ القرآن الكريم، كل من في السماوات والأرض من دون استثناء يسبِّح الله عزَّ وجل.
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ
كيف بكم أيها الأخوة إذا رأيتم أن الجمادات تسبَّح، وأن الحيوانات تسبح، وأن أحقر المخلوقات تسبح، وهذا الإنسان المخلوق الأول والمكرم الذي رفعه الله إلى أعلى عليين، وسخَّر له ما في السماوات والأرض غافلٌ عن ربِّه، غارقٌ في دُنياه، غارقٌ في شهواته وملذَّاته، فلذلك كما قال بعض العلماء: في الدنيا جنَّةٌ من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، هي جنة معرفة الله والقرب منه.
رحمة الله واسعة تسع كل المخلوقات وما على الإنسان إلا أن يختار وأن يدفع ثمنها:
ولكن:
رحمة الله ثمنها طاعته وتنفيذ أوامره:
يجب أن تدفع ثمن الرحمة، قال تعالى:
﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا
رحمة الله هي عطاؤه، فسِّرها بما شئت، فسِّرها إن شئت تجلياً من الله على قلبك تسعد به، فسِّرها إن شئت توفيقاً، فسِّرها إن شئت حياةً طيبة، فسِّرها إن شئت قربى من الله عزَّ وجل، فسِّرها إن شئت غنًى تغتني به، فسِّرها إن شئت سلامةً في الدنيا وجنة في الآخرة، كل هذه المعاني التي تخطر في بالك يمكن أن تفسَّر بها رحمة الله، ورحمة الله لها ثمنٌ باهظ، أقول: باهظ لضعف العزَّائم، أما الثمن فليس باهظاً، طاعة الله عزَّ وجل، ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته، وطاعة الله عزَّ وجل في قدرة كل واحدٍ منا، ولا يلتفت أحدكم إلى ما يقوله بعض الناس: يا أخي الفساد عَمّ، وأين أذهب بعيوني في الطريق؟ لا، انظر إلى قوله تعالى:
﴿
فما دمت مكلَّفًا بهذه الأوامر فهي في وسعك قطعاً، بإمكانك أن تصلي، وبإمكانك أن تصوم، وبإمكانك أن تغض البصر، وبإمكانك أن تضبط اللسان، وبإمكانك أن تعطي مما أعطاك الله، وبإمكانك أن تدفع زكاة مالك، وبإمكانك أن تحضر مجالس العلم، هذا كلُّه في إمكانك، لذلك لن تحاسب إلا على قدرةٍ أعطاك الله إيَّاها، من هنا تأتي المسؤولية.
الخلق سواسية عند الله ليس بينه وبينهم قرابة إلا طاعتهم له:
إذاً:
(( أقبل سعدٌ فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
ما فدَّى أحداً إلا سعد بن أبي وقاص قال: عن علي بن أبي طالب:
(( يا سعدُ! ارْمِ، فداك أبي وأمي. ))
ومع ذلك قال له سيدنا عمر بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام:
والله أيها الأخوة؛ بإمكان الواحد منكم أن يصل إلى أعلى عليين في طاعة الله، وطاعة الله بإمكانه، بإمكانك أن تصلي الفجر في جماعة، بإمكانك أن تذكر الله صباحاً، بإمكانك أن تفكِّر في ملكوت السماوات والأرض، بإمكانك أن تستغفر الله طوال اليوم، أن تدعوه في كل شأن، أن تؤدِّي الصلوات في أوقاتها وبإتقانٍ شديد، بإمكانك أن تنفق من مالك، بإمكانك أن تطلب العلم الشرعي، بإمكانك أن تحضر مجالس العلم، كل هذا في إمكانك.
الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر:
لذلك:
يقولون: إن أحد العلماء الكبار في العصور القديمة كان له شأن كبير جداً، وله أتباع كُثُر، وكان بهي الطلعة، كان عظيم القدر، كثير الهيبة، فمرةً كان مع إخوانه في موكب، فنظر إليه رجل ذمي، معذب، فقير، مهان، يعاني من متاعب الحياة كلِّها، هذا الإنسان الذمي نظر في قول رسول الله صلى الله عليها وسلم: عن أبي هريرة رضي الله عنه:
(( الدُّنيا سجنُ المؤمنِ وجنَّةُ الكافرِ. ))
فخطر في باله أن يسأل هذا العالم الجليل قال له: يا سيدي يقول نبيكم: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكفار فأي سجنٍ أنت فيه وأية جنةٍ أنا فيها؟! فقال هذا العالم الجليل:
فهذه الدنيا بكل ما فيها من مُتَع، من مكانة، من وجاهة، من شأن رفيع، من مال وفير، من طعام طيِّب، من نساء، من قصور، كل ما فيها لا تعدل عند الله جناح بعوضة.
(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. قالَ أبو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ :
العاقل من يُعِدُّ لساعة الموت عدَّتها:
والله ليس بيننا وبين الجنة إلا أن نطيع الله عزَّ وجل، والدنيا لا قيمة لها، هي فانية، يأتي الموت ينهي غنى الغني، ألا ترون أن أغنياء كثيرين حينما ماتوا ورّوا تحت أطباق الثرى شأنهم كشأن أفقر إنسان، هل هناك كفن حرير وكفن خام؟ كله خام، هل يوجد قبر درجة أولى أو قبر خمس نجوم ؟ كله قبر، الموت ينهي غني الغني وفقر الفقير، ينهي قوة القوي وضعف الضعيف، ينهي وسامة الوسيم ودمامة الدميم، ينهي صحة الصحيح ومرض المريض، الموت يسوِّي بين البشر، فلذلك العاقل من يُعِدُّ لهذه الساعة عدَّتها، يعدُّ لها العمل الصالح، يُعد لها طلب العلم، يُعد لها خدمة الخلق، يُعد لها الأعمال الطيبة التي ترضي الله عزَّ وجل.
أعظم تكريم للإنسان أن يُعرّف نفسه بربها:
إذاً:
من انقاد وراء شهواته خسر الدنيا والآخرة:
﴿
الإنسان في الحياة له أصدقاء، له أتباع، له أقرباء، له جماعة، يحس أن حوله أُناسًا كثيرين، ولكن يوم القيامة:
عدم معرفة الناس بعضهم بعضاً يوم القيامة إلا في أربعة مواضع:
تروي بعض الآثار عن النبي عليه الصلاة والسلام أن السيدة عائشة سألته: أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟ نحن في الدنيا لنا أهل، لنا أقرباء، لنا أم، لنا أب، أخوات، أصدقاء، جيران، في العمل يوجد شخص أعلى منك، أدنى منك، صاحب، صديق، جار، زميل، هذه العلاقات الاجتماعية في الآخرة هل يا ترى نتعرف إلى بعضنا بعضاً؟ قالت: يا رسول الله أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم يا أم المؤمنين إلا في أربعة مواضع- ذكر أربعة مواضع- عند الصراط، وعند الميزان، وإذا الصحف نشرت - وهناك موضع رابع لا أذكره الآن- وفيما سوى ذلك يعرف بعضنا بعضاً، هذه أمه، هذا أبوه، هذا أخوه، فلان ابن عمه، ابن خالته، فقد تقع عين الأم على ابنها تقول: يا ولدي جعلت لك صدري سقاءً، وبطني وعاءً، وحجري وطاءً، فهل من حسنةٍ يعود عليّ خيرها اليوم؟ أي أعطني حسنة رضي الله عنك، فيقول: يا أماه ليتني أستطيع ذلك، إنما أشكو مما أنت منه تشكين.
﴿ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ(101)﴾
تأتي ربك وحدك، ليس معك إلا عملك الصالح وطاعتك له:
لا يليق بالإنسان أن يتخذ ولياً إلا الله:
أول ليلة يوضع الإنسان في قبره، يقول الله عزَّ وجل:
﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)﴾
أي الإنسان لا يليق به أن يتخذ ولياً إلا الله، لا يليق به أن يهب عمره لغير الله، ولا أن يهب شبابه لغير الله، ولا أن يهب وقته لغير الله، ولا أن يهب فكره لغير الله، ولا أن يهب طلاقة لسانه لغير الله، ولا أن يهب ماله لغير الله، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، أي أنت لا يليق فيك أن تُجَيَّر لغير الله، أن تكون محسوبًا على غير الله عزَّ وجل.
سألوا عالمًا جليلاً من قطر عربي تجرى له عملية جراحية: أنت لماذا لك هذه المكانة العالية؟ فأجاب بتواضع جَم قال: لأنني محسوبٌ على الله، لم يقل: لأني محسوب على جهة أرضية، وعلى الجماعة الفلانية، قال: لأنني محسوبٌ على الله، فأنت يجب عليك أن تكون محسوباً على الله لا على عبدٍ من عباد الله، إما أن تكون عبداً لله، وإما أن تكون عبداً لعبدٍ لئيم، كن عبد الله، لا تأخذك في الله لومة لائم.
الجاهل من يتخذ ولياً من دون الله:
ممكن تدخل إلى دائرة حكومية فيها ألف موظف وفيها مدير عام، وقضيتك متعلقة بالمدير العام تترجى حاجباً ليوقع لك معاملتك؟ تكون لا تعرف شيئًا، الإنسان عندما يتخذ من دون الله ولياً فهو جاهل إذاً، تعلِّق آمالاً على غير لله؟ ترجو غير الله؟ تخاف من غير الله؟ ترجو العطاء من غير الله؟ تخاف نقمة غير الله ؟ معنى ذلك أنك جاهل، معنى ذلك أنك مشرك، ما وحَّدْت الله عزَّ وجل، المؤمن لا يرجو إلا الله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يغضب إلا لله، ولا يرضى إلا لله، هكذا.
أشدّ الناس ظلماً وغباء من اتخذ من دون الله أولياء:
﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ
أشد الناس جهلاً، وأشدهم ظلماً، وأشدهم غباءً، وأشدهم شقاءً من اتخذ من دون الله أولياء، الله هو الولي، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
آيات التوحيد آيات كثيرة تبعث في نفس الإنسان الطمأنينة والراحة:
لذلك آيات التوحيد كثيرة:
﴿ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)﴾
﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ
آياتٌ كثيرة.
﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ
﴿
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
﴿
المقاليد أي المفاتيح،
العذاب الأليم عاقبة من يدعو مع الله إلهاً آخر:
ما الذي يمزِّق النفس؟ أن تتوزع بين أولياء كثيرين.
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
أحد أكبر أسباب العذاب أن تدعُو مع الله إلهاً آخر.
﴿ أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ
المقصود هنا بإحياء الموتى الإنسان حينما يكون جاهلاً بعيداً منقطعاً كأنه ميت، والدليل:
﴿
ليس من مات فاستراح بميتٍ إنما الميت ميت الأحياء
* * *
على كل شيء قدير، لا تخف من أحد، لا تخشَ أحداً، لا تخشَ إلا الله، لا تخشَ مرضاً عضالاً، الله قادر يشفيه شفاء ذاتياً، لا تخشَ إنسانًا قوياً هو بقبضة الله عزَّ وجل
من عامل الناس كما يعامل الله عز وجل كأنما عبدهم من دون الله:
إذاً:
كل شيء يملكه الإنسان هو لله عز وجل:
الله هو الولي، أي لا ينبغي لك أن تتخذ ولياً إلا الله، لا ينبغي لك أن تعتمد إلا على الله، أن تثق إلا بالله، أن تمحض غير الله ودَّك، أي شبابك، عمرك، ذكاؤك، عقلك، لسانك، قلمك، علمك، وقتك، مالك، صحَّتك، كل شيء تملكه لله عزَّ وجل.
﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)﴾
﴿
أي كنتم أمواتًا قبل أن تعرفوه فأحياكم بمعرفته.
عدم استواء المؤمن مع الكافر في الدنيا والآخرة:
الإنسان يكون تائهاً، شارداً، ضالاً، فاسقًا، فاجراً، لا يعرف شيئاً، الحلال كالحرام، الحق كالباطل، المذهب الوضعي كالمذهب الإلهي، ضائع في الحياة، يسير بطريق مسدود، يسعى بلا هدف، فمن هذا شأنه هل هو إنسان؟ الإنسان يعرف ربه، يعرف هدفه، يعرف طبيعة الحياة، يعرف أثمن ما في الحياة، يعرف رسالته بالحياة، يقرأ القرآن، يتفقه في كتاب الله، يقرأ حديث رسول الله، الصحابة قدوته، الآخرة مَحَطُّ آماله، الانضباط سمة من سمات حياته، هذا كهذا؟ دققوا في هذه الآيات:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)﴾
﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾
إذاً:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ(1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ(2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ(3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ(4)﴾
من وضع ثقته بالله حُلّت جميع مشكلاته:
مثلاً - وقد ذكرتها اليوم بعقد قران- هل هناك مصيبة بالأرض تفوق أن يكون الإنسان في بطن حوت وفي أعماق البحر وفي الليل؟ ظلمة الليل، الليل وحده موحش، والليل بالبحر أوحش، وظلمة أعماق البحر، وظلمة بطن الحوت، سيدنا يونس:
﴿ وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ
القصة انتهت، بدأ القانون: ﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذه الميزة ليست لسيدنا يونس وحده لكل مؤمن هكذا الله قال، مهما رأيت الخطب مُدْلَهِمَّاً.
ورب نازلةٍ يضيق بها الفتــى ذرعـــــاً وعند الله منها المخرج
نزلت فلما استحكمت حلقاتهـا فرجت وكان يظن أنها لا تفــرج
* * *
الإنسان قبل أن يعرف الله ميِّت فإذا عرفه دّبَّت الحياة في قلبه:
الإنسان إذا وضع ثقته بالله لا توجد عنده مشكلة إطلاقاً، لا يوجد عنده هم إطلاقاً، لا يوجد عنده حزن، الله على كل شيء قدير، ويحيي الموتى، والإنسان قبل أن يعرف الله ميِّت، فإذا عرفه دّبَّت الحياة في قلبه، المؤمن حيّ، عنده أحاسيس، عنده قيَم، عنده مشاعر، عنده منهج، عنده هدف، عنده وسائل تخدم هذا الهدف.
وفي درس آخر إن شاء الله تعالى ننتقل إلى قوله تعالى:
﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(10)﴾
والحمد لله رب العالمين