- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (039)سورة الزمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ليس في الأرض كلّها إنسانٌ أشدُّ ظلماً من إنسان كذب على الله:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الثاني عشر من سورة الزمَر، ومع الآية السادسة والثلاثين.
يقول الله عزَّ وجل:
﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)﴾
الحقيقة هذه الآية تدور حول معنى التوحيد، وكلكم يعلم أن نهاية العلم التوحيد، وأن الدين كله توحيد، وأنه لن تقطف من ثمار الدين شيئاً إلا إذا وحدت، إنك إن رأيت أن مع الله إلهاً آخر، الطريق إلى الله ليست سالكة، مسدودة، لذلك كما قالوا: ما تعلمت العبيد بأفضل من التوحيد، والآية التي قبل هذه الآية:
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(32)﴾
قلت لكم سابقاً: إن كلمة أظلم اسم تفضيل، أي ليس في الأرض كلّها، ليس في بني البشر كلِّهم إنسان أشدّ ظلماً من هذا الذي كَذَبَ على الله، دعا إلى الله، وكذب عليه، وقال عنه بغير عِلم، أو قال عنه صفاتٍ لا تَليق به تحقيقاً لمصالحه الماديَّة، الإنسان أحياناً يتكلَّم بلا عِلم، وأحياناً يعلم ويتكلَّم بخلاف ما يعلم، فرقٌ دقيق بين أن تقول ما لا تعلم، وبين أن تقول بخلاف ما تعلم، الأول جَهْل، أما الثاني فخطأ كبير جداً، أن تقول وأنت لا تعلم معنى ذلك أنك لا تعلم، أما أن تقول بخلاف ما تعلم معنى ذلك أنك تريد إضلال الناس، فليس في الأرض كلِّها إنسانٌ أشدُّ ظلماً وأفدح خسارةً من إنسانٍ تكلَّم عن الله بخلاف ما يعلم جرَّاً لمصلحةٍ، أو دفعاً لإساءةٍ، أو تحقيقاً لمكسبٍ، شيء خطير أن تلعب بدين الله، أن تلعب به من أجل مصالحك، أن تُغَيِّر الحقائق من أجل مكاسب دنيويَّة زائلة، أن تجعل هذا الدين العظيم في الوحول من أجل مصالح ماديَّة، أن تقول كلاماً يُرضي الأقوياء ولا يرضي الله، أن توهم الناس أن الحق هكذا،
أشدّ المتكلمين ظُلماً وخسارةً من تكلَّم على الله بغير علمٍ:
أنت حينما تلقي على الناس كلاماً غير صحيح، تبثُّ فيهم عقائد زائغة، توهمهم بأشياء غير واقعيَّة، بخلاف القرآن الكريم، بخلاف السنَّة، أنت أفسدت عقول الناس، أفسدت بنيتهم النفسيَّة، أفسدت دينَهم، من هنا قيل:
الضالُّون المضلون يتكلمون على الله بخلاف ما يعلمون:
هذا الذي يقول لك: إن الله كتب على الإنسان الكفر، فإذا جاء إلى الدنيا أجبره على المعاصي، فعصى تحقيقاً لمشيئة الله، وبعد أن ينتهي أجله يدخل جهنَّم إلى أبد الآبدين، هكذا شاءت مشيئة الله عزَّ وجل، أيُّ شيءٍ أبقيته في نفوس المستمعين من حُبّ لله عزَّ وجل ومن تعظيمٍ لكمالاته؟ أين اسم العدل؟ أين؟
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)﴾
أين:
﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾
أين:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى
أين فتيلاً؟ أين نقيراً؟ والقطمير.
﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
العوام لئن يرتكبوا الكبائر أهون من أن يقولوا على الله بغير علمٍ، والضالُّون المضلون يتكلمون على الله بخلاف ما يعلمون.
الله جلَّ جلاله انتقى من صفات الذين يبلِّغون رسالاته صفةً واحدة هي الخشية:
من هنا ربنا جلَّ جلاله قال:
﴿
انتقى ربنا جلَّ جلاله من صفات هؤلاء الذين يبلِّغون رسالات الله صفةً واحدة، أنهم يخشونه، فلو أنهم خشوا غير الله لتكلَّموا بالباطل إرضاءً لهؤلاء الأقوياء، ولسكتوا عن الحق خوفاً منهم، فإذا تكلَّم الداعية بالباطل وسكت عن الحق ماذا بقي من دعوته؟ انتهت، لذلك هذا الوصف مترابط مع الموصوف ترابطاً وجودياً، فلو أُلغي الوصف أُلغي الموصوف: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ استفهام إنكاري، ليس في الأرض إنسانٌ أشدُّ ظلماً، ولا أفدح خسارةً، ولا أكثر عذاباً، من إنسانٍ تكلَّم على الله بغير علمٍ، قل: لا أدري، الإمام أحمد بن حنبل من أقطاب العلماء في عصره، من المجتهدين الأربع، جاءه وفدٌ من المغرب العربي ويبدو أنهم قطعوا شهرين في الطريق، جاؤوه بسبعةٍ وثلاثين سؤالاً فيما أذكر، أجاب عن سبعة عشر سؤالاً وقال: الباقي لا أعلم، استغربوا هذا الكلام لا يُعقل، الإمام أحمد بن حنبل لا يعلم، كيف؟ فقال لهم: "قولوا الإمام أحمد لا يعلم"، أمانة، هذه أمانة التبليغ، أمانة التبيين، إن لم تكن واثقاً من أن هذه الآية تُغَطِّي هذا الجواب، وهذا الحديث الصحيح يَدْعَم هذا الجواب، كيف تقول على الله ما لا تعلم؟ أو كيف تقول على الله بخلاف ما تعلم؟ الأول ضالّ الثاني مُضِل، الأول فاسد الثاني مُفسد، دائماً الله يقول:
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ
اسأل يا أخي:
﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ
كُن جباناً في الإجابة، نصف العلم لا أدري، ارفع رأسك وقل: لا أدري يا أخي، أمهلني، أنظرني، دعني أتريَّث، دعني أفكَّر، دعني أتأمَّل، دعني أراجع، دعني أسأل، قبل أن تقول على الله ما لا تعلم، قبل أن تفسد بناء الإنسان، قبل أن تفسد عقيدته، قبل أن تفسد تصوّره عن الله عزَّ وجل.
أسعد الناس من تعامل مع القرآن تعاملاً جدياً على أنه كلام رب العالمين:
لذلك:
﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)﴾
إذاً هذا صدق، من أَسْعَدِ الناس من تعامل مع هذا الكتاب تعاملاً جدياً على أنه كلام رب العالمين، لكن هناك أشخاصاً كثيرين يتعاملون معه تعاملاً لا أقول غير جدي، تعاملاً بعيداً عن الواقعَّية، بعيداً عن أن يأخذ الأمر مأخذاً جدياً، فالقرآن فيه تهديد، وفيه وعيد، وفيه بشارة، وفيه أمر، وفيه نهي، يفعل ما يحلو له بخلاف أمر القرآن، أي أمره أن يفعل كذا فعل بخلاف كذا ولا يبالي، هذا أحد أنواع التكذيب الفعلي لكتاب الله عزَّ وجل.
المتكلِّم له حساب خاص والمستمع له حسابٌ خاص:
أنت بين أن تكون متكلماً أو مستمعاً، أحد حالتين؛ متكلِّم أو مستمع، المتكلِّم إذا تكلَّم بغير علمٍ أو بخلاف ما يعلم فالويل له، والمستمع إذا كذَّب بالقرآن الكريم وهو كلام الله، قطعي الثبوت، أو كذَّب بالسنَّة الصحيحة التي وردت عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم فالويل له أيضاً، فالويل للمتكلِّم بغير علمٍ أو بخلاف ما يعلم، والويل للمستمع إذا كَذَّب بالحق لمّا جاءه، فلذلك المتكلِّم له حساب، والمستمع له حساب، المتكلِّم مهما أبان، وأفصح، وأجاد، وتشدَّق بالألفاظ، وألقى كلاماً ساحراً، واستخدم اللغة والبيان والبلاغة، مهما تكن عبارته طَلِيَّةً، وجملته متينةً، وأمثلته صارخةً، له حسابٌ عند الله خاص، حسابه هل أنت في مستوى ما تقول؟
﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)﴾
المتكلِّم له حساب، يحاسبه الله عن مدى تطابق كلامه مع سلوكه، والمستمع له حسابٌ خاص، جاءك بآية ولا تبالي بها!! جاءك بحديثٍ صحيحٍ عن رسول الله ولا تبالي به!! أعطاك حُكْمَ الشرع في هذا الموضوع ولم تعبأ به، فعلت ما يحلو لك! أي كأنَّك كذَّبت.
أنواع التكذيب:
والتكذيب كما تعلمون نوعان: تكذيبٌ قولي أن تقول له: هذا كذب، هذا لا يفعله أحد في العالم الإسلامي، لا يجرؤ إنسان أن يقول: هذه الآية غَلَط، ولكن حينما لا يطبِّق، وحينما لا يبالي، وحينما يتخذ القرآن مهجوراً، وحينما لا يعبأ بحكم الله عزَّ وجل، هذا كأنَّه كذَّب بالصدق إذا جاءه، المؤمن:
﴿
حرام حرام انتهى الأمر، يا أيها الذين آمنوا، يخاطب المؤمن لأنه آمن بالله وهذا أمر الله، المؤمن له أن يبحث عن حكمة الأمر، لا مانع، هذا من حقِّه، لكن أن يُعلِّق التطبيق على معرفة الحكمة فليس عبداً لله عزَّ وجل، هذا الذي لا يطبِّق إلا إذا فهم الحكمة، هذا ليس عبداً لله، لن تكون عبداً لله إلا إذا جاءك أمر الله عزَّ وجل فقلت: سمعاً وطاعةً يا رب، وحينما تندفع لتطبيق الأمر قبل معرفة حكمته يكافئك الله جلَّ جلاله بأن يلقي في قلبك حكمة هذا الأمر بعد تطبيقه، عندئذٍ تصبح عالِماً، فالذي يعلِّق تطبيق الأمر على معرفة الحكمة هذا ليس عبداً لله عزَّ وجل، حرام حرام انتهى الأمر.
المؤمن حينما عرف الله وعرف أمره ونهيه صار اختياره وفق مراد الله عزَّ وجل:
همُّ المؤمن الأوحد أن يبحث عن أمر الله، فإذا وجده طبَّقه وانتهى الأمر، أما إذا أراد أن يدعو إلى الله عزَّ وجل وبحث عن حكمة الأمر والنهي ليقنع الناس فهذا شيء طيِّب، عمل طيِّب، أما المؤمن فيكفيه عِلَّة لأي أمرٍ أنه أمر، فأنت في الخدمة الإلزاميَّة مع إنسان عريف يقول لك: نفِّذ ولا تناقش، فكيف مع خالق السماوات والأرض؟ كيف مع مُبْدِع الكون؟ كيف مع العليم الحكيم؟ الرحمن الرحيم؟ مع العَدْلِ؟ مع التواب؟ مع اللطيف؟ مع المهيمن؟ مع القدير؟ مع الغني؟ أتناقشه في أوامره؟ إذا بحثت عن الحكمة لا مانع؛ أما هذا الذي لا يطبِّق إلا إذا عرف الحكمة، لست عبداً لله عزَّ وجل،
(( لا يؤمنُ أحدُكم حتَّى يكونَ هواه تبعًا لما جئتُ به. ))
تحبُّ الذي أحبَّه الله، تكره الذي أبغضه الله، توالي في الله، تعادي في الله، تُعطي لله، تمنع لله، تغضب لله، ترضى لله، هذا هو التوحيد، هذا هو الإيمان.
على الإنسان أن يفكر جيداً قبل أن يعصي الله عز وجل:
المقارنة بين الصحابة الكرام ومصير هؤلاء الذين كذَّبوا النبي وعارضوه:
الآن:
﴿
سيدنا الصديق صدَّق، الصحابة الكرام صدَّقوا، الآن انظر في مصير هؤلاء الذين كذَّبوا، وعارضوا، وأخرجوا النبيَّ من مكّة، وائتمروا على قتله، ونكَّلوا بأصحابه، كيف أنهم ماتوا شرَّ ميتة، وكيف أنهم في مزبلة التاريخ؛ وانظر إلى أصحاب النبي رضوان الله عليهم حينما صدَّقوا، وحينما جاهدوا، وحينما صبروا، وحينما صابروا، وحينما رابطوا، وحينما أحبوا النبي، وحينما قدَّموا له الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، انظر إلى ألفٍ وخمسمئة عام بعد وفاتهم أو استشهادهم، كيف أن المجالس كلها تتعطَّر بذكرهم، هل يفتر سيدنا الصديق، وسيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وسيدنا علي، وسيدنا عمر بن عبد العزيز، وسيدنا صلاح الدين، هؤلاء الأبطال العِظام، هل يفتر اللسان عن ذكرهم في أي مكان في العالَم الإسلامي؟
من سعادة الإنسان أن يستجيب للحق:
﴿
دعوةٌ لحياة القلوب.
المؤمن شخصيَّةٌ فذَّة عرف الحقيقة الكبرى:
وازن أنت بين مؤمن وغير مؤمن، القضية صارخة، صارخة جداً، وازن بين درَّاجة مثلاً وبين سيارة من أحدث موديل، هل يستويان؟ لا، ليست هناك أي نسبة، وازن بين حياة المؤمن المستقرَّة، حياة المؤمن المطمئنة، الذي يلقي الله على قلبه السكينة، موفَّق في أعماله، هدفه كبير، هدفه أكبر من حاجاته، مطامِحه أثمن من رغباته، يَحْكم نفسه ولا تحكمه، يقود هواه ولا ينقاد له، تحكمه القيم ويحتكم إليها من دون أن يسخِّرها أو يَسَخَرَ منها، هذا المؤمن، شخصيَّةٌ فذَّة عرف الحقيقة الكبرى، عرف الله، يتحرَّك وفق منهج، يوجد بحياته حلال وحرام، ومباح، ومكروه، ومندوب، يمشي على هدى.
﴿
انظر إلى حياة المؤمن، انظر إلى أخلاقه العالية، انظر لصدق وعده، انظر إلى أمانته، إلى صدقه، إلى غَيْرَتِهِ، إلى عفَّته، إلى استقامته، إلى إنصافه، انظر إلى ورعه، انظر إلى دقَّته في التعامل، هذه صفات المؤمنين، هذه صبغة الله التي صبغ بها عباده المؤمنين، لذلك المؤمنون في شتَّى بقاع الأرض يلتقون، لأن الصفات واحدة، تصوَّروا أطباء القلب في العالم يلتقون على معلومات واحدة، كذلك المؤمنون يلتقون على حقائق واحدة، على قيَم واحدة، على أهداف واحدة، على وسائل واحدة، الحقائق التي آمنوا بها واحدة، والأهداف التي يَسعون إليها واحدة، والوسائل التي يسلكونها واحدة، والقيَم التي تحكمهم واحدة، والأخلاق التي يتحلَّون بها واحدة، لذلك الإيمان عامل جَمْع وليس عامل تفريق، رُبَّ أخٍ لك لم تَلِدْهُ أمُّك، وشيء عجيب قد تلتقي مع مسلم في أقصى الدنيا، تشعر وكأنه أخوك النسَبِيّ، يا ربي ما هذا الشعور؟ من بلدٍ بعيدٍ بعيد لا يجمعني به شيء، كفى بالإسلام جامعاً كما.
المؤمنون بعضهم لبعضٍ نصحة متوادون والمنافقون بعضهم لبعضٍ غششةٌ متحاسدون:
المؤمنون بعضهم لبعضٍ نصحة متوادون ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقون بعضهم لبعضٍ غششةٌ متحاسدون ولو اقتربت منازلهم، حياة المؤمنين حياة سعيدة جداً، أنت تعيش بين أحباب، بين أناس أوفياء، بين أناس مُخلصين، بين أناس متناصحين، بين أناس متسامحين، بين أناس متحابِّين، يكفينا سعادةً في الدنيا أننا نعيش مع أخوتنا المؤمنين في راحة، لو انطلقت إلى أخٍ لك في حرفَةٍ من الحِرَف تكون مطمئناً، لن يكذب عليك، ولن يغشَّك، ولن يُدَلِّس، ولن يأخذ فوق حقِّه، ولن يخونك، مطمئن، لذلك النبي قال: عن أبي سعيد الخدري:
(( لا تُصَاحِبْ إِلا مُؤْمِنا، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ إِلا تَقِيّ. ))
لا مفاجآت في حياتك ولا غدر إذا صاحبت مؤمناً، دقِّق في أحوال أهل الدنيا تجد أنهم يتلقون ضربات قاصمة من أصدقائهم لأنهم غير مؤمنين، حينما يتراءى للصديق أن مصلحته بتحطيم صديقه يحطِّمه، أما المؤمن فوفي، لذلك قال الله تعالى:
﴿ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ
معنى جميعاً أي لن تذوقوا طعم الإيمان، لن تقطفوا ثماره إلا إذا كنتم جميعاً مؤمنين، إذا عمَّ الإيمان فهذا شيء مريح جداً،
﴿ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
من عظمة القرآن الكريم أن كل آيةٍ فيه لها معنى في السياق:
من عظمة القرآن الكريم أن كل آيةٍ فيه لها معنى في السياق، فإذا نزعتها من السياق لها معنى آخر، فهذه الآية وردت في سورة الطلاق،
الدنيا أساسها الكدح والآخرة أساسها الإكرام:
هؤلاء الذين جاؤوا بالصدق وصدَّقوا به:
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)﴾
مبنيَّة على الجهد، مبنيَّة على التعب، مبنية على النَصَبِ.
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)﴾
طبيعة الحياة الدنيا هي تَكَبُّد المَشاق، الإنسان لا يصل لبيت صغير، مساحته ستون متراً، وفيه بعض قطع الأثاث، ودخل يغطي نفقات خمسة أيام بالشهر، حتى يعاني الأمرين - كما يقولون -.
الآخرة مبنيَّةٌ على الطَلَب والدنيا مبنيَّةٌ على بذل الجُهد:
الحياة مبنيَّة على بذل الجهد، أما الآخرة:
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)﴾
دفع ثمنها، الطبيب يعمل لك تخطيطاً بخمسمئة، وإيكو بثمانمئة، وهناك خمسون زبون يقفون بالصالة، ودخله في اليوم كذا عشرة آلاف، كذا مئة ألف، هل يستطيع أن يعمل هذا أحد غيره، دفع ثمنها؛ ثلاث وثلاثون سنة دراسة، وكل يوم للساعة الواحدة ليلاً، ومطالعة، وتقديم أطروحات، وتدريب عملي، عندما يتعب الإنسان كثيراً في دراسته يصل إلى مركز مرموق، ودخل كبير، وجهد قليل، هل من حق الجاهل أن يقول: أنا مثله؟ لا، أنت لست مثله، هو دافع ثمنها، كل من يدفع يجد، هذه في الدنيا فكيف بالآخرة؟! في دنيانا تجد أعمالاً مرهقة، ثماني ساعات عمل على مئة وخمسين ليرة، يقول لك: فاعل، العمل كله شريف، أما الذي درس ثلاثاً وثلاثين سنة صار عنده مئة زبون في اليوم، وكل زبون يريد خمسين تحليلاً وتصويراً وأجهزة كلها، تجد أشخاصاً يحسبون دخله يقولون لك: غير معقول هذا الدخل، لكن هو دافع ثمنها، عندما كان يدرس أين كنت أنت؟ كنت تلعب، هذا في الدنيا، أنا أحضرت أمثلة من الدنيا، في الآخرة:
من قَضَى عمره بخدمة الخلق وبنصحهم وإرشادهم استحق جنة الله عز وجل:
لكن:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18)﴾
الإحسان هو إتقان العمل والصدق والنصيحة:
تحضرني الآن صورة شخص كان جارنا في البيت، ولكن لم يكن يصلي، كان ضد الدين، أين هو الآن؟
﴿ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51)﴾
﴿ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55)﴾
على الخاطر، أي خاطرٍ يخطر على بالك تراه أمامك، هذه الآخرة، هذه الآخرة يُزْهَد بها؟! امرأة طلبت من زوجها الصحابي طلبات لم تكن مألوفة وقتها، قال لها:
من كرم الله عزَّ وجل أنه يُنْسي التائب عمله السيئ في الآخرة:
﴿ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)﴾
كذلك ربنا رحيم، الذي له جاهليَّة هذه تطوى وكأنها لم تكن، في الدنيا يذكرها، فإذا ذكرها تمزَّقت نفسه، الذي له جاهليَّة قبل التوبة، له انحرافات، له تجاوزات، له مُخالفات، له معاصٍ، هذه إذا ذكرها في الدنيا تمزَّقت نفسه، وذابت نفسه ندماً، ومن علامة الإيمان أنه يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُلقى في النار، هذه علامة الإيمان، يندم أشدَّ الندم على عمرٍ أمضاه في معصية الله.
يقول لي أحد الأخوة الأكارم: أنا ولِدت من جديد، لم أكن أعرف هذه السعادة إلا بعد أن تعرَّفت إلى الله، وُلِدْت من جديد،
﴿
لكن إذا كان له جاهليَّة، في الجاهليَّة كان له عمل سيئ، وبعدما تاب إلى الله واصطلح معه صار له عمل طيِّب، فكرم الله يعني أن عمله السيئ يكفِّره عنه، ينسيه إيَّاه، يمحوه ولا يذكره، وأن عمله الطيِّب يجازيه عنه بأعظم الجزاء، الإنسان قد يتصَّدق بلُقمة يراها يوم القيامة كجبل أُحد.
العطاء هو الذي يبقى لا الذي يفنى وعطاء الله عطاء أبدي:
لذلك يجب أن تعلموا أيها الأخوة علم اليقين أن كلمة غني في قاموس الإيمان تعني من أكرمه الله بالأعمال الصالحة، تعني من أجرى الله على يديه الخَير، هذا هو الغني، لأن مال الدنيا يبقى في الدنيا، وكل هذه الأموال المنقولة وغير المنقولة مرتبطة بنبض القلب، فإذا توقَّف القلب كل هذه الأموال ليست له، ولا ساعته، ولا سِنُّه الذهبي، ينزعونه، يقولون لك: الحي أولى، لا تملك شيئاً، ولا خزانتك الخاصَّة، لك مكتبة خاصَّة، لك زاوية خاصَّة، الألبسة الخاصَّة، الأدوات الخاصَّة، كل شيء يؤخَذ منك، إذاً ليس هذا هو العطاء، العطاء هو الذي يبقى لا الذي يفنى، إذاً العمل السيئ قبل التوبة من كرم الله عزَّ وجل أن الله يكفِّره، والعمل الطيِّب بعد التوبة يعطيك الله عنه أعظم الجزاء، والأمر واضح وضوح الشمس، وماذا علينا إلا أن ننطلق إلى الله عزَّ وجل، ففروا إلى الله، انطلق.
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ
﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾
﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ
افرح بعطاء الله عزَّ وجل، افرح بمعرفة الله، افرح بمجلس علمٍ تحضره، افرح بآيةٍ تفهمها، افرح بعملٍ صالحٍ يجريه الله على يديك، افرح بشيءٍ تدَّخره لنفسك بعد الموت.
الفقر فقر الأعمال الصالحة:
بين أن يموت الإنسان فقيراً ليس له أعمال أبداً، لذلك الفقر فقر الأعمال، سيدنا موسى ماذا فعل؟ حينما سقى للمرأتين تولَّى إلى الظل وقال:
﴿ فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ
أنا مفتقر لهذا العمل، فأنا أقول لكم أيها الأخوة: قل لي ما الذي يفرحك أقل لك من أنت، هل تفرح بالدنيا أم بعطاء الله عزَّ وجل؟ بمعرفة الله؟ بطاعة الله؟ بعملٍ صالحٍ؟ الآيات إذاً:
أسعد الناس من صدَّق بالحقِّ وطبَّقه:
إذاً كُن مستمعاً حقَّاً، صدِّق بكلام الله، واحمله محملاً جدياً، واعتقد أنه كلام خالق الكون، وأنه يترتَّب على طاعتك له عطاءٌ كبير، وعلى معصيتك لله - لا سمح الله - شقاءٌ كبير، وأن هذا الكلام خطير، كلام مصيري إن صحَّ التعبير، أحياناً الإنسان يحضر جلسة فيقول لك: والله سُررنا، القضيَّة أخطر من ذلك، أخطر من السرور، أخطر من أنك أمضيت ساعةً في مسجد، القضيَّة متعلِّقة بمصيرك الأبدي، متعلِّقة بسعادتك الأبديَة، متعلِّقة بسلامتك في الدنيا والآخرة، فالقرآن بين أيديكم، إعجازه ظاهر، أمره ظاهر، نهيه ظاهر، وعده، وعيده، حرامه، حلاله، ما علينا إلا التطبيق.
وأقول لكم هذه الكلمة الختاميَّة: مهما كان كلامي واضحاً أنا أُحاسَب على مدى التطبيق لا على مدى الفصاحة، وأنتم مهما كنتم مستمعين مهذَّبين، تُصْغون، لا تحاسبون على استماعكم بل على تطبيقكم.
أيها الأخوة؛ نحن وإياكم نحاسب بمقياس واحد، لا قيمة لكلامي إن لم أطبِّق، ولا قيمة لاستماعكم إن لم تطبِّقوا، والله حسيب كل إنسان، والسعيد من ترجم هذه القناعات إلى سلوك، أنا والله يؤلمني أشدَّ الألم أن أرى أخاً ينتمي إلى مسجد، وتوجد عنده مخالفات كبيرة جداً في بيته، أو في عمله، أقول: يا رب هذا كيف يستمع إلى الدروس؟ كيف يتوازن مع نفسه؟ كيف يعيش في داخله هذا التناقض؟ فالإنسان متى يسعد؟ إذا ألغى التناقض من حياته، أنت مؤمن انتهى الأمر، المؤمن هذا سلوكه، وهذا نَمَطُ حياته، وهذا زواجه، وهذا عمله، في عمله صادق، أمين، أما مؤمن ينتمي إلى الدين ويغشُّ الناس؟! أو يأخذ أكثر مما يستحق؟! أو يعتدي على أموال الناس بطريقةٍ ذكيَّةٍ ويصلي أول صف؟! والله هذه مستحيلة، شيء غير متناسب، فهذه الآيات واضحة جداً، أسعد الناس من صدَّق بالحقِّ إذ جاءه، وطبَّق هذا الحق، فسعد به في الدنيا والآخرة؛ وأشقى الناس من كذَّب بهذا الحق، أما أظلم الناس فمن كَذَبَ على الله بعلمٍ أو بغير علم، ولا يَقِلُّ عنه ظُلماً من كذَّب بالحق لمَّا جاءه.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين