- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (039)سورة الزمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الله سبحانه وتعالى ذَكَرَ قصصاً كثيرة في القرآن الكريم ليتذكر الناس:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس الحادي عشر من سورة الزمَر، ومع الآية السابعة والعشرين من هذه السورة، والذي يليها.
يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)﴾
من معاني هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم ذَكَرَ قصصاً كثيرة، فذكر نبياً كريماً له امرأةٌ كافرة، وذكر امرأةً في أعلى مستويات الإيمان صِدِّيَقة وزوجها كافر، وذكر نبياً كريماً وله ولدٌ كافر، وذكر ابناً نبياً كريماً وله أبٌ كافر، فكل من يدَّعي أن بيئته هي سبب تقصيره، وأن وراثته التي ورِثَها عن أبويه هي سبب تقصيره فهو واهم، وإذا ادَّعت المرأة أن زوجها لا يريد الدين وهو سبب تقصيرها، ربنا سبحانه وتعالى يقول:
﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ
كلّ حجَّةٍ مزعومةٍ يزعُمُها الإنسان لتكون مبرِّراً له في تقصيره أبطلها الله جلَّ جلاله:
إذاً هؤلاء الأنبياء، وهؤلاء الصديقون بأوضاعٍ مختلفة، لو أن إنساناً مَلَكَ القوَّة في بلدةٍ معيَّنة، وقال: أنا طبيعة عملي لا تسمح لي أن أكون مع المؤمنين، نقول له: سليمان الحكيم أوتي ملكاً لم يؤته أحدٌ من قبله ولا من بعده، ومع ذلك كان نبياً صالحاً، فالفقر ليس حجَّة، والأب الكافر ليس حُجَّة، والمرأة الكافرة ليست حجَّة، والابن الفاسد ليس حجة، كل الحجج المزيَّفة التي يزعمها الإنسان عائقاً بينه وبين الإيمان ربنا جلَّ جلاله أبطلها بأمثلة كثيرةٍ وردت في القرآن الكريم،
﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)﴾
والقصَّة عندكم معروفة إلى أن قال:
﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)﴾
فكل حجَّةٍ مزعومةٍ باطلة يزعُمُها الإنسان لتكون مبرِّراً له في تقصيره أبطلها الله جلَّ جلاله، هذا مما نفهمه من قوله تعالى:
المثل أسلوبٌ تربوي فعّال:
معنى آخر للآية السابقة هو أن الله سبحانه وتعالى ضرب أمثلةً، والمثل أسلوبٌ تربوي، هناك أسلوب التقرير، وهناك أسلوب التمثيل، وهناك أسلوب الصورة، وهناك أسلوب القصَّة، وهناك أسلوب الحوار، وهناك أسلوب الوَصف، وهناك أسلوب المَثَل، فالمثل الذي يضربه القرآن رائعٌ جداً، ضرب الله سبحانه وتعالى مثلاً للذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً، ضع على ظهر حمارٍ كتاباً في الفيزياء، أو في الرياضيات، وبعد حينٍ اسأله عن معادلةٍ، بماذا يجيبك؟ فالذي يُحَمَّل الكتاب ولا يفهمه ولا يعمل به مثله كمثل هذه الدابَّة، ربنا سبحانه وتعالى ضرب مثلاً للكفَّار، قال:
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ
أسلوب المثل أسلوبٌ رائعٌ جداً استخدمه القرآن الكريم واستخدمه النبي الكريم:
في القرآن الكريم أمثلةٌ كثيرةٌ جداً، وحقيقة المثل أن المعاني المجرَّدة الدقيقة، حينما تُجسَّد بمثلٍ حِسِّي تصبح واضحةً كقول الشاعر:
من يهن يسهُل الهوان علــيه ما لجـــرحٍ بمــيتٍ إيلامُ
* * *
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ طويت أتاح لها لسان حســـــود
* * *
كيف؟
لولا اشتعال النار فيما جاورت ما كان يعرف طيب عرف العودِ
* * *
فأسلوب المثل أن تجسِّد المعاني المجرَّدة بأمثلةٍ حسيَّةٍ، هذا أسلوبٌ رائعٌ جداً وقد استخدمه القرآن الكريم، واستخدمه النبي عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة، وإذا أردت أن تدعو إلى الله عزَّ وجل فاعتمد هذا الأسلوب لأنه أسلوبٌ قرآني، وأسلوبٌ نبوي، النبي عليه الصلاة والسلام قال: عن أنس بن مالك:
(( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ، فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ، وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ، فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شَجَرَةً فَاضْطَجَعَ فِي ظِلِّهَا قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا قَائِمَةً عِنْدَهُ، فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا، ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي، وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ. ))
1 ـ في القرآن الكريم نماذج بشريَّة نجد مثيلها في كل عصر:
نقل الحقائق اختصاص، تعلَّم من كتاب الله كيف ينقُل الحقائق، مرَّةً بالتقرير، مرَّةً بالتصوير، مرَّةً بالحوار، مرَّةً بالوَصف، مرَّةً بالمشهد الكامل، مرَّةً بالقصَّة، مرَّةً بالمَثَل، فالآية تحتمل معنيين؛ الأول أن في القرآن الكريم نماذج بشريَّة فكل من يزعم لو زعمت امرأةٌ أنه لولا زوجها البعيد عن الدين لكانت امرأةً صالحة، نقول لها: أنتِ أم امرأة فرعون؟!
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11)﴾
والذي له زوجة سيئة جداً، ولها طلباتٌ غير شرعيَّة، فإذا استجاب لها، فالحجَّة قائمةٌ عليه، لقوله تعالى:
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)﴾
لو أن إنساناً صالحاً، تقياً، نقياً، ورعاً، له ابن ليس على طريق الاستقامة، لا ينبغي أن نتهم الأب من خلال الابن، الله عزَّ وجل ضرب مثلاً سيدنا نوح:
﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ
الأب؛ سيدنا إبراهيم:
﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)﴾
ممكن أن يكون الأب عظيماً في نظر الناس ولكن من المقياس الديني مقصر جداً وقد ينجب ولداً أفضل منه، إذاً الله عزَّ وجل ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل، جميع النماذج البشريَّة قد وردت في القرآن الكريم، سيدنا سليمان أُوتي الملك ومع ذلك كان نبياً عظيماً، ما منعه ملكه من أن يكون في أعلى درجات الإيمان والقرب من الله عزَّ وجل.
إذاً الحُجَّة التي يزعُمها المقصِّرون والعصاة، يا أخي البيئة، والظروف، والمعطيات، والواقع السيئ، والفساد العام، والبلوى العامَّة، وأنا والدي قاس جداً، وأنا لا أقدر على زوجتي، هذه كلُّها حججٌ باطلةٌ عند الله عزَّ وجل، لأن الله جلَّ جلاله ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل،
2 ـ الله تعالى قرَّب إلينا المعاني الدقيقة المجرَّدة بأمثلةٍ حسيَّةٍ واضحة :
الله عز وجل اختار اللغة العربيَّة لأنها تتمتَّع بأعلى درجات الدقَّة والرقِيّ:
﴿
عنى عربي، يقال في اللغة العربيَّة: أعرب عن رأيه، أي بيَّن رأيه، أي القرآن العربي واسع البيان، وما اختار الله هذه اللغة العربيَّة إلا لأنها تتمتَّع بأعلى درجات الدقَّة والرقِيّ، ليس هذا في نظر العرب بل في نظر خصومهم، درسنا مادَّة فقه اللغة في الجامعة، وفقه اللغة يتحدَّث فيها أهل اختصاصها عن أقوال الأجانب في قيمة هذه اللغة العربيَّة التي أكرمنا الله بها، لذلك سيدنا عمر يقول:
أنا في قصة يوسف عليه السلام ضربت بعض الأمثلة، أي اللغة العربيَّة دقيقةٌ جداً في التعبير، ضربت مثلاً فعل نَظَرَ، كيف أن هذا الفعل في اللغة العربيَّة له مفرداتٌ كثيرة، وكل لفظةٍ من ألفاظ النظر تعني النظر مع حالةٍ خاصَّة، وقلّما نجد هذه المعاني الدقيقة في بقيَّة اللغات الأخرى، فمثلاً إذا ظهر الشيء واختفى تقول: لاحَ، وإذا نظرت وأعرضت تقول: لَمَحَ، وإذا نظرت وتمطيت تقول: استشرفَ، وإذا نظرت ودقَّقت بيديك تقول: استشفَّ، وإذا نظرت مسروراً تقول: حَدَّجَ، إذا نظرت مع المحبَّة تقول: حدَّج، وفي الحديث الشريف:
(( حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم، وأقبلت عليك قلوبهم، فإذا انصرفت عنك قلوبهم، فلا تحدثهم، قيل: وما علامة ذلك؟ قال: إذا التفت بعضهم إلى بعض، ورأيتهم يتثاءبون، فلا تحدثهم. ))
وإذا نظرت مع المتعة تقول: رَنَا، وإذا نظرت مع الدهشة تقول: حَمْلَقَ، حتَّى ظهر حملاق العين، وتقول: بَحْلَقَ، وتقول: حَدَّقَ، وإذا نظرت بعينك وأدركت بقلبك تقول: رأى، الرؤية تعني العلم، رأيت العلم نافعاً، وإذا نظرت مع الخوف تقول: شَخَصَ.
﴿وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ
طبعاً ليس هناك مجالٌ في هذه العُجالة أن نتحدَّث عن خصائص العربيَّة التي اختارها الله لغةً لكلامه.
على الإنسان أن يفهم القرآن الكريم في ضوء قواعد اللغة العربيَّة:
على كلٍّ ربنا عزَّ وجل قال:
﴿
هذا قرآن، فكلمة دابَّة جاءت نكرة ولم تأتِ معرفة، ما نوع هذا التنكير؟ إنه تنكير الشمول، أي أية دابةٍ على وجه الأرض على الله رزقها، لو قلنا: الدواب، قد نقصد الأهلية، الدواب البريَّة، الدواب البحريَّة، أما إذا قلنا: ما من دابَّةٍ، نكَّرناها تنكير الشمول، وأما كلمة من فتفيد استغراق أفراد النوع، إذا دخلت إلى صف وقلت للطلاَّب: كلكم له عندي جائزة، شيء، فإذا غاب اثنان لا يستحقَّان الجائزة، لأنك خاطبت الحاضرين، أما إذا قلت: ما من طالبٍ في هذا الصف إلا وله عندي جائزة، هذه المِن تفيد استغراق أفراد النوع، إذاً:
﴿
(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتجالِسينَ فيَّ، والمُتزاورينَ فيَّ، والمتباذلينَ فيَّ المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور، يغبِطهم النبيُّون والشهداءُ. ))
أما كلمة
﴿
لا تأكلوا أموالكم، أنا لو نقلت مبلغاً من هذا الجيب إلى هذا الجيب ماذا فعلت؟ هل المقصود بأموالكم أموالكم فعلاً؟ لا، المقصود بها أموال إخوانكم، لماذا قال الله:
إعجاز القرآن البلاغي:
والله لو أمضيت في أن نقف على دقائق نَظْمِ القرآن الكريم ساعاتٍ طويلة، وأشهراً عديدة، وسنواتٍ مديدة، والله لا ينتهي الأمر، لأنه:
﴿
يجب أن نعلم أنه إذا درست قواعد اللغة العربيَّة، ووضعت يدك على إعجاز القرآن البلاغي والنظمي، لشعرت أن هذا الكلام ليس كلام البشر، إنه كلام خالق البشر، لذلك قالوا: فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ.
﴿
كلام القرآن المُعْجِز يدفع الإنسان إلى طاعة الله عزَّ وجل:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
القرآن غير ذي عِوَج، غير ذي خَلَل.
من أسباب سعادة المؤمن أن له أمراً واحداً ينصاع له وهو أمر الله عزَّ وجل:
من هذه الأمثلة التي ضربها القرآن الكريم مثل الموحِّد ومثل المُشرك، قال:
﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(29)﴾
أحياناً يموت الأب ويخلِّف أولاداً ولهم معملٌ ضخم، هؤلاء الأولاد متشاكسون، متنافسون، متباغضون، وعندهم موظَّفٌ يعمل في المعمل على عهد أبيهم، فكلُّ أخٍ من هؤلاء يعطيه أمراً مناقضاً للأمر الثاني، هو يتمزَّق إن أرضى زيداً أغضب عُبيداً، وإن لبَّى فلاناً قصَّر مع علان، وإن انحاز إلى هؤلاء أثار حفيظة هؤلاء، ماذا يفعل؟ حياته كلُّها اضطرابٌ، وتمزُّقٌ، وصراعٌ، وحيرةٌ. تصوَّر إنساناً في أعلى درجات الكمال عنده موظَّفٌ مخلص، يعيشان عمراً مديداً في وئامٍ، ووفاقٍ، وراحةٍ نفسيَّةٍ، وسرورٍ، وطمأنينةٍ، وانسيابٍ، وانسجامٍ، أمر واحد.
لذلك أحد أسباب سعادة المؤمن له مرجع واحد، له أمر واحد ينصاع له وهو أمر الله عزَّ وجل، لا يخاف أحداً، لا يخاف إلا من الله، لا يرجو إلا الله، لا يخشى إلا الله، لا يعقِدُ الأمل إلا على الله، لا يخاف في الله لومة لائم، لا تحزنه الدنيا، حسبه الله ونِعْمَ الوكيل، لذلك حياة المؤمن حياة سعيدة ليس لأنه غني، قد يكون المؤمن فقيراً، ليس لأنه صحيح قد يكون مريضاً، ولكن سلامته النفسيَّة، مشاعره الداخليَّة مشاعر مريحة جداً، لأنه لا يرى مع الله أحداً، لا يرى مع الله متصرِّفاً، وإذا ارتقى لا يرى مع الله موجوداً، الله جلَّ جلاله لا وجود لغيره، فالأحداث التي من شأنها أن تسحق الناس، وأن تقلقهم، وأن تضعهم أمام مسؤولياتٍ، وأمام تمزُّقاتٍ، المؤمنون في منجاةٍ منها، لأنه وحَّد، لا يرى مع الله أحداً، لذلك:
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)﴾
أما الذي يخافُ من زَيد، ويخشى عبيداً، ويحسب حساباً لفُلان، ويأمل عطاء علان، ويرضي هذا، ويغضب هذا، فحياته ممزَّقة، حياته مبعثرة، مشرذمة:
التوحيد وحده يضيف على حياة المؤمن طمأنينةً وسعادةً:
والله أيها الأخوة، التوحيد وحده في الدين يضفي على حياة المؤمن طمأنينةً وسعادةً لا توصف، لأنه يخاطب ربه فيقول: يا رب ليس في الكون أحدٌ سواك، تعلم السرَّ وأخفى، تعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، لا حول ولا قوَّة إلا بك، لا إله غيرك، لا رافع ولا خافض، ولا معزَّ ولا مذلَّ، ولا معطي ولا مانع، ولا قابض ولا باسط، ولا مغني ولا مفقر إلا أنت، فحينما أيقنت أنه لا إله إلا الله اتجهت إلى الله بكلِّيتك، فسعدت في الدنيا وسعدت في الآخرة.
أحياناً الكفَّار يقولون: يا أخي لو أن هذا النبي مات وارتحنا منه، قال:
﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)﴾
هناك تفكير ساذج عند مُعظم الناس، يظن أنه إذا مات فلان يرتاح ويرث أمواله، فهل أنت لن تموت بعده؟ أو ربما تموت قبله، شخص توفي من المحسنين ترك ألف مليون، أحد الورثة له نصيب كبير، عمل ليلاً نهاراً لأخذ نصيبه من هذه الثروة الطائلة، بعد عدَّة أشهر قبل أن يأخذ درهماً واحداً من هذا الإرث الضخم توفي وهو في الحَمَّام، فهذا الذي يقول: لو مات فلان لاسترحنا منه، هل أنت ضامن أن تعيش بعده؟ فالكفار كانوا يتمنَّوْنَ موت النبي عليه الصلاة والسلام.
1 ـ ما من مخلوقٍ إلا وسيموت :
ربنا قال:
والليل مهما طــــال فلا بد من طلوع الفـــجر والعمر مهما طــــال فلابد من نزول الــــقبر
* * *
فالموت حق، الأنبياء ماتوا، والمؤمنون ماتوا، والكفَّار ماتوا، والأغنياء ماتوا، والفقراء ماتوا، والأصحَّاء ماتوا، والمرضى ماتوا، والأقوياء ماتوا، والضعفاء ماتوا، والظالمون ماتوا، والمظلومون ماتوا، وكل مخلوقٍ يموت:
2 ـ كلنا عبيد لله عزَّ وجل والله وحده الباقي:
المعنى الآخر: أن كلَّنا عبيدٌ لله عزَّ وجل، والله وحده الباقي، وهو الذي سيحاسبنا جميعاً، وهو الذي سيُوقفنا أمام أعمالنا، لماذا فعلتم؟ لماذا لم تفعلوا؟
بطولة الإنسان أن يكون مع الحق المبين:
هنيئاً لمن كان على الحق، كل إنسان يدَّعي في هذه الدنيا أنه على حق، القضيَّة سهلة:
﴿ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا
كل إنسانٍ يدَّعي أنه على حق، ومعه الأدلَّة، ومعه البراهين، ومعه الشواهد، ويظن نفسه محور العالَم، والناس كلهم جَهَلة، أما البطولة أن تكون على الحق فعلاً، البطولة حينما ترجع إلى الله عزَّ وجل أن تكون مع الله، أن تكون مع الحق المبين، لذلك ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)﴾
يا محمَّد، البطولة أن تكون على الحق فعلاً:
خير الإنسان منه وشره منه ويوم القيامة كل نفس بما كسبت رهينة:
﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)﴾
هل يبقى الناس في اختلاف إلى الأبد؟ لا، كلُّ يدَّعي وصلاً بليلى هل نبقى مختلفين إلى الأبد؟ لا، لابدَّ من أن تنكشف الحقائق، لابدَّ من أن يظهر الحق، لابدَّ من أن يزهق الباطل:
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ
لابدَّ من أن يقف الإنسان يوم القيامة ليحاسب عن أعماله كلها، أما في الدنيا فالإنسان قد يؤتى لساناً ذَرِبَاً، منطقاً، حجَّةً، أما يوم القيامة.
﴿
فبشكل أو بآخر لو معك كيلو من الذهب الخالص، والناس جميعاً ظنُّوه معدناً خسيساً، لا تبالي بهم، ولو أنك أوهمت الناس أن معك ذهباً خالصاً وهو معدنٌ خسيس، لا تفرح بهذا الإيهام، خيرك منك وشرُّك منك، سعادتك منك وشقاؤك منك، ويوم القيامة.
﴿ يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)﴾
﴿ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)﴾
الموت مصير كل حيّ:
إذاً:
أية حجَّةٍ يزعمها الإنسان داحضةٌ عند الله عزَّ وجل لأنه بيَّن له كل شيء:
يقول أحدهم: لعن الله الشيطان، والله هو وسوس لي يا أخي، يوم القيامة تفضل تكلم، الشيطان يا رب، تكلم أيها الشيطان:
﴿
تكلَّم ما شئت، أما الحجَّة الدامغة فلله عزَّ وجل، أخي لولا أن أبي هكذا ربَّاني ما كنت بهذا الوضع، هذا سيدنا إبراهيم، لولا زوجتي، هذا سيدنا لوط، لولا زوجي، هذه السيدة آسيا لولا الفقر، سيدنا محمد كان فقيراً، قال: عن أنس بن مالك:
(( لَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَأُخِفْتُ مِنَ اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاثَةٌ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِعِيَالِي طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا مَا يُوَارِي إِبِطَ بِلالٍ. ))
ذاق الفقر، وذاق الجوع، وذاق الخَوف، وذاق ترك الوطن، ليس لك حُجَّة، أية حجَّةٍ تزعمها داحضةٌ عند الله عزَّ وجل لأنه بيَّن لك كل شيء.
من يشترِ بآيات الله ثمناً قليلاً فقد ظلم نفسه:
﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ ﴾
أظلمُ صيغة تفضيل، أظلمُ أي أشدُّ ظُلماً، ما من إنسانٍ أشد ظلماً:
استغلال الدين لأغراض الدنيا يفقده قيمته:
مرَّة ذكرت مثلاً وأعيده للفائدة: لو أحدنا معه شيك بألف مليون دولار، ظَهْرُ الشيك ورقة بيضاء، ظنَّ أن هذه ورقة ليستعملها لإجراء عمليَّةٍ حسابيَّة، فكتب عليها، ثم انتهى منها فمزَّقها، ثمَّ اكتشف بعد ذلك أن هذه الورقة التي مزَّقها قيمتها ألف مليون دولار، ماذا يفعل بنفسه؟ هذا الدين حينما تستغلَّه لأغراض الدنيا، حينما تَجُرُّهُ لمصالحك ولأهوائك تكون قد جهلت قيمته، اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً:
﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(32)﴾
لينتبه الإنسان، ليطلب الدنيا من مظانها لا من الدين، ليجعل الدين في عليائه صافياً نقياً طاهراً، ليفصل كل مصلحةٍ ماديَّةٍ عن الدين، إن هذا الدين قد ارتضيته لنفسي ولا يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه.
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين