- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (039)سورة الزمر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
القرآن الكريم ينوّع في توجيهه للنفوس البشريَّة:
أيها الأخوة الأكارم؛ مع الدرس التاسع من سورة الزمَر ومع الآية الحادية والعشرين، وهي قوله تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21)﴾
القرآن الكريم في توجيهه للنفوس البشريَّة ينوّع، فتارةً يذكُر آيةً كونيَّة، وتارةً يذكر مشهداً من مشاهد يوم القيامة، وتارةً يذكر حُكماً شرعياً، وتارةً يذكرُ خبراً من الأقوام السابقة، كل هذه الأساليب من قصَّةٍ، إلى مثلٍ، إلى وعدٍ، إلى وعيدٍ، إلى خبرٍ، إلى مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة، إلى آيةٍ كونيَّةٍ دالَّةٍ على عظمة الله عزَّ وجل، من أجل أن تتعرف النفس إلى الله، وأن تُقْبِل عليه، وأن تسعد به.
آيةٌ من الآيات الكونيَّة:
﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)﴾
الماء آيةٌ كونيَّةٌ دالَّةٌ على عظمة الله:
شيء مألوف، الأمطار نزلت، منخفض جوي قادم متمركز فوق قبرص مثلاً، الأمطار بلغت ثمانية وثلاثين ميليمتراً في دمشق مثلاً، نحن إذا قرأنا هذه المعلومات ولم ننتبه إلى الذي أنزل المطر، وقيَّض لنا هذه الأنهار نكون قد غفلنا عن الله عزَّ وجل، في بعض الأقطار في إفريقيا مضى عليها سبع سنوات وهي تعاني من الجفاف، النباتات أكثرها يبِس، والحيوانات على وشك الموت جوعاً وعطشاً، حينما يكون الجفاف في أرضٍ ماذا نفعل؟ لو اجتمعنا وقررنا، بإمكان جهةٍ في الأرض أن تتخذ قراراً بإنزال المطر؟ أليست هذه آيةٌ كونيَّةٌ دالَّةٌ على عظمة الله؟ أليست هذه من نِعَمْ الله العظمى؟ ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أيها الإنسان؛ طبعاً لو أن السماء لم تمطر؛ الينابيع تجف، والأنهار تجف، البساتين تعطش ثم تيبس، تغلو الأسعار، كلَّما قلَّ الإنتاج النباتي ارتفعت أسعاره، فإذا ارتفعت أسعاره وقعت مشكلات لا يعلمها إلا الله، فحينما يتفضَّل الله علينا بهذه الأمطار بالمناسبة الأمطار هذا العام غزيرة الحمد لله، البارحة قرأت بنشرة جويَّة أن المعدل بلغ في دمشق أكثر من مئتين وخمسين ميليمتراً، في حين أن معدلها العام مئتان وثمانية عشر، العام الماضي وصل المعدل إلى ثلاثمئة وخمسين مليمتراً، فهذا فضل من الله عزَّ وجل.
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا
موضوع المياه الجوفيَّة آية من آيات عظمة الله:
هذا الماء العذب الفُرات لو أردنا أن نحليه بطرقٍ صناعيَّةٍ كل لتر يكلِّف خمسين أو ستين ليرة، ينزل من السماء عذباً زلالاً، يُسْكنه الله في ينابيع بمواصفات غاية الدقَّة، تجد الماء الموصول بماء الينبوع عذبٌ فرات، سائغٌ شرابه، صافٍ لا طعم، لا رائحة، لا لون،
طبقات الأرض سخرها الله لجمع مياه الأمطار:
على كلٍّ موضوع المياه الجوفيَّة، موضوع الآبار، موضوع الطبقات التي سخَّرها الله لجمع هذه المياه؛ طبقات نفوذة تقوم بدور المصفاة، طبقات كتيمة تقوم بدور القَعْر، طبقات من الصخور المعدنيَّة من أجل أن تذوب هذه المعادن، يقولون لك: هذه مياه معدنيَّة، على كل المياه المُحَلاَّة في بعض بلاد النفط لا تصلح للشرب، لأنها محلاة، لأنها ماء مقطَّر، ولا يمكن أن نستخدمها إلا إذا خلطناها مع بعض مياه الآبار، والمياه التي تخرج من مصافي التحلية في بلاد النفط لا يمكن أن تستخدم لا تصلح للشرب إلا أن تخلط بمياه الآبار لأن المياه ينبغي أن تكون معدنيَّةً، أي فيها نسبة من المعادن، فالأسنان بحاجة إلى الفلور، الفلور نجده في مياه الشرب مُذاب بنسب طبيعيَّة دقيقة، الإنسان بحاجة إلى اليود من أجل الغدَّة الدرقيَّة، فإذا قلت: مياه معدنيَّة، أي الله عزَّ وجل جعل طبقات الأرض بعضها مصافٍ، وبعضها قَعر، وبعضها لإذابة بعض المعادن في الماء، فكأس الماء الذي تشربه لو ذهبت إلى المحللين لرأيت فيه المنغنيز، والحديد، والكالسيوم، وجدت فيه الفوسفات، معادن كثيرة جداً محلولة في مياه الشرب، صُنع من؟ وفي آية أخرى ربنا عزَّ وجل يقول:
﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ
أي الله عزَّ وجل لو كلَّفنا أن نخزن الماء الذي نحتاجه في عام واحد لاحتجنا إلى بيتٍ يساوي بيتنا تماماً، الذي يسكن في مئة متر مربَّع، يحتاج إلى مستودع مساحته مئة متر مربَّع، حتى يضع فيه الماء لاستهلاكه لمدة عامٍ بأكمله، إذاً موضوع الماء وحده من الموضوعات الكُبرى الدالَّة على عظمة الله عزَّ وجل.
موضوعات للتفكر في خلق الله سبحانه:
من خلق هذه المسطَّحات من البحار الواسعة؟ لماذا كانت اليابسة خمس الأرض؟ هذه نسبةٌ مدروسةٌ من عند حكيمٍ عليم، لولا هذه المسطَّحات البحريَّة لما تبخَّر بخار الماء، ولما كان سُحُباً، ولما هَطَلَ أمطاراً أنبت به الزرع والزيتون، إذاً البحار لماذا هي مالحة؟ حكمةٌ ما بعدها حكمة، لماذا هي تشغل أربعة أخماس اليابسة؟ حكمةٌ ما بعدها حكمة، لماذا أشعَّة الشمس تُبخِّر هذه المياه؟ حكمةٌ ما بعدها حكمة، من أودع في الهواء خاصَّة تحمُّل بخار الماء؟ حكمةٌ ما بعدها حكمة، الهواء من خصائصه أنه يحمل بخار الماء، لكن هذا الهواء الذي يحمل بخار الماء يحمله بنسبٍ متفاوتةٍ تتناسب مع حرارته، فمتر مكعَّب الهواء إذا كان بدرجة ثلاثين مثلاً يحمل خمسة غرامات ماء، بخار ماء، فإذا هبط مثلاً إلى العشرين يتخلى عن غرامين من الماء، إذا هبط إلى الخمسة يتخلى عن أربعة غرامات، ولولا هذه الخاصَّة في الهواء لما كان المطر.
المطر ما هو؟ هواءٌ مشبعٌ ببخار الماء لامس جبهةً باردة فانكمش هذا الهواء، وعصر هذا البخار الذي يحمله فصار مطراً، فالهواء العادي فيه بخار ماء، لكن السحاب بخار ماء أكثف من البخار الشفَّاف، أما إذا واجهت هذه السحُب طبقات باردة فانكمشت تخلَّت عن بخار مائها وأصبحت مطراً، فإذا واجه المطر منطقةً باردةً أصبح ثلجاً، الثلج له فوائد، والمطر له فوائد، وبخار الماء له فوائد، موضوعات لا مجال للحديث عنها بالتفصيل، ولكن كلُّها موضوعات للتفكُّر، موضوعات تثير فكر الإنسان.
أحياناً يرى الإنسان على النافذة طبقة من الضباب، من بخار الماء، لأن الطبقة الخارجيَّة طبقة باردة، لامست الهواء الذي خلف النافذة فانكمش الهواء، وعبَّر عن انكماشه بذرَّات من بخار الماء تعلق على زجاج النافذة، إذاً مبدأ أن الهواء يحمل بخار الماء، هذا المبدأ دقيق جداً، مبدأ أن الهواء يحمل بخار الماء بنسبٍ متفاوتة بحسب حرارته، فكلَّما اشتدَّت حرارة الهواء تحمَّل بخار الماء أكثر، وكلَّما قلَّت حرارته تخلَّى عن حمولاته فكان المطر، أو كان ما يسمَّى بالضباب، الضباب بخار ماء، لكن بنسبة أعلى من النسبة العاديَّة، على كل موضوعات، التبخُّر موضوع، حمل الهواء لبخار الماء موضوع، الأمطار موضوع، المسطَّحات المائيَّة موضوع، مبدأ التبخُّر موضوع، الأمطار تنزل بشكل حبَّات صغيرة موضوع، تنزل بنسب متفاوتة موضوع، ثم كيف تغور في الأرض، كيف تصبح ينابيع، والينبوع خزان دائم طوال العام، كأن الله عزَّ وجل يدعونا، قال:﴿أَلَمْ تَرَ﴾ أيها الإنسان، أليست هذه الآية بين يديك؟ ألا تراها كل عام؟ ألا تسمع بها؟
قيمة الأماكن بمياهها:
﴿
آية النبات من آيات الله الدالة على عظمته:
البذور أيضاً من إعجاز الله تعالى:
ائت بحبَّات الفاصوليا، أو حبَّات القمح، أو حبَّات العدس، ضعها على قطن مبلَّل في غرفة الجلوس، وانظر كيف ينمو الرشيم، فإذا بالبذرة فارغة، نما الرشيم من هذه المحفظة الغذائيَّة، مبدأ البذرة في الأرض ما هذا المبدأ؟ والشيء الغريب أن كل خصائص النبات مخزونةٌ بالبذرة، أحياناً الإنسان يتحدَّث عن البذرة ساعة، كل الخصائص؛ أن هذا النبات يُزْهِر في الوقت الفلاني، يحتاج إلى ماء غزير، يحتاج إلى ماء قليل، يحتاج إلى تيار رياح، أصحاب المزارع، أصحاب البساتين، خبراء بخصائص النبات، فكل نبات له طبع، كل نبات له وقت للنمو، وقت للإزهار، وقت للإثمار، هذه الثمرة غير هذه الثمرة، حتى أحياناً بعض الخضراوات يقول لك: هذه طماطم أو بندورة، هذه معدَّة للعصير، هذه نسيجها اللحمي كثيف، هذه للسفر، هذه شكلها كُروي، هذه فيها حموضة، آلاف الصفات لهذه الخضراوات مودعةٌ في البذور، كروموزومات، مورِّثات، افتح هذه البذرة هل ترى هذه الخصائص؟ هذه البذرة تقاوم المرض الفلاني، هذه البذرة تتحمَّل البرد، هذه البذرة تعطي عطاءً مديداً، هذه تعطي عطاءً قصيراً، هذه تعطي عطاءً كثيفاً وتنقطع، هذه الطباع التفصيليَّة التي استنبطها العلماء -علماء الزراعة - من هذه البذور أيضاً هي بحث قائم بذاته.
ظاهرة النبات وحدها ظاهرةٌ تكفي لمعرفة الله:
أما هذا النبات كيف يغوص جذره في أعماق الأرض؟ بعض الأشجار تغوص جذورها في التربة ثلاثين متراً نحو الأسفل، تبحث عن الماء، الجذر يتقدم في أعماق التربة ثلاثين متراً أحياناً، بعض الأشجار تتجه جذورها في الصحارى إلى العُمق، لكن في الأماكن الرطبة إلى السطح، تجد الجذور ممتدَّة أُفقياً وليس عمودياً، هذا الجذر يدخل في الصخر أحياناً، ينتهي بقلنسوة، وهذه تنتهي بأشعار، هذه القلنسوة فيها مادَّة تذيب الصخر من أجل أن يأخذ المعادن المُذابة بالماء، هذه المعادن المذابة بالماء تصعد إلى الورقة كَنُسغٍ صاعد، في الورقة تتفاعل مادة اليخضور مع الآزوت الذي يمتصه النبات مع ثاني أكسيد الكربون الذي هو محصلة تنفُّس الإنسان والمحروقات مع بعض شِلات الحديد فتصنع هذه الورقة النسغ النازل، النسغ النازل سائل عجيب، ليس في عالَم الإنسان سائل تحقنه يصبح خشباً، أو حديداً، أو كوشوكاً بآن واحد، مستحيل، سائل واحد، هذا السائل - النسغ النازل- يصبح تارةً ثمرةً، وتارةً ورقةً، وتارةً جذراً، وتارةً جذعاً، وتارةً زهرةً، كلُّه من النسغ النازل، أي ظاهرة النبات وحدها تكفي لمعرفة الله.
أنت تحتاج إلى شيء تليِّف فيه جسمك أثناء الاستحمام، هناك نبات خاص له وجه ناعم لأصحاب الجلد الناعم، وله وجه خشن لذوي الخشونة الجلدية، تحتاج إلى نبات تنظِّف به ما بين الأسنان، هناك خِلَّة، تحتاج إلى نبات تنظِّف الأسنان، السواك، تحتاج إلى نبات من أجل الأصبغة، الأصبغة مأخوذة من النبات، تحتاج إلى مادَّة مَرِنَة، الكوشوك أصله نبات، مادَّة خفيفة الفلين نبات، تحتاج إلى نبات حدود بينك وبين جارك، هذه نباتات حدوديَّة كلها أشواك، تحتاج نبات مظلَّة أمام البيت، يوجد نبات مهمَّته المظلَّة، مظلَّة دائريَّة، دائمة الخضرة، كثيفة، أوراقها صغيرة تتراقص مع الرياح، جذعها مستقيم، تشعر أن هذا النبات ليس له أي وظيفة أخرى إلا أن يكون مظلَّةً لك، نبات من أجل خشبه، هناك خشب خاص للأثاث المنزلي، يقول لك: هذا زان غالي الثمن، الخشب الكندي خاص بالنوافذ لأنه يتحمَّل المطر، والرياح، والعوامل الجويَّة، لا يتأثر، لو وضع الخشب الزان مكانه يفتل، أخواننا النجارون يعرفونها، خشب شوح ليِّن، خشب قاسِ للأثاث، خشب له رائحة ورديَّة، الخشب أنواع منوَّعة، بلغني أنه يوجد مئة نوع من الخشب، خشب للاستعمال الصناعي مئة نوع تقريباً، خشب جميل جداً فاتح اللون هذا خشب السنديان، جميل لونه أشقر وفيه خطوط رائعة جداً، خشب كأنه حديد الزان، خشب ليِّن الشوح، يستعمل في الكبريت وأقلام الرصاص، خشب من أجل صناعات أخرى، هذا النبات ممكن نستخدم خشبه، ممكن نستخدم زهرته، الزهرة، ممكن نستخدم جذره، الجزر جذر أساساً، ممكن نستخدم أوراقه، الملفوف أوراق، تارةً الأوراق، تارةً الزهر، تارةً الجذر، تارةً الأغصان، تارةً الجذع، نباتات زينة، ورود، أبصال، شيء لا ينتهي.
ملخص سريع لما ورد معنا من آيات كثيرة دالة على عظمة خلق الله سبحانه:
توجد نباتات أواني مطبخ، جاءت لي إلى المسجد أخ قدَّمها لي، آنية مثل النحاس تماماً، يوجد نباتات مسابح، حبات مسبحة مثقوبة، ما عليك إلا أن تضع الخيط فيها، كلها نباتات، ولا يزال البحث مفتوحاً، في إفريقيا نباتات مفترسة، إذا مرَّ فوقها الحيوان التقمته وأكلته، وهي نبات، والجزر المرجانيِّة قيل هي نباتات، البحر الأحمر كله جُزر مرجانيَّة، نبات. على كل ظاهرة النبات وحدها ظاهرةٌ تكفي لمعرفة الله، ظاهرة البذور وحدها تكفي لمعرفة الله، ظاهرة أن هذا النبات يأخذ غاز ثاني أكسيد الكربون الذي هو سام بالنسبة لنا، نطرح هذا الغاز كمادَّة سامة، يأخذها النبات كمادة غذائيَّة أساسية ويطرح الأوكسجين، هذا التوازن من صمَّمه؟ الذي يعدُّ لك سُماً هو للنبات غذاءً، والذي يطرحه النبات هو لك مادَّة منعشة، الأوكسجين، لذلك ينصح أصحاب العلل الرئويَّة، المصابون بالربو أن يسيروا تحت أشجار الصنوبر، تقريباً أوكسجين، إذا مشى الإنسان في غابة في النهار يشعر بنشاط لأن هذا النبات يطرح الأوكسجين دائماً، فكأنك واضع على أنفك كمَّامة مليئة بالأوكسجين.
﴿
أليست هذه الآيات دالَّة على عظمة الله؟
دورة حياة النبات تشبه دورة حياة الإنسان:
﴿ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ(21)﴾
بعد هذه الدورة النباتية، أن أيّ شيء تزرعه ينبت أولاً غضَّاً طرياً، جميلاً، يزهر، يثمر، ثم ييبس، يتحطَّم، تذروه الرياح، وأنت كذلك، انظر إلى الطفل الصغير؟ كتلة من الحيويَّة، جميل الصورة، يكبر، ويكبر، ويكبرْ، بعد هذا تجد أنه مال إلى الضعف، ثمَّ تقرأ نعوة الإنسان على الجدران، دورة، نحن بضعة أيَّام كلَّما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منَّا، كل واحد منا له صور تذكارية وهو صغير، فانظر إلى صورته عندما كان طفلاً فهل هو مثل الآن؟ ليس هناك أية نسبة، وهكذا الأيام، قال سيدنا عمر بن عبد العزيز: الليل والنهار يعملان فيك، وأوضح مثل على هذا الكلام:
القلب الرحيم من علامات الاتصال بالله:
﴿
أين جواب أفمن؟
﴿
الحقيقة الآية دقيقة، عندما اختار الإنسان الحق شرح الله له صدره، فالقلوب بيد الله عزَّ وجل يقلِّبها كما يشاء، إنك إذا اخترت الحق شرح الله صدرك للحق، وإن اختار الإنسان الباطل عندئذٍ يجد قلبه قاسياً كالصخر؛ الطرف الآخر ومن اختار الباطل، من اختار الشهوة، من اختار الدنيا، من اختار المادَّة، من اختار الدنيا على الآخرة، كان قلبه قاسياً كالصخر وويلٌ لهذا القلب.
صار عندنا هنا قضيَّة دقيقة جداً أن علامة الاتصال بالله القلب الرحيم، وعلامة الانقطاع عن الله القلب القاسي، فهو أكبر مؤشّر لاتصالك بالله أو لبعدك عنه، الموصول بالله يرحم الخَلق، والمقطوع عن الله يقسو عليهم، وإيَّاكم أن تصدِّقوا مؤمناً متصلاً بالله بإمكانه أو يحتمل أن يؤذي مخلوقاً، أو يكون سبباً في شقاء مخلوق، هو كلُّه خير، رحمته دفعته إلى الخير، وذاك قلبه القاسي حمله على الشر، إن رأيت إنساناً يقسو، يظلم، يأخذ ما ليس له، يبني سعادته على أنقاض الآخرين، يبني غناه على فقر الآخرين، يبني حياته على موت الآخرين، يبني أمنه على خوف الآخرين، إن رأيت هذا الإنسان فاعلم عِلم اليقين أنه مقطوعٌ عن الله عزَّ وجل، لأن انقطاعه عن الله سبَّب له قسوة قلبه، لذلك الآية:
إذا شرح الله صدر الإنسان لمعرفة الحق والثبات عليه فهذه نعمةٌ كبيرة:
المقطوع عن الله إذا ذكَّرته بآيات الله يَضْجَر، لا يحب أن يسمعها، لو أنه وهو يبحث عن الأخبار مرَّ بتلاوة للقرآن الكريم لا يحتمل أن يصغي له ولا ثانية واحدة، على الفور إلى الغناء..
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ
القرآن الكريم أحسن الحديث:
ثمَّ يقول الله عزَّ وجل:
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23)﴾
هذه الآية تتحدَّث عن القرآن الكريم إنه أحسن الحديث، هو الغنى الذي لا فقر بعده، ولا غنىً دونه، لا فقر بعده، ولا غنىً دونه، هو الكتاب المُحكم الذي لا ريب فيه، ولا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه، فَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى كَلامِ خَلْقِهِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، كم هي المسافة كبيرة جداً بين الخالق والمخلوق؟ هي نفسها بين كلامه وكلام خَلْقِهِ، فهو أحسن الحديث، أي أجمل حديث تتحدَّث فيه كتاب الله، ممكن تتوجَّه من خلاله، ممكن تتعظ من خلاله، بهذا الحديث توجِّه وتفكِّر، فيه نبأ من قبلكم، خبر ما بعدكم، حكم ما بينكم، فيه آيات دالَّة على عظمة الله، فيه أخبار الأمم السابقة، فيه أحكام شرعيَّة، فيه توجيهات تربويَّة، فيه نظرات مستقبليَّة، فيه وعد، فيه وعيد، فيه بشارة، فيه نذير، فيه كل شيء، هو أحسن الحديث ولا تنقضي عجائبه، كلَّما زدته فكراً زادك معنىً.
الصفات المُطلقة للقرآن قاسمٌ مشتركٌ بين آياته كلِّها:
لا تنقضي عجائب القرآن، تجد الإنسان أمضى أربعين سنة مع هذا الكتاب لا يملَّه، يتلوه آناء الليل وأطراف النهار، وكلَّما قرأ آيةً كشف الله له معنىً لم يكن يعرفه من قبل، الشيء العجيب فيه أن القرآن غَني، والذي يقرؤه يشعر بالغنى، مبادئ أساسيَّة من قِبَل خالق الكون، مقياس دقيق تقيس فيه كل نظريَّة، كل شيء وافق القرآن صحيح، خالفه باطل، وانتهى الأمر، كلام الخالق، هو:
﴿
كل الآيات الكريمة في مستوى واحد؛ من الدقَّة في التعبير، من الإعجاز، من الروعة، من البيان، من العُمق، من الصحَّة، من الصواب، الصفات المُطلقة للقرآن قاسمٌ مشتركٌ بين آياته كلِّها، هذه معنى "متشابهاً"، أي هذه الآية ولو كانت في المواريث دقيقة جداً، تشبه الآيات الكونيَّة، هذه الآية الكونيَّة تشبه آيات التشريع، كلُّها دقيقة، وكلُّها صحيحة، وكلُّها نافعة، وكلُّها خيِّرة، وكلُّها مُباركة، هذه معنى "متشابهاً"، يشبه بعضها بعضاً في الخير.
معنى كلمة (مثاني):
﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)﴾
أي يقينٍ هذا؟ قال: هو الموت، من أين عرفنا ذلك؟ قالوا:
﴿ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)﴾
أتانا الموت، فالآية الأولى توضِّحها الآية الثانية، فمعنى مثاني أي كل آيةٍ تنثني على أختها فتوضِّحها:
﴿
معنى
و(مثاني) إما أن القرآن فيه اثنينيَّة؛ الخير والشر، الحق والباطل، الجنَّة والنار، الدنيا والآخرة، أو كل آيةٍ تنثني على أختها فتوضِّح معانيها.
المؤمن يقرأ القرآن وهو يتفاعل مع الآيات:
بالمناسبة من تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتَّى يموت، أي ما من شيءٍ يُزعج الرجل في خريف حياته إلا الخَرَف، يسقط اعتباره الاجتماعي، يتطاول عليه من حَوله، يسخرون منه، يتندَّرون به، لكنَّه إذا قرأ القرآن في شبابه متَّعه الله بعقله حتَّى يموت، والله ألتقي مع أناس في الخامسة والتسعين، يقول لك: الحمد الله، لا يعيد القصَّة مرَّتين، حفظ القرآن، احفظ كتاب الله يحفظك، هناك أمراض تصيب الشيوخ المتقدِّمين بالسن، تضيق شرايين الدماغ فيخرف، أما هذا الذي يقرأ القرآن دائماً، ويصلي دائماً فهو في نشاط دقيق جداً، ونحن عندنا قاعدة تتعلق بالجسم وهي أن العضو الذي لا يعمل يَضْمُر، فإذا الإنسان كُسِرَت يده ثم وُضِع حولها الجبصين، ستة أشهر تقريباً، إذا نُزِعَ الجبصين تصبح عضلاته ضامرة، العضو الذي لا يعمل يضمُر، والدماغ عضو، فإذا نشَّطته بالقرآن لا يضمر، فهل هناك أجمل من إنسان عمره تسعين سنة ولا ينسى؟!
فضل تلاوة القرآن:
والله سمعت عن رجل عاش في هذه البلدة قرابة مئة عام، وكان يعلِّم ثلاثة أجيال، كان يقول لمن يراه في الطريق من تلاميذه: يا بني لقد كنت أنت تلميذي أعرفك جيِّداً، وكان أبوك تلميذي، وكان جدُّك تلميذي، بدأ في التعليم في الثامنة عشرة من عمره، ومات في السادسة والتسعين وهو على رأس عمله، وكان مديد القامة، منتصب القامة، أسنانه في فمه، الآن في الخامسة والثلاثين أسنانه محشوة لم تبقَ سن واحدة سليمة في فمه، سمعه مرهف، بصره حاد، يقال له: يا سيدي ما هذه الصحَّة؟ يقول:
هل هناك أغلى من الصحَّة؟ ثمنها الطاعة لله عزَّ وجل، استقم على أمر الله، هذه العين التي تَغُضُّ عن محارم الله، أو التي تسهرُ في سبيل الله، الله أكرم وأعز من أن يصيبك بها، هذه الأذن التي تستمع الحق، وتصغي إليه، الله أكرم وأعز من أن يصيبك بها، ترثك ولا ترثها، كما قال النبي: عن عبد الله بن عمر:
(( قلمَّا كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقومُ من مجلِسٍ حتى يدعوَ بهؤلاءِ الدعواتِ: "اللهمَّ اقسِمْ لنا من خَشيتِكَ ما تحولُ به بيننا وبين معاصيك، ومِن طاعتِكَ ما تُبلِّغُنا به جَنَّتَكَ، ومن اليقينِ ما تُهوِّنُ به علينا مصائِبَ الدُّنيا. اللهمَّ مَتِّعْنا بأسماعِنا، وأبصارِنا، وقُوَّتِنا ما أحيَيْتَنا، واجعلْهُ الوارثَ مِنَّا، واجعلْ ثَأْرَنا على مَن ظَلَمَنا، وانْصُرْنا على مَنْ عادانا، ولا تجعَلْ مُصيبَتَنا في دينِنا، ولا تجعَلِ الدُّنيا أكبَرَ هَمِّنا، ولا مَبلَغَ عِلْمِنا، ولا تُسلِّطْ علينا مَن لا يَرْحَمُنا" . ))
والله أسمع حكايات عن بعض الخرفانين، يضع أمَّه على كرسي مربوطة من أطرافها، قلت له: لماذا؟ قال: لئلا تأكل من غائطها.
﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ
هناك حالات خرف لا تحتمل، الإنسان يأكل الغائط، أما المؤمن الذي نشأ في طاعة الله، شَبَّ على طاعة الله، فهذا ينتظره خريفٌ مشرق، كلَّما ازداد عمره سنةً ازداد تألُّقاً، وازداد مكانة، وازداد عقلاً، وازداد وضاءة، وازداد شخصيَّة قويَّة، وقد يتوفَّاه الله عزَّ وجل وهو في أوج مكانته، تجده شيئاً مهماً، المؤمن عزيز غالٍ على الله عزَّ وجل، لذلك من تعلَّم القرآن متَّعه الله بعقله حتى يموت، هذه ضمانة، تلاوة القرآن ضمانة لخريف عمرك، نور للقلب، والقرآن أيضاً نورُ البصر، وفيه جلاء الهَم والحزن.
القرآن الكريم هو كتابنا المقرَّر طوال حياتنا:
قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ
لذلك هذا القرآن الكريم كتابنا المقرَّر طوال حياتنا، غنىً لا فقر بعده، من آتاه الله القرآن فظنَّ أن أحداً أوتي خيراً مما أوتي فقد حقَّر ما عظَّمه الله، فالذي الله آتاه القرآن حفظاً، أو تلاوةً وتجويداً، أو فهماً وتفسيراً، أو عملاً، والأكمل أن تتلوه مجوَّداً، وأن تفهم تفسيره، وأن تعمل به، هو كتابنا، قال:
درجات تلاوة القرآن:
﴿
كيف يهديك الله؟ هذا كتابه، إذا أردت أن تُحَدِّث الله فادعه، وإذا أردت أن يحدِّثك الله عزَّ وجل فاقرأ القرآن، التلاوة درجات ذكرها الإمام الغزالي بالإحياء، يوجد درجة إذا استمعت إلى كتاب الله فكأنَّه يُتلى عليك من قِبَلِ الله عزَّ وجل، وكأن هذا الآيات أُنْزِلت لتوِّها، طريَّة، كلَّما ازددت استقامةً، وبذلاً، والتزاماً، وإقبالاً ازددت سعادةً بكتاب الله، فالإنسان إذا قرأه:
﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ
بعض العلماء قال:
في الدرس القادم إن شاء الله تعالى ننتقل للآية التي بعدها:
﴿ أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ(24)﴾
والحمد لله رب العالمين