- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (013)سورة الرعد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون... وصلنا في الدرس الماضي في سورة الرعد إلى قوله تعالى :
﴿
الواحد القهَّار هو الذي
أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا
كلُّ شيء في الكون بقدر وميزان :
الأودية هي السيول، والأودية مَجْرَى السيول، ربنا -سبحانه وتعالى- حكيمٌ عليم، الأمطار بقَدَر، والأنهار بقدر، والينابيع بقدر:
﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ(49) ﴾
ما من شيءٍ في الأرض إلا لو زاد عن حدِّه انقلب إلى ضدِّه؛ بُعْدُ الأرض عن الشمس، بُعْدُ الأرض عن القمر، بُعْدُ الشمس عن بقيَّة المجرَّات، نِسَبُ الهواء، طبيعة الماء، عتَبة الحواس، نِسَبُ الأغذية في الفواكه والثمار، ما من شيءٍ إلا والله -سبحانه وتعالى- يخلقه بقدَر ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ فهذه الأمطار تنزل من السماء بِقَدْرِ الأودية التي تسيل فيها
هذا الماء من الله :
مَنْ فاعل أنزل؟ الواحد القهَّار، أنت كمؤمن حينما ترى المطرَ تنهمر كيف تفهم المطر؟ أن هناك منخفضاً جوياً متمركزاً فوق قبرص؟ توجَّه نحو الشرق الأدنى؟ أم ترى أن الله -سبحانه وتعالى- أنزل من السماء ماءً؟ لا يتعارض التفسير العلمي والتفسير الديني للظواهر الطبيعيَّة، لا يتعارضان، ولكنَّهما يتكاملان، إذا فَهِمْتَ أن المطر بفعل المنخفضات الجويَّة فهذا شركٌ بالله -عزَّ وجل-، أما إذا رأيت أن الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أنزل المطر عن طريق هذه الأسباب، وهو مُسَبِّب الأسباب فهذا هو التوحيد، أن ترى أن الله -سبحانه وتعالى- أنزل، الواحد القهَّار أنزل من السماء ماءً، ماءً طهوراً .
هذه هي خصائص الماء :
الماء لا لون له، ولا طعم له، ولا رائحة له، سريع التبخُّر، سريع الذوبان، بمعنى أن أي شيءٍ يُوضَع فيه يذوب عدا بعض العناصر، أي أن قابليَّته لذوبان المواد فيه، هذه كلُّها خصائص لو ألغيت واحدةً منها، لو أن للماء طعماً لأصبحت جميع المأكولات بهذا الطعم، لكرهت الماء وكرهت كل شيء، لو أن للماء رائحةً لما احتملت الماء، لو أن له لوناً لأصبح كل شيءٍ بهذا اللون لأن الماء داخلٌ في كل شيء ..
﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۖ
ما دام الماء أحمر اللون وهو داخلٌ في تركيب الفواكه كلِّها، إذاً جميع الفواكه ترونها حمراء اللون، لو أن للماء رائحةً وهو داخلٌ في جميع المواد الحيويَّة لرأيت هذه الرائحة مشتركة، لكرهت الماء، لو أن له طعماً، لا لون له، ولا طعم له، ولا رائحة له .
لو أن الماء يتبخَّر بدرجة مائة، إذا نظَّفت البيت بالماء فإن هذا البيت لا يجفُّ أبداً إلا إذا سَلَّطت عليه ناراً، لكنَّ الماء يتبخَّر بدرجة أربع عشرة فقط، سريع التبخُّر، سريع الانسياب، يدخل الماء في أدقِّ المَسام، لو لم يكن كذلك أي لو أنه لزج كالقَطر مثلاً كيف ننظِّف به؟ كيف يكون هذا الماءُ ماءً طهوراً؟ مستحيل، يجب أن تنظِّف الأشياء من الماء عندئذٍ .
فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا
ما هو الزبد ؟
(( يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ : حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))
فهذا الشيء الذي يعلو سطح السيل هو الزبد، أو هو الغثاء، في هذه الآية سمَّاه الله -سبحانه وتعالى-:
وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ
أهمية تخليص الذهب والحديد من الشوائب :
مضرِب المثل :
يذهب الزبد ويبقى المعدن :
أما الحديد فلأنَّ استعماله كثير يدخل في كل شيءٍ إذاً كان كثيراً، والحديد يصدأ، وصدأه نعمةٌ كبرى، لأن الحديد لولا أنه يصدأ لَمَا عشنا نحن، الحديد يدخل في تركيبنا، يدخل في تركيب الكُريات الحمراء في دمنا، كيف يدخل؟ أملاح الحديد، لولا أنه يتفاعل مع الأكسجين لما كان للحديد أي فائدة لجسم الإنسان، الحديد داخلٌ في مجموعةٌ كبيرة من المواد الغذائيَّة، فالعَدَسُ غنيٌّ بالحديد، التفَّاح والسفرجل غنيَّان بالحديد والدليل: أنك لو قطعت تفَّاحةً وعرَّضتها للهواء تفاعل أكسجين الهواء مع الحديد في التفَّاحة فاسودَّت، اسودادها واسوداد السفرجل، واسوداد أي فاكهةٍ فيها حديد دليل وجود الحديد، وكذلك بعض الخضراوات، إذاً تأكسده نعمةٌ كبرى من نِعَم الله -سبحانه وتعالى- .
كذلك يذهب الباطل ويبقى الحق شامخا :
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ
من صفاته الأساسية المُلازمة له التي إذا فُقدت أُلغي الباطل أنه سريع الزُّهوق، سريع الزوال، وشيك التحوُّل، سرعان ما ينكشف خلله، سرعان ما ينكشف خَطَلُهُ .
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ الْحُسْنَى
يا سعادة من آمن لله :
﴿
يا الله، الذي استجاب لله، سارع إلى تطبيق أمره، سارع إلى تنفيذ شرعه، الذي قرأ القرآن فعمل به، الذي سمع الحق فوعاه، الذي التزم الحق، الذي سمع مُنادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمن، هؤلاء الذين استجابوا، دعاهم الله فاستجابوا، دعاهم إلى ما ينفعهم فاستجابوا، دعاهم إلى ما يسعدهم فاستجابوا .
ما هي الحسنى ؟
الحسنى هكذا على إطلاقها، الحسنى في صحَّتك، الحسنى في بيتك، الحسنى في عملك، الحسنى في نفسيَّتك؛ طمأنينة، واستقرار، وثقة، وتفاؤل، الحسنى في دخلك، الحسنى في سمعتك، الحسنى في كرامتك، الحسنى في عزَّتك.
﴿
﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) ﴾
﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ(213) ﴾
﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ(79) ﴾
﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ
﴿
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَانُ وُدًّا(96) ﴾
هكذا ..
﴿
﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ
﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَىٰ قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا ۖ
﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ
﴿ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ(87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) ﴾
﴿ مِن دُونِهِ ۖ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56) ﴾
من السعادةِ الطمأنينةُ وعدمُ الخوف :
هذه الآيات ومدلولاتها إذا آمنت بها فهي في حدِّ ذاتها صحَّة، صحَّةٌ لجسدك لأن أحدث البحوث الطبيَّة أن معظم أمراض القلب، وأمراض الشرايين، وأمراض الكليتين، وأمراض الجهاز الهضمي، وأمراض الجهاز العصبي، معظم هذه الأمراض سببها نفسي، القلق، الخوف، الهَم، الحَزَن، التشتُّت، التبعثر، الخوف .
هذا الخوف المدمِّر الذي دمَّر حياة إنسان القرن العشرين، هذا القلق المدمِّر علاجه الإيمان بالله -عزَّ وجل-، تستقر، الإيمان بالله بحدِّ ذاته صحَّة، قال لي طبيبٌ في هذا الأسبوع: إن ضغط الدم يجب أن يسمَّى ضغط الهم لا ضغط الدم، ارتفاع ضغط الدم يعني -على رأي الأطبَّاء- أن عمر الإنسان يتناقص، لابدَّ من استعمال أدويةٍ بشكلٍ مستمر، أما أحدث الكشوف فإن الاسترخاء والراحة النفسيَّة، والثقة والتفاؤل هذه الحالات النفسيَّة كافيةٌ وحدها أن تعيد ضغط الدم إلى مستواه الطبيعي، وأن تعيد ضربات القلب السريعة إلى وضعها المُعتدل .
الإيمان بالله صحة ، والشرك عذاب :
أيها الإخوة الأكارم، الإيمان بالله صحَّة، صحَّةٌ لهذا الجسم لأن ضغط الهموم، ضغط المُقْلِقَات، الخوف، الشرك بالله، الرغبة في إرضاء الناس كلِّهم، هذا بحدِّ ذاته يسبِّب قلقاً، وحزناً، وهمًّا يضغط على الأجهزة فيصيبها بالعطب والعَطَل، لذلك الزُهد راحة، والتوكُّل راحة، والاستسلام لله راحة، والثقة برضاء الله راحة، والراحة صحَّة، فلو أن الإنسان آمن إيماناً صحيحاً لَصَحَّ جسده
الإمام مالك رأى في المنام ملك الموت فقال: " يا ملك الموت كم بقي لي في حياتي؟ " فقال ملك الموت: " وأشار له بهكذا، أي خمسة "، فلمَّا أفاق زادت حيرته أهي خمس سنوات؟ أم خمسة أشهر؟ أم خمسة أسابيع؟ أم خمسة أيَّام؟ أم خمس ساعات؟ أم خمس دقائق؟ فلمَّا سأل الإمام ابن سيرين عن تفسير هذه الرؤيا قال له: " يا إمام، إن سؤالك هذا من خمسة أشياءٍ لا يعلمها إلا الله"، كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرِّب أجلاً "، الآمر هو الضامن
وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ
المعرضون خضعوا لأهوائهم وأفكارهم :
لا ينفع المعرضين فديةٌ ولو كانت ملء الأرض ذهبا :
هذه السمكات الثلاث التي مرَّ بها صيَّادان فتواعدا أن يرجعا ومعهما شباكهما ليصيدا ما فيه من السمك، فسمع السمكات قولهما، أما أكيسهن فإنها ارتابت وتخوَّفت وقالت: " العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها "، ثم إنها لم تَعْرُج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فَنَجَتْ، وأما الكيِّسة -الأقلُّ عقلاً، الأقلُّ ذكاءً- فبقيت في مكانها حتى عاد الصيادان، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُدْ فقالت: " فرَّطت وهذه عاقبة التفريط "، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي ، ثم إنها تماوتت فطَفَتْ على وجه الماء فأخذها الصياد ووضعها على الأرض بين النهر والغدير، فوثبت في النهر فَنَجَتْ، وأما العاجزة فلم تزل في إقبالٍ إدبارٍ حتى صيدت .
الناس كَيِّسٌ، وكَيِّسٌ جداً، وعاجز ، فالكَيِّس العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها، والأقل عقلاً يحتاط لها في أثناء وقوعها، والغبي لا يحتاط لها لا قبل وقوعها ولا في أثناء وقوعها، فلم تزل تخطو يمنةً ويسرةً حتى أخذها الصيادان وأكلاها.
يجب أن تذوق طعم الإيمان :
وأنتم أيها الإخوة الأكارم، إذا استقمتم على أمره، واتجهتُم إليه، وجلستم في مجالس العلِم، وقرأتم كتابه، واتصلتم به، وذقتم حلاوة القرب، وحلاوة المناجاة، وحلاوة الشعور بأن الله معكم، وحلاوة الشعور بأن الله يدافع عنكم، وحلاوة الشعور بأن لكم عنده مقعد صدق، هذه المشاعر إذا ذقتموها تماماً تقولون كما قال بعض العارفين: " والله لو يعلم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليها بالسيوف ".
علامة إيمانك أنك سعيدٌ بإيمانك، علامة إيمانك أنك تحس أنك سبقت الناس جميعاً إن لم يؤمنوا.
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى
العاقل يختار السعادة الأبدية :
﴿
أحياناً تُخيَّر بين شيئين متقاربين، بين سيَّارتين، أو بين بيتين متقاربين في السعر فتقع في حيرةٍ من أمرك، لكنَّك إذا خُيِّرت أن يُهدى لك سيارةٌ أم درَّاجة، هل تقع في حيرةٍ من أمرك؟ هل تبقى طول الليل ساهراً أيهما أختار؟ هذا غير معقول، إذا خُيِّرت بين شيئين متقاربين فلابدَّ من الحيرة، لكنك إذا خُيِّرت بين شيءٍ زهيد الثمن وشيءٍ باهظ الثمن ما أن ينتهي الذي يُخيُّرك من كلامه حتى تقول: سيَّارة ـ بديهية ـ إذا خُيِّرْتَ بين الشقاء الأبدي والسعادة الأبديَّة، بين أن تسعد إلى أبد الآبدين، وبين أن يكون الإنسان في جهنَّم وبئس المصير
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا
﴿ وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77) ﴾
﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ(108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) ﴾
﴿ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ(108)﴾
الإنسان كالآلة لابد من اتباع تعليمات الاستعمال :
أخٌ كريم قال لي: صفقةٌ عُقِدَت مع شركةٌ أجنبيَّة لتوريد بعض الآلات الدقيقة العالية المستوى، الآلات وردت ولم ترد معها نشرات الاستعمال، إلى أن وردت النشرات عُدَّت الشركة متخلِّفَةً عن تسليم الأجهزة في وقتها المناسب، لأن الأجهزة لا قيمة لها من دون هذه التعليمات، والإنسان لا قيمة له من دون هذه التعليمات، دفعت الشركة غراماتٍ طائلة لأن التسليم باطل، وصلت الآلات في الوقت المحدَّد، ولكن التعليمات لم تصل، واستخدام هذه الآلات من دون التعليمات مستحيل، إن استخدمناها من دون التعليمات عطبناها، فعُدَّت الشركة متخلِّفةً عن تسليم الآلات .
هذا الإنسان من أعقد الآلات، يسعد أو يشقى، ينفع أو يؤذي، يكون مصدر خير أو مصدر شر، إن طَبَّق التعليمات يصبح مصدر خير، وإن خالفها يصبح مصدر شر، هذه التعليمات ألا ينبغي أن تُقْرَأ؟ هذه هي بين أيديكم ، كتابٌ كريم ..
﴿
﴿ تَنزِيلُ الْكِتَابِ
العالم بصير والجاهل أعمى :
﴿
آيةٌ دقيقةٌ جداً
﴿ أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ ۖ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) ﴾
﴿
﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(14) ﴾
هذا عطاء الأنبياء حُكماً وعلماً، ماذا أوتي فلان؟ بيتاً ومالاً زائلان، مالك ما لك، المال سُمِّي مالاً لأنه ما لك، أي ليس لك.
﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ(20) ﴾
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ
أهل العلم والعقول الراجحة يوفون بعهد الله :
عهد الله في هذه الآية أي يلتزمون أوامره، وينتهون عن نواهيه، عهد الله هذا الكتاب الذي بين أيدينا، شرع الله عَهِدَ إلينا به أن نطبِّقه، أوامر الله عهد إلينا بها أن نطبِّقها، هذا هو عهد الله، فالذي يطيع الله -عزَّ وجل- يلتزم عهد الله أي ينفِّذ هذا العهد .
وهناك معنى آخر: أن عهد الله هو العهد الذي وثَّقته مع أي جهةٍ وكان وَفْقَ الشرع، حُسْن العهد من الإيمان.
(( لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ ))
هؤلاء أولوا الألباب الذين يوفون بعهد الله من دون إكراه، يؤدُّون ما عليهم من دون حكم قضائي، يفي بعهد الله، الوفاء بعهد الله من صفات المؤمن، والذي يُخِلُّ بعهد الله يدخل في شعبةٍ من شُعَبِ النِفاق .
(( آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ))
من كان فيه خصلةٌ من هذه الخصال كان فيه شعبةٌ من شُعَب النِفاق، كان السلف الصالح يقول له: " اسمح لي أن أذهب إلى البيت لأودِّع أهلي وأولادي، وأكتب وصيَّتي، ولك عهد الله أن أرجع "، يرجع إلى الموت ليفي بعهد الله !!! هكذا كانوا، هكذا كان المؤمنون الصادقون، المؤمن إذا عاهد وفى .
أهل العلم والعقول الراجحة لا ينقضون عهد الله :
أهل العلم والعقول الراجحة يصلون ما أمر الله به أنْ يوصل :
﴿
﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ
أمرٌ إلهي
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ
هذا يبتعد عنه ، وذاك يتصل به .
الصلة التي أمر الله بها عامة ومتعددة :
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119) ﴾
هذا هو الأمر الإلهي، حتى إن بعض المفسِّرين قال معنى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ﴾ كل شرع الله يجب أن تصله بالطاعة.
أهل العلم والعقول الراجحة يخشون ربهم :
كيف تخشى العبد ولا تخشى الرب ؟
يا الله، تخشى إنساناً ولا تخشى ربَّ العالمين؟! هذا الذي دخل إلى بيت..
قُمِعَت بعض الفتن في العصور السالفة، فأباح أمير الجند لجنوده المدينة، دخل أحد الجنود إلى بيتٍ من بيوتها فرأى امرأةً وزوجها، قتل الزوج، وقال للمرأة: أعطني كل ما عندك، أعطته سبعة دنانير، فأمسك أحد أطفالها وذبحه، وقال: أعطني كل ما عندك، فلمَّا رأته جادَّاً في قتل الثاني أعطته درعاً مُذْهَبَة، فلمَّا أمسكها أعجبته ورآها ثمينةً جداً، تأمَّلها فإذا عليها بيتان من الشعر
إذا جــار الأميــر و حاجباه وقاضي الأرض أسرف في القضاء
فويــلٌ ثمَّ ويــلٌ ثمَّ ويــلٌ لقاضي الأرض من قاضي السـماءِ
أتخشى إنساناً ولا تخشى الله ربَّ العالمين؟! الذي قلبُك بيده، ورئتاك بيده، وكليتاك بيده، والشرايين كلها بيده، والدم كلُّه بيده، لو جمَّد نقطة دمٍ كرأس الدبوس في بعض شرايين المخ لأصيب الإنسان بالشلل، في مكان آخر يصاب بالعمى، بمكان ثالث يصاب بالصمم، بمكان رابع ينام في مستشفى المجانين، بمكان خامس يفقد ذاكرته، هذا الذي بيده كل شيء؛ بيده صحَّتك، وأجهزتك، وحياتك، وموتك، بيده الجراثيم، بيده من حولك، بيده من هو أعلى منك، من هو أدنى منك، بيده رزقك، تعصيه ولا تستحي منه ؟! .
واحد سأل أحد العارفين قال: إنني أريد أن أعصي الله، قال: " لا بأس عليك اعصِهِ عدا بعض الملاحظات: إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن أرضه، قال: وأين أسكن إذاً؟ قال: تسكن أرضه وتعصيه! أنت على أرضه وتعصيه، قال: هات الثانية، قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تأكل رزقه، قال: وماذا آكل إذاً؟ قال: تسكن أرضه وتأكل رزقه وتعصيه!! قال: هات الثالثة، قال: إذا أردت أن تعصيه فاجهد أن تعصيه في مكانٍ لا يراك فيه، قال:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ
قال: تسكن أرضه وتأكل رزقه وتعصيه وهو يراك ؟!
تعصي الإله و أنت تظهر حبَّه ذاك لعمري فـي المقال بديعُ
لو أن حبَّك صـادقاً لأطعـته إنَّ المحبَّ لمـن يحبُّ يطيعُ
أما تستحي من الله ؟
أما تستحي منَّا ويكفيك ما جرى أما تختشي من عتبنا يوم جمعنا
أما آن أن تُقْلِع عن الذنب راجعاً وتنظر مـا بـه جاء وعــدنا
إلى متى أنت في اللذَّات مشغولُ وأنـت عن كل ما قدَّمت مسـؤولُ
أيا غافلاً تبدي الإساءة والجهل متى تشكر المولى على كل ما أولى
عليك أياديه الكرام وأنت لا ترا هـا كـأن العيـن عميـاء أو حولى
لأنت كمزكومٍ حوى المسك جيبه ولكـنَّـه المـحـروم ما شمَّه أصلا
***
هذا هو الله الخالق الذي يجب أن تخشاه :
قبل يومين سمعت أن حيوان الدلفين يعيش على شواطئ البحار، وهو من أذكى الحيوانات قاطبةً، وأنه حيوانٌ أليفٌ جداً صديق الإنسان، وأنه حيوانٌ اجتماعي يعيش جماعاتٍ جماعات، وأن هذا الحيوان سخَّره الله لإنقاذ الغرقى على شواطئ البحار، فما إن يشعر هذا الحيوان أن سابحاً أدركه الغَرَق حتى يأتي اثنان فيرفعانه إلى أن يصيب الهواء، وينقلانه إلى الشاطئ، أما تستحي من هذا الفضل؟ أي شيءٍ في الكون فيه نقصٌ ؟!
﴿ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى(1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى(2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى(3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى(4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى(5) ﴾
﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ(4) ﴾
هل تعلم أن قناة الدمع لو سُدَّت لأصبحت الحياة لا تُطاق، قناةٌ دمعيَّةٌ دقيقةٌ دقيقة لو سُدَّت لصار الدمع مُخَرِّشاً للخد، ولاحتجت إلى كل دقيقةٍ أن تمسح الدموع من على خدِّك، لو أن المثانة بلا عضلات لاستغرق تفريغها عشر دقائق وأنت في بيت الخلاء، لكن مع العضلات في خلال دقيقة واحدة، أو نصف دقيقة .
لو أن الكليتين اتصلتا مباشرةً بمخرج البول، كل عشرين ثانية تحتاج إلى أن تذهب إلى المرحاض، كل عشرين ثانية نقطتا بول، أو تحتاج إلى فوط، هذه المثانة أليست من فضل الله علينا؟ هذه الحركات، هذه المفاصل، لولا هذا المفصل كيف نأكل؟ لابدَّ من أن نضع الصحن على الأرض وننبطح ونأكله بفمنا مباشرةً، لولا هذا المفصل .
هذا الشعر، ربع مليون شعرة، لكل شعرةٍ عصبٌ، وشريانٌ، ووريدٌ، وغدَّةٌ دهنية، وغدّةٌ صبغيَّةٌ، وعضلةٌ، لكل شعرة، هذا الدماغ فيه مائة وأربعين مليار خليَّة سمراء لم تُعْرَفُ وظيفتها بعد.
العين فيها مائة وثلاثون مليون مخروط من أجل أن ترى رؤيةً دقيقةً ملوَّنةً بالحجم الطبيعي، أما المصوِّر فيقول لك: تعالَ غداً لنحمِّض لك الصورة، أما أنت فتحميض فوري، تنظر فترى الشيء بألوانه الدقيقة، أنت بهذه العين ترى مائة لون حنطي، أما في الآلة التصويريَّة فالألوان كلها متقاربة، عينٌ دقيقة، أذنٌ مُرهَفة، أنفٌ جميل، لسانٌ ناطق.
﴿ الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) ﴾
وجهٌ جميل، أعضاءٌ، جلدٌ، شعرٌ، عضلات، أوردة، شرايين، زوجة، أولاد، كل هذا لا يكفي أن تلتفت إليه ؟!
يوم الحساب لا يبرح ذاكرة المؤمن :
﴿ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ(8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ(9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ(10) ﴾
فإذا مات الإنسان وتوجَّه فريقٌ إلى طبع النعي، وفريقٌ آخر إلى تسيير معاملة الدفن، وفريقٌ ثالث إلى تأمين الطعام ومستلزمات التعزية مساءً، وتوجَّه فريقٌ رابعٌ إلى المقبرة، واشترى قبراً، وتوجَّه الحفَّار ليحفر هذا القبر
﴿ إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا(13) ﴾
كان، أما الآن ليس مسروراً، الآن يتمنَّى أن تُسَوَّى به الأرض، يتمنَّى أن يكون تراباً تدوسه الأرجل، لا
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين