- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (013)سورة الرعد
الحمد لله العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تذكير بما سبق:
أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في سورة الرعد إلى قوله تعالى:
﴿ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(4) ﴾
﴿
قبلها:
﴿ المر ۚ
أي أن هذا الكتاب مِنْ ربك، مَنْ ربُّك ؟
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ وَجَنَاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ
الأراضي أنواع:
الأعناب والزرع والنخيل:
معنى: صنوان:
قد تجد نخلتين من أصلٍ واحد، وقد تجد للأصل الواحد نخلةً واحدة.
وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ
آيات الكون تنفع من كان له قلب حي:
قبل قليل:
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ
فالعقل مكانه القلب، والتَفَكُّر مكانه الرأس، فالإنسان يتفكَّر في الآية يقنع بها، فإذا تعمَّق في فهمها عقَلَها، فإذا عقلَها انتقلت من فكره إلى قلبه.
﴿
فمعظم الناس يتوهَّمون أن الموت نهاية الحياة، مع أن الحقيقة أن الموت بداية الحياة، الله -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا(22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُالإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى(23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي(24)﴾
ليست الحياة كل شيء:
حينما يظنُّ الإنسان أن الحياة هي كل شيء، وأن السعيد فيها من كان غنيَّاً، وأن الشقي فيها من كان فقيراً، وأن الموت نهايتها، هذه النظرة التي ينظر الناس من خلالها إلى الدنيا هي نظرةٌ مُهْلِكَة، لأنَّك نقلت كل اهتماماتك إلى الأرض، إلى الدنيا، والدنيا قد تأتي أو قد لا تأتي، قد تُقبِل عليك فيختلُّ توازنك، وقد تُدبر عنك فتيأس، لكنَّك إذا نقلت اهتمامك إلى الدار الآخرة عندئذٍ يرضيك فيها كل شيء.
فما من واحدٍ منَّا إلا وله فلسفة شاء أم أبى، كانت هذه الفلسفة عن وعيٍ أو عن غير وعيٍ، فالذي يظنُّ أن الدنيا كل شيء يُقْبِلُ عليها بنَهَمٍ شديد، ينام ويحلم بمباهجها، ببيوتها، بنسائها، بمالها، والذي يظنُّ الآخرة كل شيء هو العاقل.
مثلاً: لو أن إنساناً كان على وشك الموت عطشاً، وبقي له كي يموت عطشاً ساعة، وقيل له: هناك سبعة أمكنة يُظَنُّ أنّ فيها ماء، وتحتاج إلى ساعة لتصل إلى كلٍ منها، والماء في واحدٍ منها، فأي خطأٍ في التوجُّه معناه الموت المُحقَّق، يوشك هذا الإنسان أن يموت عطشاً، والأطبّاء قدَّروا له ساعة، بعد هذه الساعة يلفِظُ أنفاسه الأخيرة، هو في صحراء قيل له: في هذا المكان نبع، أو في هذا المكان، أو في هذا المكان، أعطوه سبعة أمكنة ثم قالوا له: حقيقةً الماء في مكانٍ واحد من هذه السبعة، فهل ينطلق الإنسان إلى أحد هذه الأمكنة قبل التروِّي وقبل البحث؟ لأن انطلاقه إلى أحد هذه الأمكنة قبل التأكُّد من أن الماء فيها معناه موتٌ محقَّق.
فشيء خطير جداً يُقال عنه: مصيري، أي مصيرك إلى الأبد، سعادتك إلى الأبد، شقاؤك إلى الأبد مَنوطٌ بهذا الكتاب، هذا منهجك في الحياة، فربنا -عزَّ وجل- جعل الدنيا دار تكليف وجعل الآخرة دار تشريف، أي أنّ العطاء في الآخرة، والنعيم المقيم في الآخرة، والجنَّة التي عرضها السماوات والأرض في الآخرة، لكن الدنيا دار عمل، دار جِدٍ، دار كسبٍ..
وَإِنْ تعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ
إنكار البعث فلسفة الجهلة والسفهاء:
إنه لقول عجيب:
الخلق الأول دليل عظمته، والخلق الثاني دليل عدالته:
الحقيقة أن الخلق الأول دليل عظمته، والخلق الثاني دليل عدالته، لأن في الخلق الأول عظمةً ما بعدها عَظمة، هناك الفقير والغني، هناك القوي والضعيف، هناك الظالم والمظلوم، هناك الصحيح والمريض، فهذا المريض لو أنّ هذه الدنيا هي كل شيء أليس له على الله عَتَبٌ شديد؟ يا رب أنت الذي خلقتني، هذا الفقير الذي لا يجد قُوت يومه وكانت الدنيا هي كل شيء وانتهى الأمر، أليس له عند الله عتبٌ شديد؟ في الدنيا فقير، في الدنيا غني، في الدنيا ضعيف، في الدنيا قوي، في الدنيا ظالم، في الدنيا مظلوم، في الدنيا صحيح، في الدنيا مريض.
الحساب على الجميع:
فالغني سيُحاسَب على غناه، والفقير سيُسأل عن صبره، والقوي سيُحاسَب عن قوَّته كيف استخدمها، أتعسَّف بها، والضعيف سيُسأل عن توحيده، والمريض سيُسأل عن صبره، والصحيح سيسأل عن قوَّته كيف استعملها.
(( لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ؟ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاهُ؟ ))
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ(93)﴾
﴿
جامعة، قاعات محاضرات، مكتبة ضخمة، حدائق، جهاز تدريسي من أرقى مستوى، مخابر كلَّفت ألوف الملايين، ليس هناك امتحان؟ هكذا ادخل إلى الجامعة، واخرج منها من دون امتحان؟ من دون مسؤوليَّة؟ مستحيل، لا يفعلها إنسان.
﴿
تعالى أن يخلق الناس عبثاً..
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ( 16) ﴾
﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ۚ
﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)﴾
نحن في الدنيا في ظل الأنظمة الوضعيَّة، أيضرب إنسان إنساناً، أيقتله ويذهب إلى بيته هكذا؟ ليس هناك شرطة، ليس هناك دوائر مباحث جنائيَّة؟ هكذا
ليست العبرة أن ينجح جميع الطلاَّب في الجامعة، ولكن الشيء الرائع أن تتطابق النتائج مع المقدِّمات، هذا هو الشيء الرائع أن يكون هناك حسابٌ دقيق
﴿
﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾
إيمانك الصحيح أنك لو أنقذت نملة، أنك لو ابتسمت ابتسامةً بمقدار ثانية واحدة سخريةً من إنسان لحُوسِبْتَ عليها، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( حَسْبُكَ مِنْ صَفِيَّةَ كَذَا وَكَذَا، تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ الْبَحْرِ لَمَزَجَتْهُ ))
كلمة قصيرة، فلان ما قلتُ شيئا، فلانة ما قلتُ شيئا، إنك تُحاسب على ذلك، أمتأكِّدٌ أنت أنها منحرفة؟ أعندك دليل؟ أجاءك أربعة شهود، أم أنها قصَّةً سمعتها فنقلتها؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ ))
لابدَّ من تمحيص.
حساب الدنيا قبل حساب الأخرة:
﴿
﴿
يعني كنت أعمى في الدنيا
الإيمان بالله واليوم الآخر متلازمان:
لو عرفوا ربهم من خلال خلقه لما كفروا به:
لو أنَّهم عرفوا ربَّهم كيف أمدَّهم بالهواء، هذا الهواء نستنشقه نأخذ منه الأكسجين، ونطرح غاز الفحم، يأتي النبات فيأخذ غاز الفحم يُثَبِّت الفحم في الأوراق ويطرح الأكسجين، ومن أخذ الأكسجين وطرح غاز الفحم، وأخذ غاز الفحم وطرح الأكسجين ينشأ هذا التوازن في الأرض، وإلا لانتهى الأكسجين، لو فكَّروا في ربِّهم كيف خلق لهم الهواء بهذه النسب الدقيقة، وكيف جعلهم يتكاملون مع النبات.
لو فكَّروا في الماء كيف صفَّاه الله -عزَّ وجل- وحلاَّه، هو في البحر ملحٌ أُجَاج، وفي الينابيع ماءٌ عذبٌ فرات، لو فكروا في تخزين المياه..
﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ
لو فكَّروا في ظاهرة النبات، النبات أكبر ظاهرةٍ في الأرض، أن تزرع حبَّةً فتصبح شجرة، لكن أين البرمجة؟ قال لي واحد: بذرة مبرمجة، قلت له: جميل، تعال أناقشك بهذا الموضوع، لو أردت إنشاء بناءٍ ضخم، وذهبت إلى أعظم المهندسين، ووضعوا لك مخطَّطاتٍ تفصيليَّة، مخطط للأساسات، مخطَّط للطابق الأول، للطابق الثاني، الثالث، الرابع، الخامس، هندسة نِسَب ومقاييس، وهندسة شكل ومظهر، وهندسة كهرباء، وهندسة مياه،... إلخ. وجمعت هذه الخرائط، وهكذا سُمْكها ضعها على أرض البناء، وانتظر كم سنة حتى يظهر البناء، نحن في عالَم الواقع، هل تكفي الخرائط المُبرمَجة التي فيها حسابٌ دقيق لهذا البناء، هل تكفي هذه الخرائط ليظهر البناء؟ تقول: لا إنه لا يظهر، نحتاج إلى ماذا؟ إلى مواد أوليَّة، ائتِ بهذه المواد الأوليَّة؛ ائت بالإسمنت، وبالحديد، وبالبلاط، وبالطلاء، وبكل شيء، دعه في أرض البناء، هل يظهر البناء؟ تقول: يد عاملة، إذا كان بناء فيحتاج إلى خارطة، ومواد أوليَّة، ويد عاملة، فهل تكفي بذرة مبرمجة أن تنبت شجرة ؟
بذرة التين كرأس الدبوس، هذه البذرة فيها رُشَيم، وفيها مواد مغذِّية للرُّشيم، والرُّشَيم حيٌّ، كيف تصبح هذه البذرة شجرة؟ حبَّة قمحٍ زُرِعَت فأنبتت ثلاث آلاف حبَّة رأيتها بأمِّ عيني، خمس وثلاثون سنبلة من حبِّة قمح واحدة، وكل سنبلة فيها ستون أو سبعون حبَّة، بذرةٌ واحدة، حبَّة قمحٍ واحدة أصبحت ثلاث آلاف حبَّة، فيَدُ مَنْ؟ المزارع يلقي الحبَّة في الأرض، ويذهب إلى البيت، من أودع في هذه الحبَّة هذه الحياة؟ من جعل الرُّشيم حينما جاءته الرطوبة ينبت له سُوَيقٌ دقيق وجُذَيرٌ دقيق، من جعل الجذر يتجه نحو الأسفل والسويق يتجه نحو الأعلى؟ ما هذا التوافق الدقيق بين انتهاء المواد الغذائيَّة في البذرة وإمكانيَّة الجُذَير أن يأخذ من التراب ما يحتاج؟ ما هذا التوافق العجيب؟ فالنبات ظاهرة.
فالهواء آية، والماء آية، والنبات آية، والحيوان آية، وهذه المخلوقات؛ الطيور، الأسماك، الأنعام، الإبل، الغنم، الماعز، البقر.
هذه البقرة لو أنَّ حليبها خلقه الله لوليدها فقط فإن وليدها يكفيه اثنان كيلو في النهار كله، البقرة تعطي ثلاثين كيلو حليباً، معنى هذا أن الحليب لنا خصيصى، خُلِقَ لنا..
﴿ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ۖ
أنت تأكل جبنة صباحاً ولبناً مصفَّى، قشطة، هذا كلُّه من الحليب، سمنة بلدي، من صمَّمه ؟ من صنعه؟ يدُ من صنعته؟
وَأُوْلَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ
المعنى الأول: المجرم لا بد من تقييده بالأغلال:
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ﴾
المجرم يُقيَّد.
﴿ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ(32)﴾
هذا المعنى الأوَّل.
المعنى الثاني: الكافر مقيد بالشهوات:
المعنى الثاني:
(( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ))
هؤلاء عبيد الشهوات، هناك رجل بعد أن هداه الله -سبحانه وتعالى- يقول:
﴿
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ
استهزاء الكفار بوعيد الله:
الإنسان العاقل يخاف بفكره لا بعينه:
أما الإنسان فكرَّمه الله -عزَّ وجل-، يجب أن يخاف بفكره، يجب أن يرى الخطر المتوقَّع قبل أن يقع الخطر، فالذي يخاف بعينه هذا متخلِّف، هذا ينتمي إلى صنف الحيوان، لا يخاف إلا إذا رأى الخطر، ما دام في صحَّة جيِّدة، ما دام في مال وفير هو مع شهواته يستعلي على الناس في الأرض، يأكل حقَّهم، يغتصب أموالهم، ينتهك حرماتهم، يعتدي على أعراضهم مادام فيه قوَّة، فإذا وقع في مرضٍ قلبيٍّ عُضال صار يعوي كالكلاب، يقول: أنقذوني، أين كنت ؟
يقولون: إن مَلَك الموت حينما يوضع الميت ويُغَسَّل يقول: " يا ابن آدم، أين سمعك؟ ما أصمَّك! أين ريحك؟ ما أفسدك! أين قوَّتك؟ ما أضعفك! ".
الموت فيه موعظة بالغة، لو أنك رأيت إنساناً مُمدداً على خشبةٍ المُغْتَسَل، جثَّةٌ هامدة، قبل قليل كان ملء السمع والبصر، أصبح حديثاً، أصبح نعوة على جدران الطرقات بعد أن كان ملء السمع والبصر.
وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ الْمَثُلَاتُ
الدهرعبر وأمثال:
كولومبيا دولة في أمريكا، فيها مدينة في سفح جبلٍ، الجبل مغطَّى بالثلوج، الجبل أخضر، المسارح، الفنادق، الشوارع، الحدائق، الحياة بأوجها، انفجر البركان، وذاب الثلج، وقُذِفت هذه المدينة بالحُمم البركانيَّة، خمسةٌ وثلاثون ألفاً قُتِلوا فوراً، أين الإنسان؟ أحياناً طائرة تحترق في السماء، وبسبب خلل بسيط وقد مات جميع ركَّابها، ثلاثمائة وخمسون راكباً، خلل بسيط في أجهزتها، نحن تحت رحمة الله
وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ
آية غاية في الرجاء:
إلى متى أنت باللذَّات مشغولُ وأنت عن كل ما قدَّمت مسؤولُ
تعصي الإله وأنت تُظْهر حبَّه ذاك لعمري في المقال بديــعُ
لو كان حبُّك صادقاً لأطعتـه إن المحبَّ لمن يحبُّ يطيـــع
*****
أيا خجلتي منه إذا هو قال لي أيا عبدنا ما قرأت كتابنا ؟
أما تستحي منَّا ويكفيك ما جرى أما تختشي من عتبنا يوم جمعنا
أما آن أن تقلع عن الذنب راجعاً وتنظر ما به جاء وعدنا
إلى متى أنت ؟
عندي لك الصلح وهو بري وعندك السيف و السِنـانُ
ترضى بأن تنقضي الليالي وما انقضت حربك العوان
تستحي من شيبةٍ تــراها في النار مسجونةً تــهانُ
***
المغفرة مقيدة بالتوبة:
هناك علماء قيَّدوا هذه الآية فقالوا:
(( وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً ))
بشرط أن تأتيني، أن تعود إلي، أن ترجع إلي، أن تُقْبِل علي، أن تتوب من ذنبك.
لكن احذر وأكمل الآية:
أما إذا أصررت:
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7) ﴾
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
السفيه يسأل عن الآيات وهي تحت سمعه وبصره:
يا سبحان الله! الآيات في الأرض وفي السماوات لا تُعَدُّ ولا تحصى..
﴿ وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ(20) ﴾
أنت آية، خلقك آية، ابنك آية، زوجك آية، طعامك آية، شرابك آية، الطير في السماء آية، السَمَكُ في البحر آية، البحر آية، النهر آية، الجبل آية، الصحراء آية، الغَوْرُ آية، السَهْل آية، الشمس آية، القمر آية، الجراثيم آيات من آيات الله، الأمراض..
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحدٌ
***
مدرِّس مثلاً كتب نظريَّة على السبورة، وبرهن عليها بثلاثين برهاناً، بعد أن انتهى من إلقاء المحاضرة رفع طالب أصبعه، وقال له: يا أستاذ، ما البرهان على صحَّة هذه النظريَّة؟ أي برهانٍ هذا ؟
يروى أن الإمام أبا حنيفة -رضي الله عنه- كان يدرِّس طلابه في بعض المساجد، والدرس كان عن صلاة الفجر، وكان في رجله مرضٌ، وكان يمدُّها بالإذن من تلاميذه، دخل شيخٌ مُعمَّم طويل القامة، عريض المنكبين، فاستحيا منه أبو حنيفة فرفع رجله مكابراً، فجلس هذا الشيخ الوقور في مجلس هذا العالِم الجليل، تحدَّث عن صلاة الفجر، وعن الفجر الصادق والكاذب، وعن الصلاة في غَلَس أو في سَحَر.. وإلخ، بعد أن انتهى الدرس رفع إصبعه هذا العالِم الشيخ المُعمَّم الوقور، وقال له: يا سيدي، كيف نصلي الصبح إذا طلعت الشمس قبل الفجر؟ فقال أبو حنيفة: " عندئذٍ يمدُّ أبو حنيفة رجله".
الكون معجزة:
يعني كل هذه الآيات
فكر في جسمك لترى عظمة الله:
مرَّة رأيت كتاباً في مكتبة فيه حوالي ألفَا صفحة، عنوانه بسيط هو: ( أمراض الدم )، معنى هذا بالتحليل عندك ثلاثة وعشرون بنداً؛ الشحوم الثلاثيَّة، والكولسترول، والبولة... إلخ، وكل مادَّة لها نسب معيَّنة، حد أدنى، حد أقصى، حد مرضي، حد خَطِر، حد غير خطر، الدم فقط عالَم قائم بذاته.
الأمراض العصبيَّة، أمراض العضلات، أمراض جهاز الهضم، أمراض المعدة، أمراض الاثنا عشر، أمراض البنكرياس "السكر" أمراض الكبد، أمراض الجهاز التنفسي، أمراض القلب، وعن القلب قرأت كتاباً شيء يحيِّر العقول، دسَّاماته، والأذينين، والبطينين، والشريان الأبهر، والتوتر الشرياني، وأسباب التوتر الشرياني، إذا قلت: ما بي من مرض فأنت المعجزة، على قدر ما هنالك من أجهزة تعمل بانتظام وتنسيق.
إذا رأى أحد حيَّة فما الذي يحصل؟ العين تنطبع عليها صورة الأفعى، هذه الصورة تنتقل إلى الدماغ، الدماغ يدرك أن هذه أفعى خطِرة، يعطي الدماغ خبراً للغدَّة النخاميَّة عن طريق وسيطٍ بين الدماغ والغدَّة النخاميَّة، الغدَّة النخاميَّة مَلِكة الجهاز الهرموني تعطي أمراً إلى الكظر بأن هناك خطراً فتصرَّف، الكظر يصدر أمراً هرمونيَّاً بتسريع ضربات القلب أول شيء، فإذا خاف إنسان يصير قلبه يدق مائة وأربعين دقَّة من دون أن يشعر، الكظر يصدر أمراً هرمونياً بتضييق لمعة الشرايين، جميع الشرايين في الإنسان حولها أعصابٌ إذا تنبَّهت ضيَّقت لمعتها، فإذا ضُيِّقت لمعتها اصفرَّ الإنسان، من أجل أن يُوفَّر الدم للعضلات، الآن لا تحتاج إلى خد وردي، الآن يريد أن ينجو من هذه الأفعى، فلذلك أول أمر لتضييق لمعة الشرايين يصفر الخائف.
الأمر الثاني تسريع القلب، لأن النبض السريع يحرِّك الدم بسرعة في الشرايين، سيارة إسعاف، وتمشي بسرعة الخمسة والعشرين؟ هذا لا يجوز.. فالقلب ينبض بسرعة، والشرايين تضيق لمعتها، يصدر أمراً هرمونياً ثالثاً للرئتين فيزداد خفقان الرئتين كي تتوافقا مع القلب من أجل التصفية، تصدر أمراً رابعاً بتحرير كميَّة إضافيَّة من السكر في الدم، لو فحصت دم خائفٍ تجد فيه سكراً بنسبٍ مرتفعة، أنت ما عندك علم فقط رأيت أفعى، أو عقرباً، أو إنساناً معه سلاح، أو سيارة كادت أن تصطدم بك، تجد القلب دقَّ مائة وأربعين دقَّة، صارت حركة الرئتين سريعة، اصفرار، الدم فيه سكَّر، أنت آية، وأنت في حالتك الطبيعيَّة آية
إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ
المعنى الأول:
المعنى الثاني:
المعنى الآخر: كل قومٍ لهم من يهديهم وَفْقَ طريقتهم، ووفق مقاييسهم في الحياة، ففي عصر العلم يحتاج الذي يتصدَّى لهداية الناس إلى مزيدٍ من العلم، يحتاج أن يستخدم سلاح العصر، وفي عصر السحر جاء موسى بالسحر، وفي عصر الطِّب جاء سيدنا عيسى بالطب، وفي عصر البلاغة جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- بهذا الكتاب المُعْجِز..
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى
انظر إلى موقع (ما) في هذه الآية لتفهم معناها:
﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(8) ﴾
لم يقل الله -عزَّ وجل-: الله يعلم من تحمل، هناك مشكلة يقولون لك: إن العلماء قد توصَّلوا إلى معرفة جنس الجنين أذكرٌ هو أم أنثى؟ الله -سبحانه وتعالى- يقول:
فهناك دقائق دقيقة جداً لا يعلمها إلا الله، الله وحده يعلم ما تحمل كل أثنى، موضوع ذكر أو أنثى موضوع تافه جداً إذا قيس بما تعنيه هذه الآية:
معنى: وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ
﴿ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ(8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ(9) ﴾
أي أن فلاناً جاء بأولاد ذكور، بأولاد إناث، فلان عقيم، فلان أنجب ولداً واحداً ثم توفي، أنجب ولداً ذكيَّاً وولداً أقلَّ ذكاءً، ولداً مُصلِحاً ولداً مُفسِداً.
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ
لا يعلم الغيب إلا الله:
﴿ قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ
﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ
الله هو الكبير المتعالي في العظمة:
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ
الله يعلم العلن والسر وأخفى:
﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ(10)﴾
أي إذا كان هناك فكرة أبقيتها في ضميرك، أو نطقت بها، أخفيتها أو أعلنتها، أسررتها أو أظهرتها.
من هو المستخفي بالليل و السارب بالنهار:
لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ
﴿
هذا الإنسان الذي أسرَّ القول أو جهر به، أو الذي استخفى بالليل أو ظهر بالنهار.
كل إنسان معه ملائكة تتعقب أعماله:
﴿لَهُ﴾ أي أن الله -سبحانه وتعالى- قَيَّض له، قيَّض لهذا الإنسان ملائكة تتعقَّب أعماله ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ﴾ أينما ذهب، وأينما جلس، وأينما سافر، أينما حلّ، وأينما ارتحل، من عن يمينه، من عن شماله.
يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ
معنى الحفظ من أمر الله:
إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
(( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ ))
فإذا أطعنا الله -عزَّ وجل- ساق لنا ما نحب، وصرف عنَّا ما نكره، وإذا عصيناه ساق إلينا ما نكره، -وما أكثر ما نكره-، وصرف عنَّا ما نحب، وكما جاء في الحديث القدسي:
(( أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب المُلُوك بيدي، فإن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد عصوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالسخطة والنِقْمَة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك، وادعوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم. ))
هذه الآية تحل آلاف المشكلات:
﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ(112) ﴾
غيّر ما بك حتى يغير الله:
الآية لها معنيان متعاكسان: إن الله لا يغيِّر حتى تغيِّر، لا يغيِّر من حَسَن إلى أسوأ حتى تغيِّر من طاعة إلى معصية، ولا يغيِّر من سيئ إلى حَسَن حتى تغيِّر من معصية إلى طاعة، لا يغيِّر حتى تغيِّر، أنت الأصل، غيِّر ليغيِّر، لا تغيِّر لا يغيِّر:
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ
القضيَّة واضحة كالشمس
وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ
لا أحد يضر إلا بإذن الله:
فرعون رأى في المنام أن طفلاً من بني إسرائيل سوف يقضي على مُلكه، فأمر بقتل أطفال بني إسرائيل كلِّهم، أما الذي سوف يقضي على مُلكه ربَّاه في قصره.
﴿
يؤتى الحذر من مأمنه:
أغنى أغنياء العالَم روتشلد اليهودي عنده مستودع ضخم للذهب -سبائك الذهب- كانت الحكومة البريطانيَّة تقترض منه أحياناً، دخل إلى المستودع فأُغْلِقَ باب المستودع وراءه، صاح ولم يسمعه أحد، أمضى أيَّاماً ثلاثة في داخله، أوشك على الموت، فجرح أصبعه وكتب على الجدار: " أغنى رجل في العالَم يموت جوعاً "، مات جوعاً.
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ(19) ﴾
خلال دقائق يصيبها صقيع فتحترق كل الثمار..
﴿ أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ
فالإنسان
والحمد لله رب العالمين.