- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (055)سورة الرحمن
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
ظنّ الملائكة بأن كل من على الأرض فان فقط:
أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الرابع من سورة الرحمن، ومع الآية السادسة والعشرين.
بسم الله الرحمن الرحيم، يقول الله عزّ وجل في الآية السادسة والعشرين:
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾
ماذا نستفيد من هذه الآية؟ ربنا سبحانه وتعالى يُعْلِمُنا أن كل من على الأرض فان، لأن الله سبحانه وتعالى في مطلع السورة قال:
﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
فوائد فناء الخلق:
1 ـ الخلق كلهم متساوون:
أيها الأخوة؛ يجب أن نقف وقفةً متأنيةً عند هذه الآية، فناء الخلق ماذا يفيدنا؟ أول فائدةٍ تُستفاد من فناء الخلق أن الخلق كلَّهم سوف يتساوون، فالموت يُلغي غِنى الغَني، ويلغي فقر الفقير، ويُلغي قوة القوي وضعف الضعيف، يلغي صحَّة الصحيح ومرض المريض، يُلغي وسامة الوسيم ودمامة الدميم، كل شيءٍ يُلغى في الموت، يعود الإنسان كأي إنسانٍ خلقه الله عزّ وجل؛ العظماء، الكبراء، الأغنياء، الجبابرة، الملوك، الضعفاء، المَرضى، المقهورون، المستضعفون:
2 ـ فناء الخلق سبب لانتقالهم إلى الدار الآخرة:
المعنى الثاني أيها الأخوة؛ أن الإنسان حينما يفنى فناؤه سببٌ لانتقاله من دارٍ إلى دار، إن فناء الخَلق سببٌ لانتقالهم إلى الدار الآخرة، وشتَّان بين الدارين، دارٌ دُنيا، ودارٌ عُليا، دارٌ أساسها الفناء، ودارٌ أساسها البقاء، دارٌ أساسها الهمّ والحزن، ودارٌ أساسها الطمأنينة والأمل، دارٌ أساسها الكَدُّ والسعْيُ، ودارٌ أساسها العطاء، دارٌ أساسها التكليف ودارٌ أساسها التشريف، دارٌ أساسها العمل ودارٌ أساسها الجزاء، فلولا الفناء لما انتقلنا إلى الدار الآخرة.
والحقيقة الدنيا إعدادٌ للآخرة، لكن الحياة التي تُمثِّل كَرَمَ الله عزّ وجل وعطاءه الأبدي السرمدي هي الدار الآخرة، العظيم إذا أعطى لا يأخذ، لكن كل عطاء الدنيا سوف يؤْخَذ، هل يبقى شيء؟ هل يبقى المال؟ هل يبقى العزُّ والسلطان؟ هل يبقى الشباب المتألِّق؟ هل يبقى التمتُّع بملاذ الدنيا؟ أتتناسب الدنيا مع كرم الله عزّ وجل؟ الموت يُنهي كل شيء؛ ينهي غنى الغني، ينهي فقر الفقير، ينهي قوة القوي، ينهي ضعف الضعيف، ينهي صحة الصحيح، مرض المريض، وسامة الوسيم، دمامة الدميم، يُنهي كل شيء:
الأحمق من يعلق آماله على الدنيا:
الشيء الأول الذي يُستفاد من فناء الخَلق أنهم سوف يتساوون مساواةٌ تامّة، ما الفرق بين أن يموت إنسانٌ فقيرٌ ضعيفٌ ويوضع في حفرةٍ وبين أن يموت ملكٌ قوي ويوضع في حفرة وينتهي الأمر وبعد حين تفنى الجُثتان؟ استوى العظيم مع الصغير، استوى الغني مع الفقير، الموت يسوِّي بيننا جميعاً، الموت سببٌ لانتقال الإنسان من دار العمل إلى دار الجزاء، من دار التكليف إلى دار التشريف، من دار الفناء إلى دار البقاء، من دار المتاعب إلى دار الطمأنينة، قيل: إن هذه الدنيا دار التواء لا دار استواء-الآخرة دار استواء-ومنزل ترحٍ لا منزل فرح- الآخرة دار فرح-فمن عرفها لم يفرح لرخاء ولم يحزن لشقاء، قد جعلها الله دار بلوى وجعل الآخرة دار عُقبى.
الذي يلفت النظر أن الإنسان يعلِّق آماله الكبيرة على الدنيا وحياته منوطةٌ بسيولة دمه، فإذا تجَمَّد بضعٌ من دمه في شرايينه يقول لك: أصابته جلطةٌ ومات، إذا تجمَّدت نقطة دمٍ في دماغه يقول لك: خثرة دماغية، شُلّ شللاً نصفياً، غاب عن الوعي، فقد نُطقه، فقد ذاكرته، فهذا الذي يُعَلِّق الآمال على الدنيا على أي شيءٍ يرتكز؟
الوقت أغلى شيء في حياة الإنسان:
أيها الأخوة؛ والله العقل كل العقل، والفلاح كل الفلاح، والذكاء كلُّ الذكاء، والتوفيق كل التوفيق، والتفوُّق كل التفوق في العمل للآخرة، ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: عَنْ شَدَّادِ ابْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :
(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ . ))
نحن في هذا المسجد المتواضع كم أخ غادرنا في هذه السنوات العشرين؟ كم أخ كان معنا ثم غادرنا؟ هكذا الحياة الدنيا، من منا يضمن أن يعيش ساعةً بعد هذه الساعة؟ ثانية؟ الموت يأتي بغتةً، فلذلك عندما يقول ربنا عزّ وجل:
العمل الصالح أساس النجاة من النار:
لو أن الإنسان حاسب نفسه كل يوم مساءً، ماذا فعلت من عملٍ ينفعني بعد الموت؟ أما ماذا فعلت من عملٍ ينفعني في الدنيا؟ الإنسان في حركة دائمة، يتحرَّك دائماً لكسب المال، لتحقيق مصالحه في الدنيا، ولكن السؤال المُحْرِج هذا اليوم قد انقضى قبل أن ينام: ماذا فعلت فيه من عملٍ ينفعني بعد الموت؟ هل طلبت علماً؟ هل علَّمت علماً؟ هل أمرت بمعروف؟ هل نهيت عن منكر؟ هل قرأت القرآن؟ هل ذكرت الواحد الديَّان؟ هل نصحت مسلماً؟ هل أعنت فقيراً؟ هل عُدت مريضاً؟ هل شَيَّعت جنازةً؟ هل مسحت رأس يتيم؟ هل اعتنيت بامرأةٍ أرملةٍ من أقربائك من محارمك؟ اعتنيت بها؟ أمَّنت لها حاجاتها؟ ماذا فعلت من عملٍ ينفعك بعد الموت؟
المعاصي والطاعات تنتهي ويبقى المسؤولية والثواب:
توجد ملاحظة ثالثة أيها الأخوة؛ المعاصي إذا توهَّم المتوهِّمون أن لها لذائذ فإن هذه اللذائذ تنقضي وتبقى المسؤولية:
أيها الأخوة؛ هذا السبب الذي نقله من هذه الدار إلى تلك الدار سببٌ مؤلمٌ أم مفرح؟ مفرح.
الفناء سبب لنقلة الإنسان من دار الفناء إلى دار البقاء:
لذلك المؤمن ينتقل من الدنيا إلى الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، كيف أن المؤمن ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، الدنيا ضيِّقة إلى سعة الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم -سبعمئة وخمسون سنتيمتراً مكعباً-إلى سعة الدنيا، يسافر إلى كندا، إلى اليابان، يركب الطائرات، يرى القارَّات الخمس، يرى البحار، كان في الرحم، وكذلك المؤمن ينتقل من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، كذلك المؤمن ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة كما ينتقل الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، فالفناء سبب الانتقال، والفناء سبب المساواة، والفناء يعني أن الوقت محدود.
الموت نهاية العمل الصالح:
تصور طالباً في الامتحان معه ثلاث ساعات -الآن ساعتان-وهذه مادة أساسية ويعلِّق آمالاً عريضةً على نجاحه في هذه المادة، هل من الممكن في هاتين الساعتين أن يصلِّح ساعته؟ أو أن يعبث بقلمه؟ أو أن يُصلح ثوبه؟ أو أن يمتنع عن الكتابة؟!! الوقت محدود، مادام هناك نهاية للوقت وهذا الوقت ثمين، وفيه مهمة خطيرة، فلما ربنا عزّ وجل يقول لنا: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ أي أيها الإنسان إنَّك ميت، وعندما يموت الإنسان يُختَم عمله، ليس هناك من عملٍ صالحٍ بعد الموت، لا توجد أعمال صالحة؛ لا يوجد مال، لا يوجد وقت تصلِّي فيه، ولا يوجد وقت تتعلم فيه، ولا يوجد وقت تعلِّم فيه، ولا يوجد وقت تنصح الناس، ولا يوجد وقت تبذل مالك، ولا يوجد مال تنفقه أساساً.
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾
خُتِم العمل.
العاقل من يستعد للموت بالتوبة النصوح:
عندما يقول ربنا عزّ وجل:
إشارات الله إلى الإنسان بأن اللقاء قد اقترب:
أيها الأخوة الكرام؛ بعض الأحاديث أكررها كثيراً، قيل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)﴾
محاسبة الله للإنسان يوم القيامة:
ماذا أعددت للدار الآخرة؟ ماذا أعددت ليوم القيامة؟ ماذا أعددت وأنت واقفٌ بين يدي الله عزّ وجل؟ يقول لك: يا عبدي منحتك الوجود، منحتك السمع والبصر والفؤاد، أعطيتك مالاً، أعطيتك زوجةً، رزقتك أولاداً، ماذا فعلت؟
﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)﴾
الناس ركَّبوا صحوناً فركبنا صحناً، سهروا حتى الساعة الخامسة بعد الفجر ولم يصلوا وفعلنا مثلهم.
﴿ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)﴾
يقول الله عز وجل لعبدٍ أعطاه مالاً: يا عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه؟ يقول: يا رب لم أنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي، يقول الله له: ألم تعلم بأني الرزاق ذو القوة المتين؟ إن الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم،
القلب ينبض فاغتنم القيام بالأعمال الصالحة:
لا أحد منَّا سيبقى بعد مئة عام، وربما بعد خمسين عاماً، لا يبقى أحد، وقد أتى في الدهر يومٌ لم نكن نحن جميعاً شيئاً مذكوراً، وسيأتي يومٌ ننتهي، كلنا تحت أطباق الثرى، ألا تقرؤون التاريخ؟ أين الرومان؟ أين الأقوام السابقة؟ الآراميون، الكَلدانيون، الكَنعانيون، أين هؤلاء الذين كانوا في هذه البلاد طولاً وعرضاً؟ طواهم الردى وأصبحوا خبراً، والله قال:
﴿ ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا
نحن الآن في حياة، القلب ينبض، أنت حر، أنت الآن تملك الوجود، أنت موجود وتملك حرية الاختيار، وتملك طلب العلم، وتملك معرفة الحقيقة، فماذا تصنع؟
﴿ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا
معرفة كتاب الله هدف لا يعلو عليه هدف:
أيها الأخوة الكرام؛ والله ما من عملٍ أخطر ولا أعظم من أن تعرف الحقيقة، أن تعرف من أنت؟ أنت كائن لماذا خلقك الله عزّ وجل؟ لماذا جاء بك إلى الدنيا؟ هل يوجد إنسان يسافر إلى بلد على وجه الأرض وينام في أحد الفنادق ويستيقظ ولا يدري لماذا هو في هذا البلد؟ يوجد هدف كبير يقول لك: رحلة سياحية، سائح، رحلة تجارية، تاجر، رحلة علمية، توجد كلمة واحدة، سافر إلى فرنسا ليدرس الطب في جامعة السوربون، من أول حركة؛ إعداده، أوراقه، نشاطه، مخططه، هدفه طلب العلم، والثاني هدفه التجارة، والثالث هدفه السياحة، فإنسان في الأرض هو في الأرض يأكل، ويشرب، وينام، ويعمل، ولا يدري لماذا هو في هذه الدنيا؟ هذا هو أجهل الجَهل، وهذا هو الجهل الخطير ألا تعرف لماذا أنت في الدنيا، هذا الذي يتحرَّك بحكم أنه حيّ، يعبر العوام عن هذه الفكرة: عايشين تدفيش:
(( عن عبيد بن عمير: مثلُ المنافقِ كمثلِ الشاةِ الرابضةِ بينَ الغنمينِ فقال ابنُ عمرَ: ويلَكم لا تكذبوا على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ، إنما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: مثلُ المنافقِ كمثلِ الشاةِ العائرةِ بينَ الغنمينِ. ))
مثل المنافق كالناقة حبسها أهلها لا تدري لا لمَ حبست؟ ولا لمَ أطلقت؟ يعيش على هامش الحياة، إنسان الله أودع فيه عقلاً، أعطاه حرية اختيار، أنزل له كتاباً من السماء فيه بيان كل شيء، هذا القرآن منهجنا، كتابنا، كتاب ربنا، بيَّن لك آياته، بيَّن لك تشريعه، بيَّن لك المصير، الماضي السحيق، المستقبل البعيد، آياته الكونية، التكوينية، التشريعية، بيَّن كل شيء، لذلك معرفة هذا الكتاب هدفٌ لا يعلو عليه هدف.
المؤمن الصادق من يطلب العلم:
أنا أرى أن المؤمن الصادق يشكِّل حياته وَفْقَ مجالس العِلم، الأصل مجالس العلم، ولا يحضر هذه المجالس على فراغه، لا، عندك ضيف أنا عندي مجلس علم أعتذر، أحياناً الإنسان يرتِّب أوقاته كلّها ومواعيده كلّها على أساس أن هذه المجالس لابدّ من أن يحضرها، وأن يتابعها لأنها كلام ربنا عزّ وجل، هذه مائدة الله عزّ وجل، إذا أردت أن تعرف حقيقة الإنسان فاقرأ كتاب الله، قال لك:
الدنيا محط رحال الكافر:
بادروا بالإعمال الصالحة فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ كل يوم كاليوم السابق؟ لا، في يوم مفاجأة، يقول لك: استيقظت فلم أرَ بعيوني، استيقظت فإذا بوجع في صدري، أبداً، اسأل الناس، يُفاجأ إما بألم في صدره، أو بخلل في بصره، أو في وهن في قوَّته، أو بضعف في حركته: فماذا ينتظر أحدكم من الدنيا؟ هذا الكلام موجَّه لغير المؤمنين، هذا الكلام موجَّه لمن أحبوا الدنيا، لمن ركنوا إليها، لمن جعلوها مَحَطَّ رحالهم، لمن جعلوها غاية آمالهم، لمن جعلوها دَيْدَنهم، لمن جعلوا الدنيا كل شيء.
ماذا ينتظر الإنسان من الدنيا؟
1 ـ فقراً منسياً:
﴿ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19)﴾
أحياناً الإنسان يتعلَّق بالمال فالعلاج عند الله فقد هذا المال، يكون عنده مزرعة يضمنها كل سنة بسبعمئة ألف، صقيع خلال دقائق يدَمِّر كل هذه المزرعة، أحياناً تجارة تخسر، مال يُصادَر، بيت يُستملك، مزرعة تحترق،
2 ـ غنى مطغياً:
هل تصدِّقون أيها الأخوة أن النبي عليه الصلاة والسلام عدَّ الغني المُطغي من أكبر المصائب، الإنسان حينما يغتني يتكبَّر، وحينما يتكَبَّر يبحث عن الشهوات، يريد أن يستمتع بالشهوات المُحَرَّمات، السبب هو الغنى، عندما كان فقيراً كان مستقيماً فلما اغتنى فَجَر، فهذا الغنى نعمةٌ أم مصيبة؟ مصيبة.
3 ـ مرضاً مفسداً:
قال:
4 ـ هرماً مفنداً:
الموت لا يعرف كبيراً أو صغيراً:
أيها الأخوة؛ الموت له قاعدة؟ أحياناً الإنسان يبقى في فراشه ثلاثين عاماً مشلولاً، وأحياناً يُخْطَفُ وهو في أوج قوته، أليس هناك شبابٌ ماتوا في الثلاثين؟ وفي الخامسة والعشرين؟ وفي العشرين؟ وفي السابعة عشرة؟ الموت لا يعرف كبيراً ولا صغيراً، ولا إنساناً عقد عقده ولم يدخل، ونال شهادته ولم يُعين بموجبها، الموت لا يعرف، لذلك يقول الله عزّ وجل في سورة الرحمن:
﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)﴾
مرَّةً قرأت كتاب قِصَص العرب (أربعة أجزاء) قصص كلّها واقعية عن ملوكٍ، وعن وزراء، وعن قوّاد، وعن ضعفاء، وعن فقراء، وعن أغنياء، وعن أذكياء، وعن حمقى، وعن أُجَرَاء، إلخ، كتاب في أربعة أجزاء فيه قصص ما هبَّ ودبَّ، استفدت من قراءة هذا الكتاب حقيقةً واحدة: أن كل هؤلاء الذين قرأت عنهم ماتوا، وكلّهم تحت أطباق الثرى، وكلّهم انقلب إلى الدار الآخرة وسيلقى جزاء عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
تعليق المؤمن والكافر يوم القيامة وجزاؤهما:
ماذا يقول من أوتي كتابه بشماله؟ يقول:
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)﴾
يقول الله عزّ وجل:
﴿ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)﴾
إلى آخر الآيات.
لكن:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
الحظوظ في الدنيا موزعة توزيع ابتلاء:
كلمة:
﴿
يوجد أستاذ جامعة، ويوجد أستاذ معيَّن في قرية، يوجد مستورد كبير، يوجد بائع متجول، يوجد طبيب جرَّاح عمليته بأربعمئة وخمسين ألفاً، يوجد ممرِّض يتقاضى راتباً لا يكفيه أياماً، يوجد رئيس أركان ويوجد مجنَّد، يوجد صحيح ويوجد مريض، يوجد قوي ويوجد ضعيف:
العبرة قربك من الله تعالى لا حجمك المالي في الدنيا:
إخواننا الكرام؛ فكرة دقيقة جداً ملازمة لهذه الفكرة، الحظوظ موزَّعة في الدنيا توزيع ابتلاء وسوف توزَّع بعد الموت في الآخرة توزيع جزاء، حظوظ الدنيا لا تعني شيئاً، قد يكون الفقير أقرب إلى الله من الغني، وقد يكون الضعيف أغلى على الله من القوي، وقد يكون المريض أكثر قُرباً من الله من الصحيح، وقد يكون الذكي مُستحقاً لغضب الله بينما الأقل ذكاءً مستحقاً لرضاه، الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء لكنها سوف توزَّع في الآخرة توزيع جزاء، الحظوظ في الدنيا مؤقَّتة ولا تعني شيئاً لكن الحظوظ في الآخرة أبدية وتعني كل شيء، أي الغنى هنا مؤقَّت، والقوة مؤقَّتة، والذكاء مؤقَّت، والجمال مؤقَّت، كلّه مؤقت في الدنيا، أما توزيع الحظوظ في الآخرة فأبدي سرمدي، فالعبرة لا أن يكون لك موقعٌ متميزٌ في الدنيا، العبرة أن يكون لك مقعد صدقٍ عند مليك مقتدرٍ في الآخرة، العبرة قربك من الله لا حجمك المالي.
صفات الجلال والكمال تخص الخالق وحده:
لذلك الآية الكريمة:
﴿ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)﴾
الوجه هنا الذات الكاملة،
الإنسان عبد لله لا عبد لعبد لئيم:
بعضهم قال: إنه مُكَرَّمٌ عن أن يقع في نقص، مُكَرَّمٌ عن أن يتصف بشيْ لا يليق به، هذا معنى أورده بعض المفسرين، مكرمٌ عن أن يتصف بما لا يليق به، لكن السياق يقتضي أن الله سبحانه وتعالى ذو الجلال وذو الإكرام فهل تنصرف عن الله إلى غيره؟ هل يمكن أن تكون أنت مجيَّراً لإنسان؟ محسوباً على إنسان؟ هل في الأرض كلّها إنسان يليق بك أن تكون تبعاً له؟ أنت لله، أي لا يليق بك أن تكون لإنسان، ينبغي أن تكون للواحد الديَّان، لا تكون خطأ إنسان، لا تكون تابعاً لإنسان، لا تكون عبداً لعبد، كن عبداً للخالق، كن عبد الله لا تكن عبد عبدٍ لئيم، أنت أعظم وأكرم من أن تكون تبعاً لإنسان، لأن هذا الإنسان لا ينفعك.
مرَّة أحد الولاة سأل سيدنا عمر فقال له: إن أُناساً قد اغتصبوا مالاً ليس لهم لست أقدر على استخراجه منهم إلا أن أمسَّهم بالعذاب فإن أذنت لي فعلت، فقال له عمر:
التوحيد عين الإيمان:
مرَّة والي البصرة ليزيد بن معاوية كان عنده التابعي الجليل الحسن البصري، ويبدو أنه جاءه توجيه من يزيد لا يُرضي الله، وقع هذا الوالي في حيرة وفي صراع ماذا يفعل؟ أينفِّذ أمر الخليفة فيُغضب الله عزّ وجل أم يمتنع عن تنفيذ أمر الخليفة فيغضب الخليفة ويعزله؟ قال: يا إمام ماذا أفعل؟ إلى جانبه الحسن البصري قال: ماذا أفعل؟ والله أجاب هذا الإمام التابعي الجليل إجابةً تُكتب بماء الذهب، ويمكن أن يستخدمها الإنسان طوال حياته، قال له بإيجازٍ بليغ:
الذي أمرَّك بمعصية الله عزّ وجل يمنعه منك لكنك إذا أرضيته وعصيت الله لا يمنعك من الله، أي إذا الله عزّ وجل سمح لبعض الخلايا أن تنمو نمواً عشوائياً في منطقة حرجة من يمنعها؟ يمنعك صديقك القوي الذي أعطاك رقم هاتفه لتتصل به عند الضرورة؟! تقول له: والله ظهر نمو سرطاني دبر لنا إياه، هذا الذي تعتز به هل يمنع خلايا الإنسان من أن تنمو نمواً عشوائياً؟ بلا سبب، ساعة يقول لك: سرطان في الدماغ، ساعة في العظم، ساعة في الدم، ساعة في الأمعاء، ساعة في القولون، ساعة في المعدة، أليس كذلك؟ قال له: إن الله يمنعك من يزيد ولكن يزيد لا يمنعك من الله، هذا هو التوحيد،
الافتقار إلى الله عز وجل:
ثم يقول الله عزّ وجل في الآية التالية:
﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)﴾
قال العلماء:
ذكر لي أخٌ أنه قد بلغت كمية الأمطار قبل أسبوع ثلاثين ميليمتراً، في الفترة السابقة من العام الماضي بلغت مئة وثمانين ميليمتراً، ثلاثون من مئة وثمانين، في هذه الأيام الثلاث نزل ثلاثون ميليمتراً كأمطار الموسم هذا كلِّه، فالله عزّ وجل نسأله، إما أن نسأله بألسنتنا: اللهمَّ اسقنا الغيث، وإما أن يسأله الناس بلسان حالهم، وكل إنسان بحاجة إلى شيء، حاجته إلى الشيء نوعٌ من السؤال، لذلك الله جلّ جلاله يحتاجه كلّ شيء في كلّ شيء، فإما أن تسأله بلسانك، وإما أن تسأله بلسان حالك، وإما أن تكون محتاجاً إلى هذا الشيء، فالحاجة سؤال، والاستعداد لقبولها سؤال، فكل الخلق مفتقرون إلى الله عزّ وجل، يحتاجه كل شيء في كل شيء.
شأن الخالق مع كل مخلوق شأن في منتهى الحكمة والكمال:
أنت أب، لك ابن صحته طيبة، ولا يشكو شيئاً، تقول له: كُلْ يا بني، كُل ما شئت، لكن أنت أب (أنت أنت)، الابن مريض معه التهاب أمعاء شأنك معه أن تمنعه من هذا الطعام، وأن تجعل له طعاماً خاصاً به، شأنك مع ابنك المتفوِّق أن تُكرمه، ومع ابنك الكسول أن تؤدِّبه، شأنك مع ابنك الصادق أن تُثني عليه، ومع ابنك الكاذب أن تزجره، وأن تعنِّفه، شأنك مع من يرضيك أن تُرضيه، وشأنك مع من يعصيك أن تؤدِّبه، فالله عزّ وجل يغفر وينتقم، يرحم ويغضب ويرضى، ويعطي ويمنع، ويرفع ويخفض، ويصل ويقطع، ويُعز ويُذل، الإعزاز شأن، والإذلال شأن، والإعطاء شأن، والمنع شأن، والقبض شأن، والبسط شأن، والإكرام شأن، وإلقاء التجلِّي في قلب المؤمن شأن، وحجبه عن هذا التجلِّي شأن، يعطي ويمنع، يخفض ويرفع، يُعز ويُذل، يقرِّب ويبعد، يقطع ويصل، يتجلِّى ويمنع تجليه، له نفحات تأتي إليك وقد يمنعها عنك، شأن، ربنا عزّ وجل حكيم وعليم وغني وقدير، شأنه مع كل مخلوقٍ شأنٌ في منتهى الحكمة والكمال:
شأن الله مع العباد شأن حكيم:
الآن تروي القصص أن سيدنا موسى دعا الله بالسقيا -لا توجد أمطار-فأوحى الله إليه: أن يا موسى إنَّ فيكم عاصياً، فقال موسى عليه السلام لمن حوله: من كان عاصياً لله فليُغادرنا، ما غادره أحد والأمطار هطلت، قال:
أحياناً يستر، أحياناً يعطي، يقول لك: من لا شيء صار كل شيء، من الفقر صار غنياً، من الضعف صار قوياً، من البلادة صار ذكياً، شأنه مع العباد شأن حكيم:
﴿ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ
الإكرام عاقبة الشكر والقصم عاقبة الكفر:
عدل الله المطلق في كل شؤونه:
﴿ يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ(30) ﴾
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين