- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (051)سورة الذاريات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون: مع الدرس السادس من سورة الذاريات.
الكون آية من آيات الله الدالة على عظمته:
قال تعالى:
﴿ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ (48)وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ (49)فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)﴾
أيها الإخوة، عَودة إلى معرِض الكون، فالكون هو معرض أسماء الله الحسنى، فإذا أردت أن تعرف الله فالكون أمامك بِسَماواته وأرضه، وبِمَخلوقاته ونباتاته، وبِخَلْق الإنسان، فالله جلّ جلاله في هذه الآية يلْفت نظرنا إلى الكون.
اكتشاف النذر اليسير من الكون فقط:
قال تعالى:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
وقال تعالى:
﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ
التواضع صفة العالم و الكبر صفة الجاهل:
سُئِلَ أحد كبار العلماء والذي جاء بالنَّظَرِيَّة النِّسْبيَّة، وهي من أعظم النَّظَريَّات في الفيزياء في هذا العصر، هذا العالم يعد أعلم علماء عصره في الفيزياء، وقد اكْتشَف النَّظَرِيَّة النِّسْبيَة التي تؤكِّد أن هناك بُعداً رابعاً هو بُعد الزَّمَن، فالأشياء الماديَّة رُباعِيَة الأبعاد طولٌ وعرض وارتِفاعٌ وزمن، هذا العالم يقول لما سئِلَ عن العِلم قال: طفلٌ صغير دخل إلى مكتبة، وكلّ جدرانها كتب حتَّى السَّقف، وقف بُرْهةً ونظر إلى الكتب وخرج، فماذا أخذ من هذه العلوم؟ هذا هو العلم الحديث كلّه، فهذا جواب أعلم علماء الفيزياء الذي جاء بأعظم نظرية وهي النسبية، لما سُئِل عن العلم الحديث، وعمّا وصل الإنسان إليه من العلم قال: طفل دخل إلى مكتبة عامرة بالكتب، وقف في بهوها، وتأمل في الكتب قليلاً وخرج، ماذا أخذ من هذه الكتب، ومن هذه العلوم؟ لا شيء، عالمٌ آخر يقول: لم تبتلّ أقدامنا بَعْدُ بِبَحر المعرفة، ولا زلنا على الشاطئ، وهذا هو معنى قوله تعالى:
نصف العالِم هو أخطر إنسان على المجتمع:
أحيانًا تقرأ أموراً تُحيِّر، فهذه الغدَّة الثَّدْيِيَة في الحيوانات اللبونة، عبارة عن قُبَّة فوق أوْعِيَةٍ دَمَوِيَّة، تختار من الدَّم المواد الطاهرة النَّقِيَّة التي تُناسبها، وتصْنَعُهُ حليباً، والتعليق الذي يلفت النَّظر أنَّه حتَّى الآن لا أحد يعلم كيف تعمل هذه الخليَّة؛ تأخذ دماً فتَجْعلُهُ حليباً! وأنت إذا قرأت كتباً علميَّة صحيحة منصِفة تجد هذه العبارة كثيراً، فلا أحد يعلم حتى الآن كيف يتم ذلك؟
الآن العلماء انصرفوا لا إلى كُنهِ الأشياء، ولكن إلى ظواهرها، فالكهرباء مثلاً لا أحد يعلم كُنْهها ولكن نعلم ظواهرها، فعلامة العالم التواضع، وعلامة الجاهل الكِبْر، وأخطر إنسان هو نصف العالم؛ لا هو عالم فيُفيد من علمِهِ، ولا هو جاهل فيتعلَّم، والإمام علي كرّم الله وجهه يقول:
أصل الدين معرفة الله عز وجل:
أيها الإخوة، المؤمن مهما ازداد علمه يزداد تواضعه، والإمام الشافعي يقول:
هذه المقدِّمة، كلَّما تأمّلت في الكون شَعَرت أنَّ خالقه لا نهاية لكماله، ولا نهاية لِقُدرته، ولا نهاية لِعِلمه ولا نهاية لخِبرته، لذا معرفة الله أصل الدّين، فحينما نتَّجه إلى جزئيات الدّين دون معرفة الأصول نقع في متاهة كبيرة، لماذا بقي النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً مع أصحابه في مكة المكرمة يتعرّفون إلى الله.
الآيات الكونية موضوعات هامة للتفكر:
اِقرأ السور المكيّة، قال تعالى:
﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ(1)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)﴾
وقال تعالى:
﴿ وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)﴾
فأنت لا تجد في القرآن الكريم في قسمه المكيّ إلا سورًا تتحدّث عن الكون، فهذه العبادة العظيمة التي هي سبب معرفة الله تعالى؛ كيف أُهْمِلَت؟ وكيف غُطِّي عنها؟ وكيف تجاوزْناها إلى جزئيات الدّين؟ جزئيات الدين لا يمكن أن تكون ذات معنى إلا بعد أن تعرف أصل الدِّين، الدّين بناء شامخ له أصول وله فروع، لذلك تقرأ القرآن الكريم فتعجب، ففيه آيات لا تُعَدّ ولا تحصى تتحدَّث عن الكون فهذه ما موقفك منها؟ ولماذا أنزلها الله على النبي عليه الصلاة والسلام؟ ومن أجل ماذا؟ من أجل أن تكون هذه الآيات موضوعات للتفكّر، ومن أجل أن تتعرّف إلى الله تعالى مِن خلالها.
الآيات الدالة على عظمة الله:
الآية الأولى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ:
هذه السماء التي فوقنا؛ هل فكَّرنا فيها؟ وهل فكَّرنا في الشمس والقمر؟ في هذه الأبراج، قال تعالى:
﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)﴾
الأبراج: نمرّ على كلّ شهر بِبُرج، ومن هذه الأبراج برج العقرب، ومن بعض نجومه قلب العقرب، يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، وهل فكَّرتَ في قِوى التَّجاذب بين الكواكب والنجوم؟ وهل فكَّرتَ في المسافات الكونيّة؟ بين الأرض وأقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئية، لو أردنا أن نقطعها بمركبة أرضية نحتاج إلى خمسين مليون عام، ونسير بالساعة مئة كيلو متر كي نصل إلى أقرب نجم ملتهب، ونجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية، والمرأة المسلسلة مليون سنة ضوئيّة، وبعض المجرَّات تبعد أربعاً وعشرين ألف مليون سنة ضوئيّة، فهذه المجرَّة التي تبعد عنَّا أربعاً وعشرين ألف مليون سنة ضوئيّة كانت في مكانها حتَّى وصل ضوءها إلينا فالضَّوء استغرق أربعة وعشرون ألف مليون سنة ضوئيّة حتى وصل إلينا مع أنَّ الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، وسرعة الضوء ثلاثمئة ألف كيلو متر بالثانية، وهذه المجرة تبعد عنا أربعة وعشرين ألف مليون سنة، الضوء الذي خرج منها قبل أربع وعشرين ألف مليون سنة الآن وصل إلينا، وأين هي الآن؟ لا يعلم إلا الله أين هي الآن.
الآية الثانية: بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ:
قال تعالى:
﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾
دقق في هذا الاعتِراض، وإنه لقسم عظيم، مقحمة جملة فجاءت الآية
﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ
هذه الشمس؛ هل مِنَّا مَن لا يراها؟ هي أكبر من الأرض بِمِليون وثلاثمئة ألف مرّة، فَجَوف الشمس يتَّسع لمليون وثلاثمائة ألف أرض، انظر إلى دمشق؛ تبتعد عن حلب ثلاثمائة وستين كم، سورية كلها على خارطة معتدلة لا تتسع لكلمة دمشق، فإذا أردنا أن نطبع على سورية كلمة دمشق العاصمة فحجم بلدنا لا يتسع لكلمة دمشق باللغة الأجنبية، فهذه البلاد الشاسعة كآسيا وإفريقيا، أمريكا، أوروبا، أستراليا، فهذه القارات الخمس تساوي خُمس الأرض، وأربعة أخماسها بحر، والأرض كوكب في المجموعة الشمسيّة، والمجموعة الشمسيّة نقطة في مجرة درب التبانة وهي على شكل عضلة مغزلية، المجموعة الشمسية بأكملها نقطة على هذا الخط، أرسلوا مركبة قبل بضعة سنوات إلى المشتري وهي أسرع مركبة اخترعها الإنسان؛ سرعتها أربعون ألف ميل في الساعة، أسرع طائرة النفاثة تبلغ سرعتها تسعمائة كم في الساعة، بينما تلك المركبة تبلغ سرعتها أربعين ألف ميل، أي ستين ألف كم، كم احتاج وصولها إلى المشتري ضمن المجموعة الشمسية التي هي نقطة على درب التبانة؟ سِتُّ سَنَوات، ذهبت هذه المركبة إلى المشتري وصورت بعض معالمه وعادت، استغرقت الرحلة ست سنوات ذهاباً، وست سنوات إياباً، فهذه التجربة استغرقت اثنتا عشرة سنة، ولا زلنا في المجموعة الشمسيّة التي هي نقطة على درب التبانة، ومجرّتنا مجرة متواضعة وصغيرة ومعتدلة من بين مليون مليون مجرة، هذا هو الكون:
﴿
على الإنسان أن يعرف الآمر قبل الأمر ليطبق منهجه:
قال تعالى:
﴿
فالمشكلة في الدين أن تعرف الله، فإذا عرفْتهُ انْدَفَعتَ إلى تطبيق أمره بِشَكل عجيب، أما إذا لم تعرفْهُ تفنَّن عقلكُ في الاحْتِيال للخروج من منهجه، واختِراع الأساليب الملْتَوِيَة كي لا يُطَبِّق أمره، أما إذا عرفه يندَفِعُ إلى تطبيق أمره بِشَكل عجيب، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان حكيماً جداً حينما بدأ مع أصحابه بالتَّعريف بالله أولاً، والآمر قبل الأمر، فإذا عرفْتَ الأمر قبل أن تعرف الآمر تفنَّنت في مخالفته، أما إذا عرفت الآمر قبل الأمر تنطلق إلى تطبيق أمره.
العاصي يجب أن يُفكِّر قبل أن يعْصي ربَّه هو من سيعصي ؟
قال تعالى:
أنت بهذه العَين المجرَّدة ترى نجوماً تزيد على عشرة آلاف نجمة، أما بالمراصد العملاقة فهناك مليون مليون مجرّة، وبكلّ مجرّة فيها مليون مليون، يعني تقريباً مليون مليون، الرقم واحد وبجانبه اثني عشر صفراً، وبكل واحدة يوجد مليون مليون فيزيد اثنا عشر صفراً أُخر، فيصبح الرقم واحد وبجانبه أربعة وعشرين صفراً، هذا هو العدد الذي عرفه الإنسان حتَّى الآن، فالإنسان لمَّا يتَّجِه ويفكر في معصِيَة خالق الكون يجب أن يُفكِّر قبل أن يعْصي ربَّه، هو سيَعْصي مَن؟ فأنت بقطعة عسكرية يأتيك الأمر من سبعة أشخاص، كل منهم في رتبة عسكرية، وكلما علت الرتبة صارت المعصية لها مضاعفات كبيرة جداً، فمن غير المعقول أن تقول لقائد الفرق: لن أفعل، لا تفعل هذا أبداً؟ هذا المثَل مُنتزَع من حياتنا، فكيف الذي يعصي خالق الكون؟ كيف الذي يعصي مَن بيده ملكوت كل شيء؟ كيف من يعصي الذي إذا قال للشيء كُن فَيكُون، الآن فتحوا طريقاً تحت قناة السويس كلّف رقماً فلكياً، حتى لا تُعاد المأساة المُرّة فتحوا طريقاً تحت القناة وصلوا فيه مصر بسيناء، كلّف ألوف الملايين، بينما سيدنا موسى ضرب البحر بعصاه فإذا هو طريق يابس فوق البحر، كن فيكون، قال تعالى في الحديث القدسي:
(( يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي
الشقي من غفل عن آيات الله و نسيها:
أحيانًا يشْتدّ الحرّ، يقول لك المكيّف ثمنه مئة ألف ليرة، ومصروفه رقم كبير، فإذا هبَّتْ نسْمة عليلة من صنع ربنا تُلغي كلّ المكيِّفات، أحيانًا في الشتاء يأتي يومٌ دافئ يُنْعِشُ الناس، فالله عز وجل خالق كلّ شيء، والمؤمن لا يغيب عنه ربُّه، والله جلّ جلاله في كلّ شيء خلق له آية تدلّ عليه، ولكن من هو التعيسُ والشقيّ؟ هو الذي غفل عن آيات الله:
﴿ وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(105 (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)﴾
فالله تعالى قال:
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا: فزوال الكون:
1 ـ زوال انحراف:
الذرَّة تتحرك، الكتروناتها حول النواة، فلو أنَّ الذرّة بلغَت الصِّفر المطلق انعدَمتْ حركتها، وإذا انْعَدَمَت حركتها زال كلّ شيء، لذلك قال الله تعالى:
﴿
هذه الآية من أدقّ الآيات، فلو أنّ الأرض زالتْ؛ فما معنى وقت الزَّوال؟ أي وقت الظَّهيرة، حينما تزول الشَّمس عن كبِد السماء، أيْ حينما تنحرف، فالزَّوال الانحراف هذا هو المعنى الأوّل لقوله تعالى:
2 ـ زوال تلاشي:
الأرض تسير حول الشمس في مسار، فلو أنَّ الأرض خرجَت من مسارها فابْتَعَدت عن الشمس، لأصْبَحت قبراً جليديّاً، ولوصَلت إلى الصفر المطلق، وتوقَّفَت ذراتها عن الحركة وانعدم وُجودها، فهناك زوالان؛ زوال الانحراف، وزوال التلاشي، لو أنها زالت عن مسارها لزالت ولانعدمت، ولو أنَّ الأرض توقَّفت عن الحركة... حرارة السطح المُقابل للشمس ثلاثمئة وخمسون درجة، هل نستطيع العَيش بهذه الأرض؟ نحن إذا كانت الحرارة خمسة وأربعين لا نحتمل الحر، إذا كانت الحرارة أربعين في الشام يقول لك: الحر شديد جداً "جهنم" ولو أن الأرض ثبتت لكان حرارة الوجه المقابل للشمس ثلاثمائة وخمسين درجة، والوجه الآخر مئتان وسبعون تحت الصِّفْر.
قدرة الله عز وجل في جعل الأرض لا تنحرف عن مسارها أبداً:
الآن لو فرضنا أنّ الأرض خرجت عن مسارها، وأردنا أن نُعيدها إلى مسارها –فرض علمي-لاحتجنا إلى مليون مليون حبل فولاذي، وقطر الحبل خمسة أمتار، وقوَّة شدّ الحبل مليونا طنّ، أي الأرض مربوطة بالشمس بمليون مليون ضرب مليونين، قوة جذب الشمس إلى الأرض مليونان ضرب مليون مليون طن، كلّ هذه القوة من أجل أن تحرف الأرض ثلاثة ميليمتر كلّ ثانية بمسارها حول الشمس، كي تبقى مع الشمس، أليس المسار مغلقاً، كل ثانية ثلاثة ملم يشكلون مساراً إهليلجياً حول الشمس، قال تعالى:
كل ما في الكون آية تدل على الله:
قال تعالى:
﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَآءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(71)﴾
لو كان الليل مستمِرًّاً كيف تكون الحياة؟ هذا كله بين أيديكم، وقلته في دروس سابقة، وأعيد وأكرر؛ فَدَوران الأرض آية، ومَيْلُ مِحورها آية، كون محورها ليس في مستوى الدوران آية، حجم الأرض آية، وحجم الماء عليها آية، هذه المسطحات المائية الواسعة جداً هي التي تجعل الحياة على قسمها اليابس، ولو لم تكن هذه المسطحات لمَا كانت الأمطار، ولمَا كان النبات، ولمَا كان الحيوان، ولمَا كان الإنسان، لذلك قال تعالى:
من عادتي أن أقول رقماً فلكياً، فأن يركب أحدهم مركبة ويمشي بها خمسين مليون سنة ليصل إلى أقرب نجم من الأرض، أقرب نجم بعده أربع سنوات ضوئية! فكم نحتاج كي نصل إلى أربع وعشرين ألف مليون سنة ضوئية.
ثبات حركة الأرض من ملايين السنين إلى يوم القيامة:
قال تعالى:
يقولون: شِدَّة القُرب حِجاب، فإذا فتحت التقويم على الشهر كذا في اليوم كذا، ووجدت أنّ الشمس تُشرق على الساعة كذا وبالدقيقة كذا، هل فكرت أنَّ هذه الأرض الكبيرة تتحرّك على مستوى مِعشار الثانية؟ من يستطيع أن يضبِط سيْر القطار ضبطًا تامًّاً؟ يقول لك: وصل إلى حلب الساعة الثامنة وأربع وثلاثين دقيقة، قد ياتي بعد ساعة، أو قبل ساعة، فالأرض تسير ألوف الملايين من الكيلومترات، ولا تتأخَّر ولا ثانيَة، فهل فكرت أن أعظم ساعة في العالم
على الإنسان التفكر في ملكوت السماوات و الأرض:
الشيء الآخر، لو جئتَ بِكُتلتين مغناطيسيَّتَين، وبِحَجمين متساوِيَيْن، ضَعهما على طاولة، وائتِ بِكُرةٍ معدنيَّة، واجعلهما بين الكتلتين، بحيث لا تنجذب لا إلى هذه ولا إلى تلك، أعتقد أن هذه عملية شبه مستحيلة، فلو انحرفت واحد بالألف من الميلي جُذِبت إلى هذه أو إلى هذه، أن تجعل هذه الكرة بين القطعتين شيء مستحيل، فكيف إذا كانت ثلاث كتل؟ أصعب، صار هناك ثلاث قِوى، ولو كانوا خمسة أو عشرة؟ فكيف إذا كانت الكتل متفاوتة، هذه بحجم كبير، وهذه اصغر، وتلك أصغر، صارت بحاجة لحسابات على الكمبيوتر لنتعرف أن هذه أكبر وقوى جذبها أشد، وهذه أصغر، ولو أن هذه الكتل في فراغ، كنا على سطح عليه كتلتان، ثلاثة، أربعة، بعد ذلك الحجوم مختلفة، الآن في فراغ، أعلى وأسفل، ويمين ويسار، وحجوم مختلفة، فأن تجعل الكرة تستقر في الوسط شبه مستحيل، فكيف إذا تحرَّكَت هذه الكرات؟ كتل مغناطيسية كثيرة جداً، متفاوتة في حجومها، وفي قوة جذبها، ومتحركة، وهي في فراغ، والمحصِّلة اسْتِقرار، هذه هي قوى التجاذب، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿
بلا عمد؛ أي بِعَمدٍ لا ترونها، هل يمكن أن تُقيم بناءً عشرين طابقاً والطابق الأول بلا أي دعامة، فارغ كلياً؟ يستطيع الإنسان الآن أن يشيد بناء يبدأ من خمسة أمتار فوق الأرض؛ ليس له أي علاقة بالأرض وارتفاعه عشرون طابقاً للأعلى، هذا شيء غير معقول، دعامة هوائية تمشي بداخلها، ممكن بناء عشرين طابق من إسمنت مسلح ولا علاقة له بالأرض أبداً، يبدأ بعد الأرض بعشرة أمتار، ونحن نتحرك تحته، نمشي في كل جهة، أية قوة هذه! هكذا السماء
هذا الهواء الذي هو بيننا، ولا يحجب الرؤية، ولطيف، وينقل الصوت، هذا الهواء يحمل الطائرات؛ بعض الطائرات وزنها ثلاثمئة وخمسون طنّاً، يحملها الهواء، كأنها مدينة تمشي في السماء، من يحملها؟ الهواء، ما هذا الهواء!
الماء إذا أراد أن يتمدد ما من قوة في الأرض تقف في وجهه، وأحدث طريقةٍ لتفكيك الصخور واقتلاع الرخام هي حفْر الحفر وحقنها بالماء ثمّ تجميد الماء، عندئذ يُقبَع الرخام بهذه الطريقة، فالماء آية، والهواء آية.
تذليل الأرض للإنسان:
لذا هذا الفِكر لا بدّ أن يجول في ملكوت الله تعالى، لتعرف من هو الذي خلقك؟ ومن هو الذي نهاك؟ ومن هو الذي أمرك؟ لما يقول الله تعالى:
﴿
وقال تعالى:
﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ
قال تعالى:
من نعم الله الكبرى على الإنسان:
1 ـ الهواء:
الله عز وجل يقول:
2 ـ الماء:
الماء في الدرجة +4 يزداد حجمه، ولولا هذه الظاهرة لمَا كنا في هذا المكان، فأحد أسباب الحياة على وجه الأرض هذه الظاهرة، وهي أنَّ الماء يزداد حجمه إذا برَّدته عند هذه الدرجة¬¬+4، من قال ذلك؟ الله جل جلاله
3 ـ ثبات خصائص الأشياء:
الشيء الآخر ثبات الخصائص، فالحديد حديد، والذَّهب ذهب، فكيف بك إذا اشْتريت سواراً ذهبياً، وبعد مدَّة صار حديداً؟ ذهب كل مالك، اشتريت شيئاً صلباً فصار سائلاً، ثبات الخصائص هذه نعمة لا يعلمها أحد،
كلّ شيء في الكون مكوَّن من زوْجَين اثنين:
وقال تعالى:
فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ: آية لها عدة معان:
1 ـ تحرَّر أيها الإنسان مِن قُيود الأرض و شهواتها:
ما العمل؟ قال تعالى:
﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا
معنى فِرُّوا، أوَّلاً تحرَّروا مِن قُيود الأرض، ومن شَهوات ونزوات الأرض، ومن مطالب الجسد، تحرروا من مصالحكم الماديّة، هذه كلّها كلاليب تشدّ إلى الأرض، فالفِرار يحتاج إلى انْعِتاق، ثمّ انطلقوا بِسُرعة إلى الله تعالى، معنيان؛ فالمعنى الأوَّل تحرّروا من كلّ قيْد أرضي، آثِروا معرفة الله، مرضاة الله، آثِروا الآخرة على الدنيا، وكلمة فرّ من الشيء يعني وجود شيء مُخيف يتبعه، كلمة فرّ منه يعني وجود شيء مخيف وقويّ، فهذه الشَّهوات والغرائز والميول والمصالح، الأرض بأموالها ونسائها، ومُتَعها ومباهجها ومُلهِياتها _وما أكثرها الآن- هذه كلّها عوائق وكلاليب،
2 ـ انطلق أيها المؤمن بسرعة إلى الله:
والمعنى الثاني للفِرار: السرعة، قال تعالى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)﴾
﴿
فالمؤمن ينطلق إلى الله تعالى بسرعة كبيرة، لأنّ الوقت أثْمن شيء بحياته، والوقت كالسَّيف إن لم تقطعْهُ قطَعَك.
التوحيد أساس الدين:
قال تعالى:
﴿ فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)وَلَا تَجۡعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51)﴾
التوحيد هو الدِّين كلّه، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد، كل شيء مع التوحيد يُحَل، أمّا مع الشِّرك فلا شيء يُحَلّ، فأنت باتجاه مكان لك فيه عطاء كبير، وأنت في طريقك إليه ارتكبت آلاف الأغلاط، ولكنك في الطريق إليه، أما إذا اتجهت عكس الجهة فلا شيء هناك، لذلك قال تعالى:
﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ(52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ(53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ(54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ(55)﴾
وفي الدرس القادم إن شاء الله نقف مع هذه الآيات وقفةً متأنِّية.
ملخص الدرس: الانطلاق والعودة إلى الله
الآيات اليوم:
وكل إنسان هناك شيء يجذبه إلى الأرض، إن لم تكن سرعته إلى الله بحد أدنى لا يتفلت من جاذبية الأرض، وإذا تفلّت من جاذبية الأرض عرج إلى السماء، فهو محتاج إلى قوة انعتاق من أجل التفلّت من جاذبية الأرض، ومحتاج أن ينطلق إلى الله بسرعة كبيرة لأنه يسابق الزمن، فالزمن هو رأس مالك الوحيد، والزمن هو أنت،
أنت لاحظ نفسك وأنت على طاولة الامتحان، معك ساعتين للإجابة عن اثني عشر سؤالاً، هل تفكر في الطعام الذي تطبخه أمك في البيت وأنت على طاولة الامتحان؟ مستحيل، هل تفكر في ساعتك التي وضعتها عند الساعاتي، هل أنهى تصليحها اليوم؟ أبداً، لا يمكن أن يخطر ببالك شيء وأنت على طاولة الامتحان إلا شيء واحد وهو كيف ممكن أن تجيب بالوقت المحدد، هذه حالة من حالات الإنسان، فالامتحان ساعتان، وأخطر شيء فيه الوقت.
وأنت في الأرض هكذا يجب أن تفكر في ساعة لقاء الله عز وجل؛ ماذا أعددت لهذه الساعة؛ من عمل، من استقامة، من طلب علم، من تعليم، من خدمة، من أمر بالمعروف، من نهي عن المنكر.
(( أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبايعه على الإسلام، فاشترط علي "تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وتصلي الخمس، وتصوم رمضان، وتؤدي الزكاة، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله" قال: قلت: يا رسول الله، أما اثنتان فلا أطيقهما، أما الزكاة فمالي إلا عشر ذود، هن رسل أهلي وحمولتهم وأما الجهاد فيزعمون أنه من ولى، فقد باء بغضب من الله، فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت، وخشعت نفسي قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده ثم حركها ثم قال:
هذا السؤال يجب أن يكون هاجساً لكل واحد منا، كيف ألقى الله؟ ما العمل الذي بين يدي إذا لقيت ربي؟ يا رب أنا قمت بعمل جبس للبيت، الله يعطيك العافية، ولكن نحن نريد شيئاً للآخرة، شيئاً يبدأ بعد الموت، أما كل شيء ينتهي مع الموت لا تعبأ به، هذا للدنيا.
سيدنا أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة كان قائد جيوش المسلمين في الشام دخلوا إلى بيته وجدوا جلد غزال يجلس عليه، وقِدْر ماء مغطى برغيف خبز، وسيف معلق على الحائط، فقالوا: ما هذا يا أبا عبيدة؟ قال: هو للدنيا، وعلى الدنيا كثير، ألا يبلغنا المقيل.
ما دخلت لعزاء ما فكان ببيت فخم مساحته أربعمائة متر، وصاحبه المتوفى في مقبرة باب الصغير، ألم يحدث معك هكذا؟ عشرات المرات، تدخل لبيت يأخذ بالألباب؛ تزيينات، أبهاء واسعة، أبواب متحركة، شُرَف، كل شيء جميل، أين صاحبه؟ في القبر، وهذا مصير كل إنسان كائناً من كان، وهذا هو المقر الأخير.
لذلك
مرة سألني أحدهم مداعباً: ما ملخص دعوتك؟ قلت له كلمتان: إما أن تأتيه ركضاً، أو يأتي بك ركضاً، اختَر واحدة، إما أن تأتيه مسرعاً، أو يأتي بك مسرعاً، فالله عز وجل يعرف كيف يداوي، فانطلق إليه طواعية، انطلق إليه وأنت صحيح، انطلق إليه وأنت غني، انطلق إليه وأنت آمن، انطلق إليه وأنت في بيتك مُعزّز مُكرّم، قم فصلّ، اذكر الله، اقرأ القرآن، احضر مجلس العلم، تعرّف إلى كتاب الله، تعرّف إلى سنة رسول الله وأنت صحيح، أما الإنسان عندما يقترب أجله، وينتهي، تنتهي كل شهواته يقرر أن يتوب! أحدهم ترك ثمانمائة مليون من الحرام، وهو على فراش الموت أصابه ألم أنساه حليب أمه فاستدعى أحد العلماء، قال له: ماذا أعمل؟ العالم لم يجامله، قال له: والله لو أنفقت كل هذه الثروة الآن لا تنجو من عذاب الله.
إياك أن تصل مع الله إلى طريق مسدود، أنت الآن قلبك ينبض، وأنت في بحبوحة والتوبة ممكنة:
(( قال الله تعالى: يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك،
الصلحة بلمحة، إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.
(( الإسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ. ))
(( الإسلامُ يَجُبُّ ما كان قبلَهُ. ))
الآن بين أيدينا التوبة.
(( للَّهُ أفرَحُ بتَوبةِ عبدِهِ منَ العَقيمِ الوالدِ، ومنَ الضَّالِّ الواجِدِ ومنَ الظَّمآنِ الواردِ. ))
فيا أيها الإخوة إذا قمت بجولة في الكون
﴿
الذي أمرك أن تعبده بيده كل شيء، والآمر ضامن، أكثر الجهلة يقول لك: إذا فعلت هكذا أخسر مكانتي، أخسر منصبي، أخسر تجارتي، أنا أتعيّش من هذا العمل، فأين الله عز وجل؟ الآمر ضامن، وما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده:
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
والحمد لله رب العالمين