وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 6 - سورة الذاريات - تفسير الآيات 47-51 - كل شيء في الكون آية تدل على عظمة الخالق
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون: مع الدرس السادس من سورة الذاريات.


الكون آية من آيات الله الدالة على عظمته:


 قال تعالى:

﴿ وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ (48)وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ (49)فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ   (50)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 أيها الإخوة، عَودة إلى معرِض الكون، فالكون هو معرض أسماء الله الحسنى، فإذا أردت أن تعرف الله فالكون أمامك بِسَماواته وأرضه، وبِمَخلوقاته ونباتاته، وبِخَلْق الإنسان، فالله جلّ جلاله في هذه الآية يلْفت نظرنا إلى الكون. 


اكتشاف النذر اليسير من الكون فقط:


 قال تعالى: ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٍ﴾ كلمة بِأيْدٍ أي بِقُوّةٍ، الله جلّ جلاله يتجلَّى باسم القويّ فتكون الجبال الشامخات، ويتجلّى باسم الجميل فتكون الزهرة الفواحة، وفي كلّ خَلْقٍ من مخلوقاته اسم يتجلَّى أكثر ما يتجلَّى فيه، فالسماوات بِمَجراتها، وكازاراتها، ومُذنَّباتها، وبِكَواكبها، وبِنُجومها، ومسافاتها الواسِعَة فالكون ينطَوي على قريب مليون مليون مجرّة التي عُرِفت حتَّى الآن، قال تعالى: 

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)﴾

[  سورة الإسراء  ]

 وقال تعالى:

﴿ ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُۥ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُۥ مَا فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِى ٱلْأَرْضِ ۗ مَن ذَا ٱلَّذِى يَشْفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذْنِهِۦ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَىْءٍۢ مِّنْ عِلْمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضَ ۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ(255)﴾

[ سورة البقرة  ]


التواضع صفة العالم و الكبر صفة الجاهل:


 سُئِلَ أحد كبار العلماء والذي جاء بالنَّظَرِيَّة النِّسْبيَّة، وهي من أعظم النَّظَريَّات في الفيزياء في هذا العصر، هذا العالم يعد أعلم علماء عصره في الفيزياء، وقد اكْتشَف النَّظَرِيَّة النِّسْبيَة التي تؤكِّد أن هناك بُعداً رابعاً هو بُعد الزَّمَن، فالأشياء الماديَّة رُباعِيَة الأبعاد طولٌ وعرض وارتِفاعٌ وزمن، هذا العالم يقول لما سئِلَ عن العِلم قال: طفلٌ صغير دخل إلى مكتبة، وكلّ جدرانها كتب حتَّى السَّقف، وقف بُرْهةً ونظر إلى الكتب وخرج، فماذا أخذ من هذه العلوم؟ هذا هو العلم الحديث كلّه، فهذا جواب أعلم علماء الفيزياء الذي جاء بأعظم نظرية وهي النسبية، لما سُئِل عن العلم الحديث، وعمّا وصل الإنسان إليه من العلم قال: طفل دخل إلى مكتبة عامرة بالكتب، وقف في بهوها، وتأمل في الكتب قليلاً وخرج، ماذا أخذ من هذه الكتب، ومن هذه العلوم؟ لا شيء، عالمٌ آخر يقول: لم تبتلّ أقدامنا بَعْدُ بِبَحر المعرفة، ولا زلنا على الشاطئ، وهذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾ لذا مِن علامة العالم التواضع، ومن علامة الجاهل الكِبْر، وقد ورَد أنَّه يظلّ المرء عالماً ما طلب العِلم، فإذا ظنَّ أنَّه قد عَلِم فقد جَهِل، ففي اللحظة التي تتوهَّم فيها أنّك عالم -لا سمح الله- فأنت جاهل! لذلك الإنسان دائماً يُطأطِئ رأسه لِخالقه، قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً﴾


نصف العالِم هو أخطر إنسان على المجتمع:


 أحيانًا تقرأ أموراً تُحيِّر، فهذه الغدَّة الثَّدْيِيَة في الحيوانات اللبونة، عبارة عن قُبَّة فوق أوْعِيَةٍ دَمَوِيَّة، تختار من الدَّم المواد الطاهرة النَّقِيَّة التي تُناسبها، وتصْنَعُهُ حليباً، والتعليق الذي يلفت النَّظر أنَّه حتَّى الآن لا أحد يعلم كيف تعمل هذه الخليَّة؛ تأخذ دماً فتَجْعلُهُ حليباً! وأنت إذا قرأت كتباً علميَّة صحيحة منصِفة تجد هذه العبارة كثيراً، فلا أحد يعلم حتى الآن كيف يتم ذلك؟

 الآن العلماء انصرفوا لا إلى كُنهِ الأشياء، ولكن إلى ظواهرها، فالكهرباء مثلاً لا أحد يعلم كُنْهها ولكن نعلم ظواهرها، فعلامة العالم التواضع، وعلامة الجاهل الكِبْر، وأخطر إنسان هو نصف العالم؛ لا هو عالم فيُفيد من علمِهِ، ولا هو جاهل فيتعلَّم، والإمام علي كرّم الله وجهه يقول: قِوام الدِّين والدنيا أربعة رِجال؛ عالم مُستعمل علمه ؛ أي عالم يطبق علمه، وقيمته في تطبيق علمه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلّم، فهو جاهل ويعلم أنه جاهل فيتعلم، وغنيّ لا يبْخل بِماله، وفقير لا يبيع آخرته بِدُنياه ، ثمَّ يقول هذا الإمام الجليل: فإذا ضيَّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلّم، وإذا بخل الغني بِماله باع الفقير آخرته بِدُنيا غيره. 


أصل الدين معرفة الله عز وجل:


 أيها الإخوة، المؤمن مهما ازداد علمه يزداد تواضعه، والإمام الشافعي يقول: "كلّما ازْددْتُ علماً ازْددْتُ عِلماً بِجَهلي" ، والإمام مالك رحمه الله، وهو سيّد علماء عصره جاءَه وفد من بلاد الأندلس شمال إفريقيا، ومعه ثلاثون سؤالاً فأجاب عن سبعة عشر سؤالاً، أما الأسئلة الباقية فلم يُجب عنها، فقالوا له: أنت إمام، وأنت أعلم علماء العصر، وقد أتيناك من طرف الدنيا، كيف تقول: لا أدري؟ فقال لهم بملء فمِهِ: قولوا لهم الإمام مالك لا يدري، نصف العلم لا أدري، فإن لم تكن تعلم فقل: لا أعلم، ولا تتحرّج، فأنت عالم، أما هذا الذي يظنّ أنَّه يعلم كلّ شيء هو لا يعلم شيئًا، هذا دجل، قل: لا أعلم، فأنت في نظر الناس عالم، أما إذا قلت أعلم كل شيء، وأجبت عن كل شيء فهذه دعوة عريضة. 

هذه المقدِّمة، كلَّما تأمّلت في الكون شَعَرت أنَّ خالقه لا نهاية لكماله، ولا نهاية لِقُدرته، ولا نهاية لِعِلمه ولا نهاية لخِبرته، لذا معرفة الله أصل الدّين، فحينما نتَّجه إلى جزئيات الدّين دون معرفة الأصول نقع في متاهة كبيرة، لماذا بقي النبي عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً مع أصحابه في مكة المكرمة يتعرّفون إلى الله.  


الآيات الكونية موضوعات هامة للتفكر:


 اِقرأ السور المكيّة، قال تعالى:  

﴿ وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ(1)﴾

[  سورة الطارق  ]

 وقال تعالى: 

﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا(1)﴾

[  سورة الشمس  ]

 وقال تعالى: 

﴿  وَالْفَجْرِ(1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ(2)﴾

[  سورة الفجر ]

 فأنت لا تجد في القرآن الكريم في قسمه المكيّ إلا سورًا تتحدّث عن الكون، فهذه العبادة العظيمة التي هي سبب معرفة الله تعالى؛ كيف أُهْمِلَت؟ وكيف غُطِّي عنها؟ وكيف تجاوزْناها إلى جزئيات الدّين؟ جزئيات الدين لا يمكن أن تكون ذات معنى إلا بعد أن تعرف أصل الدِّين، الدّين بناء شامخ له أصول وله فروع، لذلك تقرأ القرآن الكريم فتعجب، ففيه آيات لا تُعَدّ ولا تحصى تتحدَّث عن الكون فهذه ما موقفك منها؟ ولماذا أنزلها الله على النبي عليه الصلاة والسلام؟ ومن أجل ماذا؟ من أجل أن تكون هذه الآيات موضوعات للتفكّر، ومن أجل أن تتعرّف إلى الله تعالى مِن خلالها. 


الآيات الدالة على عظمة الله:


الآية الأولى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ:

 هذه السماء التي فوقنا؛ هل فكَّرنا فيها؟ وهل فكَّرنا في الشمس والقمر؟ في هذه الأبراج، قال تعالى: 

﴿ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ(1)﴾

[  سورة البروج  ]

 الأبراج: نمرّ على كلّ شهر بِبُرج، ومن هذه الأبراج برج العقرب، ومن بعض نجومه قلب العقرب، يتسع للشمس والأرض مع المسافة بينهما، وهل فكَّرتَ في قِوى التَّجاذب بين الكواكب والنجوم؟ وهل فكَّرتَ في المسافات الكونيّة؟ بين الأرض وأقرب نجم ملتهب أربع سنوات ضوئية، لو أردنا أن نقطعها بمركبة أرضية نحتاج إلى خمسين مليون عام، ونسير بالساعة مئة كيلو متر كي نصل إلى أقرب نجم ملتهب، ونجم القطب أربعة آلاف سنة ضوئية، والمرأة المسلسلة مليون سنة ضوئيّة، وبعض المجرَّات تبعد أربعاً وعشرين ألف مليون سنة ضوئيّة، فهذه المجرَّة التي تبعد عنَّا أربعاً وعشرين ألف مليون سنة ضوئيّة كانت في مكانها حتَّى وصل ضوءها إلينا فالضَّوء استغرق أربعة وعشرون ألف مليون سنة ضوئيّة حتى وصل إلينا مع أنَّ الضوء يقطع في الثانية الواحدة ثلاثمئة ألف كيلو متر، وسرعة الضوء ثلاثمئة ألف كيلو متر بالثانية، وهذه المجرة تبعد عنا أربعة وعشرين ألف مليون سنة، الضوء الذي خرج منها قبل أربع وعشرين ألف مليون سنة الآن وصل إلينا، وأين هي الآن؟ لا يعلم إلا الله أين هي الآن. 

الآية الثانية: بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ:

 قال تعالى: 

﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ(75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)﴾

[ سورة الواقعة ]

 دقق في هذا الاعتِراض، وإنه لقسم عظيم، مقحمة جملة فجاءت الآية ﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ ، معنى ذلك كما قال تعالى: 

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ ۗ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)﴾

[  سورة فاطر ]

 هذه الشمس؛ هل مِنَّا مَن لا يراها؟ هي أكبر من الأرض بِمِليون وثلاثمئة ألف مرّة، فَجَوف الشمس يتَّسع لمليون وثلاثمائة ألف أرض، انظر إلى دمشق؛ تبتعد عن حلب ثلاثمائة وستين كم، سورية كلها على خارطة معتدلة لا تتسع لكلمة دمشق، فإذا أردنا أن نطبع على سورية كلمة دمشق العاصمة فحجم بلدنا لا يتسع لكلمة دمشق باللغة الأجنبية، فهذه البلاد الشاسعة كآسيا وإفريقيا، أمريكا، أوروبا، أستراليا، فهذه القارات الخمس تساوي خُمس الأرض، وأربعة أخماسها بحر، والأرض كوكب في المجموعة الشمسيّة، والمجموعة الشمسيّة نقطة في مجرة درب التبانة وهي على شكل عضلة مغزلية، المجموعة الشمسية بأكملها نقطة على هذا الخط، أرسلوا مركبة قبل بضعة سنوات إلى المشتري وهي أسرع مركبة اخترعها الإنسان؛ سرعتها أربعون ألف ميل في الساعة، أسرع طائرة النفاثة تبلغ سرعتها تسعمائة كم في الساعة، بينما تلك المركبة تبلغ سرعتها أربعين ألف ميل، أي ستين ألف كم، كم احتاج وصولها إلى المشتري ضمن المجموعة الشمسية التي هي نقطة على درب التبانة؟ سِتُّ سَنَوات، ذهبت هذه المركبة إلى المشتري وصورت بعض معالمه وعادت، استغرقت الرحلة ست سنوات ذهاباً، وست سنوات إياباً، فهذه التجربة استغرقت اثنتا عشرة سنة، ولا زلنا في المجموعة الشمسيّة التي هي نقطة على درب التبانة، ومجرّتنا مجرة متواضعة وصغيرة ومعتدلة من بين مليون مليون مجرة، هذا هو الكون:

﴿ هَٰذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ ۚ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (11)﴾

[ سورة لقمان ]


على الإنسان أن يعرف الآمر قبل الأمر ليطبق منهجه:


 قال تعالى: ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ قال تعالى: 

﴿ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِۦ وَٱلْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُۥ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ مَطْوِيَّٰتٌۢ بِيَمِينِهِۦ ۚ سُبْحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)﴾

[  سورة الزمر ]

 فالمشكلة في الدين أن تعرف الله، فإذا عرفْتهُ انْدَفَعتَ إلى تطبيق أمره بِشَكل عجيب، أما إذا لم تعرفْهُ تفنَّن عقلكُ في الاحْتِيال للخروج من منهجه، واختِراع الأساليب الملْتَوِيَة كي لا يُطَبِّق أمره، أما إذا عرفه يندَفِعُ إلى تطبيق أمره بِشَكل عجيب، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام كان حكيماً جداً حينما بدأ مع أصحابه بالتَّعريف بالله أولاً، والآمر قبل الأمر، فإذا عرفْتَ الأمر قبل أن تعرف الآمر تفنَّنت في مخالفته، أما إذا عرفت الآمر قبل الأمر تنطلق إلى تطبيق أمره. 


العاصي يجب أن يُفكِّر قبل أن يعْصي ربَّه هو من سيعصي ؟


 قال تعالى: ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ في الفضاء الخارجي مقابر لمجرَّات، ولقد سمَّوها "الثُّقوب السَّوداء" منطقة ضَغط مذْهلة، ولو أنَّ الأرض دخَلت إلى هذا الثقب الأسود لأصبحت بِحَجم بيضة الدَّجاجة، وبِوَزنها نفْسِهِ، كم وزن الأرض؟ أحياناً قطعة رخام 100 متر مكعب تكاد الشاحنة ألا تسير من  وزنها الشديد، هذا الجبل؛ جبل قاسيون؛ كم وزنه؟ وجبال هيمالايا أعلى جبال في العالم، ارتفاعها 12 ألف متر، كم وزنها؟ كم وزن جبال الألب وجبال طوروس، الجبال التي أودعها الله في الأرض كم وزنها؟ كم وزن الأرض كلّها؟ كلّ هذه الكرة لو دَخلت في هذا الثقب الأسوَد لأصْبحت بِحجم البيْضة بِالوزن نفسه، قال تعالى: ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ موسعون أي مسافاتها شاسعة جدًّاً، والإنسان حتى الآن لم يصِل إلى حدود الكون، الكون لا نهائي، فكيف بِخالق الكون؟ فالكون حادث، سبَقَه عدم، وينتهي إلى عدم، ومع ذلك لا نهاية له، والإنسان حتَّى الآن لا يعرف حُدود الكون.

 أنت بهذه العَين المجرَّدة ترى نجوماً تزيد على عشرة آلاف نجمة، أما بالمراصد العملاقة فهناك مليون مليون مجرّة، وبكلّ مجرّة فيها مليون مليون، يعني تقريباً مليون مليون، الرقم واحد وبجانبه اثني عشر صفراً، وبكل واحدة يوجد مليون مليون فيزيد اثنا عشر صفراً أُخر، فيصبح الرقم واحد وبجانبه أربعة وعشرين صفراً، هذا هو العدد الذي عرفه الإنسان حتَّى الآن، فالإنسان لمَّا يتَّجِه ويفكر في معصِيَة خالق الكون يجب أن يُفكِّر قبل أن يعْصي ربَّه، هو سيَعْصي مَن؟ فأنت بقطعة عسكرية يأتيك الأمر من سبعة أشخاص، كل منهم في رتبة عسكرية، وكلما علت الرتبة صارت المعصية لها مضاعفات كبيرة جداً، فمن غير المعقول أن تقول لقائد الفرق: لن أفعل، لا تفعل هذا أبداً؟ هذا المثَل مُنتزَع من حياتنا، فكيف الذي يعصي خالق الكون؟ كيف الذي يعصي مَن بيده ملكوت كل شيء؟ كيف من يعصي الذي إذا قال للشيء كُن فَيكُون، الآن فتحوا طريقاً تحت قناة السويس كلّف رقماً فلكياً، حتى لا تُعاد المأساة المُرّة فتحوا طريقاً تحت القناة وصلوا فيه مصر بسيناء، كلّف ألوف الملايين، بينما سيدنا موسى ضرب البحر بعصاه فإذا هو طريق يابس فوق البحر، كن فيكون، قال تعالى في الحديث القدسي: 

((  يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ. ))

[  رواه مسلم  ]


الشقي من غفل عن آيات الله و نسيها:


 أحيانًا يشْتدّ الحرّ، يقول لك المكيّف ثمنه مئة ألف ليرة، ومصروفه رقم كبير، فإذا هبَّتْ نسْمة عليلة من صنع ربنا تُلغي كلّ المكيِّفات، أحيانًا في الشتاء يأتي يومٌ دافئ يُنْعِشُ الناس، فالله عز وجل خالق كلّ شيء، والمؤمن لا يغيب عنه ربُّه، والله جلّ جلاله في كلّ شيء خلق له آية تدلّ عليه، ولكن من هو التعيسُ والشقيّ؟ هو الذي غفل عن آيات الله:

﴿ وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ(105 (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)﴾

[ سورة يوسف ]

 فالله تعالى قال: ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ الشمس: لِسان اللَّهب الذي يخرج من الشمس يقترب من مليون كيلومتر، فحرارة الشمس فوق سطحها سِتَّة آلاف درجة، وفي مركزها عشرين مليون درجة، ولو أن الأرض أُلْقِيَت فيها لتبخَّرَت في ثانيَة واحِدَة، فالأرض كلّها بِصُخورها، وجبالها، وقاراتها، وبحارها تتبخَّر في ثانية واحدة، فهذه الشَّمس التي تتَّقِد منذ خمسة آلاف مليون سنة، والعلماء طمأنونا وقالوا: سوف يستمرّ اتِّقادها لِخمسة آلاف مليون سنة قادمة، الطاقة مِن أين؟ عندما تُشْعِلُ مدفأةً بعد خمسة ساعات الخزان يصبحُ فارغاً، لا يوجد شيء يعطيك حرارة إلا ويحتاج إلى طاقة فالشمس تُعطي الضِّياء والدِّفء ومصدر الطاقة في الأرض، من أين جاءتْ ِبهذه الطاقة؟ ومن الذي يُمِدُّها بهذه الطاقة؟ فلو أنّ الشمس انطفأت لأصْبحت الأرض قبراً جليدِيّاً، ولانتَهَتْ الحياة، وتصبح حرارة الأرض مئتان وسبعون تحت الصِّفر، وهو الصِّفْرُ المُطْلق الذي تنْعَدِمُ فيه حركة الذرَّة. 


إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا: فزوال الكون:


1 ـ زوال انحراف:

 الذرَّة تتحرك، الكتروناتها حول النواة، فلو أنَّ الذرّة بلغَت الصِّفر المطلق انعدَمتْ حركتها، وإذا انْعَدَمَت حركتها زال كلّ شيء، لذلك قال الله تعالى: 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً(41)﴾

[  سورة فاطر ]

 هذه الآية من أدقّ الآيات، فلو أنّ الأرض زالتْ؛ فما معنى وقت الزَّوال؟ أي وقت الظَّهيرة، حينما تزول الشَّمس عن كبِد السماء، أيْ حينما تنحرف، فالزَّوال الانحراف هذا هو المعنى الأوّل لقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾

2 ـ زوال تلاشي:

 الأرض تسير حول الشمس في مسار، فلو أنَّ الأرض خرجَت من مسارها فابْتَعَدت عن الشمس، لأصْبَحت قبراً جليديّاً، ولوصَلت إلى الصفر المطلق، وتوقَّفَت ذراتها عن الحركة وانعدم وُجودها، فهناك زوالان؛ زوال الانحراف، وزوال التلاشي، لو أنها زالت عن مسارها لزالت ولانعدمت، ولو أنَّ الأرض توقَّفت عن الحركة... حرارة السطح المُقابل للشمس ثلاثمئة وخمسون درجة، هل نستطيع العَيش بهذه الأرض؟ نحن إذا كانت الحرارة خمسة وأربعين لا نحتمل الحر، إذا كانت الحرارة أربعين في الشام يقول لك: الحر شديد جداً "جهنم" ولو أن الأرض ثبتت لكان حرارة الوجه المقابل للشمس ثلاثمائة وخمسين درجة، والوجه الآخر مئتان وسبعون تحت الصِّفْر. 


قدرة الله عز وجل في جعل الأرض لا تنحرف عن مسارها أبداً:


 الآن لو فرضنا أنّ الأرض خرجت عن مسارها، وأردنا أن نُعيدها إلى مسارها –فرض علمي-لاحتجنا إلى مليون مليون حبل فولاذي، وقطر الحبل خمسة أمتار، وقوَّة شدّ الحبل مليونا طنّ، أي الأرض مربوطة بالشمس بمليون مليون ضرب مليونين، قوة جذب الشمس إلى الأرض مليونان ضرب مليون مليون طن، كلّ هذه القوة من أجل أن تحرف الأرض ثلاثة ميليمتر كلّ ثانية بمسارها حول الشمس، كي تبقى مع الشمس، أليس المسار مغلقاً، كل ثانية ثلاثة ملم يشكلون مساراً إهليلجياً حول الشمس، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾


كل ما في الكون آية تدل على الله:


 قال تعالى:

﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَآءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ(71)﴾

[  سورة القصص ]

 لو كان الليل مستمِرًّاً كيف تكون الحياة؟ هذا كله بين أيديكم، وقلته في دروس سابقة، وأعيد وأكرر؛ فَدَوران الأرض آية، ومَيْلُ مِحورها آية، كون محورها ليس في مستوى الدوران آية، حجم الأرض آية، وحجم الماء عليها آية، هذه المسطحات المائية الواسعة جداً هي التي تجعل الحياة على قسمها اليابس، ولو لم تكن هذه المسطحات لمَا كانت الأمطار، ولمَا كان النبات، ولمَا كان الحيوان، ولمَا كان الإنسان، لذلك قال تعالى: ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ الأهرامات يندهش الإنسان أمامها، وهي بناء إذا قيس بجبل صغير فليست بشيء، فَمَن بنى هذه السماء؟ قال تعالى: ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ الله عز وجل بناها واسِعَةً، وبناها وهي تتَّسِع، وهناك نظريَّة الآن حديثة جدّاً، وهي أنَّ الكون يتَّسِع، وهذه النظرية الحديثة تتوافق مع هذه الآية، ونحن كما يرى علماء المسلمين لا ينبغي أن نجرّ الآية إلى الحقيقة العلميَّة، ولا أن نجر الحقيقة إلى الآية، أما إذا كان هناك تطابق عفْوي لكان هذا شيئاً رائِعاً جداً، لا نتكلف ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ وعلى كلٍّ حقائق الفَلك بين أيدي الناس، فكلّ من أراد أن يعرف عن الكون شيئًا، هناك آلاف الكتب والموسوعات العلميّة، وآلاف المقالات، شيء يُصدَّق وشيء لا يُصدَّق.

من عادتي أن أقول رقماً فلكياً، فأن يركب أحدهم مركبة ويمشي بها خمسين مليون سنة ليصل إلى أقرب نجم من الأرض، أقرب نجم بعده أربع سنوات ضوئية! فكم نحتاج كي نصل إلى أربع وعشرين ألف مليون سنة ضوئية. ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾  


ثبات حركة الأرض من ملايين السنين إلى يوم القيامة:


 قال تعالى: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ ثمَّ إنَّ هذه الكواكب والمجرَّات تسير بدِقة متناهيَة بِدليل أنَّ هناك تقاويم هي بين أيديكم، تفتح التقويم تجد أنَّ الشروق يوم كذا على الساعة كذا، معنى ذلك أنَّ حركة الأرض ثابتة من ملايين السِّنين بالدقائق.

يقولون: شِدَّة القُرب حِجاب، فإذا فتحت التقويم على الشهر كذا في اليوم كذا، ووجدت أنّ الشمس تُشرق على الساعة كذا وبالدقيقة كذا، هل فكرت أنَّ هذه الأرض الكبيرة تتحرّك على مستوى مِعشار الثانية؟ من يستطيع أن يضبِط سيْر القطار ضبطًا تامًّاً؟ يقول لك: وصل إلى حلب الساعة الثامنة وأربع وثلاثين دقيقة، قد ياتي بعد ساعة، أو قبل ساعة، فالأرض تسير ألوف الملايين من الكيلومترات، ولا تتأخَّر ولا ثانيَة، فهل فكرت أن أعظم ساعة في العالم "بيكبين" تُضبَط على مسير الكوكب؟ يقول لك في السنة كلها تقدمت أربع ثوانٍ، على أي معيار تُقاس؟ على الكوكب فهو لا يزيد ولا ينقص، هذه الدقّة المتناهية في الحركة؛ مِن صُنع مَن؟ 


على الإنسان التفكر في ملكوت السماوات و الأرض:


 الشيء الآخر، لو جئتَ بِكُتلتين مغناطيسيَّتَين، وبِحَجمين متساوِيَيْن، ضَعهما على طاولة، وائتِ بِكُرةٍ معدنيَّة، واجعلهما بين الكتلتين، بحيث لا تنجذب لا إلى هذه ولا إلى تلك، أعتقد أن هذه عملية شبه مستحيلة، فلو انحرفت واحد بالألف من الميلي جُذِبت إلى هذه أو إلى هذه، أن تجعل هذه الكرة بين القطعتين شيء مستحيل، فكيف إذا كانت ثلاث كتل؟ أصعب، صار هناك ثلاث قِوى، ولو كانوا خمسة أو عشرة؟ فكيف إذا كانت الكتل متفاوتة، هذه بحجم كبير، وهذه اصغر، وتلك أصغر، صارت بحاجة لحسابات على الكمبيوتر لنتعرف أن هذه أكبر وقوى جذبها أشد، وهذه أصغر، ولو أن هذه الكتل في فراغ، كنا على سطح عليه كتلتان، ثلاثة، أربعة، بعد ذلك الحجوم مختلفة، الآن في فراغ، أعلى وأسفل، ويمين ويسار، وحجوم مختلفة، فأن تجعل الكرة تستقر في الوسط شبه مستحيل، فكيف إذا تحرَّكَت هذه الكرات؟ كتل مغناطيسية كثيرة جداً، متفاوتة في حجومها، وفي قوة جذبها، ومتحركة، وهي في فراغ، والمحصِّلة اسْتِقرار، هذه هي قوى التجاذب، وهذا معنى قوله تعالى: 

﴿ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ(2)﴾

[  سورة الرعد  ]

 بلا عمد؛ أي بِعَمدٍ لا ترونها، هل يمكن أن تُقيم بناءً عشرين طابقاً والطابق الأول بلا أي دعامة، فارغ كلياً؟  يستطيع الإنسان الآن أن يشيد بناء يبدأ من خمسة أمتار فوق الأرض؛ ليس له أي  علاقة بالأرض وارتفاعه عشرون طابقاً للأعلى، هذا شيء غير معقول، دعامة هوائية تمشي بداخلها، ممكن بناء عشرين طابق من إسمنت مسلح ولا علاقة له بالأرض أبداً، يبدأ بعد الأرض بعشرة أمتار، ونحن نتحرك تحته، نمشي في كل جهة، أية قوة هذه! هكذا السماء ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٖ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾

هذا الهواء الذي هو بيننا، ولا يحجب الرؤية، ولطيف، وينقل الصوت، هذا الهواء يحمل الطائرات؛ بعض الطائرات وزنها ثلاثمئة وخمسون طنّاً، يحملها الهواء، كأنها مدينة تمشي في السماء، من يحملها؟ الهواء، ما هذا الهواء!

 الماء إذا أراد أن يتمدد ما من قوة في الأرض تقف في وجهه، وأحدث طريقةٍ لتفكيك الصخور واقتلاع الرخام هي حفْر الحفر وحقنها بالماء ثمّ تجميد الماء، عندئذ يُقبَع الرخام بهذه الطريقة، فالماء آية، والهواء آية. 


تذليل الأرض للإنسان:


 لذا هذا الفِكر لا بدّ أن يجول في ملكوت الله تعالى، لتعرف من هو الذي خلقك؟ ومن هو الذي نهاك؟ ومن هو الذي أمرك؟ لما يقول الله تعالى: 

﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾

[  سورة النور ]

 وقال تعالى: 

﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ ۚ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ۚ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا (103)﴾

[  سورة النساء ]

 قال تعالى: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ﴾ ماذا نفعل لو كانت الأرض كلّها صخور؟ هل يمكن أن نعيش عليها؟ من أين نأكل القمح؟ من جعل هذه التربة المفتتة؟ من خلق الأنهار؟ نهر الأمازون غزارته ثلاثمائة ألف متر مكعب في الثانية الواحدة، نهر النيل من أطول أنهار العالم، نهر الأمازون من أغزر أنهار العالم، فهذه الأنهار من خلقها؟ من فجّر ينابيعها؟ أحيانًا تجد نهر التايْمز بِلُندن كلّ أمطار بريطانيا لا تكفي لهذا النَّهر، والعلماء يقولون: مستودعاته بأوروبا في جبال الألب، أحياناً تجد في قمة الجبل نبع ماء، كلّ أخ درس الفيزياء والكيمياء يؤمن يقينِيّاً أنَّ هذا النَّبع مستودعاته في جبل آخر أعلى منه، وقد سار تحت الوادي إليه، هناك جزر مثل إندونيسيا أربعة آلاف جزيرة، وما منها إلا ولها نبْعٌ يتكافأُ مع سكَّانها وحجمها، هذه الجزر كلّها مستودعاتها في اليابسة في آسيا، الأنابيب ممددة تحت البحر، فمن فجّر الأرض ينابيع؟ الله جلّ جلاله، فالإنسان إذا شرب كأس الماء، وأكل رغيف خبز، وأكل قطعة لحم، هذا الخروف من خلقه؟ من جعله مذلّلاً؟ الله جل جلاله. 


من نعم الله الكبرى على الإنسان:


1 ـ الهواء:

 الله عز وجل يقول: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا﴾ فالله عز وجل كلامه موجز، كيف أن الفراش وثير، ومريح، فالإنسان متى يرتاح؟ عندما ينام، فممكن أن يكون عمله شاق ومجهد، ومكان جلوسه في عمله على كرسي خشب غير مريح، لكن إذا أراد أن ينام على أي شيء ينام؟ على فراش وثير، مريح، فالله عز وجل وصف الأرض كلّها بأنها فراش ﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا﴾  فيها ماء وهواء، الحرارة معتدلة، فأنت تعيش وتحتمل الحرارة من الصفر إلى الأربعين أو خمسين، لا أكثر، الآن موجة حرّ داهمت أمريكا مات إثرها ثمانمائة شخصاً، لو وصلت الحرارة للسبعين لمات نصف العالم، فالإنسان تحت رحمة خالقه، والهواء يتجدَّد دائماً، النبات يأخذ غاز الفحم ويطرح الأكسجين، وأنت بالعكس، فلو كان النبات مع الإنسان بعد حين يكثر غاز الفحم في الأرض وتنتهي الحياة، أما هذه الغابات العِملاقة تأخذ غاز الفحم، وتعطيك الأكسجين، فتنتعش، وأنت تأخذ الأكسجين وتعطي غاز الفحم، هذه من آيات الله الدالة على عظمته. 

2 ـ الماء:

الماء في الدرجة +4 يزداد حجمه، ولولا هذه الظاهرة لمَا كنا في هذا المكان، فأحد أسباب الحياة على وجه الأرض هذه الظاهرة، وهي أنَّ الماء يزداد حجمه إذا برَّدته عند هذه الدرجة¬¬+4، من قال ذلك؟ الله جل جلاله ﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا﴾ وهناك نقطة مهمّة جداً فأنت أحيانًا تشرب كأس الماء، وهو سائل، وتستنشق الهواء، وتجلس على كرسي خشب، هناك أشياء سائلة، وأخرى صلبة، وأخرى غازيّة، وهذه في نفس الوقت، فهل انتبَهت لهذه الظاهرة؟ أن الأرض بدرجة حرارة واحدة فيها أشياء صلبة، وأشياء سائلة، وأشياء غازية، لو أنَّ درجة انْصِهار العناصر في الكون درجة واحدة لوجدت الكون كله إما صلباً أو مائعاً أو غازِياً، أما تفاوُت درجة الانصهار هذا من نِعَم الله الكبرى. 

3 ـ ثبات خصائص الأشياء:

 الشيء الآخر ثبات الخصائص، فالحديد حديد، والذَّهب ذهب، فكيف بك إذا اشْتريت سواراً ذهبياً، وبعد مدَّة صار حديداً؟ ذهب كل مالك، اشتريت شيئاً صلباً فصار سائلاً، ثبات الخصائص هذه نعمة لا يعلمها أحد، ﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا﴾ هناك معادن كالحديد بِكَميَّات كبيرة جداً وفيه منافع للناس، وهناك معادن نادرة كالذَّهب، هذه عملة، وهناك معادن لها استعمالات خاصّة، وهناك معادن يزداد حجمها بالتبريد، وهناك معادن سريعة الانصهار، وهناك معادن خفيفة الوزن، فالمعادن وحدها لا يعلمها إلا الله، وهناك أشبه معادن، ومواد عضوية، وهناك نبات وحيوان وجراثيم، وفيروس، ومخلوقات كثيرة لا يعلمها إلا الله، فهناك مليون نوع من السمك في البحر، كم أنواع الطيور؟ ﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ﴾ كم نوعاً من الشراب يوجد؟ وكم نوعاً من الطعام؟ وكم نوعاً من اللحوم؟ يوجد ثلاثة آلاف وخمسمائة نوع من القمح، وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون نوعاً من العنب، لو سألت المهندسين الزِّراعيِّين عن أنواع الفواكه لَدُهِشْت، والأنواع متفاوتة في الحجم والشكل والقساوة والماء والنسيج اللحمي والاستعمال، هذا للتصدير وهذا للاستعمال وهذا للعصر، أنواع منوعة من الفاكهة والثمار والخضراوات، وخصائص لا يعلمها إلا الله، وليس في الإمكان أن أذكر كلّ شيء، أختار فقط موضوعات سريعة، قال تعالى: ﴿وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ﴾


كلّ شيء في الكون مكوَّن من زوْجَين اثنين:


 وقال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ الحقيقة وقْتَ نزول الرّسالة المحمَّدِيَّة، أُناسٌ كثيرون لا يعلمون أنّ الحيوانات أزواج، والآن ثبت أنَّ كلّ شيء مؤلف من زوْجَين حتَّى الذرَّة فيها شَحنات موجبة، وأخرى سالبة، وهذه إشارة قبل ألف وخمسمائة عام، وهذا الشيء عُرف حديثاً، حتى الذرة، والجسم الصُّلب الذي تتوهَّمُهُ نوعاً واحِداً هو ذكر وأنثى، شحنة موجبة وشحنة سالبة، فالنواة لها شحنة والكهارب لها شحنة، وهذا موضوع طويل لا مجال للخوض في تفاصيله، النبات زوج، والحيوان والإنسان والجماد، قال تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ طبعاً علماء التفسير في العصور السابقة قالوا: سماء وأرض، ونور وظلام، جبل ووادي، رأس وخليج، فالأعمق من ذلك حتى المادة، وحتى النوع الواحد ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ حتى الذرة الواحدة شحنة النواة موجبة، الكهارب سالبة، أو العكس ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ المُحَصِّلة والنتيجة. 


فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ: آية لها عدة معان:


1 ـ تحرَّر أيها الإنسان مِن قُيود الأرض و شهواتها:

 ما العمل؟ قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ تركيب رائِع، الدنيا تشدُّك إليها، مالها وطعامها وشرابها ونساؤها، أن تفرّ منها إلى الله، تحرّر منها وإلا كما قال تعالى: 

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ(176)﴾

[  سورة الأعراف  ]

 معنى فِرُّوا، أوَّلاً تحرَّروا مِن قُيود الأرض، ومن شَهوات ونزوات الأرض، ومن مطالب الجسد، تحرروا من مصالحكم الماديّة، هذه كلّها كلاليب تشدّ إلى الأرض، فالفِرار يحتاج إلى انْعِتاق، ثمّ انطلقوا بِسُرعة إلى الله تعالى، معنيان؛ فالمعنى الأوَّل تحرّروا من كلّ قيْد أرضي، آثِروا معرفة الله، مرضاة الله، آثِروا الآخرة على الدنيا، وكلمة فرّ من الشيء يعني وجود شيء مُخيف يتبعه، كلمة فرّ منه يعني وجود شيء مخيف وقويّ، فهذه الشَّهوات والغرائز والميول والمصالح، الأرض بأموالها ونسائها، ومُتَعها ومباهجها ومُلهِياتها _وما أكثرها الآن- هذه كلّها عوائق وكلاليب، ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ 

2 ـ انطلق أيها المؤمن بسرعة إلى الله:

 والمعنى الثاني للفِرار: السرعة، قال تعالى: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)﴾

[  سورة آل عمران  ]

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)﴾

[ سورة الحج ]

 فالمؤمن ينطلق إلى الله تعالى بسرعة كبيرة، لأنّ الوقت أثْمن شيء بحياته، والوقت كالسَّيف إن لم تقطعْهُ قطَعَك. 


التوحيد أساس الدين:


 قال تعالى: 

﴿  فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ  (50)وَلَا تَجۡعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (51)﴾

[ سورة الذاريات ]

التوحيد هو الدِّين كلّه، وما تعلَّمت العبيد أفضل من التوحيد، كل شيء مع التوحيد يُحَل، أمّا مع الشِّرك فلا شيء يُحَلّ، فأنت باتجاه مكان لك فيه عطاء كبير، وأنت في طريقك إليه ارتكبت آلاف الأغلاط، ولكنك في الطريق إليه، أما إذا اتجهت عكس الجهة فلا شيء هناك، لذلك قال تعالى: ﴿وَلَا تَجۡعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ قال تعالى: 

﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ(52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ(53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ(54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ(55)﴾

[  سورة الذاريات  ]

 وفي الدرس القادم إن شاء الله نقف مع هذه الآيات وقفةً متأنِّية.


ملخص الدرس: الانطلاق والعودة إلى الله


الآيات اليوم: ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ*وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ*وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ محصِّلة هذا التَّأمل في الكون ﴿فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ فمحصلة هذا التأمل والتفكر والجَوَلان في عظمة خالق الكون أن تنطلق إلى الله عز وجل، وأن تفرّ من قُيود الأرض ومن شهواتها، ومن مصالح الدنيا إلى الله تعالى، فأنت بحاجة إلى جهدين؛ إلى جهد في التفلّت، فكيف المركبات الفضائية فيها سرعة إن لم تصل إليها لا تتفلت من جاذبية الأرض، الأرض لها جاذبية، مركبات الفضاء طبعاً كل المحركات فيها لا تقوى على التفلّت من جاذبية الأرض فاخترعوا الوقود السائل، وهو يعطي فعلاً معاكساً، يُشعَل هذا الوقود السائل بكميات كبيرة، وعندئذ تنطلق المركبة، وعليها الكبسولة (مكان رواد الفضاء) بسرعة يمكن أن تتفلّت من جاذبية الأرض.

وكل إنسان هناك شيء يجذبه إلى الأرض، إن لم تكن سرعته إلى الله بحد أدنى لا يتفلت من جاذبية الأرض، وإذا تفلّت من جاذبية الأرض عرج إلى السماء، فهو محتاج إلى قوة انعتاق من أجل التفلّت من جاذبية الأرض، ومحتاج أن ينطلق إلى الله بسرعة كبيرة لأنه يسابق الزمن، فالزمن هو رأس مالك الوحيد، والزمن هو أنت، والإنسان بضعة أيام كلما انقضى يوم انقضى بِضع منه.

أنت لاحظ نفسك وأنت على طاولة الامتحان، معك ساعتين للإجابة عن اثني عشر سؤالاً، هل تفكر في الطعام الذي تطبخه أمك في البيت وأنت على طاولة الامتحان؟ مستحيل، هل تفكر في ساعتك التي وضعتها عند الساعاتي، هل أنهى تصليحها اليوم؟ أبداً، لا يمكن أن يخطر ببالك شيء وأنت على طاولة الامتحان إلا شيء واحد وهو كيف ممكن أن تجيب بالوقت المحدد، هذه حالة من حالات الإنسان، فالامتحان ساعتان، وأخطر شيء فيه الوقت. 

وأنت في الأرض هكذا يجب أن تفكر في ساعة لقاء الله عز وجل؛ ماذا أعددت لهذه الساعة؛ من عمل، من استقامة، من طلب علم، من تعليم، من خدمة، من أمر بالمعروف، من نهي عن المنكر.

(( أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأبايعه على الإسلام، فاشترط علي "تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وتصلي الخمس، وتصوم رمضان، وتؤدي الزكاة، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله" قال: قلت: يا رسول الله، أما اثنتان فلا أطيقهما، أما الزكاة فمالي إلا عشر ذود، هن رسل أهلي وحمولتهم وأما الجهاد فيزعمون أنه من ولى، فقد باء بغضب من الله، فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت، وخشعت نفسي قال: فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يده ثم حركها ثم قال: "لا صدقة ولا جهاد فبمَ تدخل الجنة؟" قال: ثم قلت: يا رسول الله، أبايعك فبايعني عليهن كلهن. ))

[  الحاكم في المستدرك عن بشير بن الخصاصية ]

هذا السؤال يجب أن يكون هاجساً لكل واحد منا، كيف ألقى الله؟ ما العمل الذي بين يدي إذا لقيت ربي؟ يا رب أنا قمت بعمل جبس للبيت، الله يعطيك العافية، ولكن نحن نريد شيئاً للآخرة، شيئاً يبدأ بعد الموت، أما كل شيء ينتهي مع الموت لا تعبأ به، هذا للدنيا.

سيدنا أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمة كان قائد جيوش المسلمين في الشام دخلوا إلى بيته وجدوا جلد غزال يجلس عليه، وقِدْر ماء مغطى برغيف خبز، وسيف معلق على الحائط، فقالوا: ما هذا يا أبا عبيدة؟ قال: هو للدنيا، وعلى الدنيا كثير، ألا يبلغنا المقيل.

ما دخلت لعزاء ما فكان ببيت فخم مساحته أربعمائة متر، وصاحبه المتوفى في مقبرة باب الصغير، ألم يحدث معك هكذا؟ عشرات المرات، تدخل لبيت يأخذ بالألباب؛ تزيينات، أبهاء واسعة، أبواب متحركة، شُرَف، كل شيء جميل، أين صاحبه؟ في القبر، وهذا مصير كل إنسان كائناً من كان، وهذا هو المقر الأخير. 

لذلك ﴿فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ﴾ لكن تحرّر من جاذبية الأرض، أنت بحاجة إلى سرعة معينة لكي تتفلّت من جاذبية الأرض، هذه السرعة لها وظيفتان؛ تفلَّتَّ بها من جاذبية الأرض، وانطلقت بها إلى الله في الوقت نفسه، هذا معنى ﴿فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ ﴾ يعني تركض ركضاً.

مرة سألني أحدهم مداعباً: ما ملخص دعوتك؟ قلت له كلمتان: إما أن تأتيه ركضاً، أو يأتي بك ركضاً، اختَر واحدة، إما أن تأتيه مسرعاً، أو يأتي بك مسرعاً، فالله عز وجل يعرف كيف يداوي، فانطلق إليه طواعية، انطلق إليه وأنت صحيح، انطلق إليه وأنت غني، انطلق إليه وأنت آمن، انطلق إليه وأنت في بيتك مُعزّز مُكرّم، قم فصلّ، اذكر الله، اقرأ القرآن، احضر مجلس العلم، تعرّف إلى كتاب الله، تعرّف إلى سنة رسول الله وأنت صحيح، أما الإنسان عندما يقترب أجله، وينتهي، تنتهي كل شهواته يقرر أن يتوب! أحدهم ترك ثمانمائة مليون من الحرام، وهو على فراش الموت أصابه ألم أنساه حليب أمه فاستدعى أحد العلماء، قال له: ماذا أعمل؟ العالم لم يجامله، قال له: والله لو أنفقت كل هذه الثروة الآن لا تنجو من عذاب الله.

إياك أن تصل مع الله إلى طريق مسدود، أنت الآن قلبك ينبض، وأنت في بحبوحة والتوبة ممكنة:

(( قال الله تعالى: يا بن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عَنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقُرابها مغفرة. ))

[ رواه الترمذي ]

الصلحة بلمحة، إذا رجع العبد إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله. 

(( الإسْلامَ يَهْدِمُ ما كانَ قَبْلَهُ. ))

[ صحيح مسلم ]

(( الإسلامُ يَجُبُّ ما كان قبلَهُ. ))

[ صحيح الجامع ]

الآن بين أيدينا التوبة.

(( للَّهُ أفرَحُ بتَوبةِ عبدِهِ منَ العَقيمِ الوالدِ، ومنَ الضَّالِّ الواجِدِ ومنَ الظَّمآنِ الواردِ. ))

[ ضعيف الجامع ]

فيا أيها الإخوة إذا قمت بجولة في الكون ﴿وَٱلسَّمَآءَ بَنَيۡنَٰهَا بِأَيۡيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَٱلۡأَرۡضَ فَرَشۡنَٰهَا فَنِعۡمَ ٱلۡمَٰهِدُونَ*وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ الجدوى والموقف العملي ﴿فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ﴾ ما دام هذا هو خالق الكون، ماذا تنتظر؟ ماذا تنتظر كيف تطيعه؟ انطلق إليه من الآن، وقد هلك المسوفون ﴿فَفِرُّوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۖ﴾ الفرار معناه أن هناك شيء يمسكك، يجب أن تنطلق بسرعة كي تتفلت من جاذبية الأرض، وهذه السرعة نفسها تنقلك إلى الله عز وجل ﴿إِنِّي لَكُم مِّنۡهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ*وَلَا تَجۡعَلُواْ مَعَ ٱللَّهِ إِلَٰهًا ءَاخَرَۖ﴾

﴿ وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَٰهَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ إِنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51)﴾

[ سورة النحل ]

الذي أمرك أن تعبده بيده كل شيء، والآمر ضامن، أكثر الجهلة يقول لك: إذا فعلت هكذا أخسر مكانتي، أخسر منصبي، أخسر تجارتي، أنا أتعيّش من هذا العمل، فأين الله عز وجل؟ الآمر ضامن، وما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور