- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (051)سورة الذاريات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الرابع من سورة الذاريات، ومع الآية الثانية والعشرين.
الله عز وجل موجود بِذاته ولا يعتمد في وجوده على ما سواه:
قال تعالى:
﴿ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ (22)فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقٌّ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ (23)﴾
أيها الإخوة، سيكون الدرس الحالي إن شاء الله تعالى حول هاتين الآيتين،
أيها الإخوة: بادئ ذي بَدء هناك واجب الوجود، وهناك ممكن الوُجود، وهناك مستحيل الوجود، فواجب الوُجود هو الله جل جلاله، وممكن الوُجود هو ما سِوى الله تعالى، ومستحيل الوجود لا يمكن أن يوجد، كيف؟ فلا يمكن أن يكون الجزء أكبر من الكل، ولا يمكن أن يكون الابن قد وُلِد قبل الأب، هذه أشياء يستحيل على العقل تصديقها، مستحيلٌ أن يكون هناك إلهٌ مثل الله تماماً! فهناك واجب الوجود هو الله جل جلاله، وهناك ممكن الوجود وهو ما سوى الله؛ الكون وما فيه من مخلوقات، وهناك مستحيل الوجود، دَعونا من مستحيل الوجود ولْنَبْق في واجب الوجود وفي ممكن الوجود.
الله عز وجل موجود بِذاته، واحِدٌ أحد فرْد صَمد، ولا يعتمد في وجوده على ما سواه، ولا في استمرار وجوده، قال تعالى:
﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ(1) اللَّهُ الصَّمَدُ(2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ(3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ(4)﴾
أكبر شيئين في حياة الإنسان وُجوده ورِزقه:
لكن ممكن الوجود -الآن دققوا- مفتقر في وجوده إلى مَن يوجِدُهُ، ومُفتَقِرٌ في استِمرار وجوده إلى مَن يُمِدُّهُ، ونحن من بني البشر، وهذه صِفتنا، مفتقرون في وجودنا إلى الله تعالى، هو الذي أوْجَدَنا، وهو الذي خلقنا، قال تعالى:
﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً(1)﴾
ومفتقرون في استِمرار وُجودنا إلى مَن يُمِدُّنا بالهواء وبالماء، وبالطعام وبالشراب، وبالزوجة، وبالأجهزة؛ القلب والرئتين، والمعدة، والأمعاء، والكليتين، والأنسجة، والأوردة، والشرايين، فالإنسان جزءٌ من ممكن الوجود، وهو الكون، ومن خصائص ممكن الوجود أنَّه مفتقِر في وُجوده إلى من يُوجِدُهُ وهو الله جل جلاله، ومفتقِرٌ في استمرار وُجوده إلى من يُمِدُّه.
لذلك الله جل جلاله هو الخالق أي المُوجِد، وهو الرّب أيْ هو المُمِدّ، خلقنا وأمدَّنا بِكُلّ ما نحتاج، لذلك الله عز وجل خالقٌ يعني موجِدٌ، ورازق يعني مُمِدّ، وأكبر شيئين في حياة الإنسان؛ وُجوده ورِزقه؛ لأنَّ وُجوده من دون مُوجِد عدم، ولأنَّ رزْقه من دون رازق موت! لذلك من أسماء الله الحسنى أنَّه هو الرازق.
للإنسان ثلاث حاجات أساسية هي:
1 ـ حاجة الإنسان إلى الطعام و الشراب لاستمرار وجوده:
شيءٌ آخر، هذا الإنسان أودعَ الله فيه حاجةً إلى الطعام والشراب؛ مِن أجل ماذا؟ من أجل اسْتِمرار وُجوده، فلو لم يودِع فيه هذه الحاجة ونَسِيَ أن يأكل لمات، فهذه الحاجة هي التي تدْفعه للأكل والشرب، هل هناك قانون في الأرض يُلْزِم الناس بالطعام والشراب؟ مستحيل، لأنَّ الجوع هو الذي يأكل كبد الإنسان، ينطلق إلى الطعام والشراب من أجل أن يسدّ هذه الحاجة، فهناك حاجة أساسيَّة إلى الطعام والشراب، وهذه الحاجة مِن أجل بقاء الفرْد.
2 ـ حاجة الإنسان إلى الزواج لاستمرار النوع:
وهناك حاجة لا تقلّ في قيمتها عن حاجة الطعام والشّراب، وهي الحاجة إلى الزواج، هذه من أجل بقاء النوع.
3 ـ حاجة الإنسان إلى تأكيد الذات:
وهناك حاجة ثالثة لا تقلّ عن الأولى والثانية إلا أنَّها ليْسَت مادِيَّة؛ حاجة إلى بقاء الذِّكر، أو إلى تأكيد الذات، أو إلى الشعور بالأهميَّة، هذه الحاجات الثلاث، الله سبحانه وتعالى حينما خلقها في الإنسان خلق ما يُلبِّيها، فما دام أنّه خلق فماً، ومعِدةً، وأمعاء، وكبِداً، ودماً، وإحساساً بالجوع فلا بدّ أن يُوجِدَ لهذا الجسم ما يسدّ جوعه، ثمَّ إن الله سبحانه وتعالى ما دام قد أوْدَع في الإنسان الحاجة إلى الزواج فلا بدّ من أن يخلق الإنسان ذَكراً وأنثى.
تساوي الذكر و الأنثى في التشريف و التكليف و اختلافهما في الخصائص:
للذَّكَر خصائصُهُ الجِسْميَّة والعَقليَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة، وللأنثى خصائصُها الجِسْميَّة والعَقليَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة، قال تعالى:
﴿ وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى(45) مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ (46)﴾
الذَّكر والأنثى -بشكل سريع- متساوِيان تساوياً تاماً عند الله في التكليف والتشريف والمسؤوليَّة، ومختلفان اختلافاً كبيراً في الخصائص؛ لأنَّ كلاًّ منهما له خصائص تناسب وظيفته قال تعالى:
﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَىٰ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ
كل مخلوق على سطح الأرض له رزق يصله بأية طريقة:
ثمّ إنّ الله سبحانه وتعالى أوْدَعَ في الإنسان الرغبة إلى تأكيد ذاته، وإلى الإحساس بالأهميَّة، وهذه هي الدوافع الثلاث التي أوجدها الله في الإنسان، وما أوْجَدَها إلا وأوجَدَ ما يسدّها وما يُلبِّيها، ما أوْجَدَها إلا وأوجَدَ ما يسدّها.
لذلك الله جل جلاله هو الرزاق ذو القوة المتين، يرزق النملة السوداء على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ولو تبحَّرْتَ في اسم الرزاق لوجدْت العَجب العُجاب، لو تبحَّرْتَ في اسم الرزاق لوجدت الشيء الذي لا يوصف، فكلّ مخلوق يصلُهُ رزقه بطريقة أو بأخرى.
امتحان الإنسان من خلال بقائه في المجتمع:
أيها الإخوة الكرام: هناك شيء آخر، وهو أنّ الإنسان طاقاتهُ وإمكاناته تُتيحان له أن يُتْقِنَ اخْتِصاصاً واحِداً، أو اخْتِصاصين، أو ثلاثة، لكنَّه بِحاجة إلى ملايين الحاجات، إذاً هو مَقهور أن يكون في مجتمع، لو كتبت على ورقة ما تستهلكُه في اليوم الواحد؛ تحتاج إلى خبز، إلى ماء، إلى طعام، إلى شراب، إلى بيت، إلى فراش، إلى غرف، إلى تعليم، إلى طبابة، أي تحتاج إلى أشياء لا تعد ولا تحصى، وقد يسَّر الله لك عملاً واحِداً أو اخْتِصاصاً واحِداً، ما معنى ذلك؟ أنَّك مقهور أن تكون في مجتمع.
الآن من خِلال حاجتك إلى الطعام والشراب تنطلق إلى العمل، ومن خلال حاجتك إلى الزوجة تنطلق إلى الزواج، ومن خلال حاجتك إلى تأكيد الذات تنطلق إلى أعمال تسعى إلى أن تكون نِبْراساً لك في المجتمع، ومن أجل حاجتك إلى آلاف المواد تعيش في مجتمع، كلّ هذا من أجل أن تُمْتَحن بالخير والشرّ، بالعطاء والحِرمان، بالإحسان والإساءة، بالصّدق والكذب، بالإخلاص والخيانة، بالاستقامة والانحراف، بالكبر والتواضع، وبالإنصاف والجحود، ومن خِلال العمل، ومن خلال الزواج، ومن خلال تأكيد الذات، ومن خلال بقائك في المجتمع تُمْتَحَن أشدّ الامتِحان، قال تعالى:
﴿
وقال تعالى:
﴿ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ
وقال تعالى:
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)﴾
الأعمال الصالحة ثمن الجنة:
قال تعالى:
﴿
إذاً أنت في الحياة الدنيا مُبْتَلى من أجل أن تعمل عملاً صالحاً يُؤهِّلُكَ لِجَنَّة عرضها السماوات والأرض، فأنت مخلوقٌ للجنة، للجنة وحدها، قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ(56)﴾
ليعرفوني فيُطيعوني فيسْعدوا بِقُربي في الدنيا والآخرة، وهذا هو الهدف.
أنواع الرزق:
1 ـ نوع ميسور بلا ثمن:
الرزق أيها الإخوة أنواع؛ نوع مَيْسور بلا ثمن، الهواء، ولو كان الهواء بالثَّمن وبالقسائم، وبالاحتِكار لهلَكَ الناس.
2 ـ نوع يحتاج إلى سعي:
نوع يحتاج إلى سعي طفيف كالماء ليس له ثمن، وثمنه ثمن خدماته، وتوفيره من مكان إلى مكان، ونوع يحتاج إلى ثمن، ونوع يحتاج إلى عمل.
وهناك أنواع مُنَوَّعة من الرِّزق أوْدَعها الله تعالى في الأرض، بعضها تستخدمهُ مباشرةً، وبعضها يحتاج إلى تدخّل من جهد بشري، ومن خِلال هذا الجُهْد البشري المَبنيّ على العِلم والعمل يُمْتَحَنُ الإنسان فيرْقى أو ينْحَدِر.
الثوابت والمتغيرات في الكون:
أيها الإخوة الكرام، شيء آخر في الموضوع، وهذه كلّها موضوعات تَمْهيديّة؛ هناك في الكون ثوابت ومُتَغَيِّرات، فمن الثوابت مثلاً دورة الأرض حول نفسها، ومن خلال آلاف السنوات بل مئات ألوف السنوات، بل مئات مئات ألوف السنوات ما رأينا مرة الأرض توقَّفت عن الدّوران، تدور بسرعة ثابتة، وتتحرّك بمواقيت موزونة، بشكل مذهل، حتى إنّ أدق الساعات في العالم تُضْبَط على حركة الكواكب، فحركة الأرض حول نفسها، وحركتها حول الشمس، وميْل مِحورها من الثوابت، لكنّ نزول الأمطار من المتغيّرات، مع إنّ الأمطار مَبْنِيَّة على عِلمٍ دقيق دقيق إلا أنَّ مفتاح التشغيل بيد الله عز وجل، فلو نظرت إلى آلةٍ بالغة التعقيد؛ كلّ شيء يعمل فيها بانتظام، ولكن لهذه الآلة مفتاح، إن لم تدر هذا المفتاح الآلة لا تعمل.
فالأرض من الثوابت، أما نزول الأمطار فَمِن المتغيّرات، والذي يُدْهش أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل الثوابت لِيَسْتقرّ الكون على نِظام؛ نِظام الأيام والأسابيع والشهور والسنوات، ونِظام الليل والنهار، ونِظام الفصول هذه كلّها ثبَّتها الله عز وجل، ومن الثوابت خصائص الأشياء، فالحديد صُلْب، ما قولكم إذا كان الحديد مرة صلباً، ومرة مائعاً؟ بعد أن أشدْتَ البناء وقع، تغيرت خصائص الحديد، الحديد حديد، والنحاس نحاس، والفضة فضة، والرصاص رصاص، وبذرة الخيار خيار، والتفاح تفاح، والأجاص أجاص، فخصائص الأشياء ثابتة، هذه من الثوابت، خصائص الأشياء.
الهدف من التثبيت الاستقرار والهدف من التغيير التربية:
نزول الأمطار من المتغيّرات فلمَ ثبَّت؟ ولمَ غيَّر؟ الذي ثبَّته من أجل الاستقرار، والذي غيَّره من أجل التربية، فالأب يُعطيك غرفة في البيت لك وحدك دائمةً بِشَكل ثابت، أما المصروف فقد يدفعه إليك أو لا يدفعُه تأديباً وإثابة لك، فالثوابت كي يستقرّ الكون، والمُتغيَّرات كي يُربَّى الإنسان، إذا الرِّزق متغيّر.
الفرق بين الرزق و الكسب:
أوَّلاً هناك موضوع دقيق دقيق؛ ما الفرق بين الرِّزق والكسب؟ الرِّزق ما تنتفِعُ به فقط، فالطعام الذي أكلته، والقميص الذي ترتديه، والسرير الذي تنام عليه، والبيت الذي تسكنه، والطعام الذي تستهلكه، هذا فقط ووحده هو الرّزق، وأما الكسب فقد يكون لك في الحِساب مئات الألوف، أو بضعة ملايين، أو مئات الملايين، أو عشرات مئات الملايين لكنَّها كسب وليس رزقاً، فالكسب حجمك المالي، أما الرِّزق فهو مستهلكاتك، الكسب كلّه تُحاسَب عليه ولا تنتفع به، لكنّ الرّزق تُحاسب عليه وتنتفع به، أما انْتِفاعُكَ به فعلى ثلاثة أقسام؛ قِسْمٌ تسْتَهلكُهُ كالطَّعام والشراب، وقِسمٌ يَبلى كالثِّياب، وقِسمٌ يبقى كالصّدقات:
(( يَقُولُ ابنُ آدَم: مَالي! مَالي! وَهَل لَكَ يَا ابْنَ آدمَ مِنْ مالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ ))
من التي لك الثُّلث، وما سِوى هذه الثلاثة ليست لك، قال عليه الصلاة والسلام:
(( لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ. ))
الرزق أنواع كالطعام و الشراب و الزوجة و العلم:
أيها الإخوة، أُريد أن أقول لكم حقيقة، وهي أنَّ الرِّزق أنواع، هناك رِزق كالطعام والشراب، وهناك رِزق من النوع الثاني كالزوجة رزق، قال تعالى:
﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ
لمّا سُئِل أحد العلماء الكبار عن حسنة الدنيا قال: هي المرأة الصالحة، فالمرأة الصالحة رِزق، والعِلم رِزق، والدليل قوله تعالى:
﴿ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ(82)﴾
رِزْقُ العلم حُرِمْتُم منه:
الرزق أداة ابتلاء:
أيها الإخوة الكرام، الرّزق هو الذي تنتفعُ به، والكسب هو الذي لا تنتفعُ به، وكلاهما تُحاسَب عنه، الآن الرّزق أداة ابتِلاء، وأداة ثواب، وأداة عِقاب، أما أنَّه أداة ابتلاء فالإنسان يُمْتَحن بما أُعْطِيَ، ويُمْتَحن بما حُرِم! أيْ أنَّ الغنيّ مُمْتحنٌ بالغنى، وأنّ الفقير مُمْتحنٌ بالفقْر، فإذا نجَحَ الغنيّ في امْتِحانه كَسِب الدنيا والآخرة، وإذا نجح الفقير في امْتِحانه كسب الدنيا والآخرة، الإنسان مُمتَحن فيما أُعطِي، ومُمتَحن فيما حُرِم، وربما كان امْتِحان العطاء أشدّ على الإنسان، فالفقير مثلاً خِياراته قليلة، وخياراته محدودة، يُمتَحن بالصبر فقط، لكنّ الغني عنده ألف خيار وخيار لِيَعصي الله تعالى، فإذا قال: إنِّي أخاف الله ربّ العالمين، كان صَبْر الغني في الابتِلاء أشدّ من صبر الفقير، والضعيف خياراته محدودة، ولكنّ القوي بإمكانه أن يفْعل ويفْعل، وأن يؤذي ويسْحق، ومع ذلك حينما يكفّ يدهُ عن ظلم الناس خوفًا من الله عز وجل فقد دفعَ ثمن القوة باهظًا، لذلك الإنسان يُمتحن فيما أُعطي، ويمتحن فيما أُخِذ منه، ومن عادتي أنَّني أقول لإخوتي الكرام دائماً إن رأيْتُهُ في بَحبوحة أقول له: هذه مادَّة امْتِحانك مع الله تعالى، هل تؤدِّي شُكْر هذه النِّعمة؟ وهل تدفَعُ جزءاً من هذا المال للفقراء والمساكين؟ وحينما أرى إنسانًا آخر مُبْتَلَى أقول له الكلمة نفسها؛ هذه مادَّة امْتِحانك مع الله تعالى.
العِبرة في خواتم الأعمال:
أيها الإخوة الكرام، الرِّزق ابْتِلاء.
(( أتاني جبريلُ، فقال: يا مُحَمَّدُ! ربُّكَ يقرأُ عليك السلامَ، ويقولُ لكَ: إنَّ من عبادي مَن لا يَصْلُحُ إيمانُه إلا بالغِنَى، ولو أَفْقَرْتُه لكفر، وإنَّ من عبادي مَن لا يَصْلُحُ إيمانُه إلا بالفقرِ، ولو أَغْنَيْتُه لكفر. ))
فأنت مُمتَحن بالفقر ومُمتَحن بالغنى، ولكن لو أنّ إنسانَين عاشَا ثمانين عاماً؛ أحدهما فقير، والثاني غنيّ، لو أنَّ الفقير نجَحَ في امتحان الفقر، ولو أنَّ الغنيّ رسب في امتحان الغنى، ما النتيجة؟ أنَّه بعد الموت يسْعد الفقير في جنَّة ربّه إلى أبد الآبدين، ويشْقى الغنيّ الذي رسَب في امتِحان الغنى يشقى في جهنم إلى أبد الآبدين، إذًا العِبرة في خواتم الأعمال والعبرة كما قال تعالى:
﴿
امتحان الفقر أهْون من امتحان الغنى:
الدنيا إن أتَتْ أو لم تأتِ لم تكن مِقياساً لإرضاء الله عنك، فالله عز وجل أعطى المال لمن لا يحبّه؛ قارون، وأعطاه لِمن يحبّه؛ سيّدنا سليمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ولبعض أغنياء الصحابة كسيّدنا عثمان رضي الله عنه، فالمال يُعطَى ولا يعني أن عطاءه دليل الرّضا، ويُمْنع، ولا يعني أن منعهُ دليل الفقْر، دليل الغضب، النبي عليه الصلاة والسلام سئِل:
(( جلس جبريلُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فنظر إلى السماءِ فإذا ملَكٌ ينزلُ فقال جبريلُ هذا الملكُ ما نزل منذ خُلِق قبلَ الساعةِ فلما نزل قال
ولعلّ النبي عليه الصلاة والسلام لِحِكمة بالغة أراد الأقرب إلى العبوديّة، وأراد الأسلَم من امتحان الغنى، فامتحان الفقر أهْون من امتحان الغنى، ويكفي أن تقول حسبي الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوّة إلا بالله، أما الغني هناك ألف مُنزلقٍ ومنزلق أمامه، فإذا نجا من هذا قد لا ينجو من الثاني.
الرزق أداة ثواب و عقاب:
أيها الإخوة، والرّزق أيضاً فضلاً على أنّه أداة ابتِلاء هو أداة ثواب وعِقاب والدليل؛ أما العِقاب ورد في الحديث الشريف:
(( إنَّ الرَّجلَ لَيُحرَمُ الرِّزقَ بالذَّنبِ يصيبُهُ. ))
مثلاً: نمَّى ماله بالربا يمحق الله الربا، أكل مالاً حرامًا أهلك الله ماله، وأهلكه معه، فالرِّزق أحيانًا أداة عِقاب، وأحيانًا أداة ثواب، قال تعالى:
﴿
قال تعالى:
﴿
إذاً ًالرّزق من المتغيّرات، وأداة ابْتِلاء، وأداة ثواب، وأداة عِقاب.
ضَمان الله عز وجل الرّزق المفيد للإنسان:
أما أنه مضمون، فقوله تعالى:
﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ(23)﴾
ما دام هذا الفم قد خُلِقَ لِيَأكل فلا بدّ له مِن طعامٍ وشراب، فالرّزق مضمون وقد يكون في حدوده الدنيا، فلا أحد يعرف أن هذا الطعام الخَشِن الذي يأكله المحرومون ربما كان فيه من المواد الغِذائيّة ما يفوق الطعام الثمين، فأمراض القلب في البلاد الصِّناعيّة الغنيَّة ثمانية أمثال، وبالمناسبة قد أُجْرِيَت دِراسة على طعام الشُّعوب في كلّ أنحاء العالم، فكان طعام شُعوب حوض المتوسِّط -وهي شُعوب فقيرة- أفضل طعام في العالم، والسبب أنهم يُكثرون من المواد السيللوزيَّة، وهذه المواد تَصون الغشاء المخاطي في الجهاز الهضمي، وتمتصّ الكولسترول الزائد، وتُسْرع في انتقال الطعام وإخراجه.
إذا الطعام الخشن غير العصير، غير المعالَج، طعام مفيد جداً، واكتشفوا أيضاً أنّ هذه الشُّعوب تُكْثر من البروتينات النباتيّة كالحمص والفول، وهذا أسلَمُ للجسم من اللحم الذي قد يؤذي كثرته، ثمّ إنَّهم يستعملون زيت الزيتون، وهو من أفضل الدهون التي تُعين على مرونة الشرايين والإنسان عُمرهُ من عمر شرايينه.
أُجرِيت دراسة مقارنة دقيقة فيما بين الطعوم التي يأكلها الشعوب، فوُجِد أن الطعام الذي في البلاد التي هي في الحوض المتوسط، وهي في الأعم بلاد فقيرة، أفضل طعام على الإطلاق، لذلك ضَمِن الله عز وجل الرّزق المفيد.
زيادة الرزق يكون بـ:
1 ـ الإيمان و التقوى:
أما الترف أن تأكل عشاءً بِخَمسين ألفًا، هذه ليست مضمونة للكل، للمترفين مضمونة، أما أن تأكل ما يقيم أُوَدَك، هذا للجميع، الرزق مضمون، والرزق موزون، فهناك دراسة وحِكمة بالغة مِن كون هذا الرّزق وافِراً أو قليلاً، ولكن السؤال الدقيق: هذا الرّزق هل يزيد وينقص؟ الجواب: نعم، يزيد وينقص، والأدلّة كثيرة، وأوّل دليل قوله تعالى:
﴿
فالرّزق يزيد بالإيمان والتقوى.
2 ـ الاستقامة:
يزيد أيضاً بالاستقامة، قال تعالى:
3 ـ التزام أحكام الشرع:
ويزيد بالْتِزام أحكام الشرع، قال تعالى:
4 ـ الاستغفار:
والرزق يزيد بالاستغفار، قال تعالى:
﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً(12)﴾
يزيد بالاستقامة والإيمان والطاعة، ويزيد أيضا بالاستغفار.
5 ـ إقامة الصلاة:
ويزيد الرّزق بإقامة الصلاة، قال تعالى:
﴿
بيتٌ تُقام فيه الصَّلوات؛ هذا بيتٌ في الأعمّ الأغلب الله سبحانه و تعالى يرزقه، فالرّزق ليس بالذّكاء ولكن بالتوفيق، والرّزق ليس بالحركة الطائشة الدؤوبة، ولكن بِتَوفيق الله تعالى، إذا الالتزام يزيد في الرزق، والاستغفار يزيد في الرزق.
6 ـ الصدقة:
وفي الحديث الشريف الصدقة تزيد في الرّزق، قال تعالى:
﴿
المال الذي تُنفَق منه الصدقات يربو ويزيد وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(( استَنْزِلُوا الرِّزْقَ بالصَّدقَةِ. ))
أيْ إذا أردْتم رزْقًا وفيرًا فتصدَّقوا، ولِحِكمة أرادها الله عز وجل على الآلة الحاسبة الإنفاق ينقص المال، ولكن القرآن الكريم كلام خالق الكون الإنفاق يزيد المال، فالإنفاق بالحسابات المادِّية ينقصه، لكنه بالحِسابات الربانيَّة يُنمِّيه يكثرهُ، لذلك:
((
7 ـ الإتقان:
شيء آخر، وهو أنّ الرّزق يزيد بالإتقان، فإتقان العمل جزء من الدِّين وهو أحد أسباب الرّزق، لأنَّ الله يحبّ من العبد إذا عمِلَ عملاً أن يُتْقِنَهُ، وأنتم أمام هذه الحقيقة وجهاً لِوَجه، فكلّ أصحاب المصالح المتقِنون لا يتعطَّلون، مهما عمّ الكساد، ومهما فشت البطالة، ولكنّ المهمِلين إذا صار الكساد تعطَّلوا، أما المتقن لا يتعطل، فالإتقان أحد أسباب نماء الرّزق.
8 ـ الأمانة:
والأمانة كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( الأمانة غِنًى. ))
فحينما تكون أميناً تمتلِكُ أكبر ثرْوة في الأرض، ألا وهي ثِقة الناس، الناس يُعطونك أموالهم حينما يأمنونك، فالأمانة غِنَى، وهذا في كلّ المجالات العامَّة؛ في الأعمال التِّجاريّة والصناعيّة والزراعية، فالعامل المخلص الأمين له مستقبل مزهر، ينتهي به الأمر إلى أن يكون صاحب العمل، والذي يخون أو يأخذ ما ليس له يُلقى في مزبلة التاريخ، يُلقى في المزبلة ويُطْرد،
(( يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ كُلِّهَا إِلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ. ))
المؤمن لا يكذب ولا يخون:
9 ـ صلة الرحم:
أيها الإخوة، الاستقامة، والصدقة، والاستغفار، وإتقان العمل، والأمانة والصلاة؛ هذه كلّها تزيد في الرزق! ثمّ إنَّ صلة الرَّحِم أيضاً تزيد في الرّزق:
(( مَن أحبَّ أن يُبْسَط له في رزقه، وأن يُنسأ له في أثره فليصل رحمه. ))
يوجد شخص إشرافه كان على كل الأسرة، على أخواته، على أصهاره، على أولاد عمه، على من حوله، يواسيهم، يمدهم بالمساعدة، فهذا الذي يصل رحمه بالزيارة، والرعاية والتوجيه، وإنفاق المال، هذا يزيد رّزقه، بشكل أو بآخر، أنت عندما تنفق من مالك، يجعل الله رزق غيرك عندك، فإذا أردت أن تنفق يأتيك رزق الآخرين إليك لأجل أن تنفق، فالذي ينفق يزداد رزقه،
(( أنْفِق بلالاً ولا تخشَ من ذي العرش إقلالاً. ))
(( يَقولُ رَبُّنا عزَّ وجلَّ: أنفِقْ؛ أُنفِقْ عليكَ. ))
ويوجد ثمانية آياتٍ حصْراً وعد الله المُنْفقَ بالخُلْف والتَّعويض، قال تعالى:
﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّى يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِۦ وَيَقْدِرُ لَهُۥ ۚ
وهذه حقيقة ثابتة في القرآن الكريم.
قلة الرزق مع توافر شروط زيادة الرزق تُعزى إلى حكمة الله عز وجل:
أيها الإخوة الكرام، الرِّزق أحد أكبر الموضوعات التي تشغل الإنسان بعد وُجوده، فإذا كان موجوداً فالموضوع الأوَّل الذي يشْغلهُ هو الرّزق، وقد ورد أنَّ كلمة الحق لا تقطع رزقاً ولا تقرّب أجلاً، كلمة الحق لا تقطع رزقًا ولا تقرّب أجلاً، والله سبحانه وتعالى هو الرزاق.
ولكن هناك سؤال؛ فقد يقول أحدكم؛ فلانٌ مستقيم، والاستقامة أحد أسباب زِيادة الرّزق، وفلان متصدّق، ومستغفر، ومتقن، ويصل رحمه، وذو أمانة، ويصلي، ويأمر أهله بالصلاة، ومع كلّ هذه الشروط نجد رِزقه قليلاً! فما تفسير ذلك؟ التَّفسير أنَّه إذا توافرَت كلّ هذه الشروط، ولم يكن الرّزق وفيراً، فهذه الحالة النادرة الخاصَّة تُعزى إلى حِكمة الله،
(( إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ يحمي عبدَهُ المؤمِنَ من الدُّنيا،كما يحمي أحدُكُم مريضَهُ الطَّعامَ والشَّراب ))
(( إنَّ اللهَ تعالى يَحمِي عَبْدَه المؤمِنَ كما يَحمِي الراعي الشَّفيقُ غنَمَه عن مَراتعِ الهلَكةِ ))
وليس في الإمكان أبدع مما كان، وليس في إمكاني أبْدعُ ممَّا أعطاني.
أيها الإخوة الكرام،
﴿ دَعْوَىٰهُمْ فِيهَا سُبْحَٰنَكَ ٱللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَٰمٌ ۚ
الرزق الوفير لا ينفع الإنسان إن حُجب عن رحمة الله:
بقي في هذا الموضوع موضوع دقيق، وهو أنَّ الرّزق المادي قد يتوافر، وتُحْجَب عنك رحمة الله، فإذا هذا المال الوفير هو أكبر عدوّ لك، هو سبب طلاق زوجتك، وسبب انحراف أولادك، وسبب عداوتهم لك، وسبب انْشِغالك إلى قمَّة رأسك بالمال، وربما كان هذا المال الوفير سبب الشقاء في الدنيا، لذلك اُطْلب من الله رحمته أوَّلاً، فإذا جاءك المال وحُجِبَت عنك رحمة الله كان المال وبالاً عليك، وكان المال أكبر عدوّ لك، وربّما قُتِل الإنسان من أجل ماله، وربّما انتَهَتْ حياتُهُ طمعاً بِمَاله، وربَّما قتله أقرب الناس إليه، لذلك إذا جاءك المال الوفير، وحُجِبَت عنك رحمة الله كان الرزق أكبر أعدائك، وأما إذا أُعْطِيت رحمة الله عز وجل وكان مالك قليلاً فهذا المال القليل فيه بركة، ففي الآلة الحاسبة هناك تسعة أرقام وصفر، فيه زائد، ناقص، فيه جذر، وفيه ذاكرة، وأزرار أخرى ولكن لا يوجد زرّ البركة إطلاقاً، لكنَّ البركة حقيقة، فقد يعطيك الله رزقًا قليلاً ويُبارك لك فيه، تأكل وتشْرب وتستمتع، وتُعطي من حولك، شيء عجيب، وقد يُؤتيك الرّزق الكثير فَتُنْفقُه على صحَّتك، وتنفقهُ في أصعب الظروف ولأتفه الأسباب تدفع مئة ألف، ومئتي ألف، وأربعة الملايين لغلطة صغيرة تستوجب عشرين عاماً من السّجن، تدفعها لتنجو من السجن، المؤمن المستقيم الله جلّ جلاله يُبارك له في رزقه القليل، لذلك إذا كان رزقك كفافًا، يكفيك من دون زيادة فقد أصابتْك دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، لا تخف من هذه الدعوة، وافْرَح لها، قال عليه الصلاة والسلام:
(( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ. ))
المال الوفير للمؤمن الحقيقي أحد مفاتيح الجنة:
وإذا أعطاك الله الرّزق الوفير، وكنت مؤمناً، فاسْجُد لله تعالى، لماذا؟ لأنَّ الله سبحانه وتعالى يُمَكِّنك بهذا المال الوفير أن تصل إلى أعلى درجة في الجنَّة، بِإنفاق المال، دع الأمر له، استسلم له، إن جعلك ذا دخل محدود، وقد عافاك في إيمانك، وفي صحتك، وفي أهلك، وأولادك، فهذه دعوة النبي لك، اللهم من أحبني، فاجعل رزقه كفافاً، وإذا أعطاك المال الوفير على إيمان كبير، كان هذا المال الوفير، أحد مفاتيح الجنة، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول وهو لا ينطق عن الهوى:
(( لا حَسَدَ إِلاّ في اثْنَتَيْنِ: رَجلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ منهُ آنَاءَ اللّيْلِ وآنَاءَ النّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَآنَاءَ النّهَارِ. ))
في مستوى واحد.
لذلك خُذْ من الدنيا ما شئْت وخُذ بِقَدَرِها همّاً، ومَن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه، أخذ من حتْفه وهو لا يشعر.
الحكمة أعظم أنواع الرزق:
أيها الإخوة، ليس كلّ رزق مادِّياً، فأحيانًا تعد الحِكمة أعظم أنواع الرزق، والدليل قوله تعالى:
﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ
ومن يؤتى الحكمة، فإذا آتاك الله تعالى الحكمة فعرفت الله سبحانه فقد أُوتيتَ خيراً لا يعلمه إلا الله، ماذا أعطى الله الأنبياء الذين أحبوه؟ هل في الكون كلّه مخلوقات أحبّ إلى الله تعالى من أنبيائِه ورسُله؟ هل جعلهم أغنياء جميعاً؟ كان عليه الصلاة والسلام إذا دخَل بيته يقول:
((
الرزق القليل أحياناً يكون دافعاً إلى الله عز وجل:
سيّد الخلق، وحبيب الحق، وكان إذا أراد أن يصلّي الليل تنحِّي السيدة عائشة رضي الله عنها بعض جسمها ليصلّي، لأنّ غرفته لا تتسع لصلاته ونومها، أربعمئة متر، ثلاث جبهات مفتوحة، كاشف الشام كله، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما كان هكذا بيته، بيته متواضع، ورزقه محدود، وامتحنه الله بالفقر فصبر، وامتحنه بالغنى فشَكر، وامتحنه بالنّصر فتواضع، لما دخل مكة فاتحاً، كادت ذؤابة عمامته تلامس عنق بعيره، ولما امتحنه بالقهر في الطائف، قال:
((
اِسْعَ أيها الأخ الكريم سَعْياً حثيثاً، وحيثما انتهى بك السَّعي، فقل الحمد لله رب العالمين، أنا لا أرضى لأحدكم أن يقعد، ويقول: هكذا أراد الله لي، هذا تواكُل، ولا يتَّفق مع الإيمان إطلاقاً ولكن إذا سَعَيت سعياً حثيثاً، وانتهى بك السَّعي إلى هذا الرّزق فقُل: الحمد لله رب العالمين، هذا الذي أراد الله لي، وربما أعطاك فَمَنَعَك، وربَّما منعَكَ فأعطاك، وقد يكون الرّزق القليل أحياناً دافِعاً إلى الله عز وجل.
أحد أكبر أسباب السعادة أن يرضى الإنسان بما قسمه الله له:
أيها الإخوة الكرام، حقيقة أقولها لكم؛ الدنيا العريضة، والأموال الطائلة، والبيوت الفاخرة، والمركبات الفارهة، والرزق الوفير، والتّمتع بِمباهج الدنيا في البلاد الغنية، جعلت بينهم وبين الله تعالى حِجاباً، والفقر أحياناً، والحاجة أحياناً، والشدّة أحياناً دافِعٌ لنا إلى باب الله تعالى، فربما أعطاك فَمَنَعَك، بالتعبير العامي (خذها وانمحق)، وربَّما منعَكَ فأعطاك، أعطاك العلم الغزير، وأعطاك الحِكمة، وأعطاك معرفته، وأعطاك سُبل الجنَّة، وأعطاك سعادة الدنيا والآخرة، لذا قُل: يا رب لك الحمد، لا تعترض على رزق الله عز وجل، فأحد أكبر أسباب السَّعادة أن ترضى بِما قسَمَهُ الله لك، الله قسَمَ لك هذا الدخل، الحمد لله، قسم لك هذه الزوجة التي فيها ألف علة، الله قسَم لك إياها، ارضَ بها، دارِها تعش بها، قسم لك هذا البيت، أخي صغير، لا بأس، مأوى، معك مفتاح بيت، كان عليه الصلاة والسلام يقول إذا دخل بيته:
(( الحمدُ للهِ الذي أَطْعَمَنا وسَقَانا وكَفَانا
معك مفتاح بيت.
الغنى الحقيقي أن يكون الإنسان معافى في جسده:
والغِنى الحقيقي أن تكون مُعافىً في جسدك، كلية واقفة، ثمانمئة ألف، دسام خمسمئة ألف، فأنت إن أردْت أن تحْسب ثمن أجهزتك السليمة، مئة مليون حقها، مصاب بفشَل كلَوِي يحتاج إلى غسيل كلية كل أسبوعين، يقف بالدور ثمان ساعات، الجلسة ست ساعات، يقول لك: تعب جسدي، لم أعد أحتمل، يبقى بالمئة عشرون من حمض البول، يجعلك إنساناً عصبياً، لا تحتمل أحداً، شيء غير معقول، الذي كليته سليمة، وقلبه سليم، والدسامات سليمة، والشريان التاجي مفتوح، يستطيع المشي، ينام، يقف، يقدر أن يفرغ مثانته من دون مشكلة، هذا غنى كبير:
(( مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ آمِنًا فِي سِرْبِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا. ))
هذا كلام النبي، كلام رسول الله، الذي لا ينطق عن الهوى:
(( إذا استيقظ أحدُكم فلْيَقُلْ:
أيْ أنَّ الله سمح لي أن أعيشَ يوماً جديداً، ويقول:
موضوع الرزق من أكبر الموضوعات بعد وجود الإنسان:
إخواننا الكرام، موضوع الرّزق من أكبر الموضوعات بعد وجود الإنسان، لذلك أن تعرف أسبابه، وأن تعرف حكمته، وأن تعرف أسباب زيادته وأسباب نقصانه، وكيف تنفقه، هذا جزء من الإيمان، وآية اليوم قوله تعالى:
﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ(23)﴾
والحمد لله رب العالمين.