- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (051)سورة الذاريات
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
أيها الإخوة المؤمنون، مع الدرس الثاني من سورة الذاريات، ومع قوله تعالى في الآية الخامسة عشرة:
﴿ إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٍ وَعُيُونٍ(15)﴾
التوازن في القرآن الكريم:
قلتُ لكم في درس سابق هذا الكتاب هو كتاب الله عز وجل، كِتاب هِدايةٍ ورشاد، لذلك فيه توازن، ليس القصْد أن يُقسَّم تقسيماً موضوعياً لكنّ القصْد أن يكون هناك توجيه لهذه النفس إلى الله عز وجل، فحينما تأتي مشاهد مِن عذاب أهل الكُفْر تأتي مشاهد من نعيم أهل الإيمان، فبعد أن ورَدَ في هذه السورة عن هؤلاء الذين ينحرفون
﴿ قُتِلَ ٱلۡخَرَّٰصُونَ(10) ٱلَّذِينَ هُمۡ فِي غَمۡرَةٍ سَاهُونَ(11) يَسۡـَٔلُونَ أَيَّانَ يَوۡمُ ٱلدِّينِ(12) يَوۡمَ هُمۡ عَلَى ٱلنَّارِ يُفۡتَنُونَ(13) ذُوقُواْ فِتۡنَتَكُمۡ هَٰذَا ٱلَّذِي كُنتُم بِهِۦ تَسۡتَعۡجِلُونَ(14) إِنَّ ٱلۡمُتَّقِينَ فِي جَنَّٰتٍ وَعُيُونٍ(15)﴾
من هم المُتَّقون؟ الذين أطاعوا الله عز وجل، يعني إنسان فيه شَهوات، وعنده منهج، وله طَبع، وهناك تكليف، وفي الأعمّ الأغلب التكليف يُخالف الطَّبع، الطَّبع أن تنام والتَّكليف أن تصلي، والطَّبع أن تأخذ، والتكليف أن تُعطي، والطبع أن تنظر، والتكليف أن تغضّ البصر، فهذا الذي قرأ القرآن وعرف منهج الله عز وجل، وضَبَط شَهواته، وضَبَط جوارحه، ضبط كسبه للمال، ضبط إنفاقه للمال وفق منهج الله، وطلب العلم، وعرف الحُكم الشَّرعي، وصاحبَ أهل الإيمان، وابْتَعَد عن أهل الفُسق والفُجور، وجعل دَخْلهُ حلالاً، جعل إنفاقه وفق منهج الله، هذا الذي صاحب المؤمنين، دعا إلى الله، وعمل صالحًا، أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، هذا الذي اتَّقى الله عز وجل، اتَّقى أن يُغْضِبَهُ، اتَّقى أن يُسْخِطَهُ، واتَّقى أن يعصيه، اتَّقى عذابه في الدنيا، واتَّقى عذابه في الآخرة، هؤلاء المتَّقون في جنَّات وعيون.
خطأ الإنسان الكبير أن ينظر إلى أهل الدنيا فقط:
من الخطأ الفادِح أن تنظر إلى الدنيا على حِدَة، فإن نَظَرتَ إليها على حِدة، تجد الكافر أحياناً غنياً جداً، وقويّاً ولا يعْبأ بِكُلّ هذه القِيَم التي تدَّعيها، ولا بهذه القيود التي قيَّدْت نفْسَكَ بها، فإذا نظَرْت للدنيا فقط تقَع في حَيْرة، ولكن إذا ضَمَمْت الآخرة إلى الدنيا لا تقع في حَيرة، يعني مثلاً إنسان يُهَرِّب مادّة مُخَدِّرة، تقول: يا أخي على الكيلو خَمسمئة ألف! لكن اُنْظر لمَّا يقع بِيَد العدالة، ويُحْكَم بالسِّجن المؤبد، فإذا جمعت هذا مع ذاك وجَدْت أنَّه غبيّ، أما إذا نظرت فقط للخمسمئة ألف يصير أذكى منك، كل تعبك، وشغل سنة عندك لا يعادل شغل ساعة عنده، فَمِن الخطأ الفادِح أن تنظر إلى أهل الدنيا في الدنيا فقط، فهذا خطأ كبير، فالله عز وجل قال:
﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ(196)﴾
العاقل من يجمع الآخرة مع الدنيا:
قد تُعْجِبُكَ أجسامهم، قد تُعْجِبُكَ أموالهم، وقد تُعْجِبك بيوتهم، ومركباتهم، وأماكن اصْطِيافهم:
﴿
في أيِّ دِراسَةٍ، وفي أيِّ موازنة، وفي أيّ بحث، وفي أيّ تَمْحيص، اِجْمَع الآخرة مع الدنيا، ترى الكافر كُتلة غباء؛ لأنَّه ضيَّع الآخرة الأبدِيَّة بِسَنواتٍ معدودة، وترى المؤمن المُقيَّد والخائف والمُستقيم، هذه حرام، هذه لا ترضي الله، هذه فيها شبهة، دائماً خائف، دائماً قلق، دائماً يتقصد طاعة الله عز وجل، ترى هذا المؤمن الذي يبدو لك أنه محروم، ليس محروماً أبداً، هو يبْحث عن رحمة الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى يقول:
﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍۢ دَرَجَٰتٍۢ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ
خالق الكون:
(( أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصَّالِحِينَ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ علَى قَلْبِ بَشَرٍ. ))
فيا أيُّها الإخوة الكرام، إذا أردْتَ أن تنظر إلى أهل الدنيا ينبغي أن تُضيف الآخرة إلى الدنيا، إذا أضفت الآخرة قال تعالى:
العبرة بالخواتيم:
لكنَّ الله تعالى قال:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ(10)﴾
وقال تعالى:
﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ(13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ(14)﴾
فلو أن شَخصاً ركب أفْخر مركبة، ولكن يُؤخَذ لِيُشْنَق وآخر يمشي على قَدَمين، ويتَّجه نحو تملّك قصْر كبير، فإذا التقيا في الطريق فهنيئًا لِمَن؟ العِبرة بالخواتم، العبرة بالعاقبة، بالمصير، لذا قال تعالى:
المؤمن يسعى دائماً لمرضاة ربه:
هذا الذي قال لك: إنّ هذا حرام لا أفْعَلُه وهذا لا أفعلهُ لِشُبهة فيه، وهذا لا يرضي الله عز وجل، وهذا الذي يضَعُ المال تحت قَدَمِهِ، إذا كان فيه شبهة، وهذا الذي يسعى لمرضاة الله تعالى ولو تجشَّم المتاعب،
﴿ أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61)﴾
الإنسان المستقيم مصيره يختلف تماماً عن الإنسان المتفلت:
أَيُعْقَل أن يكون هذا المُطيع المستقيم الخائف الذي يتقصَّى أمر الله عز وجل، ويسْعى إلى تطبيقه أن يكون مصير هذا الإنسان كَمَصير المتفلِّت؟ إذاً لا معنى للدين إطلاقاً عندئذ، قال تعالى:
﴿
قال تعالى:
﴿ أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ(18)﴾
قال تعالى:
﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ(35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُون(36)﴾
الأحمق من انصرف عن الآخرة إلى الدنيا:
قال تعالى:
﴿ قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ(112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ(113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ(114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)﴾
ترك الإنسان سدى يتناقض مع كمال الله عز وجل:
قال تعالى:
﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى(36)﴾
أن تأخذ المال الذي تُريد، وأن تلتقي مع من تريد، وأن تستعلي، وأن تسْتكبر، وأن تَقْهر الناس وتنتهي الحياة هكذا بِبَساطة؟ ولا شيء بعد الموت! هذا شيءٌ يتناقض مع كمال الله عز وجل، ويتناقض مع فلْسفة الوُجود، قال تعالى:
﴿
استقامة الإنسان تتعلق بأن كل شيء يفعله سوف يحاسب عليه:
﴿ إِنَّ ٱلسَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا
لو ابْتَسَمْت ابْتِسامةً في غَير موضِعِها، فيها سخرية، مُسجَّلة، وسوف تحاسب عليها:
﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)﴾
فإذا الإنسان أيْقَنَ من هذه الآية، أيها الإخوة، إذا أيقن أن كل شيء يفعله سوف يُحاسَب عليه، مهما بدا لك صغيراً، مهما بدا لك تافهاً، عندئِذٍ يستقيم الإنسان.
النَّظر إلى وجه الله الكريم من أعظم الإكرام يوم القيامة:
ثمّ يقول تعالى:
﴿
هم في طَوْر الإكرام، مضَى طَوْرُ العمل، ومضَتْ حياة التكليف، والآن حياة التَّشريف، ومضَتْ حياة الكَدح والجُهْد، والسعي، ومكابدة المشاق وحمْل النَّفس على غير ما تريد ابتِغاء مرْضاة الله، هذه الحياة انتهت، بقيت حياة التَّكريم، فالإنسان قد يقول لك درسْتُ ثلاثة وثلاثين سنة، انتهتْ الدِّراسة نال الدكتوراه، وعُيِّن في منْصِب رفيع، وهو الآن طَوْر التَّكريم، المكتب الفخْم والأوامر، والموظفين، والسيارات، والبيوت الفخمة، مثلاً كل هذا التَّعب، الآن جاء دور الإكرام، قال تعالى:
الخلق عند الله سواسِيَة يوم القيامة:
(( لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أَعجَميٍّ، ولا لِعَجَميٍّ على عَرَبيٍّ، ولا لِأَحمَرَ على أَسوَدَ، ولا أَسوَدَ على أحمر إلَّا بالتَّقْوى. ))
(( سَلمان مِنَّا آل البيت. ))
﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1)﴾
عدم وجود أي فضل لشخص على آخر إلا بالطاعة:
هذا الدِّين، الدِّين كما قال تعالى:
﴿ يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَٰكُم مِّن ذَكَرٍۢ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَٰكُمْ شُعُوبًا وَقَبَآئِلَ لِتَعَارَفُوٓاْ ۚ
والدِّين لا امْتِياز لِشَخص على إنسان إلا بالطاعة، وكلّ التَّقْييمات التي أحْدثها الإنسان عند الله باطلة، لا الغنيّ يرْفَعُهُ عند الله غِناه، ولا الفقير يخْفضه فقْرُهُ، ولا الصحيح ترفعُهُ صِحَّتُهُ، ولا السَّقيم يخفضهُ مرضُهُ، صحيح سقيم، غني فقير، وسيم دميم، كبير صغير؛ من أسرة ذات نسب، من أسرة غير منسوبة، هذه القِيَم التي أحدثها الإنسان في تقييم بني البشر لا أساس لها عند الله أبداً، قال تعالى:
أعظم قيمة للإنسان عند ربه تكون بالعلم و العمل:
أحدهم في غفلة سريعة:
(( رأيت أبا ذر رضي الله عنه وعليه حلة وعلى غلامه مثلها، فسألته عن ذلك،
عظمة هذا الدِّين أنّ الخلق كلّهم سواسِيَة كأسنان المشط،
(( رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ. ))
يُمكن أن يكون الحاجب عند المدير العام، ويكون الحاجب أقرب إلى الله من المدير العام، ممكن، ممكن أن يكون أقرب إلى الجنة باستقامته وخوفه من الله عز وجل، فهذا المبدأ يُعطي الإنسان دَفْعًا قَوِيًّاً، كُنْ ابن من شِئْت، ومن أيّ منطقة ولدت، ومن أيّ أب، من أي أمّ، ومن أيّ أسرة، ومن أي قبيلة، من أي عشيرة، ومن أيّ بلد، من أي إقليم، ومن أيّ عصر، من أي مصْر، بأي شكل، يروي كُتَّاب التاريخ أنَّ أحَدَ التابعين كان قصِير القامَة، أسْمر اللَّوْن، أحْنفَ الرِّجل، مائِلَ الذّقن، ناتئ الوَجْنتَيْن، غائِرَ العَيْنَيْن، وليس شيءٌ من قُبْح المَنظر إلا وهو آخِذٌ منه بنصيب، وكان مع ذلك سيّد قومِهِ، إن غَضِبَ غضِبَ لِغَضْبَتِهِ مئة ألف سيْف لا يسألونه فيما غضِب، وكان إذا عَلِمَ أنَّ الماء يُفْسِدُ مروءَتَهُ ما شَرِبَهُ، بأيّ شَكل، وسيم جداً، أقل وسامة، أقل وسامة بكثير، دميم، بأي شكل، الصحابة الكرام، أنواع منوعة، في أجسامهم، أحد الصحابة كان يقف فالرياح كشفت عن ساقه، ساقه دقيقة جداً، فضَحك بعض الصحابة من دقة ساقه، فقال عليه الصلاة والسلام:
(( عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم :مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه،
فكلها عنعنات جاهلية، أنا أبو فلان، أبو لهب عم النبي، لا أسرة، ولا أم، ولا أب، ولد في المكان الفلاني، في الجهة الفلانية، بالعصر الفلاني، فأيّ قيمة وضَعها الناس عند الله تعالى باطلة إلا قيمتي العِلم والعمل لقوله تعالى:
﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ
على الإنسان ألا يفتخر بشيء لم يرد في القرآن الكريم:
القيمة الثانية، قوله تعالى:
﴿
فهذه نصيحةٌ عميقة؛ إذا أردْتَ أن ترقى عند الله جميعُ القِيَم الأرضية ضَعها تحت قَدَمِك، وابْحَث عن قيمتي العِلم والعمل، وانتهى الأمر، قال:
(( كُن ابن مَن شئْتَ واكتَسِبْ أدباً يُغْنِيك مَحْمودُهُ عن النَّسَبِ ))
لا تفْتَخِر بِشَيء لم يرِد في القرآن الكريم، إذا قلتَ: أنا أقرأ القرآن فهذا جيّد، وأحفظُهُ هذا أجوَد، وأفهمهُ وأُطبِّقُهُ وأُعلِّمُهُ جيد،
(( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَهُ. ))
أما إن قلتَ أنا أملِكُ من المال كذا وكذا، قال تعالى:
﴿
الافتخار ليس من خلق المؤمن:
أعطاهُ المال الوفير الذي تَعْجزُ عن حَمْل مفاتحِهِ سبعة رِجال أشِدَّاء أقوياء، ومع ذلك هو لا يحبه، أنا أحتل العمل الفلاني، عمل حساس، من خلاله معي قدرة على التحكم بمصير الآخرين، فالله أعطى الملك لِفرعون وهو لا يحبّه وأعطاه لِسُليمان وهو يحبّه، ليس له علاقة، أعطاه لِمَن يحبّ ولِمَن لا يحب، إذاً ليس مقياساً، لا تفتخر بمقياس غير صحيح، افتخر بالعلم والعمل إن أردت أن تفتخر، والافتخار ليس من خلق المؤمن، لذلك قال تعالى:
إتقان عمل الإنسان جزء من دينه:
النبي عليه الصلاة والسلام أثناء دفن أحد الصحابة بعد أن حفر القبر ترك فرْجةً فقال عليه الصلاة والسلام:
(( إنَّ اللهَ يحبُّ إذا عَمِلَ أحدُكم عمَلاً أن يُتْقِنَهُ. ))
إتْقانُ العمل جزءٌ أساسي من الدِّين، إتقان العمل يورِثُكَ العِزَّة، قال تعالى:
﴿
تستمِدُّ عِزَّتَكَ ومكانَتَك مِن إتْقان عَمَلِك، وكلّ واحد من إخواننا الكرام، بِأيّ حِرْفة إذا أتقنها له شأن، تَجِدُهُ مُحْترَم ومُبجَّل وعزيز، أما إذا أهْمَل وأساء يأتيه اللَّوْم مِن كُلّ جانب، ثمَّ يُسْحَبُ اللَّوْم إلى دينه، ثمَّ إلى مُقدَّساته،
فالناس يُعجَبون دائماً بالعمل المتقَن، فالطبيب المسلم ينبغي أن يكون أعلى طبيب، والمُحامي المسلم أعلى مُحامي، محامي ذو مبدأ لا يأخذ القضايا الباطلة، والمهندس كذلك، والتاجِر والصانِع، فكلّ إنسان له حِرْفة ينبغي أن يكون في قِمَّتها ليتناسب مع دينه، لأنَّ إتقان العمل جزء من الدِّين.
على الإنسان أن يكون محسناً في كل شيء:
إذاً:
(( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ.))
في شأنك كُلِّه ينبغي أن تكون مُحسِناً، أحياناً الإنسان في حرفته يخطئ مع السرعة يُسيء، يأتيه اللَّوْم من كلّ جانب، إنهم كانوا قبل ذلك محسنين، ثمّ الإحسان تعرِفُهُ بالفِطرة، إذا كنت تاجراً، وقد ورد بالأثر:
(( إنَّ أَطْيَبَ الكَسْبِ كَسْبُ التجارِ: الذين إذا حَدَّثوا لم يَكْذِبوا، وإذا ائْتُمِنوا لم يَخُونُوا، وإذاوَعَدُوا لم يُخْلِفوا، وإذا اشْتَرَوْا لم يَذُمُّوا، وإذا باعُوا لم يُطْرُوا، وإذا كان عليهم لم يَمْطُلُوا، وإذا كان لهم لم يُعَسِّرُوا. ))
أحسن في التجارة، أحسن في الصناعة، ضع المواد الجيدة.
المحسن يتلقى من ربه سكينة و طمأنينة على إحسانه:
أخٌ كريم لا أنسى كلمته، يعمل في صِناعة غِذائِيَّة قال لي: هؤلاء أطفال المسلمين، أشتري لهم المواد الأوليَّة مِن أعلى مُستوى، يدفع ثمن هذه القطعة من الحلوى مبلغاً أخذه من أبيه، وقد تعب هذا الأب حتى جنى هذا المبلغ من المال، أعطى لابنه هذا المبلغ الصغير، ليشتري به حلوى، ينبغي أن نضع له في الحلوى أعلى المواد المغذية النافعة، غير المسرطنة، غير الكيميائية، إذا الإنسان أحسن فيما بينه وبين الله، الله عز وجل يدافع عنه فيما بينه وبين الناس.
ميزة المؤمن أنه لا يتعامل مع الخلق، يتعامل مع الحق، فإذا رَضِيَ الله عنه حُلَّتْ كلّ مُشْكِلاته، ولمَّا الإنسان يقْصِد أن يُرْضي مَخلوقاً ويَعْصي خالقه يسْخَطُ الله عنه، ويُسْخِطُ عنه الناس، أما إذا أردْت أن ترضي الله عز وجل، رضِيَ الله عنك، وأرْضى الناس عنك، وكلمة مُحْسِن أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الكلمة في قلوبنا؛ لأنَّ:
﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ
المحسن يتلقى رحمات الله، سكينة وطمأنينة وثقة بالنفس، التفاؤل، معنويات عالية، وتوفيق بعمله، وتوفيق بِبَيْتِهِ وزواجِه وبأولاده، محسن، فلذلك الإنسان عليه أن يُحْسِن وعلى الله الباقي.
العمل الصالح ثمن الجنة:
أُخاطِب الآن أصحاب الحِرَف جميعاً، وأصحاب الوظائف جميعاً، وأصحاب الأعمال جميعاً ضَعْ إتْقان العمل أمامك، والمادّة وراء ظهْرك، تأتيك المادَّة وزيادة، أما إذا وَضَعتَ المادّة أمامك، والإتقان خلفك، تفقد سمعتك، وتفقد المال معاً، في أي حرفة، ضع الإتقان أولاً، خِدمة المسلمين أوَّلاً، وقد كان السَّلف الصالح إذا فتَحَ الواحِد منهم باب محله التجاري يقول: نَوَيْتُ خِدمة المسلمين.
ويا إخواننا الكرام، كلّ واحِدٍ مِنَّا يُمكن أن ينقلب عملَهُ ببساطة إلى عِبادة وأنت في مَتْجَرِكَ، وأنت في معْمَلِكَ، وأنت في مكتبك، وأنت في حِرْفَتِك، فيكفي أنَّك عرفْت الله، وعرفْت أنَّك في الدنيا من أجل العمل الصالح، وعرفت أن العمل الصالح ثمن الجنة، وعرفت أنّ كلّ هؤلاء الناس عباد الله وعِياله، فإذا أحْسنت إليهم تقرَّبت إلى الله عز وجل، وحينها يختلف الوضع اختلافاً كلياً، تنطلق الآن لا من كسب مادي، ولا من تجميع للثروة، ولا من تيهٍ وفخر على من حولك، لا، تنطلق من إرْضاء الله عز وجل.
أي عمل يبتغي به الإنسان وجه ربه ينقلب إلى عبادة:
قال العلماء: أيّ عمل إذا كان في الأصل مَشْروعاً، وسلكت به الطرق المشروعة، وابْتَغَيْتَ به كِفاية نفْسك، وأهلك، وخِدمة المسلمين، ولم يشْغَلْك عن فرْضٍ، و لا عن واجِبٍ، ولا عن طلب عِلمٍ، انْقلبَ هذا العمل إلى عِبادة، وأنت في متجرك تعبد الله، وأنت في قاعة التدريس تعبد الله، وأنت في مكتبك تعبد الله، وأنت في معملك تعبد الله، فالدِّين يتَغَلْغَل في كلّ كيان الإنسان، وفي كلّ مناحي الحياة، وفي كل الأوقات، وفي كل المناحي مكاناً، وفي كل الأوقات زماناً، وفي كل كيان الإنسان عمقاً، في الزمان والمكان والعمق، يعني إذا كنت في نُّزْهة فأنت في عبادة؛ الهدف أن تدخل على أهلك السُّرور، وإذا اشْتَريْت ثِياباً لِتَرتديها فأنت في عِبادة، إنك تهدف أن تظهر أمام الناس وأنت محسوب على المسلمين بمظهر لائق، فالله تعالى قال:
من صفات إتقان العمل الصدق و الأمانة و إنجاز الوعد:
أصحاب الحِرف أحياناً يسيؤون إساءة بالغة، والله الذي لا إله إلا هو الحياديون لا مع المؤمنين ولا مع غير المؤمنين، هؤلاء إذا جاء إنسان له مظهر ديني، وعمل عندهم في البيت عملاً وأساء، هؤلاء الحياديون يبتعدون عن الدين مسافات بعيدة جداً، فهذه الإساءة التي ظهرت من إنسان له مظهر ديني، فالقضيَّة خطيرة جدًّاً، أنت حينما تسيء ومعروف عند الناس أنك مؤمن وصاحب دين وتصلي ولك مظهر ديني، فإذا أسأت جررت إلى دينك النفور، سحبت إلى الدين كل الإساءة، وأنت على ثغرة من ثغر الإسلام فلا يُؤْتيَنَّ مِن قِبَلِك، أعْطِ وعْداً دقيقاً، واذْكُر المواصفات الصحيحة، وضِّح السِّعر والشُّروط، ولا تدعْ الأمر في جهَالة لأنّ الجهالة تُفضي إلى المنازعة.
(( إنَّ هذا الدِّينَ ارتضَيتُه لنَفسي ولَن يَصلُحَ لَه إلَّا السَّخاءُ وحُسنُ الخُلُقِ، فأكرِموهُ بِهِما ما صحِبتُموهُ. ))
فأقلّ مظْهر من مظاهر الدِّين أن تُصلِّي في المسْجِد، وأكبر مظْهر أن تُتْقِنَ عملك وأن تكون صادِقاً، وأن تكون أميناً، وأن تكون وفِيًّاً بالوعد، أن تُنْجِز العهد، وأن تكون متواضعاً، المظهر الصارخ للدِّين هذا، لأنّ سيّدنا جعفر لما أجاب النَّجاشي عن حقيقة الدِّين ما قال له كنا نصلي ونصوم، قال:
(( كنَّا قَومًا أهلَ جاهليَّةٍ؛ نَعبُدُ الأصنامَ، ونَأكُلُ المَيْتةَ، ونَأتي الفَواحشَ، ونَقطَعُ الأرحامَ، ونُسيءُ الجِوارَ، ويَأكُلُ القَويُّ منَّا الضَّعيفَ، فكنَّا على ذلك حتى بعَثَ اللهُ إلينا رسولًا منَّا، نَعرِفُ نَسَبَه وصِدقَه وأمانتَه وعَفافَه، فدَعانا إلى اللهِ لنُوَحِّدَه ونَعبُدَه، ونَخلَعَ ما كنَّا نَعبُدُ وآباؤنا مِن دونِه مِن الحِجارةِ والأوْثانِ، وأمَرَنا بصِدقِ الحَديثِ، وأداءِ الأمانة، وصِلةِ الرَّحمِ، وحُسنِ الجِوارِ، والكَفِّ عن المَحارِمِ والدِّماءِ. ))
المؤمن لا يُسَخِّر القِيَم ولا يسْخَر منها:
لذلك لما تقلَّص الدِّين وانْكَمشَ، حتى أصْبَحَ رُكَيْعاتٍ تؤدَّى جوفاء، وطقوساً تُمارَس من دون معنى انتهى الدين، والآن لا بدّ لهذا الدِّين أن يُجدَّد:
(( بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ. ))
كيف يُجَدَّد؟ بالعمل، حدَّثني أخٌ مِن إخواننا الكِرام أنَّه وقف موقفًا أخلاقيًّاً وفيه مؤاثرة، الذي يرْأسُهُ في العمل علِمَ هذه المؤاثرة، وهذا الموقف الأخلاقي، قال لي: والله ما دَعَوتُهُ إلى المسجد أبداً إلا أنَّه في الدرس القادم وجَدْتُهُ بين الإخوة المصلين، ما قلت له ولا كلمة تعال إلى المسجد، رأى موقفاً أخلاقياً، موقفاً يلفت النظر، لم يفعله أحد ممن حوله، بدافع دينه فعله، فرأى هذا الإنسان بين صفوف المصلين في الدرس القادم، هكذا يمكن أن تدعو إلى الله وأنت ساكت، ولا كلمة، استقامة، صدق، رجل يبيع مواداً غذائية وله درس في مسجد، قال له: هل عندك بيض؟ فقال: نعم، فقال الزبون: هل هو طازج؟ فقال الأخ: له أربعة أيام، ولكن جاري قد أحضر الآن البيض، هذا أبلغ من آلاف المحاضرات، الكلمة الصادقة أبلغ من ألف محاضرة في الدين، ونحن نريد مسلمين من هذا الطِّراز، صادق لا يكذب، وأمين لا يخون، لا يحيف، لا يمشي مخاتلة، ولا يَحتال، وله وجْه واحِد، سره كعلانيته، وسريرتُهُ كظاهره، وجلْوتُهُ كَخَلْوَتِهِ، ولا تأخذه في الله لومة لائم، والدنيا كلَّها تحت قَدَمِهِ، إذا جرته إلى معصية، هذا المؤمن، لا يُسَخِّر القِيَم ولا يسْخَر منها، هناك من يسخر من القيم، هناك من يسخّرها لمآربه، يركب القيمة، يدَّعي أنَّه صالح وأنه يسعى للخير، فهو يطوف على الناس من أجل أن تعمّر الأرض مسجداً وأخذ أقلّ سِعر، فصاحب الأرض باعهُ إيَّاها بِثَمن رمزي، فلمَّا تملَّكها أنشأ بيتاً وسكنَهُ، فهناك مَن يسَخِّر القِيَم، وهناك من يسْخر منها.
الكلمة الصادقة سلاح المؤمن:
أيها الإخوة، الآن فيما أرى أنّ المُمَارسات التي تُناقض الأقوال سبَّبَتْ في أن يكْفر الناس بالكلمة، فالكلمة لم تعُد لها قيمة، لأنّ هناك من يقول كلاماً مَعْسولاً، وله فِعلٌ كالصّبر، وهذا التناقض بين الأقوال والأفعال، سبّب للناس جهلهم بالكلمة، وإذا أردنا إحياء هذه الثقة بالكلمة لاحْتجنا إلى العمل الذي يُؤكِّد القَول، لذلك نحن لا نريد إنساناً عباداته صارخة، أحيانا تجد المسجد مليء، نريد إنساناً أعماله صارخة، نزاهته صارخة، واستقامته صارخة، والتِزامه صارخ، وبيته إسلامي، وعمله إسلامي، ودَخْلُهُ إسلامي، وإنفاقهُ مضبوط، ولا يكذب، هذا الشَّخص يُعيد الثِّقة ِبقُدْسيَّة الكلمة، فالأنبياء بماذا جاؤوا؟ جاؤوا بالكلمة وهذا الإسلام الذي عمّ الخافقَين، بماذا جاء النبي عليه الصلاة والسلام؟ جاء بالتكنولوجيا؟ لا، لم يأتِ بشيء لا جاء بطائرة، ولا جاء بغواصة، ولا ببارجة، ولا بأجهزة اتصال، ولا بكمبيوتر، ولكن جاء بالكلمة الصادقة، الكلمة الصادقة سلاح الأنبياء.
فإذا عاملْت المؤمن يجب أن تعتقد أنَّ موتهُ أهْوَنُ عليه من أن لا يَفِيَ بِعَهده، طبعاً
هداية الناس أعظم عمل على الإطلاق:
أعظم عمل على الإطلاق -دققوا في هذا الكلام- هناك تجارات رابحة، ومعامل إنتاجها غزير جداً، وبضاعة مباعة لسنتين قادمتين، فهناك شركات متعددة الجنسيات، هذه شركة كمبيوتر لبيع الأجهزة، اشْترت شركة ثانية، والثانية حجمها بالنسبة للأولى كالذبابة إلى الفيل، وثمن الذبابة ثلاثمئة ألف مليون دولار، فكم هو الحجم المالي للشركة الكبيرة ؟ فقد يكون لك شركات رابحة جداً، وأعمال كبيرة جداً، ودَخل فلكي، وإنفاق فلكي ومكانة عليَّة، ولكنّ أعظم عمل على الإطلاق فيما ذكرهُ الصادق المصدوق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي رضي الله عنه:
(( فواللهِ لأنْ يهْدي اللهُ بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من أنْ يكونَ لك حُمرِ النعمِ. ))
بعض البلاد الصِّناعيَّة كاليابان عندها مئة مليار دولار كل سنة فائض هي في حَيرةٍ كيف تُنفقُهُ، ليس له مكان للاستثمار، مئة مليار كل سنة، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، بكلمة طيِّبة، بمعاملة طيبة، بصبر، بتأنٍّ، بلقاء، اثنين، ثلاثة، يعني الإنسان إذا عرف يتكلم، يتكلم، إذا لم يعرف، يعطي شريطاً، إذا لم يعرف لا هذه ولا هذه يكون محسناً،
(( إنكم لا تسعون الناس بأموالكم وَلْيَسَعُهُمْ منكم بَسْطُ الوجه وحسن الخلق. ))
(( لأن يَهْديَ اللَّهُ علَى يدَيكَ رجلًا ، خيرٌ لكَ ممَّا طلَعت علَيهِ الشَّمسُ وغرَبَت. ))
الرواية الأولى
الرواية الثانية،
مقام الإنسان عند ربه متعلق بعمله:
الإنسان بعمله، وجد شخصاً عنده أخلاقا عالية، يوجد حياء، يوجد أدب، عنده قِيَم، يجب أن يطْمَعَ في هِدايته، أن يطمع في ضمه إلى مجموع المؤمنين، بالكلمة الطيبة، بالخِدمة الصادقة، والمنطق القوي، بالحجة الدامغة، بالمعاملة الطيبة، بالنزاهة، أنت بِإمكانك أن تجلب الناس، وأن تحملهم على طاعة الله تعالى، وإذا سخَّرك الله لأُناسٍ طيِّبين فهذه من أعظم النِّعم، أن يستخدمك الله في الحق، وكلما ألتقي بأخ كريم له عمل طيب، أطمئنه بهذه الكلمة،
المؤمن الحق من يسعى لخدمة الخلق و الدعوة إلى الله:
لذلك أيها الإخوة، لا يوجد إنسان في قلبه ذرّة إيمان إلا وهذا الإيمان يُعَبِّر عن ذاته بِذاته، بحركة نحو خدمة الخلق، لا تصدقْ أنّ المؤمن سلبي، يقول أنا لا علاقة لي، المؤمن في قلبه غَيرة، في قلبه حبّ للآخرين، في قلبه غيرة على دينهم، وعلى آخرتهم، وعلى سعادتهم، فكل إنسان في قلبه إيمان، الإيمان يعبر عن ذاته بخدمة الخلق، يعبر عن ذاته بالدعوة إلى الله، يعبر عن ذاته بالأمر بالمعروف، ويعبر عن ذاته بالنهي عن المنكر، لا أمر بالمعروف، ولا نهي عن المنكر، ولا إنفاق المال، ولا إعمار مسجد، ولا إعمار ميتم، ولا خدمة، ولا صدقة، ولا شيء، وكان همّه فقط بيْتُهُ، وترتيب بيته، ونزهاته، وانْغِماسه في الملذَّات، وعلى الدنيا السلام، فهذا الإنسان إيمانه مهزوز، هذا إذا قلنا فيه إيمان، والأرجح أنه بعيد عن الإيمان. قال تعالى:
على الإنسان أن يقول الحق و أن يعمل له:
فنحن نريد إحساناً، المؤمن عمله متقن، وعدهُ صحيح، ولا يكذب أبداً، المؤمن لا يكذب، قل الحق ولا تأخذك في الله لومة لائم، قال لي أخ: عندي قطعة لسيارة، بقيت عنده خمس، ست سنوات، من جرد لجرد لجرد، وغالية، حقها عشرون أو ثلاثون ألفاً، لشاحنة كبيرة، جاءه زبون، لما قال له أريد هذه القطعة، كأنه عبء جبل أزيح عنه، ذهب لإحضارها، قال له أصلية؟ قال: وأنا على السلم، وقعت في صراع لأنها ليست أصلية، قال له ليست أصلية، قال له: هاتها، بكلمة أصبح البيع حلالاً، وبكلمة أصبح حراماً، فلا تأخذك في الله لومة لائم، فالذي يقول لك: إن لم نكذب لا نعيش، هذه لا آية ولا حديث أساساً، هذا كلام الشيطان، اُصدق تعِشْ، وتربح، والله تعالى يرفعُ شأنكَ، وكلما توهَّمت أنَّ رزقك بالكذب فأنت مع الشيطان لا سمح الله، الرِّزق مع الحق، ومع الصدق.
مطعم كان يبيع خموراً، وأحد الإخوة أقْنعَهُ مراراً حتَّى أقْلع عن بيع الخمر، وإذا قلت لكم أن غلته أصبحت خمسة أضعاف لا أبالغ، عشرة أضعاف لا أبالغ، يوجد محل بشمال سورية، كاتب على المحل، ممنوع شرب الخمر بأمر الرب، والرزق على الله، تأتيه الساعة العاشرة، لا تجد مكاناً عنده، الساعة التاسعة، لا يوجد لحم، الثانية عشر، الواحدة، الثانية، الثالثة، الرابعة، أبداً، دائماً يوجد عنده ناس، صار غير المسلمين يضعون اللوحة نفسها، غير المسلمين، ممنوع شرب الخمر بأمر الرب، والرزق على الله، لكن لا زبائن، لذا عليك أن تتيقَّن أنّ الحق هو الذي ينبغي أن تعمل له، ولا تأخذك في الله لومة لائم.
الإنسان الأحمق من يأكل أموال الناس بالباطل:
الوقفة كانت عند كلمة محسنين:
الذكي و العاقل من يستقيم على أمر الله:
الذي يأخذ ما ليس له، لا بدّ أن يدْفع الثَّمَن باهظاً في الدنيا قبل الآخرة، لذلك الذكي والعاقل هو الذي يستقيم، إذا انطلق الإنسان من حبه لذاته، إذا انطلق الإنسان من إفراطه في حبه لذاته يستقيم، قال تعالى:
﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)﴾
الإحسان يأتي من اتصال الإنسان بالله عز وجل:
كل شيء محسوب، إذاً هذا الإحسان مِن أين جاءهم؟ النفسية العالية، حبّ الخير، والإنصاف، والغيرة، والعِفَّة، العِفَّة والغيرة والإنصاف وإتقان العمل والصِّدق والأمانة، هذه الفضائل النبيلة جداً مِن أين؟ من اتِّصالهم بالله عز وجل، ولأنّ الله تعالى مَنْبَعُ الكمال، وأنت بِقَدر اتِّصالك بالله تكون كاملاً قال تعالى:
﴿ كَانُواْ قَلِيلًا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مَا يَهۡجَعُونَ(17)﴾
علاقة رائعة جداً، بِقَدر ما أنت مُتَّصِل بالله بقَدْر ما أنت كامل، وبقَدر بُعدك يوجد نقص، انقطاع تام، نقص تام.
كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ: آية لها عدة معان:
1 ـ هؤلاء الذين قاموا الليل نومهم عبادة لله عز وجل:
قال تعالى:
﴿ كَانُواْ قَلِيلًا مِّنَ ٱلَّيۡلِ مَا يَهۡجَعُونَ(17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18)﴾
العلماء تساءلوا حول هذه الآية، إذاً: كانوا كثيراً من الليل ما يسجدون، لماذا ذَكَر الله تعالى نومهم، ولم يذكر تهجّدهم؟ أي حسب المنطق البشري، كانوا كثيرا ًمن الليل ما يتهجدون، قال لك:
2 ـ يستغفرون الله على أنهم لم يستطيعوا أن يكونوا في الطموح الذي يُريدونه:
شيء ثان:
الاستغفار و الإنفاق أساس إيمان الإنسان:
أيها الإخوة، مركز الثِّقل في هذه الآيات الإحسان، الإحسان سببه الاتِّصال بالله تعالى، قال تعالى:
﴿ وَفِيٓ أَمۡوَٰلِهِمۡ حَقٌّ لِّلسَّآئِلِ وَٱلۡمَحۡرُومِ(19)﴾
الله عز وجل قال في آية أخرى:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ(133)﴾
إنفاق المال علامة حب الإنسان لربه و سعيه إلى الآخرة:
المتّقون لهم آلاف الصِّفات، ربنا عز وجل بدأ بِصِفة أساسيَّة، قال تعالى:
﴿
وما سُمِّيَت الصَّدَقة صدقةً إلا لأنَّها تؤكِّد صِدْق إيمان صاحبها، لأنّ الحقيقة المال مُحَبَّب، وطبعك يقتضي أن تأخذ المال، أما إنفاقه غير محبب، خلاف الطبع، فعلامة إيمانك بالله، وعلامة حبّك له، وعلامة سعيك للآخرة، هي إنفاق المال:
إنفاق المال في سبيل الله أشرف طريق على الإطلاق:
الإنسان حينما يعلم أنّ الدِّرهم الذي ينفقه في الدنيا يراه كأُحدٍ يوم القيامة يُدهَش، فالمال تنفقه في طرقٍ شتّى إلا أنّ أشرف طريق أن تنفقهُ في سبيل الله تعالى، وإنفاق المال له أهداف لا يعلمها إلا الله، فهناك من يجبره المال، إنسان يتزوّج، لما قدمت لإنسان مبلغاً من المال تزوج به، لما تزوج جبر خاطر فتاة، أهل الفتاة كلهم فرحوا، البنت جاء نصيبها، الذي أعطى المبلغ للشاب، والشاب اتخذ قراراً بالزواج، كم إنساناً فرح؟
مرة دخلت بيتاً، كان الأب مصاباً بمرض، وإنسانة كريمة دفعت قيمة العملية الجراحية، وجدت أولاده يرقصون من الفرح بعد نجاح العملية، فهذه التي دفعت هذا المبلغ من المال في سبيل أن ترضي الله عز وجل، كم من إنسان سعد بهذا المبلغ؟ فلو يعلم الأغنياء أنَّ الأموال التي بأيديهم بإمكانهم أن يصِلوا بها إلى أعلى درجات الجنة.
إنفاق الإنسان للمال له أجر لا يعلمه إلا الله:
إخواننا الكرام: هذه حقيقة أريد أن أقولها لكم، كلّ إنسان بما آتاه الله يمكن أن يتفوّق، فالذي تعلَّم يُعَلِّم، تفوق، هذا ليس معه مال، والآخر معه مال، ولكن ليس لديه لسان العالم، بإنفاق ماله قد يصل إلى المرتبة التي وصل إليها العالم، هذا بماله، وهذا بعلمه، يوجد إنسان قوي بإنصافه، وخدمة الناس، إحقاق الحق، إزهاق الباطل، ونصر المظلوم، يرقى، إنسان قدم المال، والمال شقيق الروح، وإنسان قدَّم عِلماً، إنسان قدم خدمة، وآخر ربَّى ولداً صالحاً ينفع الناس من بعده، لا بد من شيء؛ إذا أتقنت عملك تدخل الجنة، كنتَ أباً كاملاً أو ابناً كاملاً، أو تاجراً نصوحاً، صانعاً متقناً، أو مزارعاً خيّراً، فلا يوجد عمل في الأرض يستعصي على أن تتَّخذِهُ سلَّماً إلى الله عز وجل، وإلى مرضاة الله، فليس الدعاة وحدهم ذهبوا بالخير، كل إنسان ينفق ماله له عند الله أجر لا يعلمه إلا الله، الحياة تعاون.
ممكن الطبيب بِطِبِّه، والمهندس بِهَندسته، والداعية بِدَعوته، والمُحسن بإحسانه، أقرب مثل المسجد من عمَّره كان له أجر، ومن صلى فيه إماماً له أجر، والذي خطب فيه له أجر، ومن درَّس فيه له أجر، فكلهم من عُمَّار المساجد.
كل إنسان يرقى عند الله بما آتاه:
لا تظن أنه يوجد عمل هو العمل الوحيد الجيد، كل إنسان باختصاصه يمكن أن يصل إلى أعلى مرتبة، باختصاصه إذا أتقنه ونوى بِه خدمة المسلمين، فالغني بماله يرقى، والعالم بعلمه يرقى، والقوي بقوته يرقى، والصانع بصنعته يرقى، وكل إنسان يرقى بما آتاه الله، أبلغ كلمة:
﴿ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ
كنت مرّة بِحفل تخريج لمسابقة في حفظ القرآن الكريم، فالذي كان عريف الحفل، شكر الطلاب الذين أقبلوا على حفظ القرآن وتجويده، كلام طيب، وشكر الذين قاموا بِتَدريسهم خلال عام بأكمله، شيء جميل، وشكر الذين استمعوا إليهم وأعطوهم العلامات والدرجات، ولكن الذي أشْعرني بقيمة المال، طبعاً هناك بعض الأشخاص قدموا جوائز مجزية، عمرة لكل حافظ قرآن كريم على حسابه، أناس قدموا عشرة آلاف لكل حافظ قرآن كريم، لفت نظري في عريف الحفل أنَّه قال: والذين قدَّموا أموالهم ابْتغاء مرضاة الله، والمال شقيق الروح، ليسوا أقلّ أجراً من هؤلاء، ترقى بمالك، ترقى بعلمك، ترقى بعملك، ترقى بأي شيء، أي شيء أعطاك الله إياه ترقى به، فالباب مفتوح أمامك.
رحمة الله تشمل كل إنسان بما أقامه الله:
إذا الإنسان آتاه الله اختصاص هندسة، وقام بتعمير الجوامع، والله شيء جميل، طبعاً اختصاص هذا، إنسان آتاه الله طباً، يُطبّب المسلمين، بتواضع، بأدب، دون ابتزاز لأموالهم، دون تضخيم لمشاكلهم، من دون طعن بالآخرين، مع رعاية تامة، مع متابعة، شيء جميل، وكل شخص يقدر أن يدخل الجنَّة من أوسع أبوابها، باختصاصه، وعمله، فلا تظن أن رحمة الله محصورة بفِئة معينة، إياك أن تظن هذا، رحمة الله واسعة، وكل واحد فيما أقامك الله، بإمكانك أن تصل إلى أعلى درجات الجنة، فيما أقامك الله عز وجل، وهذه حقيقة أساسية، وبالطريقة هذه تجد أن الحياة تعاون.
أنت قدمت لقمة طيبة ونظيفة وصادقة لهؤلاء المسلمين، لك أجر، بهذه الطريقة صار الإنسان يتعلم، ومجال عمله اختصاصه، باختصاصه يرقى عند الله عز وجل.
الزكاة فرض على كل مسلم و مسلمة:
إذاً الله تعالى يقول:
﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ(24)﴾
قالوا تلك الزكاة، أما وفي أموالهم حق من دون معلوم فتلك الصدقة، وفي المال حق سوى الزكاة.
عدم دفع الزكاة يؤدي إلى محق المال و إتلافه:
قال تعالى:
﴿ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ
هذه غير هذه، الزكاة فرض، فأنت ممكن أن تدفع مثلاً للتشبيه والتمثيل الضريبة، وبهذه الضريبة تتلافى المصادرة، والمضاعفة، والجزاء، هذه فرض، أما كونك مواطن صالح ممكن أن تقدم مستوصف، هذا غير الضريبة، هذا يرقى بك كثيراً، يعني بالمفهوم المدني، كذلك إن أدَّيتَ زكاة مالك نجَوت من مَحْق المال وإتلافه.
إنفاق المال يرقى بالإنسان عند ربه:
أما حينما تنفق فوق الزكاة على الفقراء والمساكين حباً في الله عز وجل هذا ترقى به أكثر:
مهمة الإنسان أن يبحث عن الإنسان المتعفف الذي لا يسأل:
فالعلماء قالوا هذه الآية فيها إشارة إلى الصدقات لا إلى الزكاة، الزكاة:
﴿ وَفِي ٱلۡأَرۡضِ ءَايَٰتٞ لِّلۡمُوقِنِينَ (20)وَفِيٓ أَنفُسِكُمۡۚ أَفَلَا تُبۡصِرُونَ (21)وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزۡقُكُمۡ وَمَا تُوعَدُونَ (22)فَوَرَبِّ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقّٞ مِّثۡلَ مَآ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ (23)﴾
والحمد لله رب العالمين.