الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الشهوات دوافع حيادية يمكن أن توظف في الخير كما يمكن أن توظف في الشر:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس السادس والأخير من سورة التغابن، ومع الآية الخامسة عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)﴾
من أجل أن نفهم معنى هذه الآية لابدّ من مقدمة، هذه المقدمة هي أن الله سبحانه وتعالى أودع في الإنسان الشهوات، الشهوات سلّم نرقى بها، أو دركات نهوي بها، حيادية، يمكن أن ترقى بك إلى الله، لأنك تشتهي النساء، ولأنك تشتهي المال، ولأنك تشتهي العلو في الأرض، ويمكن أن تكون هذه الشهوات نفسها دركات تهوي بها إلى النار، إنها دوافع حيادية، يمكن أن تُوَظف في الخير كما يمكن أن تُوَظف في الشر .
لذلك خلق الله الإنسان لجنة عرضها السماوات والأرض، خلق الله الإنسان ليسعد إلى أبد الآبدين في جنة يدوم نعيمها، وما هذه الحياة الدنيا إلا إعداد لهذه الجنة، كيف يكون الإعداد؟ يكون الإعداد بأن الله سبحانه وتعالى أودع فينا الشهوات، ورسم لهذه الشهوات قنوات نظيفة تتحرك خلالها، فإن سلكنا في هذه الشهوات تلك القنوات سعِدنا في الدنيا والآخرة، وإن مارسنا هذه الشهوات بعيداً عن هذه القنوات خارج المنهج الإلهي شقينا في الدنيا بهذه الشهوات، وكانت هذه الشهوات سبب خسارنا وشقائنا الأبدي يوم القيامة.
إذاً أصل الحياة الدنيا أن الله امتحنك بشهوات، وجعل لها قنوات نظيفة، وأعطاك منهجاً تسير عليه، من هنا قال الله عز وجل:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾
البشر عند الله زمرتان لا ثالث لهما:
الشيء الطبيعي جداً أن تشتهي، والشيء الكامل جداً أن تضبط هذه الشهوة، يكاد البشر على اختلاف مللهم، ونِحلهم، وانتماءاتهم، وأعراقهم، وأنسابهم، وأقاليمهم، وألوانهم، وثقافاتهم، يكاد البشر ينقسمون إلى زمرتين لا ثالث لهما: إنسان عرف الله، وعرف منهجه، فانضبط بهذا المنهج، وأحسن إلى الخلق، فسعد في الدنيا والآخرة، إنسان غفل عن ربه، تفلت من منهجه، أساء إلى خلقه، شقي في الدنيا والآخرة، إذاً أصل الحياة الدنيا أنك ممتحن فيها بشهوات.
﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3)﴾
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)﴾
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7)﴾
طبيعة الحياة الدنيا قائمة على الابتلاء:
الإنسان بماذا يُفتن؟ بالذي يحبه، لا أحد يُفتن بحاوية، لكنه يُفتن بامرأة، لا أحد يُفتن بتراب الأرض، يُفتن بمال الأرض، لا أحد يفتن بالعذاب، يفتن بالرخاء، فيجب أن نعلم علم اليقين أننا في الحياة الدنيا ممتحنون، طبيعة الحياة الدنيا قائمة على الابتلاء، تُفتن بالمال، تُفتن بالصحة، تُفتن بالفراغ، تُفتن بالقوة، تُفتن بالأولاد، تُفتن بالزوجة، هل أخذت بيدها إلى الله أم قضيت وطرك منها وتركتها وشأنها تعيث فساداً في الأرض؟ تُفتن بالأولاد، هل عرفتهم بربهم؟ هل حملتهم على طاعته؟ هل راقبتهم أم تركتهم وسيبتهم فكانوا سبب الشقاء؟ تفتن بالمال، هل كسبته من حلال؟ هل أنفقته في حلال؟ هل أعانك المال على طاعة ربك؟ هل كفيت به نفسك وأقرباءك ومن حولك؟ هل تقربت به إلى الله؟ هل كان المال أداة لمعرفة الله أو للقرب منه؟ تفتن بالصحة، هل استخدمت هذه الصحة الطيبة في الاسترخاء والاستجمام واللعب والنزهات أم استخدمتها في طاعات الله ونشر الحق؟ تفتن بالقوة، هل استعملت هذه القوة لإنصاف الضعيف أم للعلو في الأرض؟ لإرهاب الناس أم جعلتها قوة في سبيل الخير؟
أيها الأخوة الكرام، لأن الله سبحانه وتعالى أودع فينا:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)﴾
لأن هذه أشياء في الأصل محببة إلى قلوبنا، مزينة إلينا، أُودعت فينا، غرست في كياننا، وهي سبب سعادتنا في الآخرة.
تصور مخلوقًا لا يشتهي، ولا يحب، ولا يكره، لا يأكل، ولا يشرب، ولا يقترب من امرأة، هذا الإنسان كيف يرقى إلى الله؟ لا سبيل له، هذه الطاولة لا تتحرك، ولا تشتكي، ولا تجوع، ولا تتألم، ولا تشبع، ولا تشتهي أنثاها، فكيف ترقى إلى الله؟
الإنسان أودع فيه الشهوات، الإنسان رُكّب من عقل وشهوة، رُكّب الملك من عقل بلا شهوة، ورُكّب الحيوان من شهوة بلا عقل، ورُكّب الإنسان من كليهما، فإن سما عقله على شهوته أصبح فوق الملائكة، وإن سمت شهوته على عقله أصبح دون الحيوان.
إذاً لولا هذه الشهوات لما ارتقينا إلى رب السماوات والأرض، هي وقود في المركبة، ما قيمة المركبة بلا وقود؟ لا تتحرك، لا تؤدي وظيفتها، لا تنقلك من مكان إلى مكان، لكن هذا الوقود سائل فيه قوة الانفجار، لو أن هذا السائل وُضِع في مستودع محكم، وسال في أنبوب محكم، وانفجر في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، ولّد حركة مناسبة نقلتك أنت وأهلك إلى بلد جميل، أو نقلت البضاعة إلى مبتغاها، أمّا إذا خرج هذا الوقود السائل عن مساره، واحترق فأحرق وأهلك أصحابه.
الشهوات حيادية، سلّم أو دركات نسعد بها أو نشقى بها، المرأة؛ يمكن أن تتزوج من امرأة صالحة، تسرك إن نظرت إليها، تطيعك إن أمرتها، تحفظك إن غبت عنها، يمكن أن تؤسس أسرة تسعد بها طوال حياتك الدنيا، ويكون بيتك سكناً ترتاح فيه، تستعيد نشاطك في اليوم التالي، ويمكن أن تنجب ذرية صالحة تكون لك صدقة جارية إلى يوم القيامة، قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّه عَنْه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ، صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ . ))
ويمكن أن ينحرف الإنسان فيقضي وطره بطريق محرم فيشقى في الدنيا، ويشقى في الآخرة، والذي يشغل العالم اليوم هو هذا المرض الفتّاك الذي يفتك بسبعة وثلاثين مليوناً، وفي عام ألفين سيفتك بمئة وعشرين مليوناً، وسوف يكون هذا المرض أكبر مصيبة تصيب البشرية الآن، لأنها انحرفت عن جادة الصواب.
أصل الجنة أن تخاف مقام ربك فيما أودعه فيك من شهوات:
أيها الأخوة الكرام؛ العالم الآن عاد مقهوراً إلى الإسلام، لا تعبُداً، ولكن قهراً، وشتان بين من يدع الزنى خوف الله، وابتغاء مرضاته، وطلباً للجنة، وبين من يدع الزنى خوف مرض الإيدز، فرق كبير جداً بين الاثنين، فلذلك أصل الجنة، ثمن الجنة أن تخاف مقام ربك فيما أودعه فيك من شهوات: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ الأصل أن هناك دوافع وشهوات تضبطها، لذلك الحديث الصحيح قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ. ))
فالله سبحانه وتعالى قال:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾
أجمل ما في الدنيا المال والبنون، إذاً نحن ممتحنون بالمال والبنين.
الإنسان ممتحن في العطاء والحرمان:
﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)﴾
معنى (فتنة) أنكم تُمتحنون بها، الحقيقة الإنسان ممتحن في الدنيا، ما هي مواد امتحانه؟ كل الحظوظ التي آتاه الله إياها، أنت مُمتحن فيما أعطاك الله، وممتحن فيما حرمك الله، هناك امتحان إيجابي، وامتحان سلبي، من هنا قيل: "اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا تُحِبُّ، اللَّهُمَّ وَمَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ" .
أنت ممتحن إن جاءك المال، وممتحن إن حرمت من المال، أنت ممتحن إذا كنت متزوجاً، وممتحن إذا كنت عازباً، الزواج له تفاصيل امتحان، والعزوبية لها تفاصيل امتحان، أنت ممتحن إذا رزقت أولاداً، وممتحن إذا حرمت من الأولاد، أنت ممتحن إذا رزقت مالاً، وممتحن إذا حُرمت من المال، إن رزقت هذا الشيء فليكن موظفاً في طاعة الله، وإن حُرمت شيئاً فليكن الفراغ الذي سيخلفه من حرمانه موظفاً في طاعة الله.
الإنسان أحياناً حينما يقلّ ماله ينشأ عنده وقت فراغ كبير، أما حينما يكون المال وفيراً هناك انشغال كبير بالمال، إدارة المال تحتاج إلى جهد كبير، إن فقدت المال فالفراغ الذي يُخلّفه فقد المال يجب أن يوظف في طاعة الله، إن رزقت الزوجة أنت ممتحن، إن حرمت الزوجة أنت ممتحن، ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ (إنما) أداة قصر، بالمال تفتن، وبالأولاد تُفتن.
من يستجيب لنداء أهله وأولاده وأمواله ويقعد مع القاعدين يفوته خير كثير:
﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ هذه الآية لها خصوصية سبب، ولها عمومية لفظ، عمومية لفظها هي تدور مع الإنسان أينما دار إلى نهاية الدوران، أما خصوصية السبب فإن بعض أصحاب رسول الله هاجر معه، وسعد في هجرته، وبعض الأصحاب حملهم أهلهم على عدم الهجرة، ففاتهم خير كثير من صحبة النبي عليه الصلاة والسلام، هناك صحابي كان يرعى غنيمات له خارج المدينة، وكان حريصاً على غُنيماته حرصاً شديداً، وكان يُؤثر أن يبقى إلى جانب غنيماته، وأن يستمع من بعض أصحابه إلى أقوال النبي عليه الصلاة والسلام، ثم حدثته نفسه يوماً أن يتابع النبي، وأن يهاجر إليه، فكان هذا الصحابي أعلم علماء الصحابة بالقراءات، وكان فاتحاً لدمشق ومصر، وفاتحاً لبعض الجزر في المتوسط، وقد ترك عطاء لا يُقدر بثمن، لو أنه لزم غنيماته أين كان؟ وحينما لزم النبي عليه الصلاة والسلام أين صار؟ أحيانا الأهل يعيقون حركة الإنسان إلى الله، لهم مطالب كثيرة، لهم رغبات كثيرة، يُثبطون عزيمة الرجل أحياناً ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ فالذي يستجيب لنداء أهله وأولاده وأمواله، ويقعد مع القاعدين يفوته خير كثير، والذي ينطلق إلى الله ورسوله عندئذ يكافئه الله عز وجل، لأن الذين عارضوه في هذه الانطلاقة سيقطفون ثمارها هم قبل غيرهم، وسوف يشجعونه بعد حين، أي من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه، وأرضى عنه الناس، ومن أسخط الله برضى الناس سخط عنه الله وأسخط عنه الناس.
دائماً وأبداً هذه المقولة: من آثر دنياه على آخرته خسرهما معاً، ومن آثر آخرته على دنياه ربحهما معاً.
أول ما يُسأل عنه المرء يوم القيامة الصلاة ثم يحاسب عن ماله:
(إنما) أداة قصر وحصر ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ قلت لكم من قبل: ورد في الأثر أن الأغنياء يوم القيامة يجمعون أربع فرق، فريق جمع المال من حرام، وأنفقه في حرام، فيقال: خذوه إلى النار، وفريق جمع المال من حلال، وأنفقه في حرام فيقال: خذوه إلى النار، وفريق جمع المال من حرام، وأنفقه في حلال فيقال: خذوه إلى النار، بقي الذي جمعه من حلال، وأنفقه في حلال، هذا الذي سيحاسب، قال: قفوه فاسألوه: هل تاه بماله على خلق الله؟ هل قصّر في واجب؟ هل قال من حوله: يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقصّر في حقنا؟ يقول عليه الصلاة والسلام: فما زال يُسأل ويُسأل.
لذلك أول ما يحاسب عنه المرء يوم القيامة الصلاة، ثم يحاسب عن ماله من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ قال عليه الصلاة والسلام:
(( عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تزولُ قدَما عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمرِهِ فيمَ أفناهُ؟ وعن علمِهِ ماذا عمِلَ بهِ؟ وعن مالِهِ مِن أينَ اكتسبَهُ؟ وفيمَ أنفقَهُ؟ وعن جسمِهِ فيمَ أبلاهُ؟ ))
[ صحيح الترغيب: حسن صحيح ]
ثلاث فقرات عليها سؤال واحد إلا المال فعليه سؤالان، من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟
﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ وفي هذه المناسبة يجب أن نفرق دائماً بين الكسب وبين الرزق، المال الذي لا تنتفع به، لكنك تحاسب عليه هو كسب لا رزق، أما المال الذي تنتفع به مباشرة وتستهلكه فهو الرزق، الطعام الذي أكلته فقط هو الرزق، والثوب الذي لبسته فقط هو الرزق، والبيت الذي تسكنه هو الرزق، والفراش الذي تنام عليه هو الرزق، ولكن الكسب هو الذي لا تنتفع به، أما إذا أنفقت من الكسب في سبيل الله فهذه أعلى درجة في الانتفاع، لذلك
(( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ الشّخِّيرِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْرَأُ: أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ، قَالَ: عن عَبْدِ اللَّهِ بنِ الشّخِّيرِ: يَقُولُ بْنُ آدَمَ: مَالِي، مَالِي، قَالَ: وَهَلْ لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلَّا مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ؟ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ؟ أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟ ))
المال قسمان: قسم لك ما له (ما مصدرية)، وقسم ليس لك ما له (ما نافية)، قسم لك، وقسم ليس لك، فالذي لك صنفان، صنف يزول ويفنى، وصنف يبقى، الذي يبقى هو العمل الصالح والمال الذي تنفقه في سبيل الله، والذي يفنى هو الذي أكلته فأفنيته، أو لبسته فأبليته، أما القسم الباقي فهو الذي تصدقت به فأبقيته:
(( عن عائشة رضي اللَّه عنها: أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فقالَ النَّبِيُّ: مَا بَقِيَ مِنها؟ قالت: مَا بَقِيَ مِنها إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: بَقِي كُلُّهَا غَيرَ كَتِفِهَا. ))
من آثر مرضاة الله على حظوظ نفسه فله أجر عظيم:
﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ إذا آثر الإنسان مرضاة الله على حظوظ نفسه، إذا استجاب لله ولم يستجب للمعوِّقين، ولم يستجب للمثبطين من أهله، إذا استجاب لله ولم يستجب للضغوط الداخلية التي تحول بينه وبين التقدم و بين العمل الصالح قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لذلك قال بعض أصحاب رسول الله لزوجته التي تريد أن تحمله فوق طاقته: "اعلمي أيتها المرأة أن في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الدنيا لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أفضل من أضحي بهن من أجلك" .
لا ينبغي للإنسان أن يستجيب إلا لله لأن الله عز وجل يقول:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ أي لو تحملت الضغوط، وأنفقت في سبيل الله، لو تحملت الضغوط، ووجهت الأولاد الوجهة الصحيحة، هناك وجهة غير صحيحة، هناك وجهة يبتغي منها الأب أن يرفع رأسه في المجتمع من أجل أولاده، قد لا يعنى بأخلاقهم، ولا بدينهم، ولا باستقامتهم، ولا بآخرتهم، لكنه يعنيه أن يقول: ابني فلان كذا، حجمه المالي كذا، شهاداته كذا وكذا، آباء كثيرون مسلمون لا يعنون كثيراً بدين أولادهم، يحرصون على دنيا أولادهم حرصاً لا حدود له، بينما لا يحرصون على دين أولادهم الحرص الحقيقي، فلذلك الابن كما جاء في الحديث
(( عَنْ يَعْلَى الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ يَسْعَيَانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَمَّهُمَا إِلَيْهِ، وَقَالَ:
عن يَعْلَى الْعَامِرِيِّ: جاءَ الحسَنُ والحسينُ يَسعيانِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ فضمَّهما إليه وقال إنَّ الولدَ مَبخلةٌ مَجبنةٌ. ))
قد يدعوك إلى البخل، وقد يحملك على الجبن، مشغلة، ويشغلك عن ذكر الله: ((مَبخلةٌ مَجبنةٌ)) .
من يؤثر طاعة الله على هوى نفسه وعلى مرضاة أهله فله أجر عظيم:
النبي عليه الصلاة والسلام تزوج وله أولاد، لكنه وفق منهج الله، فليس معنى ذلك أن تكون بلا زوجة ولا ولد، المعنى أن تتزوج، وأن تنجب أولاداً، وأن تبقى وفق منهج الله عز وجل.
﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ تفتنون بها، لهذه الكلمة معنيان؛ الأول: أنها أداة امتحان لكم، فإما أن تنجحوا، وإما أن تسقطوا، إما أن تنجحوا وتنتصروا على أنفسكم، تنتصروا لدينكم، وإما أن تضعفوا، وتسقطوا، فتنهزموا أمام أنفسكم، أي هذا الذي يرضي زوجته في معصية الله، وهذا الذي يرضي أولاده في معاصي الله، هذا سقط في الامتحان، لأنه آثر سلامته في البيت على إقامة الحق، هذا الذي يثأر، يغضب أشدّ الغضب إن لم تلبّ حاجاته في البيت، بينما لا يتحرك له شعور إن رأى ابنته تتبذل في ثيابها، وهي خارج البيت، إن لم تلبّ حاجاته أقام الدنيا ولم يقعدها، ولا يتأثر أبداً إن رأى ابنته تُثير الفتن في الطرقات، بل لعله يعجبه ذلك، هذه هي المشكلة، فالذي لا يستجيب للضغوط، والذي يؤثر طاعة الله على هوى نفسه وعلى مرضاة أهله، طبعاً إن كانت هذه المرضاة في معصية الله، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ .
على الإنسان أن يطيع الله فلا يعصيه ويشكره فلا يكفره:
طبعاً كما قال الله تعالى:
﴿ فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52)﴾
أن تتعلم القرآن، وأن تُعلمه، وأن تحمل الناس على التمسك به هذا من أعظم الجهاد.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ إذاً مادامت الأموال والأولاد فتنة، ومادام الإنسان ممتحناً في الدنيا، وما دامت الدنيا فانية، وهي إعداد للآخرة، إذاً ماذا ينبغي أن نفعل؟ قال:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)﴾
وفي آية أخرى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾
كيف نجمع بين الآيتين؟ ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن تطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره، وأن تخلص له إخلاصاً شديداً، وأن تذكره فلا تنساه، هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ .
كل شيء فيه ترك حدّي وكل شيء فيه بذل نسبي:
وأما قوله الله: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ هنا يوجد معنى دقيق جداً، في الإسلام تكاليف، بعضها تؤمر أن تدع، وبعضها تؤمر أن تعطي، في مجال الاستقامةِ الاستقامةُ حدية، لا تحتمل التفاوت، نقول لك: أعطِ ما تستطيع، هذا يعطي ألفاً، وهذا يعطي ألفين، وهذا يعطي مليونًا، اتق النار ولو بشق تمرة، الاتقاء اتقاء الترك حدي، ليس فيه حالة وسط، هناك نواه لابد من أن تنتهي عنها، وإلا أنت محجوب، أما هناك أوامر بالبذل والعطاء وخدمة الناس، هذه وفق استطاعتك، فالشيء المتعلق بالترك هذا حدي الوضع، لا يحتمل تفاوتاً، مثلاً: مستودع فيه إحكام، وفيه إملاء، الإحكام حدّي، إذا قلت: هذا المستودع مُحكم، أي أنه محكم، لو وضعت فيه كذا لتراً من الماء، أو من الوقود السائل تبقى هذه الكمية ثابتة دون أن تنقص، الإحكام ليس فيه حل وسط، أما إملاؤه فقد تضع فيه مئة لتر أو مئتي لير أو خمسمئة لتر أو ألف لتر بحسب إمكانيتك وميزانيتك، إملاء المستودع نسبي متفاوت، أما إحكامه فحدّي، فالاستقامة لا تحتمل النسبية:
﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)﴾
إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، هذا في الاستقامة، أمرتكم بأشياء ونهيتكم عن أشياء، فالذي نهيتكم عنه فدعوه، والذي أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، في العطاء، في إنفاق المال ما استطعتم، في بذل الجهد ما استطعتم، في إنفاق العلم ما استطعتم:
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
أما في ترك المنكر، ترك الكذب، ترك الخيانة، ترك أكل المال الحرام، كل شيء فيه ترك حدّي، وكل شيء فيه بذل نسبي، إذاً: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن تطيعه فلا تعصيه، وأن تشكره فلا تكفره، وأن تذكره فلا تنساه، أما: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ إنسان له دخل أنفق من هذا الدخل على عياله، وعلى نفسه، وعلى من حوله، وفاض عنده بقية فأنفقها في سبيل الله، فالإنفاق نسبي بحسب الوسع، بحسب الإمكان، بحسب الطاقة، بحسب المتوافر، بحسب الاندفاع إلى الله عز وجل، فلذلك نوفق بين الآيتين بالشكل التالي: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ فيما يتعلق بالنهي، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ فيما يتعلق بالعطاء، أنت تتقي النار بشيئين، بترك المعاصي، وفعل الخيرات، بترك المعاصي حدي، بفعل الخيرات نسبي.
أعظم شيء الاستقامة على أمر الله عز وجل:
لذلك أصحاب النبي كما قال عليه الصلاة والسلام: لو تركوا العشرة لهلكوا في العطاء، والذين يأتون في آخر الزمان والقابض منهم على دينه كالقابض على الجمر، لو أخذوا العشرة لنجوا، لأن هذا الذي روت عنه الكتب، الله أعلم بصحة الرواية سيدنا عبد الله بن رواحة حينما تردد في القتال ثلاثين ثانية، قال:
يا نفس إلا تقتلي تموتــي هذا حمام الموت قد صَلِيت
إن تفعلي فعلهما رضيت وإن توليت فقــــــد شقيــتِ
ماذا قال عنه النبي؟ قال: ثم أخذ الراية أخوكم عبد الله فقاتل بها حتى قتل، وإني لأرى في مقامه ازوراراً عن صاحبيه، لأنه تردد، لو تركتم – يخاطب أصحابه-عشر العشر لهلكتم، هذا في العطاء، لأنهم معهم رسول الله، والوحي بين أيديهم، وبين أظهرهم، وقد رأوا المعجزات، وأحبابه الذين يأتون في آخر الزمان، أعظم شيء في آخر الزمان أن تستقيم على أمر الله، فإذا استقاموا نجوا، بعد الاستقامة مهما أعطوا يرقى بهم هذا العطاء، فالنسبية في العطاء لا في الاستقامة، الاستقامة حدية، والعطاء نسبي: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ هذا معنى أول.
على الإنسان أن يبذل كل جهده لا بعضه:
المعنى الثاني: ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ أي ابذلوا كل الجهد المتاح:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)﴾
لعل نبرة الكلمة توضح المعنى، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ فرق كبير بين المعنيين، المعنى الأول: بذل بعض الجهد، والمعنى الثاني: بذل كل الجهد، كل شيء متاح أمامكم افعلوه، أغلب الظن أن الآية الكريمة تحتمل المعنى الثاني، لا تشير الآية إلى بذل بعض الجهد، بل تشير إلى بذل كل الجهد: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ أي ما وسعتكم الاستطاعة، إنسان نقول له: امش ما استطعت، يمشي ويستريح؟ لا، يمشي إلى أن يدركه الإعياء، إلى أن يقع، هذا معنى ما استطعتم، إنسان مشى أمتاراً، قال: هذه استطاعتي، هذا لم يفهم معنى الكلمة، امش ما استطعت، مشى خمسة أمتار وارتاح، أما امش ما استطعت إلى أن تقع مغمياً عليك، هكذا، من هنا قال بعض أصحاب رسول الله رضوان الله عليهم: "والله لو علمت أن غداً أجلي ما قدرت أن أزيد في عملي" .
يجب أن تضبط الوقت، يجب أن تَعُد الوقت أثمن شيء تملكه، يجب أن تعد نفسك وقتاً، أنت بضعة أيام، ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد.
ورد في الأثر: ألا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله علماً، ولا بورك لي في طلوع شمس يوم لم أزدد فيه من الله قُرباً.
لو حققت نجاحات كبيرة في الحياة، النجاح الحقيقي أن تزداد مع الأيام معرفة بالله، وأن تزداد مع الأيام قرباً منه.
العلم هو أثمن شيء في حياة المؤمن:
لذلك: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا﴾ أي تفهَّموا، لذلك العلم هو أثمن شيء في حياة المؤمن، أنت حينما تتعلم كلام الله عز وجل، أو تفهم كلام الله، أنت تحقق ذاتك في أعلى درجة، أنت مخلوق كي تعلم:
﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾
الله عز وجل ميزّ الإنسان بالقوة الإدراكية، فإذا عطّلها هبط إلى مستوى الحيوان:
﴿ الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)﴾
﴿ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾
العلم أعظم نشاط يليق بالإنسان:
العلم أعظم نشاط يليق بالإنسان، الإنسان له حاجات عليا، وله حاجات سفلى، حاجاته السفلى أن يأكل، وأن يشرب، وأن يتزوج، وحاجاته العليا أن يعلم، فالذي يؤكد في الإنسان إنسانيته طلبه للعلم، أنت حينما تأتي إلى بيت من بيوت الله لتعرف كلام الله أنت تلبي حاجاتك العليا، وتفكيرك المرتفع، أنت تُحقق إنسانيتك، أنت تؤكد ذاتك في الطريق الصحيح: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا﴾ :
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)﴾
لماذا هنا (أو)؟ أو للتخيير، أي أنت إما أن تتعرف إلى الحق سماعاً، وإما أن تتعرف إليه تأملاً، إما أن تأكل طعاماً جاهزاً، وإما أن تطبخ طعاماً بيديك، فإما أن تتفكر، وإما أن تستمع، والاستماع أغلب الظن مأمون، تأكل طعاماً جاهزاً من طبّاخ ماهر، أما حينما تطبخ أنت من غير رقابة، من دون توجيه، من دون موازين فقد تخطئ، وقد تصيب، فلذلك يجب على الإنسان أن يتلقى العلم ممن يثق بعلمه وورعه، والإمام الشاطبي في كتاب الموافقات في بعض المقدمات يؤكد أن العلم لا يُطلب إلا من الرجال، من لم يأخذ هذا العلم عن الرجال فهو ينتقل من محال إلى محال، لأنه من دون رجال يوجد مزلة أقدام، قد يقع تحت يديك كتاب فيه غلط كبير، وفيه باطل شديد، أين الميزان الذي يكشف لك الخطأ من الصواب؟
على الإنسان أن يكون مع جماعة المؤمنين:
أيها الأخوة؛ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا﴾ :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)﴾
أي لا تستطيعون أن تتقوا الله إلا إذا كنتم مع الصادقين.
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا(28)﴾
لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن النعمان بن بشير: الجماعةُ رَحمةٌ والفُرقةُ عذابٌ. ))
[ أخرجه أحمد : تخريج كتاب السنة: خلاصة حكم المحدث : إسناده حسن ]
وقال الله عز وجل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)﴾
من الوسائل أن تطلب العلم، من الوسائل أن تكون مع جماعة المؤمنين.
الله جلّ جلاله أعطى السمع بمعنى التطبيق:
﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16)﴾
اليهود سمعوا وعصوا:
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)﴾
لذلك من لم يطع لم يسمع، الله جلّ جلاله أعطى السمع معنى التطبيق، ﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ الطاعة فيما أمر، والإنفاق هو البذل: ﴿وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ فاتقوا الله ما استطعتم، واسمعوا، اعقلوا، تفهموا، اطلبوا العلم، تعرّفوا إلى الحق، دققوا في كلام الله، تدبّروا آياته، انظروا في عجيب خَلقه، انظروا في أفعال الله عز وجل، ﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا﴾ اقلبوا معرفتكم إلى تطبيق، ترجموا فهمكم إلى عمل:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)﴾
العمل الصالح طابعه حركي أما الاستقامة فطابعها سلبي:
أيها الأخوة الكرام؛ ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ البذل، الاستقامة تزيل كل العقبات التي أمامك إلى الله، بقي الحركة، الطريق سالك، باستقامتك أزلت كل العقبات، وبعملك الصالح وصلت إلى رب السماوات والأرض، فالعمل الصالح طابعه حركي، أما الاستقامة فطابعها تمهيد الطريق، طابعها سلبي، ما كذبت، ولا غششت، ولا أكلت مالاً حراماً، ولا اعتديت، ولا سخِرت، ولا نقلت كلاماً من إنسان إلى إنسان، أنت مستقيم، إذاً الطريق إلى الله سالك، بقي أن تتحرك على هذا الطريق بالعمل الصالح.
من ينفق في سبيل الله يضاعفه الله له أضعافاً كثيرة:
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الحقيقة شحّ النفس مرض، الإنسان حينما يضنّ على نفسه بتعريفها بربها، يضنّ على نفسه بحملها على طاعته، يضنّ على نفسه بأن تفعل الخيرات، يبقيها جاهلة عاصية غافلة بخيلة، هذا الذي يوق شحّ نفسه مِن أفلح الفالحين، أما الذي يقع ضحية شح نفسه فهو من الهالكين.
شرّ الناس من يعيش فقيراً ليموت غنياً، شحيح يحرم نفسه كل خير، أندم الناس غني دخل ورثته بماله الجنة، ودخل هو بماله النار، جمع مالاً وفيراً، وورّثه لأولاده، فاستقاموا على أمر الله بهذا المال، وانتفعوا به فدخلوا الجنة، ودخل هو النار بكسبه.
وقد سئل أحد الشباب، وقد ذهب إلى ملهى: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: لأشرب الخمر على روح والدي، خلّف له ثروة طائلة، ولم يعرّفه بالله عز وجل، فأندم الناس من دخل ورثته بماله الجنة، ودخل هو بماله النار، ورد في بعض الأثر أن روح الميت ترفرف فوق النعش، تقول: يا أهلي، يا ولدي، لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي، جمعت المال مما حلّ وحرم، فأنفقته في حله وفي غير حله، فالهناء لكم، والتبعة عليّ.
﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ حينما ينفق الإنسان الله جلّ جلاله يُخلف ما أنفقه أضعافاً مضاعفة، وهذه الحقيقة يعرفها المنفقون.
أخ كريم ذكر لي أنه دفع لقريب له وهو على المغتسَل دَينه، وقد زاد على مئة وثلاثين ألف ليرة، وفي اليوم التالي حقق ربحاً بيوم واحد ما يعادل هذا المبلغ على غير العادة والمألوف.
من يسعد بالأخذ فهو من أهل الدنيا ومن يسعد بالعطاء فهو من أهل الآخرة:
الله عز وجل إذا أحبّ عبداً خلق الفضل ونسبه إليه، إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليه، الله عز وجل يُعوض المال أضعافاً مضاعفة:
(( أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ. ))
[ متفق عليه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
(( أنفق بلالا، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا. ))
[ رواه الطبراني عن ابن مسعود ]
﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ حدثني أخ في جيبه مبلغ من المال، سأله سائل، وهذا المال يُلبي حاجته فتردد، وقع في قلبه: متى قطعناك من المال؟ ((أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ)) ، ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ لذلك الكرماء شيء والأريحيون شيء آخر، من هو الأريحي؟ هو الذي يسعده العطاء، بل إن بعض العلماء يقول: إذا أردت أن تعرف ما إذا كنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة انظر ما الذي يسعدك أن تأخذ أم أن تعطي؟ فالذي يسعد بالأخذ فهو من أهل الدنيا، والذي يسعد بالإعطاء فهو من أهل الآخرة، إلا أن فريقاً من أهل الآخرة يسعدون بالأخذ ليعطوا، فسعادتهم بالأخذ سبب لعطائهم، هم إذاً من أهل الآخرة: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ .
أيّ عمل صالح مهما كبر أو صغر هو إقراض لله عز وجل:
الآن أيها الأخوة؛ هذه الآية الأخيرة لو تدبرناها لاقشعرت جلودنا، الله جلّ جلاله الغني الكريم، الذي إذا أراد شيئاً يقول له: كن فيكون، عنده خزائن الأرض:
﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)﴾
هو يطلب إليك أن تقرضه، أي عمل صالح تقدمه لمخلوق من مخلوقاته، لو أصغيت الإناء لهرة، لو أنقذت نملة من الغرق، لو أطعمت حيواناً أعجم، لو أنقذت إنساناً من ورطة، لو أعطيت فقيراً، لو أعنت أخرق، لو أفرغت من دلوك في دلو المستسقي، لو أعنت إنساناً على حمل حوائجه على دابته، أيّ عمل صالح مهما كبر أو مهما صغر هو في حقيقته إقراض إلى الله عز وجل.
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)﴾
لذلك الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله، المؤمن دائماً يقف إذا سئل، إذا عُرِض عليه عمل صالح، إذا طُلب منه أن يقدم شيئاً من خبرة، من مال، من علم، من جهد، من عضلة، من أي شيء، لا يرى السائل، بل يرى أن الله يسأله، واللَّه عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : يَا بْنَ آدَمَ، مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ؟ يَا بْنَ آدَمَ، اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ؟ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي؟ يَا بْنَ آدَمَ، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِنِي، قَالَ: يَا رَبِّ، كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تَسْقِهِ، أَمَا إِنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ وَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي. ))
إلى آخر الحديث، إذاً:
﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17)﴾
أي إذا عملت عملاً لوجه الله الله عز وجل سيعطيك عليه أضعافاً مضاعفة، يجب أن تَعُد أيها المؤمن أن كل عمل صالح مهما كان نوعه، ومهما كانت جهته، ومهما تكن طبيعته، إنما هو إقراض لله عز وجل: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ .
الله جلّ جلاله يسترضى بالعمل الصالح:
رب العزة في سمائه، إله العالمين، رب العالمين، خالق السماوات والأرض يقول لك: يا عبدي أقرضني لأكافئك أضعافاً مضاعفة، اتّجر معي كي تربح عليّ، اتّجِر مع الله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾
صنائع المعروف تقي مصارع السوء، الله جلّ جلاله يسترضى بالعمل الصالح، صدقة السرّ تطفي غضب الرب، باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ .
الإنسان كلما ارتقى إيمانه يصبح مصدر خير وأمن وعطاء:
إذا أعطيت قطعة سكر لطفل مع أبيه هذه الهدية في حقيقتها لمن؟ والله ليست للطفل، لكنها للأب، أنت تقربت إلى الأب بخدمة ابنه، وبإمكانك أن تتقرب إلى الله بخدمة عباده، كنت أقول مرة: إنّ الطبيب المؤمن لا يوصّى، كيف يوصّى؟ بين يديه عبد من عباد الله، هل يستطيع أن يغشه أو أن يبتز ماله أو أن يُكبِّر عليه الوهم؟ لا يستطيع، بين يديه أحد عباد الله، والإنسان بنيان الله، وملعون من هدم بنيان الله، إذا أخفت إنسانًا بغير حق، إذا أكلت ماله بغير حق، إذا احتلت عليه بغير حق، ملعون عند الله عز وجل.
فالإنسان كلما ارتقى إيمانه يصبح مصدر خير، ومصدر أمن، ومصدر عطاء: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ يغفر لكم الماضي ويضاعف لكم أجركم في المستقبل: ﴿وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾ تقدم لإنسان معروفًا، أو تخدم له ابنه، يشكرك شكراً تعجز عن وصفه، يقول لك: فضلت عليّ، لا أنساه لك حتى الموت، لأنك خدمتَ ابنه.
الله عز وجل كل شيء غاب عنك يعلمه وكل شيء حاضر يعلمه:
إخواننا الكرام؛ يعلمون أولادنا الصغار، أحد الآباء دعاهم مرتين تعبيراً عن شكره، إنسان يكّرم معلّم ابنه، فربنا سبحانه وتعالى الذي يخدم عباده، يبث فيهم الخيرات، الفضائل، يعرفهم بربهم، يحملهم على طاعته، يحل مشكلاتهم، يعطي فقيرهم، يأخذ بيد أخرقهم، هذا ماذا سيقدم اللهُ سبحانه وتعالى له يوم القيامة؟
﴿ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)﴾
كل شيء غاب عنك يعلمه، وكل شيء حاضر يعلمه، العزيز المتفرد في تصرفه، الذي لا يُنال جانبه، الحكيم، أي أن كل أفعاله تتعلق بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة تعني أن الشيء الذي وقع لو وقع على خلاف ما وقع لكان نقصاً في الحكمة، ولكان الله ملوماً على ذلك.
﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)﴾
الملف مدقق