وضع داكن
30-06-2024
Logo
الدرس : 3 - سورة التغابن - تفسير الآيتان7-10 الفوز العظيم أن تؤمن إيماناً صحيحاً وأن تعمل صالحاً كي تفوز بالجنة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

أهم أركان الإيمانِ الإيمان باليوم الآخر:


أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الثالث من سورة التغابن، ومع الآية السابعة وهي قوله تعالى:

﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7)﴾

[ سورة التغابن ]

أيها الأخوة الكرام؛ أحد أكبر وأهم أركان الإيمانِ الإيمانُ باليوم الآخر، والله سبحانه وتعالى في آيات كثيرة قرن الإيمان بالله مع الإيمان باليوم الآخر، فحينما يعتقد الإنسان أن الدنيا هي كل شيء، وأن السعيد فيها من كان غنياً، وصحيح الجسم، وعالي الشأن، وأنه من فقد هذه المقومات فهي شقاء في شقاء، وأن الموت نهاية كل شيء، ولا شيء بعد الموت، هذا المنطق يقتضي أن تنكبّ على الشهوات فتعبّ منها، هذا المنطق يقتضي أن تؤمِّن المال من أية طريقة، لأنه مادة الشهوات، هذا المنطق يقتضي أن تفعل كل شيء دون حساب، ودون تأمل، ودون تبصر.
فلذلك ربنا سبحانه وتعالى يبين أن الكفر وما يتبعه من انحراف خطير بسبب أن الكافر توهم أنه لن يُبعث، مادام الإنسان يعمل عملاً ولا يُسأل عنه، لا على نتائجه الإيجابية، ولا على السلبية مستحيل أن ينضبط، إن رأيت إنساناً لا ينضبط فاعلم علم اليقين أن اليوم الآخر لم يُدخله في حساباته أبداً إطلاقاً، وترى أناساً كثيرين لهم انتماء إلى الإسلام بشكل أو بآخر، يرون أنهم إذا كسبوا مالاً حراماً حققوا شيئاً ثميناً، كسبوا مكسباً كبيراً، ويغيب عنهم أن الله سيحاسبهم، قال تعالى:

﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)﴾

[ سورة إبراهيم ]

 

من لم يدخل مراقبة الله في حساباته فقد كفر باليوم الآخر:


هؤلاء الذين كفروا، كفروا بماذا؟ كفروا باليوم الآخر، الدنيا كلها أكبر همهم، مبلغ علمهم، الدنيا هي كسبهم الوحيد، لذلك معهم الحق، انطلاقاً من تصوراتهم الموهومة أن ينكبوا على الدنيا بكل ما أوتوا من قوة، بحسب تصوراتهم عليهم أن ينغمسوا في كل الملذات لأنها جنتهم الوحيدة، الإنسان حينما ينحرف، وحينما يتحرك حركة عشوائية، وحينما يبحث عن المال من أي طريق، وحينما لا يعبأ بمنهج، ولا بدستور، ولا بنظام، ولا بقانون، وحينما لا يُدخل مراقبة الله في حساباته يكون قد كفر باليوم الآخر.
لا يمكن أن تجد إنساناً يؤمن باليوم الآخر ثم ينحرف، حساب دقيق، فكلمة زعم هذه مطية الكذب، كلمة زعم قبل أن نقرأ ما بعدها تعني أن هذا كذب: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ معهم الدليل؟ الإنسان أحياناً يؤمن بأفكار بلا دليل، لكنها تطمئنه طمأنة ظاهرية، إذا اعتقد أنه ليس هناك بعث، ولا نشور، ولا حساب، ولا عذاب، يتحرك حركة عشوائية كما يحلو له، أما إذا أيقن أن هناك حساباً دقيقاً فلا يمكن أن يتحرك هكذا.
إذاً هؤلاء الذين كفروا، أولاً كذبوا، إما أن الكفر كفر بكل شيء، أو ببعض الأشياء، إلا أن معظم أهل الأرض لو سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن: الله، هم يعتقدون أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض، ولكنهم لا يعتقدون أنه معهم، أنه في السماء إله، وفي الأرض إله، لا يعتقدون أنه المسير لشؤونهم كلها، أنه سيحاسبهم على كل أعمالهم.

  من يعلم أن الله يعلم ويحاسب ويعاقب يجد نفسه مستقيماً على أمره:


أيها الأخوة؛ من المناسب هنا أن نذكر آية لها علاقة مسيسة بهذه الآية، الآية هي:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)﴾

[ سورة الطلاق ]

ربنا سبحانه وتعالى اختار من كل أسمائه اسمين، اسم العليم والقدير، أنت متى تستقيم؟ إذا أيقنت أنه يعلم ما تفعل، وأنك بقبضته وسوف يحاسبك، وهو قادر على أن يحاسبك أدق الحساب، لو أردنا أن نكون واقعيين، أنت مع إنسان أقوى منك لا تستطيع أن تتفلت من ضبطه، من علمه، ولا من عقابه، لابدّ من أن تطيعه، تطيع إنساناً من بني جلدتك، لكنه أقوى منك، بإمكانه أن يضبط حركتك، وبإمكانه أن يُنزل بك العقاب، إذاً تطيعه.
فالنقطة هنا متى يعصي الإنسان ربه؟ الإنسان يعصي ربه إذا ظنّ أن علم الله لا يطوله، أو ظنّ أن قدرة الله لا تطوله، أما يكفي أن تؤمن بثلاث كلمات: إنه يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب، وهو قدير على أن يفعل بك كل شيء، لمجرد أن تؤمن أنه يعلم، ويحاسب، ويعاقب، وأنك في قبضته تجد نفسك مستقيماً على أمره.
 

من كان عمله موافقاً للمنهج الإلهي فلا يعبأ بالناس:


فيا أيها الأخوة الكرام؛ هذا سؤال دقيق، إن رأيت انحرافاً في سلوكك -لا سمح الله ولا قدّر-أو تهاوناً في كسب مالك، أو تهاوناً في إنفاق المال، أو عدم انضباط في علاقاتك الاجتماعية، فاعلم علم اليقين أن هذا من نقص إيمانك، إما بعلم الله أو بقدرته، أما إذا أيقنت أن الله يعلم وأن الله قدير وسيحاسب لا يمكن أن تتفلت من قبضته، لذلك يقول الله عز وجل: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ كلمة (زعم) تعني أن هذا ادعاء كاذب، وأنهم لن يُبْعثوا:

﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37)﴾

[ سورة المؤمنون ]

وهل تصدقون أن أربعة أخماس أهل الأرض يعتقدون هكذا؟ هي الدنيا ولا شيء غيرها، لذلك يعملون فيها عمل الجبابرة من أجل أن يستمتعوا بها، هي جنتهم الوحيدة، والموت عندهم نهاية كل شيء، اذهب إلى قارات الأرض الخمس تجد أن معظم الناس هذه عقيدتهم، لذلك يتفلتون، الأمراض، والأوبئة، والانحرافات، والجرائم، واغتصاب الأموال، والعدوان على قدم وساق، لأنهم لا يعتقدون أن هناك إلهاً سيحاسبهم، أما المؤمن -والله الذي لا إله إلا هو-قبل أن ينطق بكلمة، وقبل أن يقف موقفاً، وقبل أن يَصِل إنساناً، وقبل أن يقطع إنساناً، وقبل أن يعطي إنساناً، وقبل أن يمنع إنساناً، وقبل أن يغضب، وقبل أن يرضى، وقبل أن يتحرك، وقبل أن يسافر، وقبل أن يتاجر، وقبل أن يسكن، وقبل أن يتزوج يطرح على نفسه هذا السؤال: ماذا سأجيب الله يوم القيامة عن هذا التصرف؟ هيئْ لله جواباً وافعل ما تشاء، إذا لم تستحِي من الله فافعل ما تشاء، إذا كان عملك موافقاً للمنهج الإلهي، إذا كان عملك يرضي الله عز وجل، فلا تعبأ بالناس، لا يعبأ بالناس إلا ضعاف العقول والدهماء من الناس، لكن العباقرة المؤمنين لا يعبؤون إلا بخالقهم، فقد يقفون موقفاً يسبب لهم متاعب كثيرة، لكن أرضوا بهذا خالقهم.
 

المؤمن الصادق لا يشغله شيء إلا أن يتعرف إلى منهج الله:


إذاً: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ الجواب: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي﴾ يقول الله عز وجل: يا محمد، قل لهم، وأقسم لهم بربك، طبعاً الإنسان متى يُقسم؟ لو أن إنساناً قال لك: كم الساعة الآن؟ هل يعقل أن تقول: والله العظيم الساعة السابعة، هو ما كذبك؟ تُقسم له إذا كذبك، إذا سألك إنسان سؤالاً طبيعيّاً ليس من البلاغة أن تُقسم له، أما حينما تُقسم له فمعنى ذلك أنه يكذبك، فهؤلاء لأنهم يكذبون اليوم الآخر، وأن الله سيبعثهم من قبورهم، وسيحاسبهم على أعمالهم حساباً دقيقاً.
تروي بعض الآثار أن الأغنياء يُحشرون يوم القيامة في أربع فرق، فريق جمع المال من حرام، وأنفقه في حرام، يقال: خذوه إلى النار، حسابه سريع جداً، وفريق جمع المال من حلال، وأنفقه في حرام، يُقال: خذوه إلى النار، وفريق جمع المال من حرام، وأنفقه في حلال، يُقال: خذوه إلى النار، أما الذي جمع أمواله من حلال، وأنفقها في حلال فيسأل: هل تاه بماله على عباد الله؟ هل ترك فرض صلاة؟ هل قصّر في طاعة الله؟ هل قال جيرانه: يا رب لقد أغنيته بين أظهرنا فقصّر في حقنا؟ ومن بلاغة النبي عليه الصلاة والسلام أنه يقول: تركته ومازال يُسأل ويُسأل، أي أمامه قائمة أسئلة طويلة.
إخواننا الكرام؛ لو أن الواحد منّا قبل أن يفعل شيئاً تصور أنه بين يدي الله عز وجل، لماذا فعلت كذا؟ لماذا اغتصبت هذا المال؟ لماذا أخرجت شريكك من هذه الشركة؟ لماذا طلقت فلانة؟ لمَ لم تعدل مع فلانة؟ إذا تصورت أن الله سيسألك عن كل شيء هيئ الجواب، وافعل فعلاً مغطًّى بجواب يقبله الله عز وجل، فلذلك المؤمن في مثل هذا الموضوع وقّاف عند كتاب الله، المؤمن الصادق لا يشغله شيء إلا أن يتعرف إلى منهج الله، إلى الأمر والنهي، ماذا يرضي الله وماذا يغضبه؟ ما الحلال وما الحرام؟ ما الحق وما الباطل؟ ما الخير وما الشر؟ ماذا يمكن أن يكون وماذا لا يمكن أن يكون؟ بعد أن يعرف المؤمن ربه لا شيء يشغله إلا معرفة الأمر والنهي، لأنه الآن سيتحرك.
 

الإيمان الكامل إيمان يتبعه طاعة لأوامر الله عز وجل:


هناك نقطة مهمة جداً الله جلّ جلاله ذكرها كثيراً، أنت حينما تؤمن بالله تظن أن هذا الإيمان هو نهاية المطاف، تأتي بآيات كونية، تأتي بآيات قرآنية، تأتي بحوادث تؤكد أنك مؤمن، لا، هذا ليس نهاية المطاف، إنه بداية المطاف، بعد أن آمنت بالله ماذا فعلت؟ لأن الله عز وجل يقول:

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)﴾

[ سورة الكهف ]

الآن أنت إذا آمنت أن الله إله واحد، ماذا عليك أن تفعل؟ لو أنك آمنتَ أن الله موجود، هو موجود، لو أنك آمنت أن الله واحد، هو واحد، لو أنك آمنت أن الله كامل، هو كامل، لو أنك آمنت أن القرآن كلامه، هو كلامه، لو أنك آمنت أن الإسلام حق، الإسلام حق فعلاً، أي شيء آمنت به، ولم يتْبع هذا الإيمان حركة وموقفاً وانصياعاً وطاعة لا قيمة له، لأن إبليس قال:

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82)﴾

[ سورة ص  ]

﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)﴾

[ سورة التوبة ]

يصلون، وينفقون، وهم عند الله كافرون، إذاً هذه النقطة الأساسية أن الإنسان قد يقرأ كثيراً، قد يستمع إلى أشرطة، قد يحضر دروس علم، إذا كان في بيته هوَ هو، في عمله هو هُو، في علاقاته، وفي كسبه للمال، في إنفاقه للمال، في أوقات فراغه، في أفراحه، في أتراحه، في علاقاته الاجتماعية لا يأتمر بما أمر الله، ولا ينتهي عما نهى الله عنه، لكنه مغرم بدروس العلم، ومعرفة الحق، هذا الإيمان سماه بعض العلماء إيمان إبليسيّ، لا يقدم ولا يؤخر.

  التطبيق هو الذي يصل الإنسان بالله ويجعله يتألق:


من أجل أن تكسبوا أوقاتكم، من أجل أن تتحركوا حركة صحيحة لابدّ من أن تطبقوا، فلذلك قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ آمنت أن الله موجود، ألا تحب أن تلتقي به؟ ألا تُحب أن تصل إليه؟ ألا تُحب أن تكسب رضاه؟ ألا تُحب أن يحبك الله؟ ألا تُحب أن يشملك الله برحمته؟ بعنايته؟ بتوفيقه؟ بتأييده؟ يحفظه؟ ألا تحب أن تسعد بقربه؟ ألا تحب أن تذوق طعم القرب منه؟ عليك أن تطيعه، من هنا كانت الطاعة هي الفوز، قال تعالى:

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)﴾

[ سورة الأحزاب ]

لا تقيّم نفسك لا في ضوء أفكارك، ولا في ضوء كتبك، ولا في ضوء طلاقة لسانك في الإسلام، لا تقيّم نفسك إلا من خلال مدى تطبيقك لما جاء في الكتاب والسنة، التطبيق هو الذي يرفعك، التطبيق هو الذي يصلك بالله، التطبيق هو الذي ينعشك، التطبيق هو الذي يجعلك تتألق، إذاً: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا﴾ .
 

القلب معقد الآمال:


كلما قال لي أحد الإخوة: أشكو من فتور في قلبي، أشكو من ضعف في صلاتي، أشكو من جفوة في قراءتي للقرآن، أقرأ فلا أشعر بشيء، أصلي فلا أشعر بشيء، أصلي الليل فلا أشعر بشيء، أذكر الله فلا أشعر بشيء، إن لم تشعر بشيء لا في صلاتك، ولا في ذكرك، ولا في تلاوتك، فهناك مشكلة كبيرة، معنى ذلك أن هناك حجاباً بينك وبين الله، هذا الحجاب بسبب معصية، أو مخالفة، أو سوء ظنّ، أو التفات إلى إنسان منحرف، أو تعلق بالدنيا، فالإنسان يجب أن يكون حكيم نفسه، وطبيب قلبه، والقلب هو معقد الآمال لقول الله عز وجل:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾

[ سورة الشعراء ]

 

بطولة الإنسان أن يتعامل مع الواقع:


إذاً: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ هذا زعمهم، إذا نفى إنسان الامتحان فهل نفي الامتحان يلغي الامتحان؟ لا، في العلوم شيء دقيق هو قانون السقوط، سقوط الأجسام لها قانون، لو أن الإنسان أراد أن يهبط من الطائرة، إما أن يحترم قانون السقوط، فيتخذ مظلة يهبط بها فيغدو سالماً في الأرض، وإما أن يحتقر هذا القانون فلا يستخدم هذه المظلة، يلقي بجسمه من الطائرة فيأتي ميتاً، هو حينما لم يحترم هذا القانون، أو حينما كذب بهذا القانون، هل معنى ذلك أن هذا القانون توقفت قواعده؟ لا، القانون مطبق تطبيقاً حتمياً، أعجبك أم لم يعجبك، آمنت به أم لم تؤمن، فرحت به أم لم تفرح، القانون مطبق.
إذا زعم إنسان أنه ليس هناك جنة ولا نار هل بهذا الزعم ألغى الجنة والنار؟ لا والله، الجنة موجودة، والنار موجودة.
أعرف رجلاً أسرف على نفسه في الشهوات إسرافاً غير معقول، وكان في الثامنة والثلاثين من عمره، أُصيب بمرض خبيث في دمه، حينما جاء المرض ظنه مرضاً عارضاً، هو مرح جداً، ويستقدم إلى بيته الذي لا يرضي الله عز وجل، فحينما علم أنه مصاب بهذا المرض الخبيث، وأن بينه وبين الموت زمناً قصيراً بدأ يصاب بنوبات هستيرية، يقول: لا أريد أن أموت، فلما جاءه ملك الموت صرخ صوتاً ما بقي في البناء كله ذي الأربع طوابق إنسان إلا وسمع الصوت.
إذا أنكر إنسان الدار الآخرة هل معنى ذلك أنه ألغى الآخرة؟ إذا أنكر الموت هل معنى ذلك أنه ألغى الموت؟ أوقف الموت؟ شيء مستحيل، فالبطولة أن تتعامل مع الواقع، أن تتعامل مع قوانين الله، البطولة ألا تندم، لأن الندم تفسيره أنك لم تُعِمل عقلك، فالإنسان عندما يتحرك حركة خاطئة سوف يندم، الندم دليل أنه لم يستخدم عقله، إذاً يقول الله عز وجل: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ .
 

الموت ليس نهاية الحي لأن حياة الإنسان أبدية:


نحن جميعاً سوف نموت شئنا أم أبينا، وسوف ندخل القبر، وسوف نُبعث من القبور، لأن الموت ليس نهاية الحي، حياة الإنسان أبدية، والقبر ليس آخر بيوته، القبر يزوره زيارة، والدليل أن الله عز وجل يقول:

﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)﴾

[ سورة التكاثر ]

لماذا قال: ﴿زُرْتُمُ﴾ لأن الإنسان يزور القبر، ثم يخرج منه ليُبعث حياً، ليُحاسب عن كل أعماله صغيرها وكبيرها، أحياناً يُطْلق الإنسان لابنته العنان، تتحرك كما تشاء، ترتدي أي ثياب، لا يمنعها إن أبدت مفاتنها للناس، بل يطرب لذلك، قد تأتي يوم القيامة تقول: يا رب، لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي.
إذا أيقن الإنسان أنه سيحاسب والله لخرج من جلده خوفاً، قال: لو تعلمون ما أنتم عليه بعد الموت ما أكلتم طعاماً عن شهوة، ولا دخلتم بيتاً تستظلون فيه، ولذهبتم إلى الصعدات تلدمون وجوهكم، وتبكون على أنفسكم.
أحياناً يقال لإنسان: تعال الخميس راجعنا، لا ينام الليل، يتوقع ألف سؤال وألف مشكلة، إنسان عادي وقال لك: تعال الخميس راجعني لا تنام الليل فكيف إذا دعاك الله عز وجل الواحد الديان ليسألك عن كل شيء؟
 

الذكي من أطاع الله عز وجل:


إخواننا الكرام؛ لا أتمنى على الله من هذا الدرس إلا فكرة واحدة، أنه قبل أن تتحرك، قبل أن تنطق، قبل أن تصل، قبل أن تقطع، فكِّر بماذا تجيب الله يوم القيامة عن هذا العمل؟ إذا أخطأ إنسان معك في الحساب، هل تفرح؟ إن فرحت فأنت لا تعرف الله، يجب أن تؤدي له الحساب، الغلط مردود، أناس كثيرون يرون أن كسب المال الحرام ذكاء، أو شطارة، إنسان بموقع دقيق يبتز أموال الناس، يرى نفسه ذكياً، عاش في بحبوحة، جاء لأهله بأطيب الطعام، بأجمل اللباس، سكن أجمل بيت، لأنه قوي، واستطاع بقوته أن يبتز أموال الناس، وأن يخيفهم، يظن  أنه ذكي، وأنه عاقل، لا، ما دام هناك بعث ونشور، وحساب وعذاب، وجنة ونار، الذكي من أطاع الله، كفاك على عدوك نصراً أنه في معصية الله.

من اليسير على الله أن يسجل على الإنسان كل أعماله وحركاته وسكناته:


﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ تبعثنّ من قبوركم:

﴿ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)﴾

[ سورة يس ]

يأتي الجواب: ﴿هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾ .
 ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ شيء يحير، الإنسان الآن وصل إلى أشياء مذهلة بعقله، ممكن أن يضع خمسين ألف كتاب في قرص، ويقرأ مليوني حرف في ثانية، أي من العسير على الله عز وجل أن يسجل عليك كل أعمالك وحركاتك وسكناتك؟!

﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)﴾

[ سورة الإسراء ]

 

الله عز وجل قدراته مطلقة ليس له حدود:


إذاً: ﴿لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ أنت في الدنيا لك سرّ ولك علانية، لك باطن ولك ظاهر، لك خلوة ولك جلوة، لك بيت تأوي إليه، تفعل ما تشاء، أما إذا خرجت من البيت فتستطيع أن تظهر بأجمل مظهر، لكن الله سبحانه وتعالى لا تخفى عليه خافية لا في السماوات ولا في الأرض، فهذا النبأ ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ أي عملك الحقيقي، خلفياته، أهدافه، بواعثه، حجمه، نواياه المنطوي تحتها، هذا كله عند الله عز وجل:

﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)﴾

[ سورة الإسراء ]

يمكن أن تعمل عملاً صالحاً وهو عند الله ليس بصالح، يمكن أن تعمل عملاً صالحاً في ظاهره، ونيتك انتزاع إعجاب الآخرين:

(( عن أبي هريرة  إنَّ أوَّلَ الناسِ يُقْضَى يومَ القيامةِ عليه رجلٌ اسْتُشْهِدَ، فأُتِيَ بهِ، فعَرَّفَهُ نِعَمَهُ، فعَرَفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: قاتَلْتُ فِيكَ حتى اسْتُشْهِدْتُ، قال: كذبْتَ، ولكنَّكَ قاتَلْتَ لِيُقالَ جِريءٌ، فقدْ قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتَّى أُلْقِيَ في النارِ، ورجلٌ تعلَّمَ العِلْمَ وعلَّمَهُ، وقَرَأَ القُرآنَ، فأُتِيَ بهِ فعَرَّفَهُ نِعمَهُ ، فعَرَفَها ، قال : فما عمِلْتَ فيها؟ قال : تعلَّمْتُ العِلْمَ وعلَّمْتُهُ، وقَرَأْتُ فِيكَ القُرآنَ، قال: كذبْتَ، ولكنَّكَ تعلَّمْتَ العِلْمَ لِيُقالَ عالِمٌ، وقرأْتَ القُرآنَ لِيُقالَ: هو قارِئٌ فقدْ قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلْقِيَ في النارِ، ورجُلٌ وسَّعَ اللهُ عليْهِ، وأعْطاهُ من أصنافِ المالِ كُلِّهِ، فأُتِيَ بهِ فعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فعَرَفَها، قال: فمَا عمِلْتَ فيها؟ قال: ما تركْتُ من سبيلٍ تُحِبُّ أنْ يُنفَقَ فيها إلَّا أنفقْتُ فيها لكَ، قال: كذبْتَ، ولكنَّكَ فعلْتَ لِيُقالَ: هوَ جَوَادٌ، فقدْ قِيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ، ثمَّ أُلْقِيَ في النارِ. ))

[ صحيح مسلم: صحيح الجامع ]

﴿لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ لست أنت فعلت كذا، فعلت كذا بنية كذا، بالباعث الفلاني، بالهدف الفلاني، بالحجم الفلاني، بالخلفية الفلانية، بالملابسات الفلانية، أي تحليل دقيق جداً لعمل الإنسان.
﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ الله عز وجل قال عن نفسه: إنه سريع الحساب، إنسان الآن يمكن أن يقرأ الإنسان في بعض الحواسيب المركزية أربعمئة وخمسين مليون حرف في ثانية، إذا كانت هذه سرعة حساب الإنسان فالله عز وجل لا يوجد زمن إطلاقاً، كن فيكون، لأن الله عز وجل قدراته مطلقة، مُطلق في قدرته، مُطلق في علمه، ليس له حدود، الإنسان له حدود.
 

الإيمان المنجي هو الإيمان الذي يحمل الإنسان على طاعة الله:


إذاً:

﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)﴾

[ سورة التغابن ]

آمن بالله الإيمان الصحيح، الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله لا فائدة منه، هذا إيمان إبليسي، الإيمان الذي يجعلك تغض بصرك عن محارم الله هو الإيمان الذي أراده الله، الإيمان الذي يجعلك تقول: أين الله؟ قال له: بعني هذه الشاة وخذ ثمنها؟ قال: ليست لي، قال له: قل لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب، قال له: ليست لي، قال له: خذ ثمنها؟ قال: والله إني لأشد الحاجة لثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت، أو أكلها الذئب لصدقني، فإني عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟
الإيمان الذي ينجيك هو الإيمان الذي يحملك على طاعة الله، هذا كلام مختصر ودقيق:

(( عن أبي موسى الأشعري:  أَبشِروا، و بَشِّروا مَن وراءَكم، أنه مَن شهِد أن لا إلهَ إلا اللهُ صادقًا دخل الجنَّةَ. ))

[ السلسلة الصحيحة: خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح على شرط مسلم  ]

من قال لا إله إلا الله بحقها دخل الجنة، قيل: وما حقها؟ قال: أن تحجبه عن محارم الله.
﴿وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ آمنوا بالله من خلال آياته الكونية، من خلال آياته القرآنية، من خلال آياته التكوينية، وآمنوا برسوله من خلال سنته القولية، والعملية، والإقرارية، إذا آمنت بالله من خلال كتابه، وآمنت بالله من خلال خلقه، وآمنت بالله من خلال أفعاله، وآمنت بالنبي عليه الصلاة والسلام من خلال سنته القولية والعملية والإقرارية، وحملك هذا الإيمان على طاعة الله فهذا هو الإيمان الذي يريده الله عز وجل.
 

الله عز وجل خلق الكون ونوره بالقرآن:


﴿ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)﴾

[ سورة التغابن ]

هذا الكتاب، لأن الله عز وجل قال: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ إذاً: ﴿وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ أي هذا القرآن:

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1)﴾

[ سورة الكهف ]

الكتاب يعادل الكون، الكون خلقه وهذا كلامه، خلق الكون، ونوّره بهذا النور، بهذا الكتاب الذي فيه إيضاح لكل شيء.
 

معرفة حقيقة الدنيا وحقيقة الإنسان:


في هذا الكتاب فلسفة الوجود، في هذا الكتاب فلسفة الحياة، حقيقة الحياة، في هذا الكتاب فلسفة الإنسان، قال تعالى:

﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)﴾

[ سورة القيامة ]

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115)﴾

[ سورة المؤمنون ]

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)﴾

[ سورة المعارج ]

﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)﴾

[ سورة النجم ]

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)﴾

[ سورة العصر ]

ينبغي أن تعرف حقيقة الإنسان من خلال هذا الكتاب، لأنه نور، وأن تعرف حقيقة الدنيا:

﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)﴾

[  سورة الحديد ]

 

الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف:


إن الحياة دار ابتلاء، الحياة دار انقطاع، الحياة دار تكليف، الحياة دار عمل، الحياة دار سعي، الحياة دار معرفة الله، الحياة مكان للعمل الصالح، هذه حقيقة الحياة، أكثر الناس يتوهمون أن الحياة شيء آخر، لابدّ من أن تعيش في بحبوحة، تتنعم، تأكل، تشرب، تستعلي على الناس، تعيش بأجمل مكان، بأحلى بيت، بأجمل سيارة، هذا هدف الناس، لأنهم ما عرفوا حقيقة الحياة الدنيا.
إذا جلس طالب في الامتحان، أو جلس في مدرسته، همه مكان قريب من النافذة حتى يتسلى، همه مجلة يتسلى بها أثناء إلقاء الدرس، همه طعام يأكله أثناء إلقاء الدرس، همه أن يضطجع حتى ينام أثناء إلقاء الدرس، هل عرف حقيقة المدرسة؟ ما فهم حقيقة المدرسة، دخل الامتحان بدأ يكتب خطوطاً للتسلية على ورق الامتحان، دون أن يقرأ الأسئلة، معنى ذلك أنه ما عرف حقيقة الامتحان، فالمشكلة أن الناس يجعلون الدنيا دار نعيم لا دار عمل، الدنيا دار عمل، الآخرة دار نعيم، دار جزاء، الدنيا دار تكليف، الآخرة دار تشريف، الدنيا دار سعي، الآخرة دار مكافأة.
 

الخبرة أعمق من العلم:


أنت من خلال النور تعرف حقيقة الكون:

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[ سورة الجاثية ]

تعرف حقيقة الإنسان، تعرف حقيقة الحياة الدنيا، هذا الذي سماه الله نوراً.
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ ، ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ عليم بما تعلمون هنا: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ الخبرة أعمق من العلم، يعلم الله ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، لأنه خبير.
 

معنى التغابن:


﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)﴾

[ سورة التغابن ]

أيها الأخوة؛ هذه السورة سميت بسورة التغابن، لأن أحد أسماء يوم القيامة هو التغابن، الإنسان يكتشف أنه مغبون، إذا باع الإنسان بيتاً؛ قيمته ثلاثون مليوناً، باعه بثلاثة ملايين، كان مسافراً لعشر سنوات، وعاد، ودخل عليه إنسان، عرض عليه ثلاثة ملايين، وجده مبلغاً كبيراً فباعه، وكتب عقداً، وسجله باسم المشتري، ثم اكتشف أن البيت ثمنه ثلاثون مليوناً، ألا يتألم أشدّ الألم في الدنيا؟ هذا اسمه الغبن، أن تعطي شيئاً ثميناً بثمن بخس، أو أن تشتري شيئاً سخيفاً بثمن باهظ، البائع قد يكون مغبوناً، والشاري مغبون.
ربنا عز وجل أراد الدنيا قضية مبادلة، معاوضة، فالإنسان ضحى بالدنيا من أجل الآخرة، آثر الآخرة على الدنيا، اشتروا الضلالة بالهدى، فالكافر اشترى الدنيا، وباع الآخرة، أما المؤمن فضحى بالدنيا، وسعى للآخرة، فهذا اليوم يوم التغابن، قال: كل الناس يحسون بالغبن، إلا أن الكافر يُحسّ بغبن كبير، أما المؤمن فيتمنى لو لم ينفق من عمره ساعة إلا في ذكر الله، وطاعته، والعمل الصالح، الغبن أن تكون في غرفة، وبإمكانك أن تأخذ منها كل شيء ثمين، أخذت الشيء الخسيس، يوجد أسف جداً، ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ أي الناس يغبنون بعضهم بعضاً، المؤمن يشعر بالغبن لأنه ضاع من وقته بعض الوقت لأنه لم يكن في ذكر الله، ولا في طاعته، مع أنه نجا، وهو في الجنة، لكن لا يندم المؤمن على شيء فاته من الدنيا إلا ساعة مرت عليه لم يذكر الله فيها، هذا أكبر ندمه، الكافر ضيّع الآخرة من أجل الدنيا.
 

الغبن أن تبيع الشيء الثمين بالسعر البخس:


الحقيقة الغبن لا يحتمل، من أشدّ أنواع الشعور الممض أن تشعر أنك مغبون، أحيانا الزوج يشعر أنه مغبون مع هذه الزوجة، كان بإمكانه أن يأخذ أفضل منها بكثير، وأحياناً الزوجة تشعر أنها مغبونة مع زوجها، وأحياناً التاجر يشعر أنه مغبون مع شريكه، والبائع كذلك، والشاري كذلك، فالغبن هو أن تبيع الشيء الثمين بالسعر البخس، أو أن تشتري الشيء الخسيس بالثمن البخس، والآخرة تجارة:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾

[ سورة الصف ]

 

من أنفق ماله وصحته وحياته وفراغه في طاعة الله فقد ربح الدنيا والآخرة:


رأسمالك حياتك، وفراغك، وصحتك، ومالك، فإذا أنفقت المال والحياة والصحة والفراغ في طاعة الله كسبت السلامة في الدنيا، والجنة في الآخرة، هذه هي التجارة الرابحة، قال تعالى: 

﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)﴾

[ سورة التغابن ]

هذا طريق النجاة، ومن يؤمن بالله الإيمان الصحيح، ويعمل صالحاً، مؤكداً إيمانه بالله الصحيح يكفِّر عنه سيئاته، الماضي مغطًّى بالمغفرة: ﴿وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .
 

الفوز العظيم أن تؤمن إيماناً صحيحاً وأن تعمل صالحاً كي تفوز بالجنة:


بعد هذا البيان الإلهي وهو: 

﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)﴾

[ سورة التغابن ]

 مقياس الفوز عندك ماذا؟ لو سألت آلاف الأشخاص: ما مقياس الفوز عندكم؟ قد يقول لك الحقيقة: المال، الغنى، الصحة، العلو في الأرض، لكن الله في هذا القرآن الكريم يقول: الفوز العظيم أن تؤمن إيماناً صحيحاً، وأن تعمل صالحاً كي تفوز بالجنة: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ أما الذين آبوا:

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)﴾

[ سورة التغابن ]

صار هناك الوضوح التام، يوم الجمع يوم الحساب، ما من إنسان إلا ويصاب بالغبن، حتى المؤمن يتمنى لو لم يتهاون في ثانية من عمره، أما غبن الكافر فكبير، لأنه في النار، المؤمن في الجنة، لكنه يتمنى أن يكون في أرقى درجاتها، كيف ضيّع هذه السهرة؟ كيف ضيّع هذا الوقت؟ كيف لم يحافظ على ما أمره الله تماماً، يشعر بالغبن أحياناً، أما الكافر فيشعر بغبن شديد جداً.

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)﴾

[ سورة التغابن ]

في الدرس القادم إن شاء الله ننتقل إلى قوله تعالى:

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾

[ سورة التغابن ]


الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور