الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الدنيا ساعة من جعلها طاعة كسب الأبد:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الرابع من سورة التغابن، ومع الآية التاسعة وهي قوله تعالى:
﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)﴾
ذكرت في الدرس الماضي أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11)﴾
فربنا سبحانه وتعالى عدّ الإيمان به، وعدّ طاعته والتقرب إليه، عدّ كل هذا تجارة رابحة، لكن الربح كبير جداً، فرأسمالك حياتك، رأسمالك شبابك، رأسمالك أمنك، رأسمالك فراغك، هذا الذي أعطاك عمراً و أعطاك قوة و أعطاك شباباً و أعطاك فراغاً و أعطاك طمأنينةً، هذه رأسمالك، فإذا وظفت هذا الرأسمال في طاعة الله ومعرفته والعمل له كسبت سلامة الدنيا وسعادتها، وسعادة الأبد إلى أبد الآبدين.
فالربح كبير جداً، نحن في الدنيا الأرباح بالمئة عشرة، خمسة عشر، عشرون، أما بالمئة ثلاثمئة فلا يصدق هذا الربح، والله لا أبالغ لو قلت: ربح الإنسان مع الله الوحدة من رأسماله تعادل مليارات، والله قليل، لأن الله عز وجل يقول:
﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾
الدنيا محدودة، والعمر محدود، وفي النهاية الإنسان بضعة أيام، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، الدنيا ساعة لو جعلها طاعة لكسب الأبد.
من تاجر مع الله كسب الدنيا والآخرة:
الذي يتاجر مع الله يقدم رأسماله في طاعة الله يكسب الدنيا والآخرة، هذا المعنى نفسه ذكره الله سبحانه وتعالى في سورة أخرى قال:
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾
يمكن أن تدفع ليرة وتأخذ ملياراً، يمكن أن تدفع ليرة وتأخذ مليون مليار، مليار مليار، شيء لا يصدق، أما الكفار والمنافقون:
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)﴾
ما ربحت تجارتهم، كأن الله سبحانه وتعالى يجعل علاقتك به نوعاً من التجارة تقدم له شيئاً ويعطيك أشياء:
﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)﴾
أيّ عمل صالح في الأرض هو إقراض لله عز وجل:
أيّ عمل صالح في الأرض هو إقراض لله عز وجل، وسوف تكافأ عليه يوم القيامة، قيل: مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إِلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَنْ يُكْرِمُهُ عِنْدَ سِنِّهِ.
فلأنّ أهل مكة كانوا تجاراً فالله سبحانه وتعالى يخاطبهم على قدر عقولهم، أي أيها المؤمن إذا تاجرت مع الله تربح ربحاً مجزياً، وإن أردت الدنيا وضيعت الآخرة، إن اشتريت الضلالة بالهدى تشتري العذاب بالمغفرة، إن اشتريت الدنيا وبعت الآخرة اقتنيت الخسيس وتركت النفيس، فربنا عز وجل يقول:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)﴾
هذا الذي آثر الدنيا على الآخرة، آثر القليل على الكثير، وآثر الخسيس على النفيس، وآثر الذي يفنى على الذي يبقى، وآثر دنيا محدودة مشحونة بالمتاعب على جنة كلها مسرات وسعادة، فالإنسان كلما رجح عقله ازداد حبه لله عز وجل، أرجحكم عقلاً أشدكم حباً لله.
من آثر الدنيا على الآخرة فعقله ضعيف:
قلت لكم مرة: لو أن إنسانًا خُيِّر بين ثلاثة أشياء، بين قطعة ألماس ثمنها خمسة ملايين، وكأس فضي ثمنه ألف ليرة، وقارورة زجاج وطنية ثمنها عشرون ليرة، قلنا لك: اختر من هذه الأشياء واحدة، فالذي يختار أكبر حجم وأبخس ثمن هناك ضعف في عقله، أنا أقول: أنا أعرف من نوع اختيارك رجاحة عقلك، فالذي آثر الدنيا عقله ضعيف، آيات كثيرة تشير إلى هذا المعنى ربنا عز وجل يقول:
﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)﴾
ازدراء بهم: ﴿وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا﴾ .
﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83)﴾
هذا قرار خطير أن تختار الدنيا أم أن تختار الآخرة؟ هذا قرار مصيري، لابدّ من أن تتخذ موقفاً واضحاً، ربنا عز وجل يقول: ﴿قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾ النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( ما أخذت الدنيا من الآخرة إلا كما أخذ المخيط إذا غمس في البحر مِن مائه. ))
[ الجامع الصغير عن المستورد بن شداد بسند صحيح ]
ليس في الدنيا تغابن بل التغابن في الآخرة:
آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تفيد أن نوع علاقتك مع الله بشكل أو بآخر، من زاوية أو أخرى هي علاقة تجارية، تقدم شيئاً وتأخذ أشياء كثيرة، فمن آثر الدنيا على الآخرة فقد وقع في خسارة محققة، هذه الخسارة سمّاها الله يوم القيامة: التغابن، غبن، كما لو بعت بيتاً قيمته عشرة ملايين بمليون واحد، يتألم البائع أشدّ الألم، أو كما لو اشتريت شيئاً بعشرة ملايين وثمنه مليوناً، هذا هو الغبن، الشعور بالخسارة الكبيرة، فربنا عز وجل يقول: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ قال بعض العلماء: التغابن ليس في أمور الدنيا أولاً، أي الذي نال مالاً وفيراً، أو مالاً قليلاً، الذي عاش بصحة عالية، والذي عاش بصحة متدنية، الذي عاش بحظ كبير أو بحظ قليل سواء، لأن الدنيا فانية فالتغابن فيها لا يقع.
مثلاً: إنسان مات في سن مبكرة، نقول نحن: مسكين، لم يعش طويلاً، لكن لو عاش عمراً مديداً سوف يموت، أُلقيت قنبلة على هيروشيما قتلت ثلاثمئة ألف إنسان في ثوان معدودة، بعد مئة عام لو لم تُلق هذه القنبلة هل بقي أحد من هؤلاء يعيش؟ لا.
فأجمل ما في هذه الآية أن العلماء يقولون: ليس هناك تغابن في الدنيا، إنسان سكن أجمل القصور، والثاني سكن كوخًا صغيراً، الموت ينهي غنى الغني وفقر الفقير، يلغي قوة القوي وضعف الضعيف، يلغي صحة الصحيح ومرض المريض، يلغي ذكاء الذكي وغباء الغبي، يلغي وسامة الوسيم ودمامة الدميم، يلغي الموت كل شيء، فليس هناك معنى إطلاقاً أن يكون التغابن في الدنيا، التغابن في الآخرة، مع أن الغبن في الدنيا مؤلم أشد الألم، فرضاً يقول لك إنسان: هذه الأرض بعتها بعشرة آلاف ليرة، الآن ثمنها اثنا عشر مليونًا، يتألم أشدّ الألم.
مثلاً باع بيتًا بسعر خسيس، ثم فوجئ أن سعره صار عشرين ضعفاً، خمسين ضعفاً، زهد في أرض شُقّ أمامها طريق فارتفع سعرها مئة ضعف، يتألم، ومع أن هذا الألم مؤقت، ومع أن المكسب مؤقت، وهناك ألم، فكيف لو ضاعت الآخرة كلها؟ قال تعالى: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ .
من غفل عن الله عز وجل غبن نفسه أشدّ الغبن:
الإنسان يجد نفسه مغبونًا أشد الغبن حينما يغفل عن الله عز وجل.
هناك حقيقة ثانية، هكذا قال بعض العلماء نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله سبحانه وتعالى يُطْلِع المؤمن على مكانه في النار لو لم يؤمن فتزداد سعادته في الجنة، ويُطْلع الكافر على مكانه في الجنة فتزداد حسرته في الآخرة، الإنسان يساق إلى النار، أيها الإنسان لو أنك عرفت الله في الدنيا، وآمنت به، وأطعت أمره، وتقربت إليه، وعبدته هذا مكانك في الجنة، تزداد حسرته .
والثاني: المؤمن يرى مكانه في النار لو لم يؤمن، أوضح مثلٍ: لو أن شريكين يعملان معاً، أحدهما اقترح على صاحبه أن يعملا في تجارة محرمة، ممنوعة في القانون، لأن أرباحها كبيرة جداً، الشريك رفض هذا الاقتراح، فلما رفض هذا الاقتراح فُكت الشركة، وذهب كل إلى حال سبيله، هذا الذي اختار الطريق الممنوع ربح أرباحاً طائلةً، ثم وقع في قبضة العدالة، وسيق إلى السجن، وحُكِم عليه بثلاثين عاماً، لو فرضنا مخدرات، الذي لم يختر هذا الطريق الوعر ذهب ليزوره، رأى مكانه في السجن، نوع طعامه، شقاءه، يأسه، ضعفه، فهذا الذي زاره في السجن يزداد شعوراً بالسعادة حينما يفخر بقراره المصيري، وهذا الذي هو في السجن يرى شريكه طليقاً حراً يعمل بطلاقة بين أهله وأولاده يزداد حسرة.
فحينما يرى المؤمن مكانه في النار لو لم يؤمن، وحينما يرى الكافر مكانه في الجنة لو آمن، الكافر يزداد حسرة، ويشعر بالغبن الفادح، والمؤمن تزداد سعادته، ويشعر بالرضا، إلا أن المؤمن لو دخل الجنة يتمنى أنه في الدنيا لم يضيع دقيقة واحدة، لو أن كل دقيقة عاشها في الدنيا استغلها في معرفة الله، وفي العمل الصالح، وفي الدعوة إلى الله، لكانت سعادته أكبر.
أحياناً يعمل الإنسان في تجارة رابحة جداً، يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، استوردنا مئة طن فربحنا أرباحاً طائلة، لو استوردنا مئتي طن، لو عملناهم ثلاثمئة طن، السوق يطلب كميات كبيرة جداً، والاستيراد سهل، والأرباح طائلة، فالذي ربح أرباحًا طائلة يتمنى لو ضاعف الكمية ليزداد ربحه.
فالله سبحانه وتعالى يسمي ذلك اليوم يومَ القيامة: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ أي كلٌّ يغبن نفسه، إلا أن الكافر غبنه شديد جداً، المسافة بين شقاء أبدي وبين سعادة أبدية، أما المؤمن المقتصد فيشعر بالغبن، ليتني كنت من السابقين، ليتني أنفقت كل أموالي في سبيل الله، هو أنفق الزكاة فقط، ليتني أنفقت فوق الزكاة أضعافًا مضاعفة، ليتني حفظت كتاب الله كله، ليتني درسته كله، ليتني أنفقت مالاً على مشروعات خيرية تكون لي ذخراً يوم القيامة.
التغابن في الدنيا لا يحتمل فكيف بخسارة الآخرة؟
إذاً يقول الله عز وجل: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ .
إخواننا الكرام؛ كلكم يعلم هذه الحقيقة، الشعور بالغبن ممض جداً، إنسان يبيع بيتاً بعشر ثمنه، تُستغل سذاجته، ويُوقِّع، ويفرغ البيت، وينتهي الأمر، ولا عودة من هذا القرار، يتألم أشد الألم، هناك قصص كثيرة، هناك أناس كثيرون أصابتهم أزمات قلبية، وفقدوا حياتهم لشعورهم بالغبن الفادح، أحياناً خسارة مؤلمة يموت فوراً، مئات القصص سمعتها عن إنسان مات فجأة بسكتة قلبية، لأنه تلقى نبأ لم يحتمله، نبأ خسارة، احترق المعمل مات، كلفوه بضريبة فوق طاقته مات فوراً، فلذلك التغابن في الدنيا لا يُحتمل، فكيف أن يخسر الإنسان حياة الأبد؟ جنة عرضها السماوات والأرض؟! ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ .
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها:
التغابن فيه معنى المشاركة، أي كلّ يشعر بغبن الآخر، أما حتى أهل الإيمان فيتمنون أن يكونوا في أعلى مستوى، في درجة أعلى، أو لعل هذا التمني في أول الحساب، فإذا دخلوا إلى الجنة، واستقروا فيها سعدوا سعادة لا يعرفها الذين معهم: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾ دائماً وأبداً كتاب الله عز وجل يطمئن، أيها المؤمن لا تفكر في الماضي.
سأل أستاذ علم نفس في جامعة طلابه: هل جربتم نشر الخشب؟ قالوا: نعم، ثم سأل: هل جربتم نشر النشارة؟ قالوا: لا، مستحيل، النشارة لا تنشر، هي منشورة وانتهت، قال: كذلك الذي يفكر في الماضي، الماضي مضيعة وقت التفكير فيه، ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها، الماضي مضى اطوِ صفحة، أغلقْ هذا الملف، كأن لم يكن، لأن الحديث عن الماضي لا يُجدي أبداً، امدح ماضيك أو ذمّ ماضيك، الماضي مضى، الساعة التي مضت لا تعود، خُتِم بها العمل، والمستقبل لا تملكه، إذاً لك الساعة التي أنت فيها، هذا الإنسان العملي، هناك إنسان حالم، يعيش في مستقبل موهوم، هذا الذي اضطجع تحت قدر عسل، قال: سوف أبيع هذا العسل، وسوف أشتري الأنعام، وسوف أصبح غنياً، وسوف أتزوج، وسوف أنجب، وسوف أؤدب أطفالي، ورفع عصاه، وضرب القدر، فانكسر القدر، وسال العسل، وضاعت كل أحلامه.
هناك إنسان حالم، يعيش مستقبلاً فارغاً، وهناك إنسان يجتر الماضي، يحدثك عشرين ساعة عن الماضي، الماضي مضى، الآن قل: البيت كان بثلاثة آلاف، هل ينفعك هذا الكلام؟ كان هناك بيت بستة آلاف أو سبعة بالمهاجرين، بيت فخم جداً بثلاثين ألفاً، الآن إذا قلت هذه الأسعار هل تحل مشكلة؟ لا تحل، الآن البيت بالملايين، ما مضى مضى والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها، فالحديث عن الماضي مضيعة وقت، والأحلام الفارغة قد لا تصلها، إنسان توفي أحد أقربائه، هذا القريب ترك ألف مليون، نصيبه وحده تسعون مليونًا، ترك دكانه، وانطلق ليتابع إجراءات الإرث، ستة أشهر وهو يبحث من دائرة إلى دائرة، براءات الذمة، حصر الإرث، إلى آخره، وافته المنية وهو في الحمام قبل أن يقبض قرشاً واحداً، الثاني، المؤمل غيب، ماذا تملك؟ لك الساعة التي أنت فيها، في هذه الساعة تب إلى الله، في هذه الساعة اعمل صالحاً، في هذه الساعة اتّقِ الله، في هذه الساعة تعلّم القرآن، في هذه الساعة ائمر بالمعروف، انهَ عن المنكر، لك الساعة التي أنت فيها، أنت لا تملك إلا هذه الساعة.
﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)﴾
الماضي مغطى بالمغفرة، لا تجعل الماضي عقبة، وفي الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
(( عن أنس بن مالك قال اللهُ تعالى : يا بنَ آدمَ! إِنَّكَ ما دَعَوْتَنِي ورَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لكَ على ما كان فيكَ ولا أُبالِي، يا بنَ آدمَ! لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنانَ السَّماءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لكَ ولا أُبالِي، يا بنَ آدمَ! لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأرضِ خطَايا ثُمَّ لَقِيْتَني لا تُشْرِكْ بِيْ شَيْئَا لأتيْتُكَ بِقِرَابِها مَغْفِرَةً. ))
[ صحيح الترغيب حسن لغيره أخرجه الترمذي ]
الصلحة بلمحة، لو عرفت أن الله سبحانه وتعالى يفرح بتوبتك، لو عرفت أن الله سبحانه وتعالى ينتظر توبتك، لو عرفت أنك عند الله سبحانه وتعالى مطلوب، مهما يكن هذا الإنسان هو مطلوب عند الله برحمته:
﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)﴾
أحد الصالحين قال: يا رب نحن شيء ورحمتك وسعت كل شيء فارحمنا: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .
المتفوق من يبحث عن رحمة الله في مكانها لا في الدنيا وزخارفها:
العجب العجاب من إنسان متردد، من إنسان لم ينطلق، من إنسان حائر، من إنسان يستهلك الوقت استهلاكاً رخيصاً، من إنسان لم يعرف سرّ وجوده، ولا غاية وجوده، هذا شيء يدعو إلى العجب ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾ الماضية ﴿وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ﴾ في المستقبل ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ .
كل إنسان يحب التفوق، أبداً، يحب الفوز، يحب الفلاح، النجاح، المشكلة كما قلت في الخطبة اليوم: الإنسان حينما يبحث عن اللؤلؤ في الصحراء هو يبحث عن كنز، لكن هذا الكنز الذي هو اللؤلؤ لن تجده في الصحراء، هو في البحار، فينبغي أن تبحث عن رحمة الله في مظانها، لا في الدنيا، لا في مالها، لا في زخارفها، في حقيقتها، وهي أن تعرف الله فيها.
الناس رجلان؛ برّ تقي وفاجر شقي:
﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(10)﴾
في النهاية نحن نعد تقسيمات كبيرة جداً بحسب ألواننا، بحسب أعراقنا، بحسب أجناسنا، بحسب بيئتنا، بحسب ثقافتنا، بحسب دخلنا، بحسب أعمالنا، بحسب عقلياتنا، آلاف مؤلفة، كل إنسان نسيج وحده، لكن مصير البشرية جمعاء إلى صنفين، مؤمن وكافر، الناس رجلان، برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقي هيّن على الله، فالإنسان إن لم يكن مع الحق فهو مع الباطل، وهذه حقيقة خطيرة، أحياناً الإنسان يتساهل، الآية الكريمة:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
هناك خطان لا ثالث لهما، إن لم تكن على أحدهما فأنت على الثاني قطعاً، والحق لا يتعدد، لأنه لا يوجد حقان، الحق واحد، إن لم تكن على الحق فأنت على الباطل، إن لم تكن مؤمناً مثلاً الآية الأولى:
﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)﴾
فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، في الحياة الدنيا أصحاب الدخل الكبير، وأصحاب الدخل القليل، وهناك ما بينهما، يقول لك: مستورة، كفاف، يوجد بالحياة وسط، هناك غنى، وهناك فقر، وهناك وسط، هناك مرض عضال، وهناك صحة تامة، وهناك أمراض خفيفة محتملة، معه أسيد أوريك، الحمية تفيده، معه سكر، الحمية تفيده، هناك أمراض وبيلة وهناك صحة تامة، وهناك أمراض خفيفة تُحتمل، الإنسان يتعايش معها، هذا في الدنيا أيها الإخوة، أما الآخرة فلا يوجد فيها شيء من هذا، فو الذي نفس محمد بيده ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، إن لم نكن على الحق فنحن على الباطل، إن لم تكن مستقيماً فأنت منحرف، إن لم يكن دخلك حلالاً فدخلك حرام، إن لم تكن مع الله فأنت مع الشيطان.
من فهم حكمة المصيبة قبِلها:
الآن الآية الكريمة:
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾
الحقيقة أن الحياة الدنيا مشحونة بالمصائب لحكمة بالغة بالغةٍ أرادها الله، المشكلة ليست في المصيبة، المشكلة في تفسير هذه المصيبة، فعندما يجلس إنسان عند طبيب أسنان، وهذا الطبيب قد لا يناسب المريض أن يعطيه مخدراً لأسباب صحية، فحينما يحفر ضرسه، وفيه عصب حساس جداً ويتألم ألماً لا يحتمل لماذا يصبر المريض؟ لأنه يعلم أن هذا لصالحه، فإذا فَهِم حكمة المصيبة قبِلها، أما إذا لم يفهم حكمتها فسحقته المصيبة، فهناك مصائب، بين أن تفهمها علاجاً، وبين أن تفهمها انتقاماً، بين أن تفهمها يد عادلة حكيمة، وبين أن تفهم المصائب خبط عشواء تصيب أو لا تصيب، بين أن تفهم عن الله عدالته، وبين أن تتوهم أن هناك حظوظاً بلا مبررات، فربنا عز وجل يطمئننا يقول: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ ذكرت هذا كثيراً جداً، كلمة: ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ هذه (من) تفيد في اللغة العربية استغراق أفراد النوع مهما دقت، فإذا قال لك شخص: هل عندك رغبة أن نعمل عملاً تجارياً معاً؟ تقول له: ما المشروع؟ يقول لك: نفتح مثلاً معهداً تعليميًّاً، أو تجارة، أو استيراداً، تقول: كم يكلف هذا المشروع؟ يقول لك: خمسة ملايين، أنت معك مليون واحد، يريد النصف، تقول: ما عندي مال لهذا المشروع، كلمة ما عندي مال لهذا المشروع تعني أنه ليس معك ثلاثة ملايين، نصف التكلفة، لكن يوجد معك مليون، كلمة ما عندي مال لا تعني أنك لا تملك مليونًا، لكن تعني أنك لا تملك المال الكافي لهذا المشروع، الآن دقق، لو قلت لهذا الذي عرض عليك المشروع: ما عندي من مال، أي ليس معك ولا ليرة واحدة، لأن من تفيد استغراق أفراد النوع، ما عندي من مال، ولا ليرة.
أيّ مصيبة مهما كانت في جميع شؤون الحياة لا تكون إلا بإذن الله:
الآن طبق هذه القاعدة -(من) لاستغراق أفراد النوع-في هذه الآية: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ مسمار في باب لم تنتبه إليه فخدش جلدك خدشًا بسيطًا، هذه مصيبة، بهذا المستوى، إنسان سمع بوق سيارة فجأة فارتعد ثانية وانتهى الأمر، ما من عثرة –وقع-ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم، وما يعفو الله أكثر.
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ أيّة مصيبة صغيرة أو كبيرة، مادية أو معنوية، في النفس، في الأولاد، في الزوجة، في الأهل، في المال، في البيت، في الماضي، في الحاضر، في المستقبل، كبيرة، صغيرة، معنوية، أدبية، كلامية، مالية، جسمية، صحية: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ، ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ ، أي أَذِن الله أن تكون، ومعنى أَذِن أن تكون أي هذه المصيبة المؤلمة ما الذي سمح لها أن تصل إليك؟ تصور إنسانًا يمسك بيده زمام وحش، وإنسانًا يقف في مكان ما، فإذا أرخينا زمام هذا الوحش وصل إلى هذا الإنسان، وإذا شددنا الزمام ابتعد عنه.
ما معنى أن يأذن الله لمصيبة أن تقع؟ أي سمح لها أن تصل إليك، إذاً من الذي سمح لها؟ رب كريم، خالق عظيم، عليم حكيم، كريم عادل.
من تنكشف له الحكمة من المصيبة تنقلب المصيبة عنده إلى نعمة:
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ الله عز وجل حينما يأذن أي سمح للسبب أن يفعل فعله، لو فرضنا ناراً، الله عز وجل أودع فيها قوة الإحراق، متى يأذن الله للنار أن تُحرق؟ عندما يجمع بين هذا الشيء الذي أذن له أن يحرق وبين النار، الجمع هو الإذن، أحياناً النار لا تؤثر كما حصل مع سيدنا إبراهيم عليه السلام لم تفعل فعلها، الله لم يأذن لها أن تحرق.
الله جلّ جلاله أَذِن لهذا الدواء أن يفعل فعله، أو لم يأذن، الدواء لم يأذن الله له أن يفعل فعله فالمريض لم يشفَ من مرضه، أحياناً أذن الله لهذه الشظية الطائشة أن تصل لفلان فأصيب بجراح، أو لم يأذن له، أذِن لهذه النقطة من الدم المتجمدة أن تصل إلى مركز الذاكرة في الدماغ فقد ذاكرته، هذه مصيبة، من أذن لهذه الخثرة أن تصل إلى هذا المكان؟ الله جل جلاله.
فأنت لمجرد أن توقن أن كل مصيبة وقعت أَذِن الله بها، والله كريم، والله رحيم، والله عز وجل عادل، والله غني، والله مربٍّ، إذا انكشفت لك الحكمة في المصيبة انقلبت المصيبة إلى نعمة.
شخص يسير في السوق، تلقى ضرباً على رقبته شديداً، فغلى دمه، والتفت ليبطش بالضارب، فإذا عقرب على الأرض، كان هذا الإنسان قد نفضه عن رقبته، كيف في ثانية واحدة ينقلب حمقه رضاً وشكراً! هناك أمثلة كثيرة، يتبدل ضيق الإنسان وألمه في ثانية إلى شكر.
وأنا أعتقد أن في حياة كل واحد من إخواننا الكرام يوجد شيء ظاهره مؤلم جداً، بعد حين تكشف عن خير كبير فشكر الله.
مرة قلت لكم: لي قريبة فحصت نفسها في مستشفى، فكانت النتيجة مؤلمة جداً، مرض في الصدر خطير، فانزوت في غرفتها، وجعلت تبكي وتبكي، المرض مُعدٍ، عزلت عن أخواتها، أكلت وحدها، أدواتها وحدها، اسودت الدنيا في عينيها، وتألمت أشد الألم، ويئست أشد اليأس، ثم خطر لها أن تتوب إلى الله، فتابت، وصلّت، وتحجبت، وقرأت القرآن، والتفتت إلى الله، ثم فوجئت أن هذه النتيجة لم تكن لها، أعطيت لها بالخطأ، إذاً هذه الأيام المؤلمة التي أمضتها هذه الفتاة تحت شبح هذا المرض الخطير، بهذا المرض الخطير أو بهذا الشبح الخطير نقلها الله عز وجل من التفلت إلى التوبة، ومن الجهل إلى العلم، ومن الضياع إلى الوجدان، بعد حين حينما ترقى في معرفة الله، وتتصل بالله، ألا تشكر الله على هذه الأزمة التي ألمت بها؟ من أعماقها.
من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر:
صدقوني أيها الأخوة؛ كل واحد منا صادق مع الله حينما يكشف الله له حكمة المصيبة التي ألمت به يذوب كالشمعة شكراً لله على هذه المصيبة، لعله في أولها يتألم، لعله وهو فيها يتألم، أما حينما يرى نتائجها فيشكر الله عليها.
أعرف شخصًا متفلّتاً هو وزوجته أشد التفلت، عقيدته فاسدة أشد الفساد، ليس عنده شيء اسمه حلال ولا حرام، ولا آخرة، ولا دنيا، يعيش لحظته، له فتاة يموت في حبها، بنت صغيرة، ابنته، أصيبت بمرض عضال في جسمها، لم يدَع طبيباً، اضطر إلى أن يبيع بيته، ثم في النهاية جاءه إلهام الملَك أن أيها الإنسان تب إلى الله أنت وزوجتك فلعل الله يشفيها وتاب، وبعد حين تراجع المرض شيئاً فشيئاً، ودعيتُ إلى إلقاء كلمة في عقد قران هذه الفتاة، قلت له: هيَ هِي، فقال لي: هي هِي، عاد هو وزوجته إلى الله، وتابا، وأقبلا، وصَلُح إيمانهما، وسعدا في الدنيا، وهذا المرض جاء كالضيف، ثم خرج، جاء وهما متفلتان، وخرج وهما تائبان، فإذا تذكرا هذا المرض ألا يشكران الله عز وجل على أن ساق لابنتهما هذا المرض؟ والبنت شفيت منه، وتزوجت، وهي الآن قرة عين أبيها، هكذا أفعال الله عز وجل.
أيها الأخوة الكرام؛ المصيبة الحقيقية ألا تؤثر المصيبة في الإنسان، هذه أكبر مصيبة، حينما يصاب الإنسان بمصيبة، ولا يتأثر بها، ولا يفسرها تفسيراً تربوياً إلهياً فهو في أكبر مصيبة، من لم تحدث المصيبة في نفسه موعظة فمصيبته في نفسه أكبر.
إلا أن النقطة الدقيقة في هذه الآية: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ والله لو وقفت عند هذه الكلمة: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي الله سمح بها، العليم سمح، الرب الرحيم سمح، الغني سمح، العادل سمح، الحكيم سمح، معنى ذلك أن المصيبة فيها عدل وفيها رحمة وفيها حكمة وفيها تربية، هكذا المعنى، إذا قلت: فلان الطبيب وصف هذا الدواء، معنى ذلك أنه دواء مناسب جداً، إذا قلت: أستاذ الرياضيات في الجامعة قال كذا، يعني أن كلامه صحيح، فحينما يقول الله عز وجل: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ أي أن أسماء الله الحسنى كلها في هذه المصبية، وربنا عز وجل ذكر في القرآن الكريم قصة أصحاب السفينة التي خُرِقت سفينتهم، شيء مؤلم جداً، سفينة جديدة تخرق؟! فلما عُلِم بعد حين أنها نجت من المصادرة انقلبت من مصيبة إلى عمل طيب.
وأصحاب الجنة الذين أقسموا ألا يعطوا الفقير، فلما طاف على جنتهم طائف أذهب محصولهم، تألموا ألماً شديداً، فلما كانت هذه المصيبة سبب هدايتهم عندئذ سعدوا أعظم السعادة، ربنا عز وجل علّق على هذه القصة في سورة القلم قال:
﴿ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)﴾
أي يا عبادي كل أنواع العذاب الذي أسوقه لعبادي في الدنيا من هذا النوع، اجعل هذه القصة مثلاً وقس عليها كل قصة:
كن عن همومك معرضاً وكِلِ الأمور إلى القضــــا
وأبشر بخيــــــر عاجــل تنســى به ما قد مضـــــى
فلرُبّ أمـــــــر مسخــط لـك فــــــي عواقبـه رضـا
ولربما ضـــاق المضـيق ولربمـــــا اتسع الفضـــــا
الله يفعـــــــل ما يشـــاء فلا تكــــــــن معترضـــــا
الله عــــــوّدك الجمـــيل فقس على ما قد مـضــــى
المصائب هي النعم الباطنة:
﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾
الآن: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ﴾ أن الذي ساق هذه المصيبة هو إله رحيم، ورب كريم، وأحكم الحاكمين، وهو إله عادل، يربينا، عنده خزائن كل شيء، يُفقر الإنسان، لا لأن الله لا يملك أن يطعمه، لكن ليؤدبه: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ إلى حكمة هذه المصيبة، وإذا ظهرت الحكمة انقلبت المصيبة إلى رحمة، انقلبت إلى نعمة، قال تعالى:
﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)﴾
المصائب هي النعم الباطنة، إذا انكشفت لك حكمة المصيبة انقلبت المصيبة إلى رحمة، أو إلى نعمة. ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ .
المصيبة إن كانت تأديباً يترك الإنسان الذنب وإن كانت ترقية يصبر:
هناك معنى ثانٍ، والثاني ثمين جداً، ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ ويستقم على أمر الله لماذا المصيبة؟ قال تعالى:
﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾
أي إن أردت ألا تكون مصيبة فآمن بالله، واستقم على أمره، واهتدِ إلى رضوانه، ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ إذا آمنت أن الله رب العالمين، وهو أرحم الراحمين، وهو أحكم الحاكمين، هداك إلى حكمتها، فإذا هداك إلى حكمتها انقلبت هذه المصيبة إلى نعمة باطنة، أو لو أن هذه المصيبة مصيبة ردع فتبت من ذنبك، واستقمت على الأمر، وانتهى الأمر، إما أن يكشف لك أنها ترقى بك، أو أنها تأديب لك، إن كانت تأديباً تركت الذنب، وإن كانت ترقية صبرت.
المعنى الثاني: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ إلى طاعته، وإلى الفوز برضوانه، وإلى العمل بشرعه، عندئذ لا يستحق المصيبة، ولا يحتاجها إطلاقاً: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .
المؤمن يفهم المصيبة أنها نعمة باطنة وتأديب وابتلاء:
أيها الأخوة؛ مرة ثالثة، ورابعة، وخامسة: فلسفة المصائب جزء من عقيدة المسلم، الكافر كالناقة عقَلَها أهلُها، لا تدري لمَ عُقِلتْ؟ ولا لمَ أُطلَقت؟ الآن أكثر الناس يفسرون المصائب بأن الدهر يومان؛ يوم لك ويوم عليك، فلان ليس له حظ، فلان القدر له بالمرصاد، كلام ليس له معنى، كلام فيه كفر، كلام فيه نقض لرحمة الله عز وجل، فيه نقض لحكمته، نقض لتأديبه، لربوبيته، أما المؤمن فيفهم المصيبة على النحو الذي أراد الله عز وجل، يفهمها نعمة باطنةً، يفهمها تأديباً، يفهمها ابتلاءً، يفهمها ترقيةً، يفهمها محبةً: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ .
الملف مدقق