وضع داكن
30-06-2024
Logo
الدرس : 1 - سورة التغابن - تفسير الآيات 1-3 أعلى أنواع التكريم أن الكون كله مسخر للإنسان بنص القرآن الكريم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

معنى التسبيح:


أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الأول من سورة التغابن:

﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)﴾

[ سورة التغابن ]

التسبيح أيها الأخوة؛ ذكرت هذا كثيراً من قبل، التسبيح هو التنزيه عن كل ما لا يليق بالله عز وجل، لذلك الذين يظنون بالله ظنّ السوء عليهم دائرة السوء.
 

حسن الظن بالله ثمن الجنة:


إخواننا الكرام؛ الآية الكريمة:

﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)﴾

[  سورة فصلت ]

إذا ظننتم بالله غير الحق ظنّ الجاهلية، هذا الظن قد يكون سبب الهلاك، إذا ظننت أن الله سبحانه وتعالى أجبر الإنسان على معاصيه، ثم سيحاسبه على هذه المعاصي فهذا ظنّ السوء، حسن الظن بالله ثمن الجنة.
فكلمة يسبح أي يوجد تنزيه، يجب أن تنزّه الله عن كل ما لا يليق به، يجب أن تنزّهه عن الظلم، يجب أن تنزّهه عن الجهل، قال تعالى:

﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)﴾

[  سورة الأنعام ]

يجب أن تنزّهه عن المثلية، قال تعالى:

﴿ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)﴾

[ سورة الشورى ]

فأي صفة لا تليق بالله عز وجل يجب أن تنزّهه عنها، وهذا فحوى التسبيح، التسبيح هو التنزيه، كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك.
من معاني التسبيح فضلاً عن التنزيه التمجيد، أن ترى رحمته، أن ترى قدرته، أن ترى غناه، أن ترى أسماءه الحسنى، أن تعرف الله من خلال أسمائه الحسنى هذا من التسبيح.
 

التسبيح بالمعنى الحقيقي أن تنزّه الله وأن تمجده وأن تخضع له:


لماذا قال الله تعالى:

﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾

[ سورة الكهف ]

قال بعض المفسرين: الباقيات الصالحات: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أي التسبيح بالمعنى الحقيقي أن تنزّه الله، وأن تمجده، والمعنى اللازم وأن تخضع له، أن تنزّهه، وأن تمجده، وأن تخضع له، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، إذا سبحته، وحمدته، ووحدته، وكبّرته، فقد عرفته، وإذا عرفته عرفت كل شيء، وإذا عرفته وصلت إلى كل شيء، وإذا عرفته جمعت المجد من كل أطرافه، وإذا عرفته حققت الهدف من وجودك.
فكلمة تسبيح أحياناً هذه الكلمات العظيمة أحياناً تُفرغ من مضمونها، سبحان الله، سبحان الله، هذا ذكر، لو عرفنا معنى التسبيح فالتسبيح خير لك من الدنيا وما فيها، إنك إن عرفت الله عرفت كل شيء، لكن التسبيح جانب منه تنزيه.
أحياناً يتصور الإنسان أن الله عز وجل يمكن أن يضع إنساناً في النار بعد أن يفني عمره في طاعته، لماذا؟ لأنه لا يُسأل عما يفعل، من قال هذا الكلام فهو لم يسبح الله عز وجل، أن يفني الإنسان عمره في طاعة الله، أن يفني شبابه كله، ثم يضعه في النار، لا لشيء إلا لأنه لا يُسأل عما يفعل، من قال هذا الكلام ما سبّح الله أبداً، ولا عرف الله أبداً.
 

العقائد الفاسدة التي تسربت إلى المسلمين تتناقض مع كلام الله ومع أسمائه الحسنى:


آلاف العقائد الفاسدة التي تسربت إلى المسلمين، وكل هذه العقائد تتناقض مع كمال الله، ومع أسمائه الحسنى، ومع صفاته الفضلى، لو فهمت الآية الكريمة:

﴿ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)﴾

[ سورة الشمس ]

على أن الله خلق في الإنسان الفجور، أنت ما سبحت الله، ولا نزهته عما لا يليق به، لو توهمت أن الإنسان له أن يفعل كل المعاصي والآثام، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام يشفع له، بهذا المعنى الساذج معنى الوساطة لا معنى الرقي، هذا المعنى الساذج للشفاعة إذا ظننته وأيقنت به أنت لا تعرف الله، قال تعالى:

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)﴾

[ سورة الزمر ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا-اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا. ))

[ صحيح البخاري ]

إذا فهمت الحديث الشريف إنها قبضة في الجنة، ولا أبالي، وقبضة في النار، ولا أبالي، هكذا بشكل عشوائي، قبضة في النار، وقبضة في الجنة، أنت لم تسبح الله عز وجل، ما سبحته ولا عرفته.
 

الآيات التالية تبين عدالة الله المطلقة:


أين قوله تعالى:

﴿ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)﴾

[ سورة غافر ]

أين قوله تعالى:

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)﴾

[ سورة الزلزلة ]

أين قوله تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)﴾

[ سورة النساء ]

ولا قطميراً.

﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)﴾

[ سورة التوبة ]

أين قوله تعالى:

﴿ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)﴾

[ سورة الأنبياء ]

كل هذه الآيات تبين عدالة مطلقة، تبين حساباً دقيقاً، فإذا توهمت خلاف ذلك: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ أي خلق فيها الفجور، إن قلت هذا المعنى أنت لا تعرف الله، وأنت لم تسبح الله، ولم تنزّه الله عما لا يليق به، فلذلك حسن الظن بالله ثمن الجنة.
 

كل ذرة مخلوق يسبح الله عز وجل:


كلمة (يسبح) كلمة كبيرة جداً، تعني نزهته عما لا يليق به، وصفته بكمالاته اللائقة به، ثم خضعت له، نزهت ومجدت وخضعت.
ربنا عز وجل يخبرنا أن كل ما في السماوات وما في الأرض-كلمة السماوات والأرض مصطلح قرآني يعني الكون، والكون ما سوى الله-أي ما سوى الله من خلائق كلها تسبح الله، يا ترى المخلوق على أي مستوى؟ في الأعم الأغلب على مستوى الذرة، السبب:

﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)﴾

[ سورة الإسراء ]

ما من كلمة يمكن أن تتناهى إلى الصغر ككلمة شيء، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ إذاً الذرات تُسبح بحمد الله، وقال تعالى:

﴿ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21)﴾

[  سورة فصلت ]

فحوى هذه الآية يشير إلى أن الجلد كائنات، ليس لمَ شهدتِ؟ لمَ شهدتم؟ بالجمع، معنى هذا أن الجلد خلايا، وأن كل خلية كائن يسبح الله، وسوف يشهد على الإنسان جلده ﴿لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا﴾ معنى ذلك أنه على مستوى كل ذرة هي كائن يسبح الله عز وجل، رأس الدبوس كم ذرة فيه؟ ألوف الملايين من الذرات، الكون كم ذرة؟ كل ذرة مخلوق يسبح الله، إذاً معنى قول الله تعالى: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ ينزهه، ويمجده، ويخضع له إلا الإنسان.
 

الإنسان الذي سخر له ما في السماوات والأرض هو وحده الغافل والشارد:


هذا الإنسان المخلوق الأول الذي سخّر الله له ما في السماوات والأرض، المخلوق الأول الذي كرّمه الله، قال تعالى:

﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)﴾

[  سورة الإسراء ]

المخلوق الأول المكلف، المُكرم، قال تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾

[ سورة الذاريات ]

هذا المخلوق الذي سُخرت له السماوات والأرض، والذي كرمه الله، والذي جعله خليفة له، والذي أمره أن يعمر الأرض، هذا المخلوق الأول وحده الغافل، هو وحده الشارد، هو وحده الشاذ.
 

الإنسان إن لم يسبح فقد شذّ عن كل المخلوقات التي هي في الأصل دونه:


هناك معنى دقيق في الآية: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ طالب مثلاً- ولله المثل الأعلى-ولكن من باب التوضيح، طالب لم يؤدِّ واجبه الدراسي، قال له المعلم: كل الطلاب قد أدوا واجبهم، هذا توبيخ لهذا الطالب، كل الطلاب من دون استثناء قد أدّوا واجبهم المدرسي إلا أنت، في هذه الآية معنى أن الإنسان إن لم يسبح فقد شذّ عن كل المخلوقات التي هي في الأصل دونه، شذّ الإنسان غير المُسبح عن كل المخلوقات التي هي في الأصل دونه، ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ما معنى كلمة ما في السماوات؟ أنا ذكرت لكم قبل مدة أن مركبة فضائية أُرسلت إلى المشتري، وسارت بأقصى سرعة اخترعها الإنسان، أربعون ألف ميل في الساعة، أي ستون ألف كيلو متر في الساعة، هذه المركبة بقيت تمشي في الفضاء الخارجي ست سنوات إلى أن وصلت إلى قرب المشتري، وعليها مرصد عملاق التقط أبعد مجرة اكتشفت حتى الآن، هذه المجرة تبعد عنا ثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، هذا الخبر أذيع قبل عام وأكثر من إحدى محطات الأخبار العالمية، لو أردت أن تصل إلى نجم ملتهب يبعد عنا أربع سنوات ضوئية لاحتجت إلى خمسين مليون عام، الأربعة خمسون مليون عام الثلاثمئة ألف بليون هذا هو الكون، هذه معرفتنا به حتى الآن، الكون غير محدود بالنسبة إلينا، هو عند الله محدود.
 

أعلى أنواع التكريم أن الكون كله مسخر للإنسان بنص القرآن الكريم:


هذا الكون أيها الأخوة؛ عبّر عنه القرآن الكريم بكلمة السماوات والأرض، كم مجرة؟ بعضهم قال: قريبًا من مليون مَليون مجرة، المجرة كم نجم فيها؟ قريبًا من مليون مَليون نجم، درب التبابنة مجرتنا مجرة متوسطة، شكلها مغزلي، المجموعة الشمسية نقطة في هذه المجرة، المجموعة الشمسية قطرها ثلاث عشرة ساعة ضوئية، الشمس ثماني دقائق، القمر ثانية، فكلمة غزو الفضاء تعني تخطوا ثانية ضوئية واحدة، أما أبعد مجرة فثلاثمئة ألف بليون سنة ضوئية، ربنا عز وجل يقول: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ كله ينزه، ويمجد، ويخضع، في الآية معنى أن الإنسان إن لم يكن كذلك فهو شاذ، أيعقل أن كل ذرة في السماوات والأرض تسبح الله عز وجل وأنت أيها الإنسان المخلوق الأول لا تسبح؟ الآية الكريمة التي تقول:

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)﴾

[ سورة الأحزاب ]

أنت المخلوق الأول، أنت المخلوق المكرم ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ مكرم في شكلك، مكرم في قوامك، مكرم في صورتك، مكرم في زواجك، مكرم في طعامك، مكرم في شرابك، وأعلى أنواع التكريم أن الكون كله مسخر لك بنص القرآن الكريم:

﴿ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)﴾

[ سورة الجاثية ]

أيعقل أيها الإنسان أن يسبح الكون كله وأنت لا تسبح؟! أن ينزه الكون كله وأنت لا تنزّه؟! أن يمجد الكون كله وأنت لا تمجد؟! أن يخضع الكون كله وأنت لا تخضع؟! أيعقل هذا؟!
 

الله عز وجل له الملك وله الحمد:


﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ الملك واضح، والحمد واضح، لكن أحياناً أن تجمع الملك إلى الحمد، قد تجد من يملك ولا يُحمَد، وقد تجد من يُحمد ولا يملك، الذي يملك ولا يُحمد لا تحبه، لأنه ظالم، والذي يحمد ولا يملك لا ينفعك، لأنه ضعيف، أما أن يكون الله عز وجل في الوقت نفسه له الملك وله الحمد، أنت لاحظ نفسك، لو أن دائرة يهمك أمرها سألت: من المدير؟ أول سؤال: من؟ الثاني: كيف هو؟ يهمك أولاً من هو، ثانياً ما أخلاقه، مستقيم؟ منصف؟ أخلاقي؟ نظيف؟ تسأل من؟ ثم تسأل كيف؟ ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾
لذلك قال بعضهم: الحمد لله على وجود الله، والحمد لله على ملك الله، والحمد لله على كمال الله، الإنسان إذا اعتقد للحظة واحدة أن أمره بيد غير الله فقد أشرك، إذا اعتقد للحظة واحدة أن حياته بيد غير الله فقد أشرك، إذا اعتقد أن رزقه بيد غير الله فقد أشرك، قال تعالى:

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[ سورة هود ]

ما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أن الأمر كله بيده: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾ .
 

ملكية الله مطلقة خلقاً وتصرفاً ومصيراً:


 ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ﴾ ذكرت من قبل أنك إذا قلت: الله له الملك، أو مالك الملك، أو بيده ملكوت كل شيء، هذه الملكية المطلقة، أحياناً تملك أنت شيئاً لكن لا تملك مصيره، في القرآن الكريم آية دقيقة جداً، وهي قوله تعالى:

﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21)﴾

[ سورة هود ]

أي هو في عيشة مرضيّ عنها أم راضية؟ بعض المفسرين قال: الإنسان قد يرضى عن حياته، قد يرضى عن بيته، بيته واسع، قد يرضى عن زوجته، صالحة، قد يرضى عن أولاده، هم أبرار، قد يرضى عن دخله، كبير، قد يرضى عن مركبته، حديثة، أحدث موديل، قد يرضى عمن حوله، لكن هل يستطيع أن يضمن بقاء كل هؤلاء معه؟ إذا لم يكن يضمن بقاء كل هؤلاء معه فهم إذاً بالتعبير المجازي ليسوا راضين عنه، أما الآية الكريمة ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ فتعني أن هذه المعيشة في الجنة لن يخسرها، لن يغادرها إطلاقاً، ربنا عز وجل كنّى عن دوام حال أهل الجنة بأنه في عيشة هي راضية عنه، وليس مرضي عنها فحسب، هي راضية عنه.
في الدنيا الأمر خلاف ذلك، إذاً ﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ ملكية الله ملكية مطلقة، الله عز وجل يملك كل شيء خلقاً، تصرفاً، مصيراً، قد تملك ولا تنتفع، وقد تنتفع ولا تملك، وقد تملك وتنتفع، ولكن مصير هذا المملوك ليس بيدك، فإما أن تفارقه -لا سمح الله-بالموت، وإما أن يفارقك بالموت، الآن زوجان محبان بأعلى درجات المودة، هل يملك أحدهما أن يبقى معه الآخر إلى أبد الآبدين؟ الزوجة التي يهيم بها الإنسان إما أن يتركها بالموت، وإما أن تتركه بالموت، أبداً، أو بالطلاق، افرض المحبة إلى أعلى درجة، والوفاء إلى أعلى درجة، أنت لا تملك هذه الزوجة، تملكها ما سمح الله لها أن تكون معك، إذاً ﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ ملكية الله مطلقة خلقاً وتصرفاً، قد تملك رقبة الشيء ولا تملك منفعته، بيت مؤجر، قد تملك منفعته كمستأجر ولا تملك رقبته، وقد تملك رقبته ومنفعته، أن تسكن به وهو ملكك ولا تملك مصيره، إذاً ملكية الإنسان ليست مطلقة، وليست كاملة، ملكية ناقصة، الإنسان مالك جسمه، يتحرك به، ولكن هل تملك القلب؟ لا، هل تملك انتظام دقات القلب؟ لا، هل تملك بقاء الشرايين مفتوحة؟ لا تملكها، هل تملك الخلايا التي في الجسم ألا تنمو نمواً عشوائياً؟ لا تملك، هل تملك ألا يتجمد الدم في بعض الشرايين وخاصة في الدماغ؟ لا تملك، هل تملك سيولة الدم دائماً؟ لا، قد تكون في أعلى درجة في المجتمع، لمجرد أن تتجمد نقطة دم صغيرة في أحد شرايين الدماغ تصاب بالشلل، أو بالعمى، أو بفقد الذاكرة، من منا يملك سيولة دمه؟ من منا يملك ليونة شرايينه؟ تتصلب، تمتلئ بالكوليسترول، يتعب القلب، يصاب بأزمة قلبية، لا أحد منا يملك مرونة الشرايين، ولا أحد يملك سيولة الدم، ولا أحد يملك ضبط نمو الخلايا، ولا أحد يملك شيئاً إلى بعد دقيقة واحدة، إذاً ربنا عز وجل قال: ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ مع أنه يملك ملكية مطلقة، لكنه لا يتصرف بما يملك إلا بما يُحمد على تصرفه، مع أنه يملك ملكية مطلقة خلقاً، وتصرفاً، ومصيراً، إلا أنه تحمده حمداً مطلقاً على جميع تصرفاته، قال تعالى:

﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾

[ سورة يونس ]

 

الله عز وجل قدرته مطلقة:


﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ يسبح كلمة كبيرة جداً، إذا سبحت الله فقد عرفته، إن نفيت عنه ما لا يليق به أن يتصف به، إن مجّدته، ونسبت له الكمال الذي يليق به، إن خضعت له، فقد سبحته.
﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قدرته مطلقة، لذلك الإنسان أحياناً مع البشر يقول لك: أتمنى ولكن ليس عندي إمكانيات، إلى هنا تقف إمكانيتي، أما أنت إذا عرفت الله فليس عند الله شيء مستحيل، أعظم مرض يشفيه الله عز وجل، لكن أنت مع الأشخاص هناك حدود، هناك سقف، كل إنسان له سقف، فوق كل قوي أقوى، وكل عالم فوقه أعلم، أنت إذا تعاملت مع البشر مليون سقف فوقك، أما إذا تعاملت مع خالق البشر، ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ قدير على أن يخلق من الضعف قوة، ومن الفقر غنىً، ومن الشقاء سعادة، ومن الضياع وجداناً، ومن التشتت اجتماعاً، ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾
الإنسان يحب القوي، لو فرضنا في جلسة أحد الحاضرين من أقوى الأشخاص، تجد الأنظار كلها متجهة إليه، كلها تعقد أبصارها عليه، كلها تشرئب أعناقها إليه، كلها تُثني عليه، الإنسان يحب القوي، القوي يركن إليه، القوي يحمي، فكيف إذا كان الله خالق السماوات والأرض هو ملاذك؟ هو ربك وإلهك؟ هو الذي تعبده؟
يقولون: الإنسان يتقوى بمن يعتمد عليه، هل يجوز مثلاً أن نعطي طفلاً صغيراً زكاة المال؟ الجواب: لا يجوز، إذا كان الطفل من أب غني، العلماء قالوا: هو غني بأبيه، لو قِست هذه النقطة في الفقه، المؤمن الصادق قوي بالله، عالم بالله، غني بالله، مادام هو مع الله، الله قوي، هو قوي بقوة الله، غني بغنى الله، عليم بعلم الله، رحيم برحمة الله، تخلقوا بأخلاق الله، إذا كنت مع الله كنت مع القوي، مع الرحيم، مع الغني، مع اللطيف، مع العليم.
 

أساس كل شيء الاختيار والاختيار من لوازمه الحياد:


﴿ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)﴾

[ سورة التغابن ]

هل في هذه الآية ما يشير ولو واحد بالمئة إلى أن الله عز وجل هو الذي خلق الكافر كافراً؟ لكن الله عز وجل خلق الإنسان بطبيعة وخاصية تتيح له أن يؤمن كما تتيح له أن يكفر، لأن الإنسان في الأصل مخير، إذاً صُمم على أنه بإمكانه أن يؤمن وبإمكانه ألا يؤمن، مادام أصل الإنسان مخلوقًا أولاً، مكرمًا، مكلفًا حمل الأمانة، والأمانة نفسه التي بين جنبيه، فأساس الثواب والعقاب الاختيار، أساس الجنة والنار الاختيار، أساس كل شيء الاختيار، الاختيار من لوازمه الحياد، إذا شيء لا يستعمل إلا في وظيفة واحدة، ليس في الإمكان أن تكتب في التعليمات أنه يستعمل في وظائف عديدة، مصمم أن يقدم لك خدمة واحدة، لكن هناك آلات يمكن أن تعمل على تيارين إذاً فيها اختيار، إذا آلة مئة وعشرة لا يوجد أي مكان يشير إلى الاختيار، مادام ممكن أن تعمل على التيارين فإنه يوجد مكان، يقول لك: إن أردت أن تُعملها على هذا التيار فافعل كذا، أو افعل كذا، مادام بالإمكان أن تعمل على تيارين إذاً هناك اختيار، من لوازم الاختيار الحياد، مادام الإنسان مخيرًا إذاً طبيعته النفسية قابلة أن تؤمن وقابلة أن تكفر.
 

الحكمة من تقديم الكفر على الإيمان:


﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ أما لمَ قدم الكفر على الإيمان؟ لأن الكفار أكثر، قال تعالى:

﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾

[ سورة الأنعام ]

هناك شيء ثان، هذه النفس البشرية فيها قابلية الإيمان كما أن فيها قابلية الكفر، لذلك الإنسان مخير، مخير لأن فيه قابلية الإيمان والكفر، أو فيه قابلية الكفر والإيمان إذاً هو مخير، هذه العلاقة ترابطية، إما أنه مخير لأنه يملك قابلية الإيمان والكفر معاً، أو لأنه يملك قابلية الكفر والإيمان معاً إذاً هو مخير.
شيء آخر هو أن الإنسان أودع الله فيه قوة إدراكية، وأعطاه ميزاناً، وأنزل عليه ميزاناً، جعله بقابلية مزدوجة، وأودع فيه قوة إدراكية، وأعطاه ميزاناً ذاتياً، وأنزل عليه ميزاناً ثابتاً، الشرع هو الميزان الثابت، والعقل الميزان الخاص، والقوة الإدراكية هي العقل، والإنسان في بنيته حيادي أن يؤمن أو لا يؤمن، هذا معنى قول الله عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ أن تضرب لنفسك الأمثلة الكثيرة، أدوات كثيرة تستعملها لوظيفتين، مادام بوظيفتين إذاً ينبغي أن يكون فيها مكان يشير إلى أنك إن أردت هذه الوظيفة فافعل كذا، أما آلة تعمل على تيار واحد فلا يوجد اختيار بالآلة أبداً، أما أي آلة تعمل على تيارين تجد مكاناً على اليمين مئة وعشرة ، على اليسار مئتان وعشرون، لأنها تعمل على تيارين كان هناك اختيار، طبعاً هذا مثل من الآلات.
 

الإنسان مخير وله طبيعة ازدواجية وأعطاه الله قوة إدراكية وميزانًا:


﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ﴾ هذه من للتبعيض، أي بعضكم آثر الدنيا، وكذب برسالات السماء، وأعرض عن الله، فكان كافراً.
إذاً نُجمل هذه الآية هو الله عز وجل الذي خلقكم، الإنسان وحده مع الجن مخلوقان متميزان، أولاً: مكلفان ومكرمان، الإنسان سرّ وجوده أنه يفعل أفعالاً اختيارية هي ثمن الجنة، لأن الاختيار سرّ ثمن الجنة فجعله الله عز وجل في قابلية مزدوجة، يؤمن أو يكفر، يستقيم أو ينحرف، يصدق أو يكذب، يُخلص أو يخون، ينطلق بدافع الشهوة أم بدافع المبدأ، يرجو الدنيا أو الآخرة، يرحم أو يقسو، يظلم أن يجحف، الإنسان في طبيعة اثنينية، طبيعة مزدوجة، هذه الطبيعة الاثنينية هي سعادته الأبدية، بإمكانه أن يؤمن وبإمكانه ألا يؤمن، بإمكانه أن يتصل بالله وبإمكانه ألا يتصل، بإمكانه أن يحسن، وبإمكانه أن يسيء، أولاً: مخير، ثانياً: طبيعته ازدواجية، ثالثاً: أعطاه الله قوة إدراكية، رابعاً: أعطاه ميزانًا، قال تعالى:

﴿ وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7)﴾

[ سورة الرحمن ]

ولئلا يختل ميزانه أعطاه ميزانًا ثابتًا هو الشرع، فهناك ميزان ثابت مركزي، وهناك ميزان مع كل إنسان، وهناك قوة إدراكية، وهناك اختيار، وهناك طبيعة ازدواجية، يصدق أو يكذب، يخلص أو يخون، يؤمن أو يكفر، يعطي أو يمنع، ينصف أو يظلم، هذه هي الطبيعة: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ .
 

الناس رجلان برّ تقي كريم على الله وفاجر شقي هين على الله:


يبدو أن التقسيم القرآني لبني البشر هو هذا التقسيم، هذا التقسيم ألغى الأعراق، والأنساب، وأصول الشعوب، هذا العرق الأنكلوسكسوني، والعرق السامي، كل هذه كلمات ما أنزل الله بها من سلطان، البشر سواسية كأسنان المشط، منكم مؤمن ومنكم كافر، فكل انتماءات البشر العرقية والمذهبية والانتماءات اللونية، أبيض وملون وأصفر، العرق الأصفر، والأبيض، الغنى والفقر، الذكاء والغباء، الوسامة والدمامة ، دول الشمال الغنية، دول الجنوب الفقيرة، كل هذه التقسيمات لم يعتمدها القرآن، قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ﴾ فقط الناس رجلان، برّ تقيّ كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، منكم مؤمن ومنكم كافر، هذا هو التقسيم، لذلك لا يضاف للمؤمن ولا كلمة، ولا يضاف إلى الكافر ولا كلمة، الكافر كافر من أي بلد، من أي عرق، من أي إقليم، من أي عصر، من أي مصر، الكافر هو الكافر، قبل خمسة آلاف سنة الكافر يشبه كافراً معاصراً، والمؤمن هو المؤمن، والمستقيم هو المستقيم، وأينما ذهبت، وأينما حللت، هذا التقسيم القرآني: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ بالعكس، أنت مؤمن، لو ذهبت إلى بلدٍ بعيد بعيد، والتقيت بأخ مؤمن تشعر إذا كنت صادقاً في إيمانك أنه أقرب إليك من أخيك النسبي من أبيك وأمك المتفلت، هذه أكبر علامة من علامات الإيمان، قد تلتقي بإنسان في أقصى الدنيا، لكنه عرف الله، واستقام على أمره، تجده أقرب إليك من أقرب الناس إليك نسباً، لأن الله عز وجل قال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾ تلتقي مع المؤمن بمليون قاسم مشترك، وأقرب الناس إليك من أم وأب، ومورّثات واحدة، وبيئة واحدة، وعادات وتقاليد، ومعطيات، ووراثة، ومحيط، إلى آخره، كل هذه القواسم المشتركة قد تجعل إنسانًا يؤمن، وإنسانًا يكفر، فإذا كفر الكافر، وآمن المؤمن، كان بينهما هوة كبيرة جداً، بينما تلتقي مع أخيك بطرف الدنيا الآخر إذا عرف الله، واستقام على أمره، هذا هو تقسيم القرآن الكريم.
 

العمل لا يمكن أن يُعرف حقّ المعرفة إلا من قِبل الله عز وجل:


﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ يعرف حقيقة العمل، حجم العمل، خلفية العمل، هدف العمل، مبررات العمل، التضحيات في العمل، أي العمل لا يمكن أن يُعرف حق المعرفة إلا من قِبل الله عز وجل، لك الظاهر أنت، قد يبدو لك عمل طيب، ولكن وراءه نية خبيثة، قد يبدو لك عمل هزيل لكنه عند الله عظيم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ لَا يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ. ))

[ صحيح الترغيب : حسن صحيح ]

﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ والحقيقة: الله بما تعمل بصير، وأنت على نفسك بصير، لذلك لا يمكن أن تخدع الله، ولا أن تخدع نفسك، قال تعالى:

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)﴾

[  سورة النساء  ]

وقال تعالى:

﴿ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)﴾

[ سورة القيامة ]

 

الإنسان خلق ليبقى إما في جنة يدوم نعيمها أو في نار لا ينفد عذابها:


ثم يقول الله عز وجل:

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)﴾

[ سورة التغابن ]

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ هذه الآية وردت كثيراً في القرآن الكريم، الباء باء الملابسة، أي لابس خَلقها الحق، الحق الشيء الثابت المستقر، الباطل الشيء الزائل.
أحيانا نبني جناحاً في معرض لأسبوعين فقط، قد يكون جدار من قماش، أو كرتون، أو مواد رخيصة جداً، لأن هذا البناء بُنِي ليهدم بعد أسبوعين، أما حينما تبني مثلاً بناءً ليبقى إلى أبد الآبدين فإنك تعتني به عناية كبيرة، من باب التقريب، كل شيء خلقه الله خلقه بالحق، أي خُلِق ليبقى إلى أبد الآبدين، لتبقى حقيقته، فأنت إنسان مخلوق بالحق، تذوق الموت ولا تموت:

﴿ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)﴾

[ سورة الزخرف ]

خُلِقت لتبقى إما في جنة يدوم نعيمها، أو في نار لا ينفد عذابها، لكن خُلقت لتبقى، والكون خُلق ليبقى، ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ الحق الثبات، الديمومة، الاستقرار، ثم السمو لهدف نبيل، الدليل: ما خلقناهما باطلاً، الباطل الشيء الزائل، الله عز وجل قال:

﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16)﴾

[ سورة الأنبياء ]

وقال: واللعب هو العبث، فصار الحق نقيض الباطل والعبث، نقيض الباطل  الاستقرار والثبات والدوام، نقيض العبث الهدف النبيل، العبث هدف غير نبيل، تمضية وقت.
 

الله عز وجل خلق البشر فأحسن صورهم:


إذاً: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ وأنتم يا بني البشر ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ أنت منتصب القامة، أما غير مخلوق فيمشي على أربع، أنت تأكل اللب، ويأكل الحيوان القشر، طعامك منوع أنواعاً لا يعلم عددها إلا الله، أما الحيوان فطعامه واحد، أنت لك زوجة، وأولاد، ولك بيت تسكنه، أودع فيك العقل، بالعقل ركبت الطائرة، وغصت في أعماق البحار، وارتديت أجمل الثياب، وسكنت في أفخر البيوت، أعطاك شيئًا ثمينًا جداً هو أخطر ما في الكون؛ العقل، أعطاك العقل، جعل لحياتك زوجة، ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ امرأة على شاكلتك، إنسانة تعلم كما تعلم، تحب كما تحب، تشعر بما تشعر، إذاً كرمك بالزوجة، كرمك بالأولاد، كرمك بالعقل، كرمك بالطعام والشراب، كم نوع من الأزهار في الأرض؟ مئات ألوف الأنواع، كلها تكريماً لك، إذاً: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ﴾ منتصب القامة، جعل هذا الجلد الجميل، لولا هذا الجلد لكان الإنسان مخيفاً، أعطاك الحواس الخمس، تسمع، وترى، وتلمس، وتنطق، أعطاك حاسة اللمس، والذوق، والسمع، والبصر، وهناك حواس أخرى.

﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)﴾

[ سورة التغابن ]

هاتان الآيتان لنا عودة لهما إن شاء الله في الدرس القادم.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور