وضع داكن
30-06-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة التغابن - تفسير الآيتان 5-6 الخسارة الحقيقية أن تخسر الآخرة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 

من تتبع أفعال الله في خلقه استنبط قوانينه:


أيها الأخوة المؤمنون؛ مع الدرس الثاني من سورة التغابن، ومع الآية الخامسة، وهي قوله تعالى:

﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5)﴾

[ سورة التغابن ]

أيها الأخوة الكرام؛ قبل أن نقف عند دقائق هذه الآية لابدّ من حقيقة تلقي ضوءاً عليها، هذه الحقيقة هي أننا في العلوم نبحث عن القانون، والقانون هو العلاقة الثابتة بين متغيرين، هذه العلاقة الثابتة تفيدنا في معرفة المستقبل، في التنبؤ في المستقبل، أوضح مثل على ذلك أننا إذا جئنا بعشرات المعادن، وسخّناها فتمددت، استنبطنا قانوناً أن المعادن تتمدد بالحرارة، فإذا أردنا أن ننشئ جسراً نقيم فواصل تمددٍ لئلا يتصدع الجسر، القانون أفادنا للمستقبل، نحن استقرأنا حالات معادن كثيرة وجدناها جميعها تتمدد بالحرارة، فقلنا: المعادن تتمدد بالحرارة، هذا القانون هو العلاقة الثابتة بين متغيرين يفيدنا في التنبؤ للمستقبل، لا نقيم بناءً إلا مع فواصل التمدد، لا نقيم جسراً إلا مع فواصل التمدد.
أيها الأخوة؛ الآن الإنسان يرى فعل الله في الناس، يستطيع الإنسان من خلال فعل الله في الناس أن يكتشف قوانين، مثلاً المال الحرام يذهب من حيث أتى، هناك مليون قصة تؤكد هذه الحقيقة، الذي يعفّ قبل الزواج يسعد بعد الزواج، والذي ينحرف قبل الزواج يشقى في الزواج، أنت إذا تتبعت أفعال الله في خلقه استنبطتَ تلك القوانين وأنت مأمور بذلك:

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)﴾

[ سورة الأنعام ]

إن تتبعت أفعال الله في خلقه لاستنبطت عشرات القوانين، هذه القوانين ما فائدتها؟ أنها تفيدك في المستقبل، إذا علمت أنه من أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكاً، هناك آلاف القصص، عشرات ألوف القصص، كل إنسان أعرض عن ذكر الله سيذوق المعيشة الضنك، وكل إنسان آمن بالله، واستقام على أمره:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

هذا قانون، نحن نريد من هذه الآيات أن نعرف أنّ أيّ إنسان انحرف عن منهج الله، كفر بالله، كفر بكتابه، لم يعبأ بمنهج الله، هذا الإنسان سوف يدفع الثمن باهظاً.
 

الإنسان إما أن يقرأ في كتاب الله أو ينظر في أفعاله:


إذاً إذا نظرنا في أفعال الله كيف يعامل عباده لاستنبطنا قوانين، وإذا قرأت القرآن لوجدت هذه القوانين، إما أن تستنبطها من أفعال الله، وإما أن تعرفها من كلام الله:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)﴾

[ سورة البقرة ]

هذا قانون، ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ هذا قانون، تحب أن ترى المرابين ما مصيرهم؟ دقق، وابحث، وانظر، تحب أن ترى المتصدقين ما مصيرهم؟ سلامة، وسعادة، وغنى، والذين يعملون في كسب المال حراماً هم في شقاء، ودمار، هم وأموالهم، فأنت إما أن تنظر، وإما أن تقرأ، إما أن تقرأ في كلام الله القوانين التي يتعامل بها مع خلقه، يُعامل بها خلقه، وإما أن تنظر في أفعال الله فتكتشف هذه القوانين.
مثلاً: طالب جلس في الصف ما سمع أي تعليمات من أستاذه، لكنه رأى أن الأستاذ يعاقب كل من لم يكتب الوظيفة، والذي كتبها يكافئه، من خلال عشرين حالة أو ثلاثين يستنبط قانوناً أن هذا الأستاذ يحب المجتهد، ويكره الكسول، ثم يكافئ المجتهد، ويعاقب الكسول، فإنك إما أن تنظر في أفعال الله فتستنبط من معاملته لعباده قوانين تهديك في علاقتك مع الله، وإما أن تقرأ كلامه فتقرأ القوانين التي ذكرها في كتابه الكريم فتستفيد منها في علاقتك مع الله.
 

قوانين الله عز وجل تُطبق على المجموع وعلى الأفراد:


هذه المقدمة تفسر قول الله عز وجل: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ يا كفار مكة، طبعاً قد تتجه الآية إلى أشخاص معينين، لكن خصوص المناسبة لا يلغي عموم اللفظ، عموم الخطاب: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ هذا التاريخ أمامك، اقرأ تاريخ الأمم والشعوب، هل هناك أمة تفلتت، وانحرفت، وطغت، وبغت، إلا وانتهت إلى الدمار، والتحلل، والتفكك، والانهيار الاجتماعي والاقتصادي؟ أبداً، هذا قانون لله عز وجل يُطبق على المجموع، ويطبق على الأفراد، كإنسان وحيد إذا انحرف عن منهج الله لابدّ من عقاب، لابدّ من تربية، لابدّ من تذكير، لابدّ من صدمة كي يصحو بها، والمجموع إذا انحرفوا:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)﴾

[ سورة النحل  ]

 

الإنسان إما أن يؤمن بالله وعدالته وإما ألا يؤمن به:


إذاً الإنسان كما قيل: "أَمَرَنِي رَبِّي بِتِسْع: خَشْيَةِ الله في السِّرِّ والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وأن أعطي مَنْ حَرَمَنِي، وأن أعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي -موطن الشاهد-وأن يكون صَمْتي فِكْرا، ونُطْقِي ذِكْرا، ونظري عبرة" ، انظر هل تفلت واحد من الناس من منهج الله ولم يعاقب؟ هل كسب واحد من الناس المال الحرام ولم يدمر؟ هل تفلت واحد من الناس في علاقته مع النساء ولم يشق في زواجه؟ أبداً، ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ بل إنه يستحيل عند الله، إما أن تؤمن بالله وعدالته، وإما ألا تؤمن بوجوده، ولا بعدالته، قال تعالى:

﴿ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾

[ سورة الجاثية ]

 

الكفر موقف وسلوك:


الآن ربنا عز وجل يقول: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ معنى كفروا أيْ أعرضوا عن الله عز وجل، معنى كفروا كذبوا، إما أن توسع الدائرة أي كذبوا وجود الله، أو كذبوا أسماءه الحسنى، كذبوا رحمته، كذبوا عدله، كذبوا تشريعه، أو كذبوا رسالة رسوله وبعثة الأنبياء، أو كذبوا قرآنه، أو كذبوا فقرات من قرآنه، هذا التكذيب يضيق ويتسع، يتسع حتى يشمل كل شيء، ويضيق حتى يبقى محدوداً بشيء، على كلٍّ كذبوا: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾
الحقيقة أن الكفر في شيئين، هناك موقف، وهناك سلوك، الموقف تكذيب، أما السلوك فإعراض عن الله عز وجل، أحياناً طالب في صف، الأستاذ أمامه ملء السمع والبصر، لكنه لا يعبأ بدرسه، يتشاغل، يلعب بقلم وورقة ألعاباً ليشغل نفسه عن درس الأستاذ، هو لا يكفر بوجوده، بل يكفر بقيمة علمه، فالكفر أنواع، لمجرد أن ترد آية ربنا عز وجل حينما يقول:

﴿ وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)﴾

[ سورة البقرة ]

ويبحث إنسان عن امرأة جميلة لا يعبأ بدينها أبداً، هذا الإنسان كذب كلام الله، قال الله عز وجل: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾ لو أن إنساناً أكل الربا، ولم يعبأ بهذه الآية، معنى ذلك أنه كفر بهذه الآية ، كذبها، فالتكذيب والكفر يلتقيان.
 

أخطر شيء في حياة الإنسان أن يكفر بالله عز وجل:


﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ أي كل إنسان كفر ذاق وبال أمره، الوبال التبعة، الشيء الثقيل الذي يكون بسبب أمرٍ من الأمور، مثلاً إنسان خالف الأنظمة الاقتصادية، يحكم عليه بعشرين سنة، العشرون سنة وبال أمره، إنسان أهمل صحته، عانى من مرض عضال، المرض العضال وبال أمره، إنسان أهمل تربية أولاده فانحرفوا حينما كبروا،  ذاق وبال أمر انحرافهم، إنسان مدّ يده إلى الحرام فكشف، وسيق إلى السجن، وأمضى فيه سنوات عدة، نقول: ذاق وبال أمره.
الوبال الشيء الثقيل الذي هو بسبب انحراف خطير، هذا الوبال، وهل من شيء أخطر من أن يكفر الإنسان بالله عز وجل؟ ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ﴾ ، ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾  هؤلاء الذين كذبوا كلام الله، وحاربوا النبي عليه الصلاة والسلام، أين هم الآن؟ أبو جهل، وأبو لهب، وصفوان بن أمية، ومن لفّ لفهم أين هم الآن؟ في مزبلة التاريخ، أما الذين صدقوه، واتبعوا النور الذي أنزل معه فهم في أعلى عليين، وهذا التاريخ بين أيديكم، تاريخ الأمم والشعوب، أي فرد، أو أي جماعة، أو أي أمة استقامت على منهج الله وصلت إلى الخافقين.
ذهب إنسان إلى فيينا، ورأى في متحفها صورة زيتية لطيفة جداً، الجنود المسلمون الذين فتحوها يشترون العنب من فتيات فيينا، ويغضون أبصارهم عنهن، يدفعون الثمن ووجوههم إلى الجهة المقابلة، هكذا فُتِحت فيينا من قِبَل المسلمين، والمسلمون حينما وصلوا قرب باريس باستقامتهم والتزامهم، أما حينما تفلتوا، وانصرفوا إلى اللهو والمجون والجواري والموشحات والإماء والخمور، قالت امرأة لآخر من خرج من الأندلس:

ابكِ مثل النساء ملكاً مُضاعاً            لم تحافظ عليه مثل الرجال

[ عائشة الحرة أم أبي عبد الله الصغير  ]

* * *

 

من رحمة الله بنا أن الله يذيقنا وبال أمرنا:


الله عز وجل له قوانين، حينما استقمنا على أمر الله وصلنا إلى أطراف الدنيا، فلما تفلتنا من منهج الله عز وجل ضَعُفت كلمتنا، هذا الذي نريد أن نقرره، هناك قوانين يمكن أن نستنبطها إما من أفعال الله، وإما من كلام الله، وسيان لك أن تستنبط آلاف القوانين من أفعال الله بالتأمل والتتبع والبحث والدرس، أو لك أن تأخذها جاهزة من كلام الله عز وجل: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ وإنّ لكل سيئة عقاباً، لما قال ربنا عز وجل: 

﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)﴾

[ سورة الروم ]

والحقيقة من رحمة الله لنا أن الله يذيقنا وبال أمرنا، لماذا؟ كي نتوب، وكي نرجع قبل فوات الأوان، لو أن الله سبحانه وتعالى لا يذيقنا وبال أمرنا نسترسل في المعاصي والآثام، إلى أن يأتينا ملك الموت، ونحن هلكى، لكن هذه المتابعات، وهذه الشدائد، وهذا الوبال، الآن العالم يعاني من مرض الإيدز، هذا الموضوع عالجته مرات عديدة، كلما عدت إلى موضوع سابق وجدت الرقم مضحكاً، أول ما عالجته كان بالألوف، آخر معالجة كانت خمسة وثلاثين مليون مصاب، في عام ألفين كان هناك مئة وعشرون مليون مصاب، والعدد يتفاقم بسلسلة، كانوا يقولون: في سلسلة حسابية، وهناك سلسلة هندسية، والآن بسلسلة انفجارية: ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ طبعاً هناك تراجع للفساد، شيء ثابت في العالم كله، في بلدٍ من البلاد ست عشرة محطة إباحية، الآن ثلاث فقط، تراجعت، لأنهم ذاقوا وبال أمرهم تراجعوا، من حكمة الله البالغة، من نعمه الباطنة غير الظاهرة أنه يذيق الإنسان وبال أمره ليتوب، يأكل مالاً حراماً فيدمر بعض ماله فيتوب، فيستقيم على أمر الله، فينجو، لولا أن الله أذاقه وبال أمره لما استقام على أمر الله، ولما تاب إليه.
 

من ذاق وبال أمره ولم يتب إلى الله انتهى أمره:


إذاً كما قال الله تعالى:

﴿ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)﴾

[  سورة لقمان ]

الظاهرة الخيرات التي نراها، والباطنة المصائب التي تُعَدّ سبب رجوعنا إلى الله عز وجل، فالآية الكريمة: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ إذا ذاقوا وبال أمرهم ولم يتوبوا انتهى الأمر؟ لا: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة، أي ذاقوا وبال أمرهم في الدنيا ولهم عذاب أليم في الآخرة، أما إذا استقمت على أمر الله أذاقك الله نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، وجعل نعم الآخرة متصلة بنعم الدنيا، ليس على الله بعزيز أن تذوق نعم الدنيا مع نعم الآخرة، أن تعيش حياة هانئة، ويأتي الموت فتنتقل إلى جنة عرضها السماوات والأرض، ليس ذلك على الله بعزيز، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

الله عز وجل لا ينتفع بعذابنا، يعذبنا ليرحمنا.
 

الخسارة الحقيقية أن تخسر الآخرة:


لذلك النقطة الدقيقة أن علماء التوحيد رفضوا أن تقول: الله ضّار، هو ضّار لكن هو الضّار النافع، يضّر لينفع، الله عز وجل يُذلّ، لكن لا ينبغي أن تقول: هو المذل، تقول: يذل ليعزّ، الله جلّ جلاله يخفض، لكن ليرفع، يقبض ليبسط، يأخذ ليعطي، لذلك الإنسان يجب أن يفقه حقيقة أفعال الله حتى يحبّه، وحتى يتعامل معه بصدق وإخلاص: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ إن لم يتوبوا، هناك إنسان مستقيم في الدنيا مطمئن بها، يأتيه ملك الموت، ينتقل إلى عالم البرزخ، وقبره كأنه روضة من رياض الجنة، فإذا جاء يوم القيامة دخل الجنة، فحياته سلسلة مسرات، وهناك إنسان يعاني شقاء الدنيا والآخرة، شقاء الدنيا، وعذاب القبر، وعذاب النار، لأنه تاه عن الله عز وجل، وخرج عن منهجه، هذا الموضوع موضوع خطير، موضوع سعادة الأبد، هناك قضايا لو خسرتها تُعَوَّض، أو لا تعبأ بفقدها، لكن هناك أشياء أساسية، لذلك قال تعالى:

﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)﴾

[  سورة الزمر ]

الخسارة الحقيقية أن تخسر الآخرة.
الشيء الدقيق سوف أضعه بين أيديكم؛ لو أنك تريد أن تسافر من دمشق إلى حمص، هناك عدة سيارات، اخترت أسوأ سيارة، تتألم ألماً شديداً وقت السفر، أما حينما تصل انتهى الموضوع، فأنت لا تندم على شيء طارئ فاتك، بعد أن وصلت انتهت المشكلة، انزعجت أم لم تنزعج القضية انتهت ووصلت إلى حمص، أما حينما يفوتك شيء أبدي فهذا هو الذي يسحق الإنسان، الشيء الطارئ لا قيمة له. 
 

الدنيا كلها هي أصغر من أن تكون عطاء لله:


بالمناسبة الدنيا كلها بكل ما فيها من خيرات، بأموالها الطائلة، بعزها، بجاهها، ببيوتها الفخمة، بمركباتها الفارهة، بأراضيها، بمزارعها، بكل ما فيها من جمال،  بنسائها، بالأولاد النجباء، بالأموال الطائلة، الدنيا كلها هي أصغر من أن تكون عطاء لله، السبب: لأنها مؤقتة، هي أصغر وأحقر من أن تكون عطاء لله، وهي أصغر وأحقر من أن تكون عقاباً للكافرين، فعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:

(( عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاء. ))

[ المنذري : الترغيب والترهيب:  خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح أو حسن ]

بكى عمر بن الخطاب يوماً لأنه يرى النبي عليه الصلاة والسلام ينام على الحصير، وقد أثّر في خده الشريف، سيد العالمين، سيد ولد آدم، حبيب الله، سيد الرسل، لا يوجد وسادة، ألا يوجد فرشة فخمة ، مريحة، نوابض على قطن على إسفنج، شيء مريح، ألا يوجد وسادة من ريش نعام؟ قال: رسول الله ينام على الحصير وكسرى ملك الفرس ينام على الحرير؟ بكى عمر:

(( عن عمر بن الخطاب: دخلتُ على رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على حصيرٍ قال: فجلستُ، فإذا عليه إزارُه، وليس عليه غيرُه، وإذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِه، وإذا أنا بقبضةٍ من شعيرٍ نحوَ الصَّاعِ، وقَرظٍ في ناحيةٍ في الغرفةِ، وإذا إهابٌ مُعلَّقٌ، فابتدرت عيناي، فقال: ما يُبكيك يا بنَ الخطَّابِ؟ فقال: يا نبيَّ اللهِ وما لي لا أبكي! وهذا الحصيرُ قد أثَّر في جنبِك وهذه خِزانتُك لا أرَى فيها إلَّا ما أرَى، وذاك كسرَى وقيصرُ في الثِّمارِ والأنهارِ ، وأنت نبيُّ اللهِ وصفوتُه وهذه خِزانتُك. قال: يا بنَ الخطَّابِ أما ترضَى أن تكونَ لنا الآخرةُ ولهم الدُّنيا. ))

[ المنذري : الترغيب والترهيب :خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح ]

هذا نبي الله، غرفته صغيرة، بيته صغير، حياته خشنة، كان يقول كما في الحديث:

(( عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِيناً، وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ))

[ صحيح الترمذي ]

كان عليه الصلاة والسلام متواضعاً، كان إذا دخل عليه الغريب يقول: أيّكم محمد؟ من هو؟ لا يعرفه، أليس له مقعد خاص؟ جلسة خاصة؟ زاوية خاصة؟ مكان خاص؟ لا يوجد، مع أصحابه، أيّكم محمد؟ مرة قال له صحابي: ذلك الوضيء، ومرة قال له النبي: أنا، قد أصبت، ليس له شيء متميز، قال: ((اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِيناً، وَأَمِتْنِي مِسْكِيناً، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) .
 

بشارات ذكرها النبي الكريم لعدي بن حاتم:


جاءه عدي بن حاتم، وكان ملكاً، التقى به، رحب به، أخذه إلى بيته، يقول عدي بن حاتم: أنا أعلم أنه ملك فلما استوقفته امرأة في الطريق ضعيفة وقف معها طويلاً يكلمها في حاجتها، فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك، ما هكذا شأن الملوك، ثم دخلت إلى بيته، فقذف إليّ وسادة من أدم –جلد-محشوة ليفاً، قال: اجلس عليها، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، قال: فجلست عليها، وجلس هو على الأرض، ليس له وسادتان، عنده واحدة فقط، في بعض البيوت عشرة أطقم من الأرائك، أربعمئة متر، كل غرفة نوع، هذه شرقي، هذه غربي، هذه مدّ عربي، هذا أمريكي، ليس عنده غير وسادة واحدة من أدم محشوة ليفاً، قال: اجلس عليها، قلت: بل أنت، قال: بل أنت، قال: فجلست عليها، وجلس هو على الأرض، قلت: والله ما هذا بأمر ملك، قال: إيه يا عدي بن حاتم.
ذكر له أشياء كثيرة، لكن استوقفني في هذه القصة ثلاث عبارات، قال: لعله يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، أصحابي فقراء، وايم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، تأتي الدنيا وهي راغمة، أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمك فاستخدميه، ومن خدمني فاخدميه.
ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، المسلمون ضعفاء، فقراء أولاً وضعاف، مستضعفون، قال تعالى:

﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)﴾

[ سورة القصص ]

قد لا يكون لك شأن عند الناس، شخص عادي جداً، بوظيفة متواضعة جداً، بدكان صغيرة جداً، بدخل قليل جداً، ببيت خشن ضيق، بزوجة من الدرجة الخامسة، لابأس، وقد تكون عند الله كبيراً، وقد تكون عَلماً في السماء، وقد قال عليه الصلاة والسلام لأحد أصحابه الفقراء: "أهلاً بمن خبرني بقدومه جبريل، قال: أو مثلي؟ قال: نعم يا أخي، في الأرض خامل، لكنك في السماء علم" .
قال له: ولعله يا عدي إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، المسلمون فقراء، وضعاف، والله ليوشكن أن تسمع القصور البابلية قد فتحت لهم.
ثالثاً: ولعله يا عدي إنما منعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، العالم كله ضد الإسلام أينما ذهبت، وايم الله لتوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج هذا البيت على بعيرها لا تخاف، ولقد عاش عدي حتى رأى كل هذا البشارات بعينه.
 

ما من حدث من أحداث الحياة إلا وله دلالة كبيرة:


إذا مشيت أنت مع الله عز وجل فالله كبير، كل شيء بيده، لكن يريد أن يمتحن صِدقك، يريدك أن تطيعه دون أن تطمع بنواله في الدنيا، أطعه وكفى، لا تنظر إلى نواله في الدنيا، اجعل همك أن تطيعه، والله عز وجل هو يتولى أمرك، إذاً: ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
إخواننا الكرام؛ لا تمر على الأحداث مرور الكرام، ما من حدث وإلا له معنى كبير ومعنى خطير، ما من حدث من أحداث الحياة، ما من فعل من أفعال الله إلا وله دلالات كبيرة، تأمل، تبصّر، كما تدين تدان، البِر لا يبلى، والذنب لا ينسى، فالإنسان عندما يتعظ من أفعال الله-هذا إذا كان ينظر-أو يتعظ من قوانينه في القرآن ينجو، أما لا يقرأ القرآن فيتعظ، ولا ينظر إلى أفعال الله، أنى له أن يفهم؟! 
قرية على الساحل الأطلسي، كل أنواع المعاصي والآثام المقبولة وغير المقبولة، طبعاً كلها غير مقبولة، لكن هناك شيء غير معقول، تُرتكب في هذه القرية، وهي من أجمل المدن على الساحل الأطلسي، وفيها فنادق من أرقى مستوى، أصابها زلزال دُمرت على آخرها خلال ثلاث دقائق، أكبر فندق كانت تجري فيه المعاصي والآثام، هذا الفندق ثلاثون طابقاً، غاص كله في الأرض، وبقي الطابق الأخير، ولوحته الشهيرة، وكأن هذه اللوحة شاهدة دفنه، الحدث هذا يفسر تفسيراً أرضياً، أن هناك زلزالاً، أي القشرة الأرضية اهتزت، واضطربت، وهناك تفسير إلهي، أنهم ذاقوا وبال أمرهم.
هذا مرض الإيدز أليس وبال الفسق والفجور؟ مثلاً قد لا تصدقون أن هناك ألوف المليارات تنفق على البحث عن مصل مضادٍ له: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
 

من نِعم الله الكبرى أن تفهم على الله أفعاله:


الآن هذا العذاب الأليم بلا تعليل لا ينفعنا، لو أن أباً ضرب ابنه، ولم ينبس ببنت شفة، الابن لا يعلم، لماذا ضربتني؟ ماذا فعلت؟ لكن ربنا عز وجل برحمته وحكمته وربوبيته إذا ساق عذاباً لإنسان يُعلمه بشكل أو بآخر، أحياناً يسوق العذاب موافقاً للذنب، فالمسرف يُدمر الله له ماله، والذي يعتدي على أعراض الآخرين يُعتدَى على عرضه، والمتكبر يُهان، هناك نماذج كثيرة جداً من مصائب جاءت مناسبة للذنوب، فهذا تعريف من الله.
أذكر إنساناً زكاة ماله تقدر بأحد عشر ألفاً وثلاثمئة وخمسين، زوجته ضغطت عليه أن ينفق هذا المبلغ في إصلاح البيت، وطلائه، وتجديد أثاثه، فيبدو أنه استجاب لها، ولم يعبأ بدفع الزكاة، عنده مركبة أصيبت بحادث، كانت كلفة التصليح أحد عشر ألفاً وثلاثمئة وخمسين بالضبط، توافق المبلغين رسالة من الله.
شخص يمضي أغلب أوقاته في الصيف في التجول بالطرقات المزدحمة بالنساء، هذه متعته الوحيدة، عنده خمس بنات متزوجات، متعته الوحيدة أن يغدو في الطرقات المزدحمة ليُمتّع عينيه بالنساء الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، أُصيب بمرض نادر جداً، اسمه: ارتخاء الجفون، لا يستطيع أن يرى إلا إذا أمسك جفنه بيده وفتحه، واضح وضوحاً شديداً أن هذا المرض بسبب هذه المعصية، والشرح يطول، وفهمكم يكفي .
كل ذنب له عقاب من جنسه، إنسان أصيب بمرض خبيث في العضو الذي عصى الله به.
فالحالة الأولى أن الله سبحانه وتعالى إذا ساق مصيبة يسوقها من جنس الذنب الذي اقترفه الإنسان، فهذا شرح من الله عز وجل لهذا الإنسان، هذه حالة .
الحالة الثانية: أن الله يلقي في روعه، قال تعالى:

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11)﴾

[ سورة التغابن ]

إلى علتها، فالإنسان يشعر دون جهد أن هذه المصيبة من أجل كذا، يقول: فهمت.
أحد الإخوة الأكارم؛ جاءه شخص ليشتري حاجة من حاجات معمله، هو يبيع بأعداد كبيرة جداً، فرأى هذه الصفقة مزرية، قال له: أنا لا أبيع مفرقاً، فخرج هذا المشتري كسيف القلب، يقول لي هذا الأخ: ما دخل ثلاثين يوماً زبون إلى معملي، فَهِم على الله، هذه مقابل هذه، إذا شخص بلغ درجة الفهم هذه نعمة كبيرة، من نِعم الله الكبرى أن تفهم على الله أفعاله، هذه نعمة كبيرة، فإما أن تفهم على الله أفعاله، وإما أن يأتي العقاب مشابهاً للذنب، وإما أن يُلقي الله في روعك، وإما أن يُسخِّر من يخبرك أن هذا الذنب عقابه كذا.
 

الرسول من بني البشر تجري عليه كل خصائص البشر ليكون حجة على البشر:


الآن ربنا قال: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ ذنبهم قال :

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)﴾

[ سورة التغابن ]

 الأنبياء معهم الكتب، والأدلة، والبراهين، والعلامات الدالة على وجود الله، وعلى عظمته، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا﴾ كفروا بنبوة الأنبياء، توهموا أنه لا يليق بإنسان أن يكون رسولاً، لكن لو جاءك مَلَك رسول، وقال لك: غض بصرك عن النساء، تقول: هذا ملك، ونحن بشر، يجب أن يكون الرسول من بني البشر لتجري عليه كل خصائص البشر، وليكون حجة على البشر، لا يمكن إلا أن يكون النبي والرسول بشراً من أجل أن يُرسخَ المبادئ التي جاء بها، أنت كمبادئ نظرية سهلة، لكن ما الذي يمنعك من تطبيقها؟ الدوافع الكامنة في نفسك، فإذا رأيت بشراً مثلك يطبقها هو حجة عليك، قال: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا﴾ كفروا بنبوة الأنبياء، وكفروا برسالة الرسل: ﴿وَتَوَلَّوْا﴾ .
 

الله عز وجل غنيّ عن عباده كلهم:


طبعاً الكفر تكذيب وإعراض،﴿ فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا﴾ لم يعبأ لا بالصلاة، ولا بالزكاة، ولا بالحج، ولا بالصيام، ولم يعبأ لا بطلب العلم، ولا بتعليم القرآن، ولا بالقرآن، ولا بتفسيره، ولا بالحديث: ﴿وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾ الله عز وجل غني عن عباده كلهم:

(( عن أبي ذر الغفاري عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فِيما رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، أنَّهُ قالَ: يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ. وفي روايةٍ: إنِّي حَرَّمْتُ علَى نَفْسِي الظُّلْمَ وعلَى عِبَادِي، فلا تَظَالَمُوا. ))

[ صحيح مسلم ]

﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ غني عنّا، لكن لا يعاملنا إلا بما يُحمد عليه، أنت قد تستغني عن إنسان فتهمله، قد تستغني عنه فلا تنصحه، قد تستغني عنه فلا تؤدبه، قد تستغني عنه فلا تعطيه، لكن الله سبحانه وتعالى مع أنه غني عنّا لا يعاملنا إلا بما نحمده عليه، لذلك ورد في الأثر: "يا داود، لو يعلم المعرضون انتظاري لهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي، ولماتوا شوقاً إليّ، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف بالمقبلين؟"
لذلك قالوا: إذا قال العبد: يا رب وهو راكع، قال الله: لبيك يا عبدي، فإذا قال: يا رب وهو ساجد قال الله: لبيك يا عبدي، فإذا قال: يا رب وهو عاصٍ قال: لبيك ثم لبيك ثم لبيك.
 

الله عز وجل مع أنه استغنى عن الناس لا ينساهم بل يؤدبهم ويعالجهم:


ربنا عز وجل ينتظرنا، إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى مناد في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله، وأنت حينما تتوب إلى الله يفرح الله بك، والدليل: لله أفرح بتوبة عبده من الضال الواجد، والعقيم الوالد، والظمآن الوارد، وحينما تتوب إلى الله، وتصطلح معه، كيف أن البدوي الذي فقد ناقته فأيقن بالهلاك، فجلس يبكي حتى أدركه النعاس، فاستيقظ فرأى الناقة أمامه، من شدة فرحه اختل توازنه قال: يا رب، أنت عبدي وأنا ربك، قال النبي عليه الصلاة والسلام:

(( إنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأنَّهُ قاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخافُ أنْ يَقَعَ عليه، وإنَّ الفاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبابٍ مَرَّ علَى أنْفِهِ فقالَ به هَكَذا، قالَ أبو شِهابٍ: بيَدِهِ فَوْقَ أنْفِهِ. ثُمَّ قالَ: لَلَّهُ أفْرَحُ – أي أشدّ فرحاً-بتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِن رَجُلٍ نَزَلَ مَنْزِلًا وبِهِ مَهْلَكَةٌ، ومعهُ راحِلَتُهُ، عليها طَعامُهُ وشَرابُهُ، فَوَضَعَ رَأْسَهُ فَنامَ نَوْمَةً، فاسْتَيْقَظَ وقدْ ذَهَبَتْ راحِلَتُهُ، حتَّى إذا اشْتَدَّ عليه الحَرُّ والعَطَشُ أوْ ما شاءَ اللَّهُ، قالَ: أرْجِعُ إلى مَكانِي، فَرَجَعَ فَنامَ نَوْمَةً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فإذا راحِلَتُهُ عِنْدَهُ. ))

[ صحيح البخاري ]

أما إذا أصرّ الإنسان: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾ ولكن الله مع أنه استغنى عنهم لا ينساهم، يؤدبهم، ويعالجهم، ويسوق لهم الشدائد: ﴿وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ غنيّ عنّا، يُحمد على أفعاله كلها.
وفي درس آخر إن شاء الله نتابع هذه الآيات.

الملف مدقق

 والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور