الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
طاعة رسول الله عين طاعة الله وطاعة الله عين طاعة رسول الله:
أيها الأخوة الكرام؛ مع الدرس الخامس وربما كان الأخير من سورة التغابن، ومع الآية الثانية عشرة، يقول الله عز وجل:
﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12)﴾
الحقيقة أن هذه الآية تُعدّ أصلاً في وجوب طاعة رسول الله مع طاعة الله، لأن الله عز وجل أنزل هذا القرآن على النبي عليه الصلاة والسلام، وأمره أن يبيّن، ويفصّل، قال تعالى:
﴿ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)﴾
فمن استنكف عن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يستنكف عن طاعة الله، ويقول الله عز وجل:
﴿ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)﴾
طاعة رسول الله عين طاعة الله، وطاعة الله عين طاعة رسول الله، وإرضاء رسول الله عين إرضاء الله، وإرضاء الله عين إرضاء رسول الله:
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)﴾
بضمير المفرد الغائب:
﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)﴾
﴿ لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)﴾
إذاً الله جلّ جلاله أمرنا أن نطيع رسوله، وطاعة رسول الله طاعة لله عز وجل.
النبي الكريم عصمه الله عز وجل من أن يخطئ في أقواله وأفعاله وإقراره:
في آية أخرى:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)﴾
﴿وَأُولِي الْأَمْرِ﴾ هم العلماء والأمراء، فإن تنازعتم في شيء مع أولي الأمر، مع علمائكم أو مع أمرائكم فردوه إلى الله في قرآنه، وإلى الرسول في سنته، قال عليه الصلاة والسلام:
(( عن أبي هريرة: تركتُ فيكم شيئَينِ، لن تضِلوا بعدهما؛ كتابَ اللهِ وسُنَّتي، و لن يتفرَّقا حتى يَرِدا عليَّ الحوضَ. ))
[ صحيح الجامع : حكم المحدث: صحيح ]
(( عَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْعِظَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذِهِ لَمَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ . ))
فالنبي صلى الله عليه وسلم عصمه الله عز وجل عن أن يخطئ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، وأحواله، وأمرنا أن نطيعه، ولولا أنه معصوم لكان في أمر الله لطاعته أمراً بمعصية، لكن الله عز وجل عصمه، وأمرنا أن نطيعه لأنه معصوم، ولأنه يوحى إليه.
أي دعوة إلى نبذ السنة هي دعوة إلى نبذ الدين:
إذاً هناك دعوة للاكتفاء بالقرآن الكريم، ونبذ السنة، وعدّ السنة فهماً مرحلياً فهمه النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهت هذه المرحلة، ينبغي أن نفهم القرآن فهماً آخر، هذه دعوة مُغرضة، لأنهم لم يستطيعوا مواجهة الإسلام مواجهة صريحة فسلكوا طرائق ملتوية لتفجير الإسلام من داخله، فأي دعوة إلى نبذ السنة هي دعوة إلى نبذ الدين، لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ يجب أن تطيع الله في قرآنه، وأن تطيع النبي في سنته، السنة مبينة ومفصلة، تقيد المطلق، تخصص العام، تُوضح المجمل، تُفصّل المجمل، فالسنة مصدرٌ ثانٍ للشريعة الإسلامية، وعلماء الأصول قالوا: "هناك وحي متلو هو القرآن الكريم، ووحي غير متلو هو السنة المطهرة" ، بل إن الله جلّ جلاله أراد أن يثبت محبته بطاعة رسوله قال:
﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)﴾
إذاً الدعوة التي تقوم على الاكتفاء بالقرآن الكريم هذه دعوة باطلة تخالف نص القرآن الكريم، لأن الله يأمرنا أن نأخذ ما آتانا، وأن ندع ما نهانا فقال: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ بعضهم فهم هذه الآية على أن ما آتاكم من غنائم فخذوها، كلمة نهاكم تشعر أن الإيتاء هو الأمر، وليس الغنيمة، أمركم ونهاكم، آتاكم ونهاكم: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ بل إن الذين يُخالفون عن أمره توعّدهم الله عز وجل بعذاب في الدنيا والآخرة، بل إن طاعة رسول الله هي عين طاعة الله.
النبي حجم مهمته كقدوة أكبر بكثير من حجم مهمته كمبلّغ:
النبي عليه الصلاة والسلام فضلاً عن أنه مُبلغ هو قدوة، بل إن حجم مهمته كقدوة أكبر بكثير من حجم مهمته كمبلغ، لأن الإنسان لا يقبل منهجاً إلا بِمَثَلٍ مطبق لهذا المنهج .
أنت يمكن أن تذهب إلى طبيب، وتعتقد اعتقاداً جازماً أن هذا الطبيب ليس مستقيماً على أمر الله، بل هو متفلت منه، لكن اختصاصه من أعلى مستوى، أنت تسلّمه نفسك، ولا تلقي بالاً إلى فسقه أو فجوره، هذا يمكن أن يكون في الطب، أو الهندسة، إلا في الدين لا يمكن أن تقبل عالماً غير مطبق لما يقول، حينما لا يطبق ما يقول تسقط قيمة علمه، وتسقط أسوته، فالنبي عليه الصلاة والسلام حجة على الناس جميعاً، لأنه بشر تجري عليه كل خصائص البشر، انتصر على نفسه، وكان سيد البشر: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ .
أوامر النبي ونواهيه ليست من خبراته ولا من تجاربه إنما هي وحي يوحى:
أيها الإخوة؛ حينما تعتقد أن النبي إنسان عبقري، وإنسان ذكي جداً، وإنسان استوعب ثقافة عصره، واستطاع أن يجمع العرب، وأن يوجههم لهدف واحد أنت بهذا لا تدري أنك تتابع المستشرقين الذين ينفون عن النبي نبوته ووحيه، أوامره ونواهيه ليست من خبراته، وليست من ذكائه، وليست حصيلة تجاربه، إنما هي وحي يوحى.
قضية دقيقة، أعداء الإسلام ينفدون إلى الدين من باب أن النبي عبقري، وأنه أكبر مصلح اجتماعي استوعب معطيات العصر، وجمع الناس، واستمال قلوبهم، ووجههم إلى هدف واحد، هذا كلام مرفوض، النبي عليه الصلاة والسلام نبي مرسل، ويوحى إليه، وما نطق كلمة واحدة من ثقافته، ولا من معطياته، ولا من خبرته:
﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾
فالذي قاله النبي حقّ مئة بالمئة حتى في شؤون الدنيا، وكلما تقدم العلم أسلم العلم، كلما تقدم العلم التقى مع أقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك ليحذر أحدنا أن ينساق وراء من يمجدون النبي، ويضفون عليه العبقرية والقوة في شخصيته، هؤلاء لا يريدون أنه نبي، هو نبي مرسل، يُبلغ الناس ما أوحاه الله إليه، يعطي ما يأخذه عن الله، كلامه تشريع، أعماله تشريع، إقراره تشريع، أحواله تشريع، صفاته تشريع، عصمه الله عن أن يخطئ في أقواله وأفعاله، وإقراره وصفاته، أمرنا أن نأخذ عنه كل أوامره، وأن ننتهي عن كل ما نهانا عنه، جعله الله لنا قدوة وأسوة، قال:
﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾
فالنبي عليه الصلاة والسلام له مهمتان: مهمة التبليغ، ومهمة القدوة والأسوة، بل إن قوة تأثيره صلى الله عليه وسلم في المؤمنين لا لأنه بلغهم فحسب بل لأنه كان أسوة لهم، ما قال شيئاً إلا طبقه.
النبي الكريم انتزع إعجاب أصحابه من خلال تطبيقه لما يأمرهم به:
النبي عليه الصلاة والسلام انتزع إعجاب أصحابه من تطبيقه لما يأمرهم به، كان إذا أمرهم بأمر أولّ من ائتمر به، وإذا نهاهم عن شيء كان أولّ من ينتهي عنه، وكان قدوة كاملة.
مرة قال:
(( إن قريشًا أهمهم شأنُ المخزوميَّةِ التي سرقت فقالوا: من يُكلِّمُ فيها رسول اللهِ صلى الله عليه وسلَّم؟ قالوا: ومن يجترئُ عليه إلا أسامةُ بنُ زيدٍ حِبُّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم؟ فكلَّمَه أسامةُ فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم: أتشفعُ في حدٍّ من حدودِ اللهِ؟ ثم قام فخطب، فقال: إنما هلك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وأيمُ اللهِ لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها. ))
مرة جاءه صحابي جليل مهاجر، استطاع هذا الصحابي أن يَعِدَ الذين اعترضوا هجرته بأن عاهدهم ألا يقاتلهم، وانضم هذا الصحابي إلى النبي، وعاش في المدينة، وبعد حين كانت غزوة بين المسلمين وبين الكفار، فإذا بهذا الصحابي الجليل يندفع ليغزو مع رسول الله، يقول له النبي عليه الصلاة والسلام: ارجع، ألم تعاهدهم؟
الشيء الذي يلفت النظر، الشيء الذي ينتزع الإعجاب أن أصحابه الكرام رأوا كل فضائله رأيّ العين، رأوا تواضعه، رأوا ورعه، ورأوا زهده، رأوا رحمته، تعلقوا به لا لأن أقواله مقنعة فحسب، تعلقوا به لأنهم رأوا قرآناً يمشي، السيدة عائشة رضي الله عنها سئلت عن خلق النبي عليه الصلاة والسلام قالت:
(( عن عائشة أم المؤمنين: أتَيْتُ عائشةَ، فقُلْتُ: يا أُمَّ المُؤمِنينَ، أخْبِريني بخُلُقِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قالت: كان خُلُقُه القُرآنَ ، أمَا تَقرَأُ القُرآنَ، قولَ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، قُلْتُ: فإنِّي أُريدُ أنْ أتبَتَّلَ، قالت: لا تَفعَلْ، أمَا تَقرَأُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]؟ فقد تزوَّجَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقد وُلِدَ له. ))
[ شعب الأرناؤوط : تخريج المسند لشعيب : خلاصة حكم المحدث : صحيح ]
بعضهم قال: القرآن كون ناطق، والكون قرآن صامت، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي.
كان مع أصحابه، أرادوا أن يعالجوا شاة، قال بعضهم: عليّ ذبحها، وقال الثاني: عليّ سلخها، وقال الثالث: عليّ طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: عليّ جمع الحطب، واختار أصعب مهمة، قيل له: يا رسول الله نكفيك ذلك؟ فقال: أعلم أنكم تكفونني ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً عن خَلْقه .
جاءه عدي بن حاتم لم يكن في بيته إلا وسادة واحدة من أدم محشوة ليفاً، قذفها إليه وجلس النبي على الأرض.
(( عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى حَصِيرٍ، قَالَ: فَجَلَسْتُ، فَإِذَا عَلَيْهِ إِزَارٌ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَإِذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبهِ، وَإِذَا أَنَا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، وَقَرَظٍ فِي نَاحِيَةٍ فِي الْغُرْفَةِ، وَإِذَا إِهَابٌ مُعَلَّقٌ، فَابْتَدَرَتْ عَيْنَايَ، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا بْنَ الْخَطَّابِ؟ فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَمَالِي لَا أَبْكِي، وَهَذَا الْحَصِيرُ قَدْ أَثَّرَ فِي جَنْبِكَ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ لَا أَرَى فِيهَا إِلَّا مَا أَرَى، وَذَلِكَ كِسْرَى وَقَيْصَرُ فِي الثِّمَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَأَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ، وَهَذِهِ خِزَانَتُكَ؟ قَالَ: يَا بْنَ الْخَطَّابِ، أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَنَا الْآخِرَةُ وَلَهُمْ الدُّنْيَا؟ قُلْتُ: بَلَى. ))
كان يأكل كما يأكل العبد، يجلس كما يجلس العبد.
النبي عليه الصلاة والسلام أسوة وقدوة لنا في كل شيء:
كان عليه الصلاة والسلام قدوة، أسوة، ذاق القهر في الطائف فقال: ربي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى لكن عافيتك لي أوسع.
وذاق النصر في مكة، فحنى رأسه تواضعاً لله عز وجل، حتى كادت ذؤابة عمامته تلامس عُنق بعيره تواضعاً لله، وشكراً على نعمة الفتح.
ذاق ألم الجوع،
(( فعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ، وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ. ))
ذاق طعم الجوع،
(( فعَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ: يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ، قَالَ: فَإِنِّي صَائِمٌ.))
وذاق الغنى، فقيل له: لمن هذا الوادي؟ واد من غنم، قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا والله، إنما هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله، تعطي عطاء من لا يخشى الفقر .
ذاق موت الولد، وموت الولد صعب جداً ذرفت عيناه
(( قيل له: أتبكي يا رسول الله؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عن أنس: إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ. ))
ذاق الانتزاع من بلده، الإنسان قوي في بلده، في بيته، في عمله، في عمله التجاري، الناس كلهم يعرفونه انتزع من مكة، قال: "اللهم إني خرجت من أحبّ البلاد إليّ فأسكني أحبّ البلاد إليك" .
دخل إلى المدينة غريباً، سكنها، واستوطنها، وأحبّ الأنصار وأحبّوه، ذاق الهجرة، ذاق موت الولد، ذاق أن يُقال عن زوجته السيدة عائشة ما قيل في حديث الإفك، ومع ذلك كان صابراً، انتظر الوحي أربعين يوماً حتى نزلت براءة السيدة عائشة، وفي هذه الأربعين يوماً كيف كان حاله؟ ماذا يقول والناس كلهم يتحدثون عن زوجته أنها قد زلت قدمها ويعرفها طاهرة عفيفة؟ هذه محنة ذاقها النبي عليه الصلاة والسلام، ذاق محنة الزوجة، ذاق محنة موت الولد، ذاق محنة زواج البنات، زوّج ابنته زينب لأبي العاص، رآه أسيراً مع الأسرى، جاء ليقاتله، وهو صهره، فأثنى عليه أنه كان صهراً ممتازاً، وقال: والله ما ذممناه صهراً.
ذاق الجوع، ذاق الشبع، ذاق القهر، ذاق النصر، ذاق المرض، ذاق الصحة، لأنه ذاق كل شيء جعله الله لنا أسوة حسنة، لو أنه ذاق الغنى ولم يذق الفقر، وأمَرَ الفقراء بالصبر لما صدقه الفقراء، جاع مثلهم، وتمنى المال مثلهم، ذاق التجارة، التجارة الداخلية والخارجية، هذا هو النبي عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ .
ثقة النبي الكريم بالله عز وجل:
سار النبي صلى الله عليه وسلم في مضائق صعبة جداً، حينما ائتمروا على قتله في مكة، حينما أخرجوه من مكة، حينما أُهدر دمه، حينما وضعوا مئة ناقة لمن يأتي به حياً أو ميتاً، محنة الهجرة محنة عصيبة، إنسان مهدور دمه، وملاحق، أي إنسان ألقى القبض عليه نال مئة ناقة، تبعه سراقة، وغاصت قدما الخيل في الرمال مرة أو مرتين أو ثلاثاً، حتى شعر أن هذا الإنسان ممنوع منه، فقال الرسول: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟ ما هذه الثقة بالله عز وجل؟ يا رسول الله، أنت ملاحق، وأنت مهدور الدم، تَعِدُ سراقة بأن يلبس سواري كسرى؟! ما هذه الثقة بنصر الله لك؟! معنى ذلك أنه سيصل إلى المدينة سالماً، وسيؤسس دولة عظمى، وستحارب الفرس والروم، وسيأتي قواده من بعده بتاج كسرى، وسيلبس سراقة سواري كسرى، في عهد عمر جاءت الغنائم، فإذا فيها تاج كسرى وقميصه وسواراه، قال سيدنا عمر: أين سراقة؟ استدعى سراقة، وألبسه سواري كسرى، وقال: بخ بَخ، أعيرابي من بني مدلج يلبس سواري كسرى؟! تحققت نبوة النبي .
التقى بِعَدِيّ بن حاتم فقال: لعله يا عدي إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم؟ الصحابة كانوا فقراء جداً، فو الذي نفس محمد بيده ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، سيدنا سعد فيما أذكر، أو سيدنا معاذ أرسله عمر رضي الله عنهم إلى اليمن، فبعث إليه بنصف الزكاة، وقال: والله ما وجدت أحداً في الأعوام القادمة بعث إليه بكل الزكاة؟ قال: والله ما وجدت أحداً يأخذها مني، حتى يفيض المال فيهم حتى لا يجد من يأخذه، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، فوالله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف .
ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، كما هي الحال الآن، فو الذي نفس محمد بيده ليوشك أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فُتحت عليهم، للمسلمين.
دليل محبتنا لله هو طاعتنا لرسوله:
أيها الإخوة، ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ لأن خلاصنا بطاعة رسولنا، خلاصنا بالصلح مع ربنا، خلاصنا بالسير على منهج الله ومنهج رسوله، ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ بل يجب أن نعلم علم اليقين أن دليل محبتنا لله طاعة رسوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ .
﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ الإنسان مخير، بإمكانه أن يطيع الله ورسوله وبإمكانه أن يعصيهما، هو مخير: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ الله عز وجل قال له:
﴿ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ (22)﴾
﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)﴾
﴿ لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)﴾
الإنسان مخير، الذي يشاء الهدى يهتدي، والذي يشاء الضلالة يضل، فليس عليك هداهم، فلست مسؤولاً عن هدايتهم، عليك أن تُبلغ وانتهى الأمر، عليك أن تُبلغ وانتهت مهمتك، لكنهم مخيرون، إما أن يستجيبوا، وإما ألا يستجيبوا، والآية الكريمة تقول:
﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)﴾
أليس في هذه الآية تكريماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنهم إذا استجابوا لك استجابوا لله، إن طاعتهم لك طاعتهم لي: ﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ .
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ الإنسان مُبلَّغ، وأقيمت عليه الحجة بهذا الإبلاغ، بقي أن يستجيب.
مراحل السير إلى الله عز وجل:
ذكرت لكم في دروس سابقة أن الإنسان يمر بثلاث مراحل في سيره إلى الله، الإنسان يُدعى إلى الله دعوة بيانية بالكلام، يسمع خطبة، يسمع درساً، يلتقي مع صديق، يسمع شريطًا، يقرأ كتاباً، هذه دعوة بيانية، ينبغي أن يستجيب لله وللرسول، فإن لم يستجب يدخل في مرحلة أخرى، مرحلة التأديب التربوي، تُساق له الشدائد من أجل أن يصطلح مع الله، من أجل أن يُساق إلى باب الله، من أجل أن يصحو من غفلته، من أجل أن يردع نفسه عن شهوته، الأَولى إذا دخل في مرحلة التأديب التربوي أن يتوب إلى الله، فإن لم يتب دخل في المرحلة الثالثة قبل الأخيرة، المرحلة الثالثة يُكرَّم إكراماً استدراجياً:
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)﴾
الأَولَى مع هذا التأديب الاستدراجي أن يتوب ويشكر، الأولَى مع الدعوة البيانية أن يستجيب ويؤمن، ومع التأديب التربوي أن يتوب ويؤمن، ومع الإكرام الاستدراجي أن يشكر وأن يؤمن، فإن لم يؤمن لا بالدعوة البيانية ولا بالتأديب التربوي ولا بالإكرام الاستدراجي لابدّ من القصم، عندئذ يقصمه الله عز وجل، وينتهي الأمر: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ .
من دُعِي إلى الخير واستجاب لله فهو الرابح الأول:
إذا دُعِي الإنسان إلى الخير وتولى مَن يضر؟ يضر نفسه، إذا صنعت الأم طعاماً نفيساً جداً ودعت أولادها ليأكلوا من هذا الطعام، وأحد أولادها ركب رأسه واستنكف عن أن يأكل أضرّ من؟ أضرّ نفسه:
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)﴾
قال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ في آية أخرى:
﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾
﴿ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)﴾
إذا أصغيت إلى الحق وإن استجبت له فأنت الرابح الأول، لا تمنن على الله هذا الإسلام، بل الله يمنّ عليك أن أسمعك الحق:
﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾
هذه بشارة لنا جميعاً.
من أسمعه الله الحق فهو من المهتدين والمقربين:
إذا استمعنا إلى الحق فلعل الله عَلِم فينا خيراً، هناك مئات الملايين يعبدون البقر، سبعمئة وخمسون مليوناً يعبدون البقر، هناك من يعبد الجرذان، هناك من يعبد موج البحر، هناك من يعبد النار، هناك من يعبد الشمس، هناك من يعبد آلهة من بني البشر، يعبدونهم من دون الله، إذا أسمعك الله الحق، وسمح لك أن تعبده وحده فأنت من المهتدين، وأنت من المقربين: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾ .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)﴾
لأنه يحبكم، ولأنه يربيكم، ولأنه رحيم بكم، ولأنه حريص على سعادتكم:
﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)﴾
فإذا أصررتم على ما أنتم فيه:
﴿ هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)﴾
الله مع الإنسان في كل مكان يعلم ما يفعل:
﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)﴾
الله لا إله إلا هو، أينما ذهبتم لو أطعتم غير الله مصيركم إليه، وأمركم بيده، ورزقكم بيده، وحياتكم بيده، وزواجكم بيده، وأولادكم بيده، وصحتكم بيده، ونجاح أعمالكم بيده، وإخفاقكم بيده، ومن حولكم بيده، ومن فوقكم بيده، ومن تحتكم بيده، ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ لا مسيّر، ولا خافض ولا رافع، ولا معطي ولا مانع، ولا معز ولا مذل إلا الله، إذا تولى الإنسان عن الله إلى أين سيذهب؟ الله معك في كل مكان.
الإنسان أحياناً يترك بلداً، ويذهب إلى بلد آخر، القائمون على البلد الذي تركه لا سلطان لهم على البلد الثاني، لذلك يسمونه لاجئًا، يحتمي بالبلد الثاني، أما أنت فمع الله، هل تستطيع أن تفرّ من ملكه؟ لا ملجأ منه إلا إليه.
سأل رجل أحد العارفين بالله، قال: أريد أن أعصي الله، قال: اعصه إذا توافرت لك خمس خصال، قال: ما هي؟ قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن أرضه، قال: وأين أسكن إذاً؟ قال: تسكن أرضه وتعصيه؟! قال: هات الثانية، قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تأكل رزقه، قال: آكل ماذا؟ قال: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه؟! قال له: هات الثالثة، قال: إذا أردت أن تعصيه فاعصه في مكان لا يراك فيه، قال: هو معي أينما ذهبت، قال: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه وهو يراك؟! عجبت لك، قال: هات الرابعة، قال: إذا أردت أن تعصيه وجاءك ملك الموت فلا تذهب معه، قال: لا أستطيع، قال: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه، وهو يراك، ولا تستطيع أن تعارض ملك الموت إذا جاء ليأخذك؟! قال: هات الخامسة، قال: إذا جاءك الزبانية ليأخذوك إلى النار فلا تذهب معهم، لا ترض، قال: لا أستطيع، قال: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه، وهو يراك، ولن تستطيع أن تمتنع لا عن ملك الموت ولا عن زبانية جهنم، وتبقى تعصيه؟! فقال الرجل: كفيت.
ليس هناك جهة وجهة تنتقل من مكان إلى مكان، لا:
﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾
أنت في قبضته، لو أنك توليت عنه، رزقك بيده ، صحتك بيده، قلبك بيده، دسامات قلبك بيده، أوعيتك الدموية بيده، سيولة دمك بيده، يصير في الدم لزوجة انتهى، خثرة بالدماغ مليمتر مكعب لو تخثرت انشلّ، ولو كان ملكاً، انتهى، فأنت في قبضته، هل تملك أن هذه الخلايا لا تورم ورمًا خبيثًا؟ من منّا يملك ألا تنمو خلاياه فجأة نمواً غير معقول؟ انتهى.
من ازداد توحيداً ازداد إيماناً وثقة بالله عز وجل:
قال: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ هذا هو التوحيد، الدين كله توحيد، ألا ترى مع الله أحداً، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، حياتك، ورزقك، وأجلك، وأهلك، وتوفيقك، وإخفاقك بيده، وكلما ازددت توحيداً ازددت إطمئناناً وثقة بالله عز وجل: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ إلى أين أنتم ذاهبون؟ أنتم في قبضة الله، هل تستطيعون أن تتفلتوا من قبضته؟ هل تستطيعون أن تتلافوا قضاءه وقدره؟ هل تستطيعون أن تنجوا من عقابه؟ ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ* اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ ومادام الله هو كل شيء، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، هو السميع البصير، القوي العزيز المتين، إذًا: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ما من عبد يعتصم بي من دون خلقي أعرف ذلك من نيته، فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، وما من عبد يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه، وقطعت أسباب السماء بين يديه، شتان بين من يعتصم بالله، وبين من يعتصم بأحد خَلقه، شتان بين من يجعل كل همّه إرضاء الله عز وجل:
(( فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ. ))
مرّ بنا اليوم في الخطبة أن هناك خوفين: خوف إيجابي وخوف سلبي، الخوف الإيجابي أن تخاف من الله، فإذا خفت من الله وحده أمّنك، تخاف لتأمن، والخوف السلبي أن تخاف من غير الله، فإذا خفت من غير الله اضطربت، وانقلبت حياتك إلى شقاء.
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ بيده كل شيء، الأَولّى لكم: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ لكن غير المؤمن لا يستطيع أن يتوكل على الله، أما المؤمن فبإيمانه واستقامته وطلب رضوان الله عز وجل بإمكانه أن يتوكل على الله، يا أبا الدرداء احترق محلك؟ قال: ما كان الله ليفعل، قالوا: احترق محلك؟ قال: اذهبوا وتأكدوا لم يحترق محلي، فلما ذهبوا إلى دكانه وجدوا دكان جاره قد احترقت، فلما عادوا إليه قال: أعلم ذلك: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾.
من كان مع الله كان الله معه:
الحسن البصري، ذكرت هذا في الخطبة اليوم أدى أمانة العلم فأغضب الحجاج، فأمر بقتله، فجيء بالسياف، ومُدّ النطع -رداء ليحفظ أثاث المكان من دماء المقتول-واستدعي الحسن البصري ليقتل، فلما دخل عرف ماذا ينتظره، فحرك شفتيه بكلمات لم يفهمها أحد، ما كان من الحجاج إلا أن وقف له، واستقبله، وقربه من سريره، وأجلسه على سريره، وقال: يا أبا سعيد، أنت سيد العلماء، وعطّره، واستفتاه، وأكرمه، وودعه، أما الإنسانان اللذان لم يفهما ماذا جرى فهما السياف الذي استُدعي ليقتله، والحاجب، تبعه الحاجب قال: يا أبا سعيد، لقد جيء بك لغير ما فُعِل بك، فماذا قلت قبل أن تدخل؟ قال له: قلت يا مؤنسي في وحشتي، يا ملاذي عند كربتي، اجعل نقمته عليّ برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
أنت بيد الله عز وجل، والحجاج بيد الله، وكل شيء بيد الله، فإذا كنت مع الله فمن عليك؟ وإذا لم تكن مع الله فمن معك؟ لا يوجد معك أحد.
عموم القصد في الآية التالية:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)﴾
طبعاً أولاً: (مِن) للتبعيض أي إن بعض أزواجكم، وإن بعض أولادكم عدوٌّ لكم، قال بعض العلماء: ليست عداوة حال، لكنها عداوة مآل.
فرضاً أنت لك شريك أشار عليك أن تتاجر ببضاعة ممنوعة قانونياً، وأغراك بربح وفير، ومنّاك الأماني العريضة، فصدقته، وأحببته، واتبعت نصيحته، فلما وقعت في قبضة العدالة رأيته عدواً لك، متى رأيته عدواً لك؟ بعد أن وقعت في قبضة العدالة.
فالإنسان يحب زوجته، ويحب أولاده، ولكن حينما تقول البنت يوم القيامة: يا رب لا أدخل النار حتى أدخل أبي قبلي، لأنه ما علمني، وما حفظني، وما عرفني بك، أطلق لي العنان، خرجت كما أريد، زلت قدمي لم يحاسبني، لم يعترض على خروجي، ولا على طريقة خروجي، ولا على ثيابي، ولا على صلاتي، ولا على ديني، طبعاً هو في الدنيا عليه ضغط من زوجته ليغير هذا البيت، ليطلي هذا البيت، ليؤسس أثاثاً جديداً، ليقيم الولائم، ليسهر، ليس معه دخل، فاضطر أن يكسب مالاً حراماً ليرضي زوجته، يوم القيامة حينما يرى أنه في قبضة الله، وسيواجه عذاب النار يرى أن أعدى أعدائه زوجته التي استجاب لها، وعصى الله من أجلها، لذلك كانت الصحابية الجليلة تقول: يا فلان، اتق الله بنا، نحن بك، إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا، نصبر على الجوع، ولا نصبر على الحرام.
المرأة المؤمنة لا تُحَمّل زوجها فوق ما يطيق، لا تكلفه ما لا يطيق، المرأة من شأنها أنها تحب المظاهر، فإذا دفعت زوجها لكسب المال الحرام كانت عدوة له: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عدُوًّا لَكُمْ﴾ هذا عموم القصد في الآية.
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:
أما خصوص السبب فكان بعض المؤمنين في مكة المكرمة أرادوا أن يهاجروا مع رسول الله، لكن أزواجهم وأولادهم حالوا بينهم وبين الهجرة، أين ستتركنا؟ عندك هنا بيت، عندك تجارة، فهؤلاء الأزواج والأولاد حملوا أزواجهم على ترك الهجرة مع رسول الله، فخسروا خسارة كبيرة جداً، فهؤلاء يوم القيامة تتضح عداوتهم، إنما هي عداوة مآل، أولاً: ليست عداوة حال، لكنها عداوة مآل، فكل زوج يطيع زوجته ويعصي الله، يرضي زوجته بسخط الله، يعطيها رغباتها على حساب طاعته لله، أو يرضي أولاده على حساب طاعته لله سوف يرى زوجته وأولاده أعداء ألداء له يوم القيامة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ قالت له: يا فلان أعطني، افعل كذا، افعل كما يفعل فلان، قال: يا أمَة، إنّ في الجنة من الحور العين ما لو أطلت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر، فلأن أضحي بك من أجلهن أهون من أن أضحي بهن من أجلك، هكذا وقف أحد الصحابة.
صحابي آخر قالت له أمه: إما أن تكفر بمحمد، وإما أن أدع الطعام حتى أموت، قال يا أمي: لو أن لك مئة نفس فخرجت واحدة وَاحدة ما كفرت بمحمد، فكلي إن شئت أو لا تأكلي.
الحق ليس فيه مساومة، الحق ليس فيه رضا وغضب، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق:
﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)﴾
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾
﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ أحياناً الإنسان يواجه معارضة من بيته، من زوجته، من أولاده، من أقرب الناس إليه، المؤمن الصادق لا يعبأ:
﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)﴾
حياة المؤمن مبادئ وقيم ومُثل عليه أن يحافظ عليها:
الله ربي، الله قصدي، لا إله سواه، المؤمن عنده مواقف قوية، عنده مواقف مبدئية، عنده قضايا لا تُقبل في المساومات أبداً، لا تخضع للمساومة، ماذا يريد فتًى من فتيان قريش؟ لو أردت ملكاً لملّكناك علينا، لو أردت الجمال لزوجناك أجمل نسائنا، لو أردت المال لجعلناك أغنانا، قال:
(( عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة: والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في شمالي، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله، أو أهلك دونه . ))
[ فقه السيرة ليس له إسناد ثابت، من الأحاديث الضعيفة ]
هذا المؤمن، يوجد في حياة المؤمن مبادئ، يوجد بحياته قيم، يوجد مُثل، يوجد منهج، يُناور بما هو مباح، يتساهل بما هو مقبول، يتساهل فيما هو مشروع، ولكن عنده خطوط حمر لا يتجاوزها أبداً.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ دقة الآية بكلمة (من) ليس كل الزوجات أعداء لأزواجهم، ﴿إِنَّ مِنْ﴾ أي بعض الزوجات المتعلقات بالدنيا، الراغبات في المظاهر، هؤلاء يدفعن أزواجهن إلى أن يعطيهن شيئاً من الدنيا تفوق طاقته، يحملنه على معصية الله، يدفعنه إلى أكل المال الحرام.
أنا أعرف رجلاً شابًّاً في مقتبل الحياة يعمل في محل يبيع الجملة، فاكتشف صاحب المحل نقصاً في الغلة والبضاعة، أرسل له في غيبته من يشتري حاجة، وسأل هذا الموظف حينما قدِم: هل جاء أحد؟ فقال: أبداً، لم يأت أحد، أمر هذا الذي اشترى الحاجة أن يرجعها بوجوده، فلما أرجعها كُشِفت خيانته، فصله من عمله، فصار يتوسل إليه أن يبقيه في عمله، واعتذر بأن زوجته طلباتها كثيرة لا يقوى على تلبيتها، فسلك هذا السلوك، خسر سمعته وعمله لأنه استجاب لزوجته.
الله جلّ جلاله ما كلف المؤمن ما لا يطيق، أمرك النبي عليه الصلاة والسلام أن تُطعم أهلك مما تأكل، وأن تلبسهم مما تلبس فقط، ما كلفك ما لا تطيق، لذلك الطلبات التي لا تستطيعها، والتي لا تتحقق إلا بالدخل الحرام اركلها بقدمك ولا تعبأ، واللهُ في عون العبد إذا كان مع الله عز وجل: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ المؤمن كيّس فطن حذر، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا﴾ أي طلبتْ شيئًا لا تقوى على تأمينه، لا ينبغي أن تحقد عليها، هي أرادت أن تسُرك في الدنيا، لكن هذا لا يتيسر إلا بدخل حرام، لا تعبأ بطلبها، قال: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا﴾ .
على الإنسان أن يكون صريحاً حتى لا يتحمل من الأعباء ما لا يطيق:
الحقيقة أن الآية لها خصوص سبب وعموم قصد، خصوص السبب بعض نساء المؤمنين في مكة منعن أزواجهن من الهجرة مع رسول الله، وفوّتن عليهم خيراً كثيراً، فلما علم أزواجهن ما ناله أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام الذين هاجروا معه تألموا ألماً شديداً، وحقدوا على أهلهم وأولادهم، قال الله عز وجل: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أنت مادمتَ لم تنفذ فلا تعبأ بهذه الأقوال، طبعاً هذه المشكلة يعاني منها أكثر المسلمين، المرأة تظن أن الرجل على كل شيء قدير، هو لا يملك كل شيء، قد يُدبر مصروفه بصعوبة بالغة جداً، تظن أن معه الشيء الكثير، والإنسان إذا صارح أهله بإمكاناته أولى من أن يخفي عليهم حجمه المالي، تظن أن معه المال الوفير، وهو ليس معه شروى نقير، فالأولى أن يكون صريحاً لئلا يتحمل من الأعباء ما لا يطيق: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ :
﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)﴾
من يمنعك من العمل الصالح لا ينفعك يوم القيامة:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾
الباقيات الصالحات الأعمال الصالحة، النبي عليه الصلاة والسلام جاءته شاة فوزع معظمها، ولم يبقَ إلا كتفها:
(( عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُمْ ذَبَحُوا شَاةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَقِيَ مِنْهَا؟ قَالَتْ: مَا بَقِيَ مِنْهَا إِلَّا كَتِفُهَا، قَالَ: بَقِيَ كُلُّهَا غَيْرَ كَتِفِهَا. ))
كتفها الذي سنأكله هذا الذي لم يبقَ، فلذلك الإنسان يجب أن يعمل صالحاً، ولا يلتفت إلى أحد، ولا يستأذن أحداً، ولا يطلب رضاء أحد، لأن الذي يمنعك من العمل الصالح لا ينفعك يوم القيامة.
شاب عليه زكاة مال، مبلغ محدد، فزوجته عملت على إقناعه بعدم دفع الزكاة، وأن تُنفق على إصلاح البيت، بعد ضغط شديد استجاب لها، ولم يدفع زكاة ماله، وأنفق هذا المال على طلاء البيت، ثم فوجئ أن سيارته قد ضُربت، الشيء اللطيف أنّ كلفة إصلاحها تماماً تساوي الزكاة التي لم يدفعها، حق الله أحقّ أن يؤدى، افعل الخير ولا تعبأ بأحد.
كل شيء تنفقه في سبيل الله يخلفه الله عز وجل:
ثماني آيات في كتاب الله عز وجل تؤكد أن كل شيء تنفقه في سبيل الله يُعوض عليك، يخلفه الله عز وجل، وأن كل شيء تنفقه يعلمه الله:
(( قالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: يا بْنَ آدَمَ أنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ. ))
[ متفق عليه عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
(( أنفق بلالا، ولا تخشَ من ذي العرش إقلالا. ))
[ رواه الطبراني عن ابن مسعود ]
﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ الإنسان يُمتحن بالمال، قد يقول قائل: والله لو أن الله أغناني سأنفق على الفقراء والمساكين، وسألبي حاجة البائسين، وسأبني مسجداً، وأبني ميتماً، وأبني مستوصفاً، وسوف أدخل الفرحة على قلوب الناس، فإذا اغتنى أراد أن ينفق المال على متعه، وعلى رفاهه، وعلى مآربه الدنيوية، هذا المال كان فتنة له فرسب.
أما الذي يؤتيه الله مالاً فينجح، قال لي أحدهم: أنهيت الخدمة الإلزامية، ولا أملك من الدنيا قرشاً واحداً، أخذت من أختي ثمن سوارها، واشتريت بها بطاقة طائرة إلى الخليج-هذه قصة قديمة جداً-قال لي: والله وأنا في الطائرة خطر في بالي ولم أنبس ببنت شفة أن الله إذا أكرمني سأبني له مسجداً، بعد عشرين عاماً عاد إلى بلده، وبنى مسجداً، وصليت في المسجد، وذكر لي هذا الذي بناه قصته مع الله عز وجل.
هناك إنسان يطلب المال من الله، الله يعطيه مالاً، ويحقق كل وعوده لله، بعضهم سأل النبي الغنى، وهي رواية ضعيفة فقال: "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تؤدي شكره، ألح عليه فدعا الله له بالغنى فاغتنى، أرسل له من يأخذ زكاة ماله فقال: قل لصاحبك ليس في الإسلام زكاة، قال له: لم تقل: قل لرسول الله، قل لصاحبك، هؤلاء الذين وعدوا الله أن ينفقوا أموالهم في سبيل الله، ثم أخلفوا ما وعدوا الله عز وجل، فأخلفهم، وأعقبهم في قلوبهم نفاقاً إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ .
امتحان الإنسان بالولد والمال:
أحياناً الإنسان يقول لك: هذا الابن سأخرجه عالماً، يأخذ مجموعاً عاليًا كبيرًا، لا نريد، الطب أحسن، كنت تريده عالماً داعية إلى الله عز وجل، وبإمكانه أن يدخل المعاهد الشرعية وكليات الشريعة، أراده طبيباً، ولم يرده عالماً، أراده لوجاهته، ولم يرده لدعوة الله عز وجل، إذا لم يربِّ الإنسان أولاده أن يكونوا دعاة ماذا يفعل؟ قال تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لو أنك أنفقت مالك في سبيل الله، لو قدمت مالك أمامك لسرّك اللحاق به، أما إذا أنفقته على مباهج الدنيا ثم جاء ملك الموت فوالله نزع الروح أمر صعب جداً: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي تمتحنون بهما، أنت ممتحن بالمال إن أوتيته، وبالمال إن حُرمته، ممتحن بالولد إن رُزقته، وبالولد إن حرمته: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ .
الملف مدقق