- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس عشر من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الرابعة والثلاثين، وهي قوله تعالى:
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ(34) ﴾
معاني الآية وأبعادُها :
لهذه الآية أبعاد كثيرة، ومعانٍ دقيقة وخطيرة.
1 – معنى الأُمّة :
أولاً: من هي الأمة؟ جمعٌ كبير من البشر، لهم صفات مشتركة، بينهم قواسم مشتركة، الأمر الذي حدا بعض علماء النفس إلى وضع علم جديد اسمه علم نفس الأمم، معظم الأمم لها خصائص مشتركة.
مثلاً: الله عز وجل وصف اليهود فقال:
﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا ۚ
صفة مشتركة، أمّة تؤكد العمل، أمة تحرص على المال، أمة غارقة في الشهوات، أمةٌ أمة مبدأ، أمةٌ أمة خير، الأمم بين أفرادها قواسم مشتركة.
خصائص أمةِ الإسلام :
لكن الله سبحانه وتعالى خصّ الأمة العربية والإسلامية بهذه الآية حينما قال تعالى:
﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
لكن هذه الخيرية لها علتها: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ
وإذا قال المسلمون في آخر الزمان: نحن الأمة المختارة، نحن أمة سيد الأنبياء والمرسلين، الجواب الإلهي جاهز: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ﴾
2 – لكل أمّةٍ أجلٌ تقف عنده :
لذلك أيها الإخوة، الآية الكريمة:
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾
وفي قوم عاد عبرة لمَن يعتبر !!
مثلاً الله عز وجل ضرب مثلاً للأمم الطاغية، المتجبرة، المستكبرة، التي تنتهك الأعراض، وتنهب الثروات، وتظلم العباد، وتقتل، وتسفك الدماء، هذه الأمم الطاغية المستكبرة، المتجبرة، ضرب الله لنا مثلاً عنها .
قوم عاد قال تعالى عنهم:
﴿ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ(8)﴾
تفوّق في شتى المجالات، قال :
﴿ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً
تفوّق وغطرسة.
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ(128) ﴾
تفوق عمراني مذهل.
﴿ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ(129) ﴾
وصناعي.
﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ(130) ﴾
وعسكري.
﴿ وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ
وعلمي، تفوق عمراني، وصناعي، وعسكري، وعلمي، وغطرسة، بل تفوّق في شتّى الميادين.
أيها الإخوة، لو أردنا أن نضغط حركتهم في الحياة فهما كلمتان:
﴿ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ(11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ(12) ﴾
الطغيان قصف، والإفساد أفلام ﴿طَغَوْا فِي الْبِلَادِ﴾
﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ(13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14) ﴾
لِعاد، ولِمَن كانت على شاكلة عاد، كيف أهلكهم الله ؟
﴿ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ(6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَة(7) ﴾
أيها الإخوة، ما أهلك الله قوماً إلا وذكرهم أنه أهلك من هم أشد منهم قوة، إلا عاداً حينما أهلكها قال: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾
﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى(50) ﴾
إشارة لطيفة إلى أن هناك عاداً ثانية، والعالم يعاني منها ما يعاني، وصفات عادٍ الثانية تنطبق على صفات عادٍ الأولى.
إذاً: الأمم الطاغية لها أجلٌ، لذلك اسمعوا هذه الكلمات الدقيقة: أيّة أمة قوية جداً لم يكن فوقها إلا الله قوية جداً، متغطرسة، لها نفوذ في كل البلاد، خططت لتبني مجدها على أنقاض الشعوب، وتبني حريتها على تقييد الشعوب، وتبني ثقافتها على إزالة ثقافات الشعوب، وتبني أمنها على إخافة الشعوب، وتبني قوتها على إضعاف الشعوب، وتبني غناها على إفقار الشعوب، هذه الأمة القوية، نجاح خططها على المدى البعيد لا يتناقض مع عدل الله فحسب، بل مع وجوده، لأن: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ بالتعبير الدارج كل أمة لها عشرة أيام .
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ : كلمةٌ تدعو إلى التفاؤل :
لذلك أيها الإخوة، هذا يدعو إلى التفاؤل، هذا يبعدنا عن الشعور بالإحباط، والشعور بالقهر، والشعور باليأس، واليأس، والقهر، والإحباط ليست من صفات المؤمنين.
أين هم الرومان؟ أين هم المغول؟ أين هم اليونان؟ أين هم الفراعنة؟ وأين هو المعسكر الشرقي؟ والقطب الواحد؟ لعل الله سبحانه وتعالى يهيّئ له خطة قد لا يُسَرّ بها الأصدقاء.
3 – معنى : لكل أمّةٍ أجلٌ :
أيها الإخوة، معنى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾
من أجل ألّا تيْئَس، من أجل ألّا تشعر بالإحباط، من أجل ألّا تستسلم، من أجل ألّا تضعف معنوياتك.
﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(139) ﴾
الله عز وجل له سياسة، يمدِّهم، ويقوّيهم، ويفعلون ما يريدون، ويقولون ويتبجّحون، ويتغطرسون، ويهددون، ويتوعّدون، إلى أنْ يقول ضعيف الإيمان: أين الله؟ وقد قالها ضِعاف الإيمان، يُمدُّ اللهُ القويَّ، يعطيه قوة، يفعل ما يقول، يفرض ثقافته على بقية الشعوب، يفرض إرادته على بقية الشعوب، يقصف، يدمّر، حتى يقول ضعيف الإيمان: أين الله، ثم يُظهِر آياته، حتى يقول الكافر: لا إله إلا الله، هناك امتحانان صعبان: امتحان يُوصِل المؤمن الضعيف إلى أن يقول: أين الله، وامتحان آخر يوصل الكافر إلى أن يقول: لا إله إلا الله.
أيها الإخوة، الله عز وجل يمدهم، يمدهم ويقويهم، ويتوهم ضعاف الإيمان أنهم يفعلون ما يريدون، ولكنه يأخذهم فجأة:
﴿ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ
ويجعلهم أحاديث .
سُنةُ الله مع الطغاة والظالمين:
لذلك أيها الإخوة، دققوا في هذه الآية، هذه الآية ترسم سياسة الله مع الطغاة:
﴿ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ
علا علوّاً كبيراً وقال :
﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24) ﴾
وقال :
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي
لأنه رأى رؤية فيما ترويه الكتب أن طفلاً من بني إسرائيل سيقضي على ملكه، فأمر بذبح أبناء بني إسرائيل جميعاً، وأيّة قابلة لا تُخبِر عن مولود ذكرٍ تُقتَل، القضية سهلة، لكنّ الطفل الذي سيقضي على مُلكه ربّاه هو في قصره، وهذا مِن حكم الله العظمى، إذاً: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾
لماذا ؟ الآن دققوا كلام رب العالمين:
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6) ﴾
إذاً: الله عز وجل يسلّط الكافر على المؤمن المقصّر، فإذا عاد المؤمن المقصّر إلى الله قوّاه، وعالج به الكافر، هذه سياسة الله، هذه الآية أصل في الموضوع أعيدها ثانية :
إذاً :
لابد من اتخاذ الأسباب :
ولكن :
﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا
﴿
والله عز وجل لم يطالبنا بالقوة المكافئة، هذا فوق إمكاناتنا، ولكنه طالبنا بالقوة المُتاحة
أيها الإخوة، لماذا ينتقم الله من الطغاة؟ قال: ينتقم منهم لتحقيق السلامة بين البشر، لئلّا ييئس البشر، لمعالجة البشر، الظالم سوط الله، ينتقم به ثم ينتقم منه.
﴿ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(129) ﴾
أيها الإخوة، سأقول كلمة دققوا فيها: لو أراد خصوم الطغاة أن ينتقموا منهم لَمَا استطاعوا أن ينتقموا منهم كما ينتقم الله منهم .
﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ(12) ﴾
لو أراد خصوم الطغاة أنْ ينتقموا من الطغاة بكل ما أوتوا من قوة لا يستطيعون أنْ ينتقموا معشار انتقام الله منهم .
يعني إذا رأيت فساداً، أو طغياناً فلا تيئس، واقرأ قوله تعالى ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾
الحكمةُ في تسليط الظالم والمصائب على الناس :
لكن النقطة الدقيقة، وهذا بعلم الله عز وجل هناك شريحة اجتماعية واسعة جداً لا يمكن أن تلجأ إلى الله، ولا أن تصطلح معه، ولا أن تُقبِل عليه، ولا أن تلتزم منهجه إلا إذا عضها الظالم، فالظُّلَّام لهم دور كبير جداً، هم يعضون المؤمنين، والمؤمنون يلجؤون إلى الله، يلوذون بالله، يحتمون بحماية الله، يقبلون على الله، يلجؤون إلى المساجد .
عقب زلزال في تركيا أقسم لي أحد الإخوة في اسطنبول أن المساجد في الصلوات الخمس لا تتسع للمصلين، من شدة الخوف .
فهذه المصائب لها دور كبير جداً في هداية البشر، ولا أبالغ أن معظم الناس أتَوا إلى الله، وفرّوا إليه في التعبير القرآني، وأقبلوا عليه، واصطلحوا معه عقب تدبير إلهيٍّ حكيم، والبطولة أن تأتيه طائعاً، البطولة أن تأتيه بعد الدعوة البيانية .
﴿
أكمل شيء أن تستمع إلى درس، إلى خطبة، أن تقرأ كتاباً، أن تقرأ آية، أن تشرح آية، تهتم، تتّعظ، تستقيم، تلتزم، هذا أكمل إنسان ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
﴿ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ ۚ
هناك معالجة أصعب، التأديب التربوي:
﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21) ﴾
إن لم تُجْدِ الدعوة البيانية أخضعك الله للتأديب التربوي، وهذا أصعب، كالتهاب معدة حاد، بالحمية الشديدة تشفى، لم تلتزم بالحمية إذاً لابد من عملية جراحية، العملية أصعب، فيها تخدير، وفيها فتح بطن، أما لو التزمت حمية شديدة فلا حاجة للعملية، فإما أن تأتيه طائعاً مستجيباً، متمسكاً، ملتزماً، أو لا بد من تأديب تربوي، فإن لم تتب عقب الشدة فهناك طريقة ثالثة هي الإكرام الاستدراجي، تأتي الدنيا، وأنت لست على طاعة الله، تأتي الدنيا من أوسع أبوابها :
﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً
إذاً هناك دعوة بيانية، هناك تأديب تربوي، هناك إكرام استدراجي، وهناك قصمٌ: ﴿أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً﴾
أيها الإخوة، إذاً هناك شريحة من البشر كبيرة جداً لا سبيل إلى أن تعرف الله، وأن تصطلح معه إلا عن طريق الشدة، وشهد الله أن المؤمن إذا عرف الله يرى أنه إذا أخضعه لشدة هو في العناية المشددة، ضمن الإمكان، يعني بإمكانك أن تهتدي، فالله وضعك ضمن ظرف صعب .
لذلك بالضبط دققوا في هذا المثل: إنسان معه مرض خبيث في الدرجة الخامسة، ولا أمل بشفائه، بقي له أشهر، وسأل الطبيب: ماذا آكل؟ يقول له: كل ما شئت، أما إنسان معه التهاب معدة، وبحمية خلال أربعة أيام ينجو، فالطبيب يقيم عليه النكير لو أكل شيئاً يؤذي معدته، فإذا كان هناك تشدد هناك أمل، إذا كان هناك تشدد هناك خير، وهناك بقية خير، وهناك إمكان إصلاح، وهناك إمكان شفاء، وهناك إمكان توبة.
لذلك إذا أحب الله عبده ابتلاه، إذا أحب الله عبده عجّل له بالعقوبة، يعني أنت حينما تعامل معاملة شديدة من قِبل الله دقق فيما سأقول، فأنت في العناية المشددة .
لكن النبي علمنا أن نقول: لكنّ عافيتك أوسع لنا يا رب، والبطولة أن تأتيه طائعاً، وأنت صحيح معافىً.
أيها الإخوة، الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها أن هؤلاء الطغاة إن لم يُضيّقوا على المؤمنين، إن لم يهددوا المؤمنين، إن لم يقطعوا عنهم بعض الإمدادات، إن لم يحاصروهم، هؤلاء قد لا يتعرفون إلى طريق الحق، قد لا يلجؤون إلى الله .
لذلك هذه الشدة حينما يكتشف الإنسان يوم القيامة حكمتها يجب أن يذوب محبة لله عز وجل كما تذوب الشمعة إذا اشتعل فتيلها .
﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
مرة ثانية: الآية التي تنتظم هذا الدرس :
كلُّ شيءٍ وقع بإرادةِ وحكمة الله :
أيها الإخوة، يجب أن تعلم علم اليقين أن كل شيء وقع أراده الله، وأن إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، هذا هو الإيمان، فلو أنّ شدة أصابت المسلمين بعدها خير، الآن نخبة قليلة من الناس يكتشفون الإيجابيات من وراء الأحداث الأخيرة في العالم، هناك إيجابيات، هذه الإيجابيات على رأسها أن العالم انقسم إلى قسمين، المنطقة الرمادية في العالم اختفت، هناك أبيض وأسود، مؤمنون وغير مؤمنين، صادقون وكاذبون، مخلصون وخائنون، العالم أخذ الوضع الحاد، أبيض وأسود، هذه مرحلة كبيرة جداً، الإسلام قفز إلى بؤرة الاهتمام، الإسلام وحّد المسلمين، هذه الشدائد توحّد .
اكتشافُ إيجابيات الأحداث الأخيرة :
لو أنّ إنساناً عنده تأمل عميق، وتحليل دقيق لاكتشف أنّ هناك إيجابيات في الأحداث الأخيرة لا يعلمها إلا الله مثلاً :
إن صح أنّ هناك ساحة عليها المبادئ والقيم في الأرض، كانت قبل خمسين عاماً هناك كتلة الشرق بمبادئه وقيمه، والتركيز على المجموع، وقيم الغرب بمبادئه وقيمه، والتركيز على الفرد، والإسلام وحيٌ من السماء، منهج إلهي، الشرق تداعى من الداخل، بقي على ساحة المبادئ والقيم الإسلام والغرب، الغرب قوي جداً، وغني جداً، وذكي جداً، وطرح قيماً رائعة جداً، والحق يقال، طرح قيمة الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وتكافؤ الفرص، وحق المقاضاة، والحريات بكل أنواعها، والعولمة، احترام جميع الأديان، قبل 11 أيلول، فخطف أبصار أهل الأرض، وصار الذي معه بطاقة خضراء، كأنه دخل الجنة، وتمنى البشر جميعاً أن يعيشوا في بلاد الغرب، ولكن الله سبحانه وتعالى ما كان ليغشّ البشر فأظهر حقيقة الغرب .
والله قبل 20 ـ أو 30 عاماً قلة قليلة جداً من المثقفين في العالم الإسلامي يكشفون حقيقة الغرب، الآن أطفالنا كشفوا حقيقة الغرب، الآن لا يمكن أن تحترم هذه الحضارة، قد تخاف منها، هي قوة غاشمة، ولكنها ليست حضارة راقية أبداً، لم يبقَ على ساحة المبادئ والقيم إلا الإسلام، وهذا أكبر مكسب تحقق للمسلمين في الحقبة الأخيرة .
الألم وسيلة للسعادة :
أيها الإخوة، يبدو أن الألم وسيلة للسعادة، واللهِ لو كُشف للإنسان يوم القيامة حكمة ما ساقه الله إليك لصعقتَ، كان دخله محدوداً، ووُلِدَ يتيماً، عنده مشكلة صحية، لم يُوفَّق في زواجه، لو يُكشف للإنسان يوم القيامة الحِكم التي وراء ما ساقه الله من قضاء وقدر أقول: والله إن لم يذب كالشمعة محبة لله ففي هذا الدين خلل. هكذا الله عز وجل.
إذاً: الألم وسيلة للسعادة، كم من إنسان عظيم له بصمات كبيرة جداً على الثقافة البشرية، نشأ يتيماً، نشأ فقيراً، نشأ مُضطَّهداً، لذلك قالوا: الحزن خلاّق، الحزن يورث التفوق أحياناً، أما النعيم لا يورث شيئاً، تلاحظون أنّ طفلاً ينشأ في أسرة غنية جداً لا يدرس ولا يتفوق، ولا يلتزم بشيء، مائع، ضائع، وهكذا، النعيم أفسده، لكن أحياناً تجد بطولات من الفقراء، يُسمَّون عند الناس عصاميين، بطولات كبيرة جداً، لأنّ الحزن خلّاق .
لذلك يجب أن تعتقد أنك لست مُخيَّراً في أمك وأبيك، ولا في كونك ذكراً أو أنثى، ولا في مكان ولادتك، ولا في زمن ولادتك، ولا في قدراتك، وقد أكّد علماء التوحيد أن هذا الذي لم تكن مُخيَّراً به محض خير لك، وليس في الإمكان أبدع مما كان، بل ليس في إمكانك أبدع مما أعطاك .
إذاً: الألم وسيلة للسعادة، والضرر طريقٌ للنفع، والخفض طريقٌ للرفع، والإذلال أحياناً طريقٌ إلى العز، والمنع أحياناً عين العطاء .
لذلك المؤمن عقب مشكلة، عقب شبح مصيبة، عقب خطر، يلجأ إلى بيت الله الحرام مُعتمراً أو حاجّاً، فيصطلح مع الله، أو يأتي إلى المسجد ليصلي في المسجد، وليذكر الله فيه، أو يلجأ إلى تلاوة القرآن، أو يحاول أن يسترضي الله بالأعمال الصالحات، والبذل والتضحية .
لذلك حينما تفهم على الله حكمته من الشدائد تنقلب الشدائد إلى رغائب، والبطولة أنْ تعتقد اعتقاداً جازماً أنّ كل شيء يفعله الله لخير، يعني أنت لا يستقيم إيمانك حينما تتوهم أنّ الله لا يعلم ما يجري في الأرض .
﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا
ينزل صاروخ، معقول ورقة يعلمها وصاروخ لا يعلمه؟! مستحيل، وأنت لا يستقيم إيمانك حينما تتوهم أنّ الله لا يقدر أنْ يردع الطغاة، كن فيكون، زل فيزول .
زلزال آسيا، يساوي مليون قنبلة ذرية، الأمر بيد الله عز وجل .
﴿ إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً
لكن الله يُمهل ولا يُهمل .
من تدبير الله تعالى : تسخيرُ الأعداء لخدمة الدين :
شيء آخر: الطغاة مهما كانوا ظالمين، ومهما كانوا فاجرين، ومهما كانوا مُفسدين - دققوا فيما سأقول - لا بد من أنْ يُسخّرهم الله لخدمة دينه من دون أنْ يشعروا، ومن دون أنْ يريدوا، وبلا أجر وبلا ثواب .
أقول لكم وأنا أعني ما أقول: أكبر جهة لها الفضل في صحوة المسلمين أعداء المسلمين، يدفعونهم إلى التوبة، يدفعونهم إلى الصلح مع الله، يدفعونهم إلى طلب العلم، لو أنّ الحياة فيها رخاء شديد، وفيها تفلّت، وفيها شهوات، وفيها تجارة رائجة، تجد أنّ الأماكن التي فيها رخاء شديد هذا الرخاء أكبر حجاب عن الله عز وجل، والأماكن التي فيها شدة فيها قلق، وفيها ضغوط، تجد المساجد ممتلئة، الناس مُنيبة، الناس يصلون الليل، يقرؤون القرآن، ويتعاونون، والله هناك بطولات في هذه البلدة لا يعلمها إلا الله، من الشباب، من الشابات، بذل، تضحية، لا تنظر إلى الطرف الآخر المتفلّت، هناك بيوت تنطوي على أولياء في هذه البلدة .
(( إنِّي رَأيتُ كأنَّ عَمودَ الكِتابِ انتُزِعَ مِن تَحتِ وِسادتي، فأَتبَعْتُه بَصري، فإذا هوَ نورٌ ساطِعٌ، عُمِدَ به إلى الشَّامِ، ألَا وإنَّ الإيمانَ إذا وَقَعَتِ الفِتنُ بِالشَّامِ. ))
والله أنا سافرت كثيراً شرقاً وغرباً، والله كلما أعود إلى هذه البلدة أرى مصداق قول النبي فيها: (إنِّي رَأيتُ كأنَّ عَمودَ الكِتابِ انتُزِعَ مِن تَحتِ وِسادتي، فأَتبَعْتُه بَصري، فإذا هوَ نورٌ ساطِعٌ، عُمِدَ به إلى الشَّامِ)
النقطة الدقيقة: نقول نحن للطاغية أحياناً: لو علمت ما سبّبت للمسلمين من عودة إلى الله، ومن رخاء في تعامل المسلمين مع الله من دون أنْ تشعر، ومن دون أنْ تريد لندمت أشد الندم، الطرف الآخر دائماً هو الذي يدفعنا إلى باب الله، يسوقنا إلى بابه .
(( عجبت لأقوام يساقون إلى الجنة في السلاسل ))
هذا كله يُكشَف يوم القيامة، ترى أنّ الله بيده كل شيء، وأنّ هؤلاء الطغاة وظّفهم للخير المطلق، ما مِن مكان فيه شدة إلا وفيه عودة إلى الله، وفيه توبة، وفيه صلح معه، وهذا شيء واضح جداً .
لا أحد يستطيع إفسادَ هدايةَ الله لخَلقه :
لذلك أيها الإخوة ، أطمئنكم أنّ قِوى الأرض مجتمعة لا تستطيع أنْ تُفسِد على الله هدايته لخلقه، أبداً، الدليل :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ(36) ﴾
ماذا علينا أن نفعل ؟
إذاً: الكرة في ملعبنا، والله ينتظرنا .
((ولو يعلم المعرضون انتظاري لهم ، وشوقي إلى ترك معاصيهم لتقطعت أوصالهم من حبي ، ولماتوا شوقاً إلي ، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف بالمقبلين))
الله ينتظرنا، والأمر بيده فقط، وليس إلا الله، ولا إله إلا الله، ولا رافع إلا الله ولا خافض إلا الله، ولا معطي إلا الله، ولا مانع إلا الله، ولا مُعزّ إلا الله، ولا مُذلّ إلا الله وهذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، وما أمرك أن تعبده إلا بعد أن طمأنك أنّ الأمر كله عائد إليه، الآن الحل:
﴿ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا ۖ وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا
كل خططهم، وأسلحتهم، وحاملات طائراتهم، وصواريخهم العابرة للقارات، وأقمارهم الصناعية، وأموال بأيديهم، ومناطق نفوذ، وثروات بين أيديهم، كل هذا الحجم الكبير﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا﴾
لذلك أيها الإخوة، الآية الدقيقة جداً :
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
إنْ لم نغير فلا يغيّر الله، وإنْ غيّرنا يغيّر الله، والكرة في ملعبنا، والأمر في يدنا، وخلاصنا لا بأيدي أعدائنا، أبداً، والإنسان ضعيف الإيمان هكذا يتوهم، أن خلاصنا بيد أعدائنا، خلاصنا بأيدينا.
﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ
وليس في الكون إلا الله، ولا إله إلا الله، هذه كلمة التوحيد .
أيها الإخوة، وكل إنسان الآن فرد، شركة، مؤسسة، جماعة تقيم على ظلم أو على خطأ فلها نهاية، إلا المؤمن الصادق المستقيم فخطه البياني صاعد صعوداً مستمراً، إلّا أنّ الذي لم يؤمن، وبنى مجده على أنقاض الآخرين، وبنى حياته على موت الآخرين، وبنى عزه على إذلال الآخرين، وبنى أمنه على إخافة الآخرين، وبنى غناه على فقرهم، هذا له نهاية تأتي الآية: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾
﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا
لو كان عمره سبعين سنة فهو زهوق، لو كان يملك سلاحاً نووياً فهو زهوق .
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾
خاتمة :
أيها الإخوة، آية قصيرة لكن مدلولاتها كبيرة، آية قصيرة تُفرِح الإنسان آية قصيرة تُذهِب عنه اليأس، والإحباط، والتطامن، لا تقولوا انتهينا، لم ننتهِ، نحن عند الله في مكان قوي، والله لن يترنا أعمالنا، والله معنا، ولكن ينبغي أنْ نصطلح معه .
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين