- تفسير القرآن الكريم / ٠2التفسير المطول
- /
- (007)سورة الأعراف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الخامس والثلاثين من دروس سورة الأعراف، ومع الآية الخامسة عشرة بعد المئة، ونحن في قصة سيدنا موسى مع فرعون، ولعل هذه القصة في هذه السورة من أطول قصص سيدنا موسى مع فرعون:
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ
1 – كل الخصائص الفنية للقصة متوفرة في قصص القرآن :
كلكم يعلم أن القصة فيها شخصيات رئيسية، وشخصيات ثانوية، الرئيسية فرعون والرئيسية سيدنا موسى، والثانوية السحرة، وفيها سرد، وفيها حوار، وفيها تحليل، وفيها بداية، وفيها عقدة، وفيها نهاية، وفيها مغزى، وفيها حبكة، بعض الذين درسوا القصة في القرآن أكدوا أن كل خصائص القصة الفنية التي هي أرقى فن في الأدب متوافرة في قصة القرآن الكريم.
الآن هؤلاء السحرة الذين استعان بهم فرعون، وطلبوا منه العطاء، وعدهم بعطاء جزيل، وأن يكونوا من المقربين، لأن كيانَه كإلهٍ تزلزل.
2 – فائدة في تأخير قولهم : نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ
﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ﴾
﴿وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ﴾
في أكثر الاحتفالات آخر كلمة لأعلى مرتبة، آخر كلمة هي الختام، والحفل يُقيَّم من الكلمة الأخيرة، والكلمة الأخيرة تتلافى نقص الكلمات الأولى.
هم كانوا في صراع بين أن يبدؤوا تحقيقاً لعزتهم، وبين أن يتأخروا مراعاة للحكمة، لكن عبارتهم: ﴿قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ﴾
قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ
1 – سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاس
لما رأى رغبتهم أن يبدؤوا هم:
﴿ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا
هناك روايات في بعض الكتب تؤكد أنهم جاؤوا بأنابيب، ولوّنوها على شكل ثعبان، ووضعوا فيها الزئبق، والزئبق معدن سائل رجّاج، وأنه يتمدد بالحرارة، ومع التمدد يتحرك، ووضعوا هذه الأنابيب فوق سطح ساخن، فالذي يراها من بعيد يرى ثعابين تتحرك.
﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾
2 – السحر توهُّم الأشياء :
حدثني أخ كان في الهند قال لي: تجمّع الناس حول ساحر، معه ربطة حبال، ألقاها في الفضاء، فعلقت، معه غلام أمره أن يصعد، فصعد، إلى أن غاب عن الأنظار، أمره أن ينزل فلم ينزل، فغضب الساحر، ولحقه ومعه سكين، بعد حين وقع رأسه، ووقعت أعضاؤه عضواً عضواً، مع هذا الجمع الغفير سائح غربي، معه آلة تصوير سينمائية، فصور، في أثناء التحميض لم يجد شيئاً إطلاقاً، هذا معنى قوله تعالى:
﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ﴾
﴿ قَالَ بَلْ أَلْقُوا ۖ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ
توهموا، وكم من إنسان توهم شيئاً ليس موجوداً، توهم رؤية لا أصل لها، توهم كلاماً لم يسمعه، هذه قضية متعلقة بعلم النفس، لكن هؤلاء السحرة عندهم براعة كبيرة، فحينما ألقوا رأى الناس ثعباناً ضخماً كالثعبان الحقيقي يتحرك، ويتلوّى:
﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ﴾
﴿ فَقَال أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى(24) ﴾
والذي قال :
﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرِي
3 – احذورا الطرف الآخر ، فإنه ليس غبيًّا :
استعان بمهرة السحرة، فلابد أنهم سيأتون بشيء عظيم، فالطرف الآخر ليس سهلاً، الطرف الآخر قد يكون ذكياً جداً، وقد يكون مثقفاً ثقافة عالية، وقد يوهم الناس بشيء، لذلك يجب على المؤمن أن يتسلح بالعلم، فلو كان علمه ضعيفاً فإن الطرف الآخر يقنعه بالكفر أحياناً، ويقنعه أن هذا الدين ليس في صالح البشرية، والمذاهب الأرضية لماذا رفضت الدين؟ الدين فيه قيود، وهي في الحقيقية ليست قيوداً، لكنها حدود لسلامة الإنسان، فلا يوجد حل وسط، فإن لم تكن متسلحاً بالعلم لي رأي: لا تعد مؤمناً الإيمان المنجي إلا إذا استطعت أن تدحض كل الشبهات التي يثيرها أعداء الإسلام، والشبهات كثيرة جداً، ولحكمة بالغة بالغةٍ سمح الله للطرف الآخر أن يطرحوا شبهاتهم، هذا امتحان لنا، فالإنسان ضعيف الإيمان يتزلزل.
﴿ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً(11) ﴾
الله عز وجل من محبته لنا، من رحمته بنا، لا يسمح لنا أن يكون الإيمان الذي نحن عليه إيماناً ساذجاً يتزلزل لأية شبهة، أنا أقول لكم: نحن في عصر لا يكفي أن تكون مؤمناً إيماناً تقليدياً، الإيمان التقليدي لا يصمد أمام شبهات الغرب، لا يصمد إلا إيمان متين، إيمان أساسه البحث والدرس، والتأمل، إيمان أساسه التحقق لا التقليد، الدليل أن الله عز وجل قال :
﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ
ما قال لك: فقل، قال: ﴿فَاعْلَمْ﴾
﴿قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ﴾
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ
﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ(117) ﴾
الآن الفرق بين السحر وبين المعجزة: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ
﴿ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(118) ﴾
1 – ليس في الإسلام ضعف :
الحقيقة: يجب أن تعتقد اعتقاداً جازماً أنه لا يمكن، بل يستحيل، وألف ألف ألف مستحيل أن يكون في الدين ضعف يتيح للطرف الآخر أن ينتصر ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ﴾
2 – الله هو الحقُّ :
الله عز وجل اسمه الحق، ولأنه حق لا بد من أن يُحِق الحق، وأنت أيها المؤمن إذا كنت على الحق لا تخف، لابد من أن ينصرك الله، وإذا كنت على باطل لا بد من أن يخذل ربنا جل جلاله هذا المبطل، لذلك قالوا: قد تخدع معظم الناس لبعض الوقت، وقد تخدع بعض الناس لكل الوقت، أما أن تستطيع أن تخدع كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل.
ذكرت البارحة قصة: أن إنساناً في بلد عربي بعيد عن بلدنا، والحمد لله، استطاع أن يستورد أغذية ليست صالحة لبني البشر، هي مصممة للحيوانات، لكن في مستودع كبير نزع اللصاقة، ووضع لصاقة أخرى، فحقق أرباحاً كبيرة جداً، العمال المكلفون بتبديل اللصاقات نسوا علبة واحدة أن يغيروا لصاقتها، فوصلت إلى الجهات المسؤولة، فلما وصلت دُمِّر هذا الإنسان، لأن هذه جريمة، يعني الله عز وجل مستحيل وألف ألف ألف مستحيل أن يسمح لك أن تغش الناس إلى ما لا نهاية، تغش الناس إلى حين، وتعبر عن ذاتك، لأنه لا بد من أن يهلك الإنسان عن بينة، وأن يحيا عن بينة.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ ﴿فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
هذه هي النتيجة : فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ
﴿ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ(119) ﴾
ومرة ثانية: الحق هو الذي سينتصر، من آدم إلى يوم القيامة، ولكن انتصار الحق عمره أطول من أعمار البشر، يعني مثلاً: أحياناً يأتي رمضان في شهر آب، إلى أن يأتي مرة ثانية بعد 36 سنة، لو أن شخصًا عاش عشرين سنة لا يبلغه، فقد يراه في الصيف، ولا يسمح له العمر القصير أن يدركه مرة ثانية، الآن تبدُّل الحق والباطل، يعني دورة الحق والباطل، أحياناً الله عز وجل يُولِّي أهل الحق هم الأقوياء، وأحياناً لحكمة بالغة يولي الطرف الآخر لحكمة بالغة، قال تعالى:
﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ
لو كان أهل الحق بيدهم القوة دائماً يظهر النفاق، وإذا كانت القوة بيد أهل الباطل بشكل مستمر كان اليأس، الله عز وجل قال: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ الصَّابِرُ فِيهِمْ عَلَى دِينِهِ كَالْقَابِضِ عَلَى الْجَمْرِ ))
(( إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا، الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ .
" قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ ؟! قَالَ: بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ . ))
يعني الآن أينما تحركت رأيتَ المعاصي على قارعة الطريق، ففي الطريق نساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، والصحف فيها نساء شبه عاريات، وفي المجلات كذلك، وفي الإنترنت كذلك، وفي الفضائيات كذلك، وفي الطريق كذلك، وفي الجامعة كذلك، وفي الدوائر كذلك، كل شيء يدعو إلى المعصية، حتى لو اشتريت علبة لمسح الحذاء ترى عليها صورة امرأة شبه عارية، وهذا احتقار للمرأة، وقد سارت مظاهرات في العالم الغربي يحتججن على هذا الامتهان للمرأة، فلا تُروَّج سلعة إلا بامرأة شبه عارية.
﴿فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ﴾
﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ
هو نبي مرسل .
﴿ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ(120) ﴾
الخضوع لإرادة الله : وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ:
هذا اسمه حرق المراحل، هناك صحابي صلى ركعتين، واستشهد، وبين إسلامه وبين استشهاده ركعتان فقط، وهو من أهل الجنة، حرق المراحل، هؤلاء سحرة دجالون أفّاكون، جاؤوا ليدحضوا معجزة سيدنا موسى، فإذا هم يرون حقيقة هذا الذي حصل، هذا ليس سحراً، ولكنه معجزة، وهذا الإنسان رسول الله.
مرة صفوان بن أمية جلس مع رجل أُسِر ابنه في غزوة بدر، فحقد على الإسلام حقداً كثيراً، في ساعة ألم قال له: " والله يا صفوان، لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها، ولولا أطفال صغار أخشى عليهم العنت من بعدي، لذهبت وقتلت محمداً، وأرحكتم منه "، صفوان استغلها، وكان غنيًّا، قال له: " أما ديونك فهي علي بلغت ما بلغت، وأما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر، فاذهب لِمَا أردتَ "، أعطاه الضوء الأخضر، قلق على أولادك وعلى ديونك؟ ديونك أنا أدفعها عنك، بلغت ما بلغت، وأولادك أولادي ما امتد بهم العمر، فاذهب لِما أردت، سقى سيفه سمّاً، وركب ناقته، وتوجه إلى المدينة، ما الحجة في دخولها؟ جاء ليفدي ابنه، ابنه أسير، فلما وصل إلى المدينة رآه سيدنا عمر، قال: " هذا عدو الله عمير بن وهب، جاء يريد شراً "، فقيَّده بحمالة سيفه، وساقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال له: هذا عدو الله عمير جاء يريد شراً، سيدنا النبي رقيق، قال له: دعه يا عمر، وهو مقيّده، فقال له: أطلِقْه، أطلَقَه، قال له: اقترب يا عمير، فاقترب، قال له: سلّم علينا، قال له: عمتَ صباحاً، قال له: قل: السلام عليكم، قال له: هذا سلامنا، بكل غلظة وفظاظة، قال له: ما الذي جاء بك إلينا؟ قال له: جئت أفدي ابني، قال له: وهذه السيف التي على عاتقك؟ قال له: قاتلها الله من سيوف، وهل نفعتنا يوم بدر؟ قال له: ألم تقل لصفوان: لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها، ولولا أولاد صغار أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت وقتلت محمداً، وأرحتكم منه؟ وقف، قال: أشهد أنك رسول الله، هذا الذي حصل مع الصحابة، لأن هذا القول بينه وبين صفوان كان في الفلاة، ولم يطّلع عليه أحد، قال له: هذا الذي كان بيني وبين صفوان لم يطلع عليه أحد، وأنت رسول الله، وتوضأ، ونطق بالشهادة، وأسلم.
أما صفوان فكان في غاية الفرح، لأن هناك أخباراً سارة سوف تأتي، ما كان يومَها فضائيات، ووكالات أنباء، والخبر يتناقل في ثوانٍ، فكان الناس يذهبون إلى ظاهر المدينة ينتظرون الركبان، كان كل يوم يخرج إلى ظاهر مكة، حتى يسمع الخبر السار بقتل محمد، فجاءه الخبر الذي سحقه؛ لقد أسلم عمير.
هذا ما حدَثَ للسحرة: ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ﴾
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ
﴿ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(121) ﴾
والله أيها الإخوة، حينما تعرف الله، وتعرف الحقيقة، وتعرف سر وجودك، وغاية وجودك، والله هذا اليوم هو يوم عيد، والله الذي لا إله إلا هو لا تسخو نفسي أن أقول لإنسان: هنيئاً لك ببيت سيتركه، بزوجة سيغادرها أو تغادره، الآن كل واحد له زوجة، فله احتمالان لا ثالث لهما: إما أن يموت قبلها، وإما أن تموت قبلك، فأحبب من الدنيا ما شئت.
﴿قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾
﴿ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ(122) ﴾
فرعون اختل توازنه، هو تزعزع بسيدنا موسى لما
﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(123) ﴾
الآن فرعون لا يخيف، لكن لو كنتم في عهد فرعون، فقد يكون الواحد أمام قوي ينهي وجوده، دائماً القصة يجب أن تعيش أحداثها، فرعون كان من الأقوياء الذين إذا نظر منهم إلى إنسان يموت من الخوف، شيء مخيف، الطاغية مخيف.
مرة الحجاج بلغه أن الحسن البصري أدّى أمانة العلم، وبيّن وناله ببيانه، فقال الحجاج لجلسائه: " يا جبناء، لأروينَّكم من دمه"، القضية بسيطة جداً، أمر بقتله، وانتهى الأمر، جاء بالسياف، السياف جاهز، مدّ النطع، مدة لئلا يُصاب أثاث الغرفة، كان الطغاة أو الأقوياء يقتلون خصومهم أمامهم، فهناك قطع الرأس، وقطع الرأس فيه دم، هذا الدم سيفسد الأثاث الفخم، فكان هناك رداء كبير جداً يسمى النطع، فأمر بقتله، فجاء بالسياف، وجاء بالنطع، ومدّ النطع، أُرسل إليه، وجاؤوا به ليقتل، فلما دخل إلى مجلس الحجاج، ورأى السياف واقفاً، والنطع قد مُدَّ، حرّك شفتيه بكلمات لم يفهمها أحد، فإذا بالحجاج يقول له: أهلاً بأبي سعيد، أنت سيد العلماء، وما زال يدنيه من مجلسه حتى أجلسه على سريره، وسأله، وضيَّفه، وقالوا عطَّره، وشيّعه إلى باب القصر، هناك شخصان صُعِقاً، هما الحاجب والسيّاف، تبعه الحاجب، قال له: يا أبا سعيد! لقد جيء بك لغير ما فُعل بك، فماذا قلت لربك وأنت داخل؟ قال له: قلت: يا رب، يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعل نقمته علي برداً وسلاماً كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم.
إخواننا الكرام، الإنسان إذا عرف الله كانت الدنيا لا شيء أمامه.
هذه هي حلولُ المُفلِسِين : لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ
﴿ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ
يقطع يده اليمنى، ورجله اليسرى ﴿ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾
اسمعوا جواب السحرة، ما رأوا قوته، ولا رأوا بطشه، ولا رأوا طغيانه، ولا رأوا لحياتهم معنًى إذا كانوا أعواناً له.
جواب المؤمن بالله : إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ
﴿ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ(125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ(126) ﴾
القصة وردت في أماكن عديدة، ففي بعض الأماكن:
﴿ قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ
هذا هو الإيمان، فلذلك حينما تعرف الله لا ترى شيئاً في الدنيا له قيمة، تصغر الدنيا في عينيك، وتنتقل من قلبك إلى يديك، والله الذي لا إله إلا هو إن لم يستوِ عندك التِّبر والتراب، يعني الذهب والتراب أمام رضوان الله ففي الإيمان خلل.
وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا
﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا﴾
﴿وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾
يا بُنَي، ما خير بعده النار بخير، وما شر بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية.
مهما كنت تملك من ثروات، إذا انتهت بك الحياة إلى جهنم لا سمح الله ولا قدر ـ فلا قيمة لكل هذه الدنيا، مهما تكن معذباً في الدنيا، إذا انتهت بك الحياة إلى الجنة ينبغي أن تقول: لم أرَ شراً قط.
يعني إذا أوصلنا الله عز وجل إلى القبر طاهرين سالمين هذا أكبر مكسب يحققه إنسان في الدنيا، لذلك المؤمن حينما يأتيه ملك الموت، ويرى مقامه عند الله يقول: لم أرَ شراً قط، والآخر حينما يرى مكانه في النار، يصيح ويقول: لم أرَ خيراً قط، وقد يصيح الذي استحق النار صيحة لو سمعها أهل الأرض لصعقوا.
رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ
﴿رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ﴾
الملف مدقق
والحمد لله رب العالمين.