وضع داكن
22-11-2024
Logo
رياض الصالحين - الدرس : 022 - أحاديث مختلفة في أبواب الخير – صور من مواقف عثمان بن عفان2.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟!.


أيها الإخوة المؤمنون؛ لا زلنا مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زلنا في باب كثرة طرق الخير.

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ, اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ, فَوَجَدَ بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ, فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ, يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ, فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي, فَنَزَلَ الْبِئْرَ, فَمَلَأَ خُفَّهُ مَاءً, ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ, حَتَّى رَقِيَ, فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ, فَغَفَرَ لَهُ, قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

البئر تؤنث وتذكر، تقول: هذه بئرٌ، وهذا بئرٌ، والطريق تؤنث وتذكر، فتقول: هذا طريقٌ, وهذه طريق، وكلمة الحال تؤنث وتذكر، تقول: هذه الحال، وهذا الحال، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( فَوَجَدَ بِئْرًا, فَنَزَلَ فِيهَا, فَشَرِبَ, ثُمَّ خَرَجَ, فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ, يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ -يعني: يكاد يأكل الثرى من شدة العطش- فَقَالَ الرَّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِي كَانَ بَلَغَ مِنِّي -فهذه بهيمة، وهي عطشى، وقد بلغ بها العطش مثل الذي بلغ مني، فرقَّ قلبه لهذه البهيمة- فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ -خفه أي حذاءه، أمسكه بفمه- حَتَّى رَقِيَ, فَسَقَى الْكَلْبَ, فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ, فَغَفَرَ لَهُ, قالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَإِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لَأَجْرًا؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ )) نحن نريد أن نؤكد في هذا الفصل: أن أبواب الخير كبيرة جداً، إذا أحسنت إلى حيوان ، إذا أطعمت هرة، إذا أنقذت نملة، إذا أنقذت فراشة، أبواب الخير لا تعد ولا تحصى، بل إن معظم أبواب الخير لا تحتاج إلى مال.

 

إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم.


(( عن أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه ))

[ أخرجه أبو يعلى والبزار في مسنده حديث ضعيف ]

والخلق كلهم ليس البشر، بل الخلق كلهم، فهذا الكلب من خلق الله، والقطة من خلق الله، وأية حشرةٍ غير مؤذيةٍ من خلق الله، الخلق كلهم عيال الله, وأحبهم إلى الله, أنفعهم لعياله.

وفي الحديث الماضي تبين لنا: أن المعروف نوعٌ من الإيمان، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً, فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ, وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ, وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ )) إذاً: 

أن تسقي كلباً عطشان، فهذا نوعٌ من الإيمان، أن تطعم الهرَّة, هذا نوعٌ من الإيمان، كان عليه الصلاة والسلام يصغِ الإناء للهرة، أن تتلافى أن تذهب بحياة نملة, هذا إيمان, وهذا عمل صالح .

 في روايةٍ للبخاري، هذا النص متفقٌ عليه، أي اتفق عليه أئمة الحديث، لكن الإمام البخاري انفرد، فيقول النبي عليه الصلاة والسلام في رواية الإمام البخاري (( فشكرَ اللهُ لَهُ ، فَغَفَرَ لَهُ ، فَأدْخَلَهُ الجنة )) فربما لا تدري أيّ عمل تدخل به الجنة، يعني: العمل المخلص الصادق, الذي تبتغي به وجه الله عزَّ وجل, ربما أدخلك الجنة.

 

الأحاديث التي جاءت في بيان أبواب الخير.


الحديث الأول : 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا, يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ, فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ, كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ ))

[ أخرجه مسلم ]

يعني: أي شيءٍ يؤذي الناس؛ يؤذيهم في طرقاتهم، يؤذيهم في مساكنهم، يؤذيهم في علاقاتهم، يؤذيهم في بيعهم، يؤذيهم في شرائهم، إذا تلافيته، وأحسنت للناس، ربما كان هذا العمل الصادق المخلص, طريقاً لك إلى الجنة (( لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا, يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ, فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ, كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ )) .

 الحديث الثاني : 

(( عَنْ أَبِي صَالِحٍ, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ تَوَضَّأَ, فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ, ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ, فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ, غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ, وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ, وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا ))

[ أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي ]

هل هناك فرقٌ بين الوضوء والوَضوء؟ هل تعرفون؟ هل هناك فرقٌ بين السَحور والسُحور؟ هل هناك فرقٌ بين السِتر والسَّتر؟ بين الشِق والشَق؟ بين الغِش والغَش؟ بعض هذه الكلمات مصدر، وبعضها اسم، المصدر يشير إلى الحدث، لكن الاسم يشير إلى الشيء، فالوضوء أن تغسل وجهك ويديك إلى مرفقيك كما أمرنا الله عزَّ وجل، لكن الماء الذي تغسل به وتتوضأ به اسمه: الوَضوء، فالوضوء شيء, والوَضوء شيء، أن تستيقظ قبيل الفجر لتأكل في رمضان، هذا اسمه: السُحور، أما هذا الطعام الذي تأكله اسمه: السَّحور، أن ترخي السِتر, هذه العملية اسمها: السِتر، أما هذا القماش اسمه: السَّتر.

فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( مَنْ تَوَضَّأَ, فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ, ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ, فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ, غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ, وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ, وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا )) يعني توضأ وضوءًا متقناً، وتوجه إلى المسجد في الوقت المناسب، مبكراً، في أول صف، واستمع إلى الخطبة، وتعلم من الخطبة أمور دينه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ, غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ, وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ, وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا )) طبعاً: المسجد سابقاً كانت أرضه من الحصى، فإذا أمسك الحصى، وقلب الحصى، وأصدر للحصى صوت، فقد لغا، والله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)﴾

[ سورة المؤمنون ]

الآن: 

يقابل الحصى أن تمسك بسبحة وتسبح، ولها طرقات، طق، طق، طق، وأنت في مجلس علم, هذا لغو، من مسك سبحةً، وتلاعب بها, حتى أصدرت صوتاً, فقط لغا، لأنه من بركة المسجد الإنصات، ومن حق الأخ على أخيه, أن ينصت له.

(( مَنْ تَوَضَّأَ, فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ, ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ, فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ, غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ, وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ, وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا )) كأن النبي عليه الصلاة والسلام يحببنا بمجالس العلم، يحببنا بارتياد المساجد، يدعونا إلى أن نذهب إلى المساجد في كل وقت، وأن نستمع، وربما قال بعضهم: إن للوقت زكاةً كما أن للمال زكاة، كيف أن للمال زكاة كذلك للوقت زكاة؛ زكاة الوقت أن تذهب إلى المسجد لتستمع إلى مجلس علم، وتتفقه في أمر دينك، أو تتعلم تفسير القرآن الكريم، أو الحديث النبوي الشريف.

 الحديث الثالث: 

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا, وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ, وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ, وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ, فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ ))

[ أخرجه مسلم ومالك والترمذي والنسائي ]

الوضوء في الشتاء، الماء بارد, وأنت متدفئ، يعني هذا يحتاج إلى إرادة قوية، وهو نوعٌ من بذل الجهد (( إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ, وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ )) المؤمن في المسجد كالسمك في الماء، إذا كنت مرتاحاً في المسجد، فهذه علامةٌ طيبة ، بينما المنافق في المسجد كالعصفور في القفص، يتضايق، لكن المسلم يرتاح، لكن نحن مكلفون كذلك بالمقابل, أن يكون المسجد دافئا، والإضاءة كافية، والتهوية بالصيف جيدة، والماء للوضوء ساخن، والماء للشرب بارد، والسجاد ممتاز ونظيف، هذا علينا، لكن إذا كانت كل هذه الشروط متوافرة، فما بالكم فيمن يرتاد المساجد, والله سبحانه وتعالى يكتب له بكل خطوةٍ حسنة؟. 

أنا أقرأ هذه الأحاديث, لأنها مجموعةٌ كلها, في باب كثرة طرق الخير.

 الحديث الرابع: 

(( عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ, أَوْ سَافَرَ, كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا ))

[ أخرجه البخاري ]

هذا المؤمن عرف الله عزَّ وجل، واستقام على أمره, وباع نفسه, قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾

[ سورة التوبة ]

بعد أن باع نفسه إذا سافر, كُتب له أجر المقيم، وإذا مرض كتب له أجر الصحيح، يعني إذا مرض أحدُنا, لحكمةِ الله سبحانه البالغة، فقبع في الفراش، هذا الفراش كأنه يحضر مجلس العلم، لماذا؟ لأنه يتمنى أن يحضر هذا المجلس، تمنِّيه أن يحضر هذا المجلس, كأنه حضره، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ, أَوْ سَافَرَ, كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا ))

الحديث الخامس:

وفي حديثٍ آخر, رواه الإمام البخاري.

(( عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا, عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ ))

كل شيءٍ تعارف الناس على أنه شيءٌ حسن, فهو صدقة، وهذا الحديث واسعٌ إلى درجةٍ لا نهائية، كل معروفٍ؛ فلو دللت إنساناً على مكانٍ, ليشتري منه حاجته, فهذا معروف، صدقة، لو نبهت إنساناً, إلى أن بعض أزراره في سرواله, ليست منضبطة، يضحك عليه الناس، أنت نبهته، ولم يكلفك هذا العمل شيئًا، يا أخي انتبه إلى زر السروال، هذا العمل صدقة، يقول عليه الصلاة والسلام: (( كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ )) على كتف أخيك ريشة، وهو غير منتبه إليها، أنت نبهته، أو نزعتها عنه، هذه صدقة، دخلت بستانًا, وجدت فيه هرة مريضة داويتها، هذه صدقة، دخلت بيتًا, فرفعت الستائر حتى أشرقت الشمس على هذه الغرفة، سرّ الجالس، وهو مريض، والستار مغلق، هذا معروف، وهو صدقة، فهذا الباب واسع إلى درجة ما لا نهاية (( كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ )) في عملك، في الطريق، في بيتك، في سفرك، في إقامتك، في نزهتك، لو فرضنا أن رجلاً, أشار لك, فأعرته مفكًّا، فقد كان مقطوعًا، صدقة، أعرته حاجة صدقة ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ )) رأيت رجلاً, يحمل أغراضًا، وستقع منه، فيحتاج إلى كيس، فقلت: هذا كيس تفضل، وإنسان يقول لك: لا يوجد عندي أكياس، هذا مضطر ليصرف خمس ليرات، يكون درجه كله مملوءا، فيقول لك: لا يوجد، الناس تركوا الخير، مع أنك لو دللت إنسانًا على بيت, فهو صدقة، لو سرت معه صدقة، لو دللت أعمى, كل معروفٍ صدقة، فأبواب للخير مفتحةٌ على مصراعيها، وما على المؤمن إلا أن يدخلها, من كل هذه المصاريع. 

الحديث السادس:

أيها الإخوة؛ حضور هذه المجالس، وبعض الإخوة الكرام يأتون من أماكن بعيدة، يركبون الحافلات العمومية، ربما استغرق الطريق ساعتين, قبل أن يصلوا إلى هذا المكان، وربما استغرقت عودتهم إلى بيوتهم ساعةً ونصف.

أراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد, يبدو أن بيوتهم بعيدة، والمسجد النبوي بعيدٌ عنهم، فأرادوا أن ينتقلوا إلى قرب المسجد، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

(( فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَلَتْ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ, فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ, أَنْ يَنْتَقِلُوا إِلَى قُرْبِ الْمَسْجِدِ, فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ, قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَد أَرَدْنَا ذَلِكَ, فَقَالَ: يَا بَنِي سَلِمَةَ, دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ, دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ ))

[ أخرجه مسلم ]

يعني: الزموا دياركم، ابقوا في دياركم, تكتب آثاركم، في كل خطوةٍ حسنة، يقدرها الله عزَّ وجل، قال: (( دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ, دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثَارُكُمْ )) 

يعني: هذا الذي أتى من مكان بعيد, له أجرٌ غير الأجر, الذي جاء من مكان قريب، دِيَارَكُمْ إعرابها: مفعول به لفعل محذوف تقديره الزموا، هذا بحث اسمه الإغراء والتحذير، أنت تقول لإنسان: الصدقَ الصّدقَ، يعني الزم الصدق، المُروءةَ المروءةَ، النُبْلَ النبلَ، الأمانةَ الأمانَةَ، كأنك تقول له: الزم الأمانةَ، مفعول به منصوب لفعل محذوف تقديره الزم، وعندنا التحذير: الدناءةَ الدناءَةَ، البخلَ البخْل، العقربَ العَقربَ، يعني احذر، فإما أن تنتصب هذه الكلمة على الإغراء، وإما أن تنتصب على التحذير، وقال بعضهم: أخَاك أخاكَ، هذا إغراء أم تحذير؟ أخَاك أخاكَ إغراء..

أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ من لا أَخاً لَه

كساعٍ الى الهيجا بغير سلاحِ

يعني الزم أخاك، فالذي لا أخا له, كالذي يسعى إلى الحرب دون سلاح، فقال بعضهم : لا بل هذا على التحذير..

أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ من لا أَخاً لَه

كساعٍ الى الهيجا بغير سلاحِ

هذا المتشائم, اعتبره من التحذير، أما المتفائل, فاعتبره من الإغراء.

حديثٌ آخر متعلقٌ بالمسافات التي تفصل بين البيوت والمساجد. 

(( عن أبي المنذرٍ أبي بن كعبٍ رضي الله عنه, أنه قال: كان رجلٌ, لا أعلم رجلاً, أبعد من المسجد منه  من مكان بعيد يأتي وكان لا تخطئه صلاةٌ في كل الصلوات يصلي خلف النبي عليه الصلاة والسلام.  وله مكانٌ بعيدٌ بعيد, فيقيل له، أو فقلت له: لو اشتريت حماراً أو دابةً, تركبها في الظلماء، تعينك على هذا المجيء كل يوم, وفي الرمضاء, فقال: ما يسرني أن منزلي جنب المسجد، إني أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد, ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ جَمَعَ اللَّهُ لَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ ))

[ أخرجه مسلم ]

في مجيئك كتب الله لك الأجر، وفي عودتك كتب الله لك الأجر، إذا وقفت في موقف السيارات العمومية تنتظر قدومها، إلى أين ذاهب؟ يعقد صفقة؟ لا، يحضر سهرة؟ لا، ينال حظ نفس؟ لا، مدعو لوليمة؟ لا، بل هو ذاهب إلى مسجد, ليستمع إلى كلام الله، فهذا الوقوف ، وركوب السيارة، والازدحام فيها, يمكن واحد يدفعك دفعًا قويًّا، يمكن لإنسان أن يقسو عليك بالكلام، يمكن أن تحس بمشقة في هذا الركوب، هذا كله له أجر، لا بد للإنسان أنْ يعرف حاله لما يكون عمله طيبًا، ويسعى لمعرفة الله، فالملائكة كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَبْتَغِي فِيهِ عِلْمًا, سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ, وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضَاءً لِطَالِبِ الْعِلْمِ ))

[ أخرجه الترمذي وأبو داود في سننهما عن أبي الدرداء ]

وطالب العلم مكفولٌ له رزقه كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( من طلب العلم, تكفل الله له برزقه ))

بمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يرزقه رزقاً حسناً، يعوضه عن هذا الوقت الذي فاته أضعافاً كثيرة.

قال لي أخ البارحة: أعِدُ شخصًا، أنتظره لا يأتي، راحت علي الصلاة بالمسجد، فالمرة الثانية لا تنتظره، ما دام أذن المغرب, اذهب وصلِ، من ابتغى أمراً بغير ما يرضي الله, فاته ما يرضي الله، وفاته هذا الأمر في آنٍ واحد.

 الحديث الأخير:  

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ, قَالَ: قَال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ, أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا, أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ))

[ أخرجه مسلم ]

أكلت صحن حمص، فقل: الحمد لله، هناك أناس يأخذون سيروم بالمستشفيات، والسيروم ليس له طعم، مفيد، ولكن ليس له طعم، ربنا عزَّ وجل أطعمك طعاماً لذيذاً، وسقاك شراباً طاهراً، بارداً، نظيفاً، فالنبي كان إذا خرج من الخلاء يقول: (( الحمد لله الذي أذاقني لذته ، وأبقى في قوته, وأذهب عني أذاه )) أطعمك طعاماً طيباً، وأبقى فيك قوة هذا الطعام، المواد الغذائية، وأذهب عنك أذاه، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (( إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ, أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا, أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا )) الإنسان يحمد الله من كل أعماقه بشربة ماء، هذا الماء لو مُنِعَ عنك بكم تشتريه؟ ثمة إنسان قبل أنْ يكون الطريق إلى دول الخليج معبَّدًا, كان الطريق صحراويًا، وهذا الإنسان عمِل خمس أو ست سنوات، وجمَّع مبالغ جيدة، وعاد بسيارته إلى الشام، يبدو أنه ضل الطريق، فبقي أكثر من عشر ساعات تائهاً في الصحراء، وجدوه ميتاً، وقد مزَّق وجهه بأظافره من شدة العطش، ووجدوا زوجته على قيد الحياة، تضع لسانها في فم أطفالها، يعني هذا كأس الماء لا يعدله شيء، هو شيءٌ ثمينٌ جداً، فلما يفتح أحدنا الصنبور، ويملأ ويشرب، لا يقل: إح، بل الحمد لله رب العالمين.

(( إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ, أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا, أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا )) أكلة تحبها أكلتها، الله أطعمك هذا الطعام، اشكر الله عزَّ وجل، سيدنا عمر قال لزوجته: ما عندك يا أم كلثوم؟ قالت له: والله ما عندنا إلا خبزٌ وملح، قال: هاته لنا، فأكل هو وضيفه خبزًا, وملحًا، وشرب الماء, وقال: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا.

يكون أحدُنا على طاولته، وفيها خمسة أو ستة أصناف؛ المقبلات، والسَّلطات، والطبخ، والفواكه، وأين الرز بالحليب؟ أين الكاتو؟ وينسى أن هذا الطعام من فضل الله عزَّ وجل، المؤمن الصادق يرى أنه على مائدة الله، هذه مائدة الله، مَن منكم يُدعَى، ويأكل، ويمشي، ولا يقول: دائماً؟ لا يستطيع أن يعملها أحدٌ، مستحيل، إنك تخجل، تقول له مرتين: دائماً، الله يكثر الخير، أكرمتنا، أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة الأخيار، وذكركم الله فيمن عنده، هكذا العادة، الإنسان عبد للإحسان، لكنك إذا نظرت إلى هذه المائدة, التي تأكل منها في بيتك, هي مائدة الله عزَّ وجل، مَن أعطاك ثمنها أولاً؟ مَن أعطاك قدرات تشتغل؟ لو واحد اختل عقله، يضعونه (بالقصير), أي: بمستشفى الأمراض العقلية، ما استطاع أن يكسب نقوداً, أعطاك خبرات مهنية، صناعية، تجارية، زراعية، معك شهادة عليا، موظف، طبيب، مهندس ، محامِ، مدرس، لك مصلحة, عندك محل تجاري، أعطاك قوة، الدماغ يعمل، العضلات، الأوردة، الشرايين، نسب الكوليسترول والأوريك, كلها نسب صحيحة بالدم، الكظر يعمل، والبنكرياس تعمل، وكل الأجهزة تعمل, وأنت بمحلك تبيع, وتشتري، وتربح، وتأتي بأكل على البيت، فهذه المائدة هي مائدة الله عزَّ وجل، لذلك النبي الكريم يقول: (( إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ, أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا, أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا )) يا رب لك الحمد والشكر، والنعمة والرضا, على ما أطعمت, وتفضلت، وأكرمت، إذا رأى ربنا عزَّ وجل إنسانًا يشكره, هل تزول هذه النعمة؟ لا والله, قال تعالى:

﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)﴾

[ سورة إبراهيم ]

الشكر على النعمة أمانٌ من زوالها:

(( يا عائشةُ أَحْسِنِي جِوَارَ نِعَمِ اللهِ تَعالَى فإنَّها قَلَّ ما نَفَرَتْ من أهلِ بَيْتٍ فَكَادَتْ أنْ تَرْجِعَ إليهِمْ ))

[ أخرجه ابن ماجه ]

 

صور من مواقف عثمان بن عفان.


والآن إلى فصلٍ جديد, عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه, عن خلافته رضي الله عنه.

سيدنا عمر رضي الله عنه, وهو يجود بأنفاسه الطاهرة, أبى أن يستخلف أحداً، فما سمَّى اسم الخليفة الذي من بعده، وحين ألَحَّ عليه بعض أصحابه, كي يختار مَن يخلفه، استمسك بإبائه، ورفض, وقال لهم: أأحمل أمركم حياً وميتاً؟ وددت أن يكون حظي منكم الكفاف, لا لي ولا علي...

كلما عرفت عظمة الله, تخاف منه أكثر، وكلما جهلت ما عند الله من ثواب أو عقاب, يقلّ خوفك، فالخوف مؤشِّر، كلما ازداد خوفك, هذا مؤشرٌ على ازدياد معرفتك، كلما ازدادت معرفتك, ازداد خوفك، كلما قلَّت معرفتك قلَّ خوفك، يمكن للطبيب أن يبالغ بغسل الفاكهة، لأنه يرى الجراثيم، ويرى الأمراض والعدوى، تجده يبالغ مبالغة كبيرة، يمكن لإنسان جاهل, أن يأكل فاكهة من دون غسيل، أو يأخذ إبرة من دون تعقيم، يقول لك: ما مِن مشكلة، لكن الطبيب يعرف العدوى، فعلى قدر العلم يكون الخوف .

قال سيدنا عمر : إلا إني إن أستخلف، فقد استخلف مَن هو خيرٌ مني -يعني أبا بكر- وإن أترك -لا أستخلف- فقد ترك من هو خيرٌ مني -يعني رسول الله، سيدنا الصديق استخلف- والله حافظٌ دينه، ليس أنا، ولكن هذا الدين دين الله عز وجل، الإنسان لا يكثر غلبة، لأن ربنا عزَّ وجل يعرف شغله، قال:

أنا ملك الملوك، ومالك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فإن العباد أطاعوني, حولت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة، وإن العباد عصوني, حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخط والنقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، وادعوا لهم بالصلاح، فإن صلاحهم بصلاحكم.

قال لهم: والله حافظٌ دينه، ثم توفاه الله عزَّ وجل.

لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال قبل وفاته بأيام:

أيها الناس, إني راضٍ عن عمر، وعن علي، وعن عثمان، وعن طلحة بن عبيد الله، وعن الزبير بن العوام، وسعد بن ملك، وعبد الرحمن بن عوف، والمهاجرين الأولين, فاعرفوا لهم ذلك

هؤلاء العشرة الذين بشروا بالجنة.

(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي زُمْرَةٌ, هِيَ سَبْعُونَ أَلْفًا, تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ, فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيُّ, يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ, قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ, فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ, ثُمَّ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ, فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: سَبَقَكَ عُكَاشَةُ ))

أخذها محلك، ما قال له: أنت من أهل النار، أو لست مُبشَّراً، فقال: (( سَبَقَكَ عُكَاشَةُ )) فالنبي عليه الصلاة والسلام بشر هؤلاء:

أيها الناس, إن أبا بكر لم يسؤن قط, فاعرفوا له ذلك، أيها الناس إني راضٍ عن عمر، وعن عليٍ، وعن عثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن، والمهاجرين الأولين, فاعرفوا لهم ذلك

عليٌ، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن، هؤلاء الستة منحهم النبي عليه الصلاة والسلام كل هذا التكريم، فقال سيدنا عمر الآن:

إني نظرت فوجدتكم القادة، ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم -يعني الخليفة يجب أن يكون أحدكم- وقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو عنكم راضٍ، وإني لا أخاف الناس عليكم ما استقمتم، فإذا أنا مت, فتشاورا ثلاثة أيامٍ، ولا يأتي اليوم الرابع, إلا وعليكم أميرٌ منكم -من هؤلاء- وليحضر معكم عبد الله بن عمر مشيراً، ولا يكون له من الأمر شيء.

أول شيء: منع ابنه أن يكون خليفةً من بعده، يعني هؤلاء الستة تدارسوا أمركم فيما بينكم، واختاروا أحدهم، في أيامٍ ثلاثة على الحصر، هذه وصية عمر قبل أن يموت، اختار هؤلاء الستة من العشرة الذين بشروا بالجنة.

سيدنا طلحة كان غائباً عن المدينة، فاجتمع بقية الصحابة الذين وضع فيهم عمر الأمانة، وجعلها في أعناقهم قبل رحيله، واقترح عليهم عبد الرحمن بن عوف, أن يخلع أحدهم نفسه، من لا يرغب أن يكون خليفة يخلع نفسه, ويتنازل عن حقه في الترشيح، ليكون صوته مرجِّحاً إذا قام خلاف.

بادر سيدنا عبد الرحمن فخلع نفسه، وقال: أنا زاهدٌ فيها، ثم تنازل الزبير عن حقه لعلي رضي الله عنه، وتنازل سعد بن أبي وقاص عن الترشيح أيضاً، إلى أن انحصر الاختيار بين اثنين فقط, هما عثمان وعلي، وفوِّض عبد الرحمن بن عوف في اختيار أحدهما، وكان على ابن عوف أن ينجز هذه المهمة في الأيام الثلاثة, التي أوصاهم الخليفة الراحل ألا يجاوزوها، وكان عليه خلال هذه المهلة القصيرة, أن يجري شورى واسعة, واستفتاءً عاماً بين أصحاب النبي جميعاً عليهم رضوان الله، ثم راح يزرع المدينة، ويقرع أبواب دورها.

يقول ابن كثير:

نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه, يستشير الناس، ويجمع رأي المسلمين عامَّتهم، وقادتهم جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى، سراً وجهراً، حتى خلص إلى بعض النساء المحجبات في بيوتهن -لهم حق الانتخاب هكذا يبدو- وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل الركبان الوافدين على المدينة, حتى المسافرين استفتاهم جميعاً, واستنتج آراءهم وأخذ أقوالهم.

ونتابع الحديث مع ابن كثير: ثم أرسل عبد الرحمن في طلب عثمان وعلي، فقدما عليه، فأقبل عليهما، وقال لهما: إني سألت الناس عنكما, فلم أجد أحداً يعدل بكما أحداً، -يعني أنتم أحسن شيء- ثم أخذ العهد على كلٍ منهما: لئن ولاَّه ليعدلن، ولئن ولي عليه ليسمعن، إن وليناك عليك أن تعدل، وإن لم تولَّ, وولي عليك أحداً, عليك أن تطيع، إما أن تعدل، وإما أن تطيع، ثم خرج بهما إلى المسجد، وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه بها النبي عليه الصلاة والسلام، وتقلَّد سيفاً، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس كافةً: الصلاة جامعة، وتراص الناس حتى غصَّ بهم المسجد، ولم يبق لعثمان موضع يجلس فيه, إلا في أخريات الناس، وكان رجلاً حيياً، ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر النبي عليه الصلاة والسلام، فدعا دعاءً طويلاً، ثم تكلم فقال:

أيها الناس, إني قد سألتكم سراً وجهراً، فلم أجدكم تعدلون بعليٍ وعثمان أحداً -هؤلاء صفوة الصفوة، نخبة النخبة- فقم إلي يا علي، فقام إليه، وأخذ عبد الرحمن بيده وسأله: هل أنت مبايعي على كتاب الله, وسنة نبيه, وفعل أبي بكرٍ وعمر؟.

فقال علي: على كتاب الله, وسنة رسوله, واجتهاد رأيي.

ثم قال: قم إلي يا عثمان, فقام إليه, فأخذه بيده، وقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله, وسنة رسوله, وفعل أبي بكرٍ وعمر؟.

فقال عثمان: اللهم نعم.

فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد، ويده في يد عثمان, وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم إني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان, وازدحم الناس على عثمان يبايعونه، وكانت أول يمينٍ شدَّت بالبيعة على يمينه يمين علي بن أبي طالب -أول إنسان بايع سيدنا عثمان سيدنا علي بن أبي طالب-.

وهكذا حمل عثمان أثقال الخلافة، وهو على وشك أن يستقبل السبعين من عمره -شيخ متقدم في السن، وسوف ترون بعد قليل: كيف أن أول معركةٍ في تاريخ المسلمين بحريةٍ, جرت في عهده؟ أول من أنشأ أسطول إسلامي, حارب به الروم، واحتلَّ به جزيرة قبرص, هو سيدنا عثمان.

سيدنا عثمان يبدو أنه كان حيياً، وكان وجلاً، وكان يحب أن يبقى في الظل لا تحت الأضواء- فلما ألقى كلمةً افتتاحيةً بعد توليه الخلافة أُرْتِجَ عليه، يقول عبد الرحمن بن عوف: ما رأيت أحداً كان إذا حدث أتم حديثاً, ولا أحسن من عثمان، إلا أنه كان رجلاً يهاب الحديث.

لا يحب الكلام الكثير.

سيدنا عثمان مما يروى عنه، في عهد عمر رضي الله عنه، أطل من نافذة بيته، فأبصر على البعد, رجلاً يجري في قيظ النهار, وهجير الصحراء, فظنه غريباً, نزل به كربٌ عظيم، ولبث مطلاً من نافذته, حتى يعود ذلك الرجل الملهوف، فيدعوه إلى ظل داره, ويغيثه من لهفته، وكم كانت دهشته وعجبه حين اقترب الرجل, فإذا هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ممسكاً بحطام بعيره, يتهادى وراءه، سأل عثمان:

من أين جئت يا أمير المؤمنين؟.

أجابه عمر: من حيث ترى، بعيرٌ من ﺇبل الصدقة ند هارباً، فأسرعت وراءه, ورجعت به .

سأله سيدنا عثمان: ألم يكن هناك من يقوم بهذا العمل سواك؟!.

أجابه عمر: ومَن يقوم مقامي في الحساب يوم القيامة؟ .

ودعاه عثمان إلى الراحة, حتى تنكسر حدة الهجير، فما زاد عمر على أن قال, ودموعه الورعة تسيل على خديه: عد إلى ظلك يا عثمان، ارجع إلى غرفتك ترتاح، ومضى لسبيله، وعينا عثمان متعلقتان به، حتى غاب عنهما، وراح عثمان يتمتم قائلاً: لقد أتعبت الذين جاؤوا بعدك يا عمر، سوف تهلكهم.

 وهو جاء بعده، معنى هذا: سيدنا عثمان سيتعب كثيراً . 

 

غزواته :


سنأخذ آخر شيء في هذا الفصل، كيف أنه رضي الله عنه حارب في البحر؟.

سيدنا عثمان رأى, أن الأسطول البحري للروم, يتخذ من جزيرة قبرص منطلقاً لعدوانه، فقرر غزوه، ولكن كيف والمسلمون لم يمتطوا ثبج البحر إطلاقاً من قبل في قتال, وأميرهم العظيم الراحل, كان لا يوافق على مخاطرةٍ من هذا القبيل؟ سيدنا عثمان تدارس هذا الأمر مع بعض أصحابه، واقتنع بحتمية هذه المخاطرة، لا بد منها، ولأول مرةٍ يشهد التاريخ ميلاد البحرية الإسلامية.

أذِنَ الخليفة لمعاوية بغزو قبرص، فأبحر إليها من الشام، وأمده الخليفة بجيشٍ آخر بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وأطبقت القوتان العارمتان على الجزيرة، فاستسلمت, ووقعت الصلح الذي فرضه المسلمون، لو واحد زار قبرص يجد فيها مآذن كثيرة، وفي هذه الغزوة تحققت نبوءة النبي عليه الصلاة والسلام. ما نبوءة النبي؟.

(( عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ, أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَدْخُلُ عَلَى أُمِّ حَرَامٍ بِنْتِ مِلْحَانَ فَتُطْعِمُهُ, وَكَانَتْ أُمُّ حَرَامٍ تَحْتَ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ, فَدَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْعَمَتْهُ, وَجَعَلَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ, فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ, قَالَتْ: فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي, عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ, يَرْكَبُونَ ثَبَجَ هَذَا الْبَحْرِ, مُلُوكًا عَلَى الْأَسِرَّةِ, أَوْ مِثْلَ الْمُلُوكِ عَلَى الْأَسِرَّةِ, -شَكَّ إِسْحَاقُ- قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهمْ, فَدَعَا لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَهُ, ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وَهُوَ يَضْحَكُ, فَقُلْتُ: وَمَا يُضْحِكُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي, عُرِضُوا عَلَيَّ غُزَاةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ, كَمَا قَالَ فِي الْأَوَّلِ, قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, ادْعُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ, قَالَ: أَنْتِ مِنْ الْأَوَّلِينَ, فَرَكِبَتْ الْبَحْرَ فِي زَمَانِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ, فَصُرِعَتْ عَنْ دَابَّتِهَا, حِينَ خَرَجَتْ مِنْ الْبَحْرِ, فَهَلَكَتْ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

فلما قيل له مرة ثانية: أن تكون هذه المرأة معهم، فقال عليه الصلاة والسلام: (( هي من الأولين )) وليست من الثانيات، رؤيتان رآهما النبي عليه الصلاة والسلام، لما نشبت الواقعة بين الجيش الإسلامي البحري على السفن وجيش الروم، هذه الغزوة كان فيها عبادة بن الصامت, ومعه زوجته أم حرام بنت مِلحان, وتحققت نبوءة النبي الصادق الأمين فكانت معهم، ولكن في الغزوة الثانية لم تكن معهم, إنها توفيت في قبرص، وقبرها الآن في قبرص، واسم القبر: قبر المرأة الصالحة، وهذه أول غزوةٍ يغزوها المسلمون في البحر.

أيها الإخوة؛ أما الغزوة الشهيرة سماها علماء التاريخ: ذات الصواري, هذه الغزوة أساسها: أن قسطنطين ملك الروم, خرج بجيشه الجرار, على ظهر خمسمائة سفينة, تحمل جيش الروم، زاحفاً على بلاد المغرب، ليلاقي بها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وجمع عبد الله جيشه، ونزلوا بسفنهم إلى البحر، والتقى الجمعان في معركةٍ, تحدى ضراوتها كل وصف ، ودعا قائد المسلمين ليخرجوا إلى البر، ويتقابل الجيشان فوق الأرض الصلبة، فأبوا ذلك، عندئذٍ أسرعت فرقةٌ من جيش المسلمين، فربطت سفنهم بسفن الروم، بعد أن أدنوها منها، ثم راحوا يجتلدون بالسيوف والخناجر، وكان ضحايا المسلمين وشهداؤهم من الكثرة إلى حدٍ فادح ، بيد أن قتلى الروم كانوا أضعافاً كثيرة، وانتصر المسلمون انتصاراً حاسماً، وهرب قسطنطين بجسده, الذي أدمته السيوف, وأثخنته الجراح.

سيدنا عثمان أول خليفة إسلامي, ينشئ جيشًا بحريًا, يغزو الروم في معركتين, أشهرها: ذات الصواري.

 

نهاية المطاف:


أيها الإخوة؛ سيدنا عثمان له فتوحات كثيرة, سوف نأخذها في درسٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى، وله أعمال جليلة في مقدمتها: أنه جمع القرآن، وعلى كل مصحفٍ تقول: هذا المصحف كتب وفق الرسم العثماني، سيدنا عثمان ألف لجنة من كبار الصحابة، ومن كبار القراء، وجمع القرآن، وضبطت رواياته، ووحدت رواياته، وكتبت ست نسخٍ منه، وأرسلها إلى الأمصار، فله الفضل الكبير في توحيد القرآن الكريم، وله عمل عظيم في توسعة بناء المسجد النبوي الشريف، وفي تأمين كل ما يحتاجه رواد هذا المسجد، وله أيضاً أعمال جليلة في الفتوحات, إن شاء الله نأخذها في درسٍ قادم.

أحياناً: المستشرقون يتكلمون كلاماً ليس طيباً عن هذا الخليفة الراشد، هذا الكلام لا ينبغي أن يقال، لأن هذا الخليفة العظيم بشَّره الله بالجنة، وكان خليفةً ممن أرضى الله ورسوله.

و الحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

إخفاء الصور