- الحديث الشريف / ٠1شرح الحديث الشريف
- /
- ٠4رياض الصالحين
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
تمهيد.
أيها الإخوة المؤمنون؛ ننتقل في الحديث الشريف إلى باب النصيحة، وقد عقد هذا الباب مبتدئاً ببعض آيات القرآن الكريم، فقال الله تعالى:
﴿
وما دام المؤمنون أخوة, فلا بد من أن ينصح بعضهم بعضاً، من خصائص المؤمنين أنهم يتناصحون، والله سبحانه تعالى أخبرنا عن سيدنا نوح فقال:
﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي
والنصح من صفات أنبياء الله الكرام، وأخبرنا عن سيدنا هود فقال:
﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي
إذاً: النصيحة أو النصح؛ النصح هو مصدر، والنصيحة اسم.
النصيحة من صفات المؤمن، أو النصح من صفات المؤمن، والمؤمن ناصح اسم فاعل، أو نصوح صيغة مبالغة, أي كثير النصح، والنبي عليه الصلاة و السلام يقول في حديث جامع مانع, وقد قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم:
(( بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ ))
الدين النصيحة:
في حديث جامع مانع.
(( عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ, قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ, وَلِكِتَابِهِ, وَلِرَسُولِهِ, وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ))
فحيثما كانت النصيحة كان الدين، لو أنَّ إنساناً يكثر من صلاته, وصدقته, وصيامه، غير أنه يغشّ المسلمين في بيعه وشرائه، هذا ليس مسلماً، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا ))
وفي رواية أخرى.
(( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ, فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا, فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي ))
فالدِّين ليس أن تصلي خمس صلوات، الدِّين يظهر أشد ما يظهر في البيع والشراء، في التعامل اليومي، في الاحتكاك مع الناس، في الممارسات اليومية، هنا يظهر الدين، حينما فهم المسلمون أنَّ الدَّين: صوم, وصلاة, وحج, وزكاة ليس غير، صاروا وراء الأمم، أمَّا حين فهم أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام, أنَّ الدِّين ورع, ونصيحة, واستقامة, والتزام، رفرفت راياتهم في الخافقين.
سيدنا عمر مثلاً, حينما رأى راعياً, أراد أن يمتحنه, قال:
بعني هذه الشاة, وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال: قل لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب, وخذ ثمنها، قال: ليست لي، قال: خذ ثمنها -أغراه بثمنها- قال: والله إنني لفي أشدِّ الحاجة إلى ثمنها، ولو قلت لصاحبها: ماتت أو أكلها الذئب لصدَّقني, فإنِّي عنده صادق أمين، ولكن أين الله؟
هذا هو الدين، هذا الأعرابي، هذا البدوي, وضع يده على جوهر الدين، تعلَّم ما شئت ، أدِّ من الصلوات ما شئت، تكلم ما شئت، إن لم تكن مستقيماً على أمر الله فلست مسلماً، لذلك الدين النصيحة, يجب أن تنصح هذا المشتري، يقول لك: انصحن, هذا مسلم، ولو أنه غير مسلم، ولو أنه مجوسي, يجب أن تنصحه، لأنه عبد لله, أسلمك قياده.
فهذا تعريف للدِّين جامع مانع، أي: حيثما كانت النصيحة كان الدين، وحيثما غابت النصيحة غاب الدين، لذلك:
(( قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يُوشِكُ الأُمَمُ, أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ ))
من أجل حب الدنيا, لا تنصحوا المسلمين, لذلك من الأحاديث الصحيحة في النصيحة.
الحديث الأول: الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال لله ولكتابه ولرسوله.
(( عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ, أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ, قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ, وَلِكِتَابِهِ, وَلِرَسُولِهِ, وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ))
انصحه في البيع والشراء، ولا تخف بخساً ولا رهقاً، انصحه ولا تخف على رزقك، فالله تعالى يكافئك برزق حلال وفير، فقال عليه الصلاة والسلام:
1- الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال: لله.
فكيف تنصح لله؟.
إذا رأيت إنساناً لا يعرف الله, انصحه كي يعرف الله عز وجل، إذا رأيت إنساناً, يظن بالله ظناً غير صحيح، أنا عند حسن ظن عبدي بي, فاجعله يظن بالله الظن الصحيح، إذا رأيت إنساناً لم تتضح له رحمة الله، بيَّن له رحمة الله، إذا رأيت إنساناً لم تتضح له عدالة الله، إذا رأيت إنساناً يقول لك: الله سبحانه وتعالى خلقنا ليعذبنا, لا, قل: الله سبحانه و تعالى خلقنا ليرحمنا بنص القرآن الكريم, قال تعالى:
﴿
إذا رأيت هذا الإنسان لا يعرف الله كما ينبغي, عرِّفه بالله، رأيته يظن بالله ظن السوء, اجعله يظن بالله الظن الحسن، رأيته لا يعرف عدالته عرِّفه بعدالته، لا يعرف رحمته عرِّفه برحمته، لا يعرف أسماء الله الحسنى عرِّفه بأسماء الله الحسنى، إذا رأيته يقول لك: خلقنا على هذه الأرض، ولا ندري لماذا خلقنا؟ بيِّن له: لماذا خلقنا؟ هناك هدف كبير, قال تعالى:
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
هذا معنى النصح لله، أي أن تنصح الناس كي يعرفوا الله خالقاً، وكي يعرفوه مربياً، وكي يعرفوه مسيراً، وكي يعرفوا أسماءه الحسنى، وصفاته الفضلى، دُّلهم على الطريق، قال تعالى:
﴿
دُّلهم على طريق التفكر، دُّلهم على طريق الذكر، دُّلهم على طريق فهم القرآن، هناك أبواب كثيرة لمعرفة الله سبحانه وتعالى، هذا معنى قول النبي عليه الصلاة و السلام:
2- الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه ولرسوله.
ولكتابه: إن رأيت يحيد في سلوكه، ويخالف آية قرآنية، قل له: يا أخي، الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
إن رأيته يطلق بصره في الحرام، قل له: يا أخي, الله سبحانه وتعالى يقول:
﴿
إن رأيته ناقماً على إنسان، قل له: يا أخي:
﴿ ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ
حينما يشرك الإنسان مع الله إلهاً آخر، يقع في الألم, وفي الضيق، هذا من أبواب النصح لكتاب الله، قل له: يا أخي لا يحزن قارئ القرآن، إذا قرأت القرآن لا تحزن, لأنَّ فيه البشرى لك، قل له: من تعلَّم القرآن, فرأى أنَّ أحداً أوتي خيراً منه, فقد صَّغر ما عظَّمه الله، حقَّر ما عظَّمه الله، قل له: لا يخرف قارئ القرآن، من تعلَّم القرآن, متَّعه الله بعقله حتى يموت، قارئ القرآن لا يخرف، قل له: القرآن غنىً لا فقر بعده، ولا غنىً دونه، قل له: هذا الكتاب فيه منهج تفصيلي, لكل حركة الإنسان على وجه الأرض.
بيِّن له إعجاز القرآن العلمي، بيِّن له إعجازه البلاغي، بيِّن له إعجازه البياني، بيِّن له إعجازه التشريعي، بيِّن له إعجازه الغيبي، بيِّن له دقة نظمه، بيِّن له روعة آياته، بيِّن له إذا تعلمت شيئاً فعلِّمه للناس، هكذا تنصح، قد يقول لك قائل: هذا القرآن لا يصلح لهذا الزمان، انصحه، بيِّن له أنَّ الله تعالى يقول:
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ
معنى ذلك: أنَّ هذا الكتاب كامل شامل، قال تعالى:
﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ
إذاً: يجب أن تعرف الله أنت أولاً, حتى تنصح له، ويجب أن تعرف القرآن, حتى تنصح له ولرسوله, بيِّن له عظمة هذا النبي، كيف أنَّه سيد الخلق؟ بيِّن له أنَّ هذا النبي أسوة لنا حسنة، بيِّن له أنَّ هذا النبي قدوة صالحة لنا، بيِّن له أن هذا النبي مشعل أمامنا, يضيء لنا الطريق، بيِّن له أنَّه أرحم بأنفسنا من أنفسنا، بيِّن لهذا الإنسان رحمة النبي، عدله، حبه للخلق، حلمه، شجاعته، وفاءه، عفوه، بيِّن له أنه يجب أن تحب النبي.
(( عن عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ: غَدَا عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَقَالَ رَجُلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَّا: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلا تَقُولُوهُ؟ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ, يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّهُ لا يُوَافَى عَبْدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِهِ إِلا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ ))
إنه قدوته، يجب أن يكون النبي قدوتك، لا أن يكون زيد أو عبيد هو القدوة.
3- الدين النصيحة قلنا لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم.
ولأئمّة المسلمين: إذا أجرى الله على يد إنسان الخير، عاونه، انصح الناس أن يذهبوا إليه، لا تبعد الناس عنه، لا تفسد العلاقة بين معلِّم ومتعلِّم.
ولأئمة المسلمين وعامتهم: لو جاءك من دهماء الناس إنساناً, أخي هذا غبي، لكن عند الله يحاسبك عليه, ولو كان من عامة المسلمين، ولو كان من دهمائهم، ولو كان من سوقتهم، انصحه, بيِّن له ما ينبغي أن يفعله، طبعاً: أن تنصحه في دينه و دنياه.
هذا الحديث من الأحاديث الشاملة، يجب أن تنصح له في دينه, ويجب أن تنصح له في دنياه، فحينما تحيد عن النصيحة, فقد ابتعدت عن الإسلام، بل إذا ابتعدت عنها ابتعاداً كلياً, خرجت من الإسلام, لأن الدين النصيحة, إن لم تنصح, فلماذا أنت مسلم؟ ما الذي يميِّزك عن الآخرين؟ أخلاقك، انضباطك، خوفك من الله عز وجل.
هل تصدقون: أنَّ السيدة عائشة رضي الله عنها, قالت عن أحد أصحاب رسول الله, الذين خاضوا معه بدراً, وأحداً, والخندق في حروب ثلاثة، حينما رأت أنَّه خالف أوامر الشرع في البيع والشراء, قالت لمن حولها:
(( قولوا له: إنَّه أبطل جهاده مع رسول الله، أبطل جهاده مع رسول الله ))
قضية خطيرة جداً.
لذلك قال سهل التستري: والله لترك دانق من حرام خير من ثمانين حجَّةً بعد الإسلام، من هنا قيل: ركعتان من ورع خير من ألف ركعة من مخلِّط، ومن لم يكن له ورع, يصدَّه عن معصية الله إذا خلا، لم يعبأ الله بشيء من عمله.
هذه الأحاديث الشريفة التي تُشرَح في هذا المسجد, هي من الأحاديث الصحيحة، وثانياً: من الأحاديث الشاملة، إذاً: يجب أن تُحفَظ، هي من رياض الصالحين، ومن باب النصيحة، وهذا الكتاب لو أنَّ أحدكم, جعله في بيته, ورجع إليه، كتب هذا الحديث على ورقة, وحفظ هذا الحديث, وبلَّغه كما سمعه, فلعلَّ الله تعالى ينفع بك المسلمين.
الحديث الثاني: النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
وفي حديث آخر.
(( عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ, وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ, وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ))
هكذا البيعة، فحينما تنصح الناس في بيعك وشرائك، في تعاملك، حينما تنصحهم, تجد أنَّ الله تعالى يتجلَّى عليك، تجد أنَّ الله تعالى يغنيك عن الناس، تجد أنَّ الله سبحانه وتعالى يحفظك، فإذا غششتهم فقد عرَّضت نفسك للهلاك، المال الذي تأخذه من غير وجه، هذا مال حرام، والمال الحرام يَتلَف ويُتلِف صاحبه، أي حينما تجد إنساناً فقدَ ماله كله, أو تجد إنسان وقع في مشكلة، قل: لا بد من حكمة بالغة كانت وراء هذه المشكلة.
الحديث الثالث : لا يؤمن أحدكم.
(( عَنْ أَنَسٍ, عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ))
يجب أن تُحِب لأخيك ما تحبه لنفسك، لذلك إذا حسدك أخاك المؤمن, فهذا نقص في إيمانك, إذا فرحت له لخير أصابه, فهذا من علامة إيمانك بالله عزَّ وجل.
مرة قرأت بيتاً من الشعر:
ملِك الملوك إذا وهبْ لا تسألنَّ عن السبب
الله يعطـي من يشاء فقف على حدِّ الأدب
أنا أجريت عليه تعديلا طفيفًا، وهو:
ملك الملوك إذا وهب قم فاسألنَّ عن السبب
الله يعطـي من يشاء فقف علـى حدِّ الأدب
أعطى الله كل عباده، اسأل الله من فضله, صدق القائل:
ملك الملوك إذا وهب قم فاسألنَّ عن السبب
إنَّ الله عزَّ وجل يحبُّ أن تسأله، يحبٌّ أن تقف على بابه، يحبُّ أن تلحٌّ عليه في الدعاء، الذي أعطاه يعطيك, لماذا الحسد؟ الذي وهبه يهبك.
عندما قال سيدِّنا عمر لسيدِّنا سعد:
إنَّ الطاعة وحدها هي التي تقرِّب.
هذا الباب هو باب النصيحة.
(( عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: الدِّينُ النَّصِيحَةُ, قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: لِلَّهِ, وَلِكِتَابِهِ, وَلِرَسُولِهِ, وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ ))
(( عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِقَامِ الصَّلَاةِ, وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ, وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ))
(( عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ))
تصَّور أن إنسانًا في بيعه وشرائه, نصح المسلمين ولم يغشَّهم، واعتدل في ربحه، ورحمهم، هل يعقل لهذا الإنسان المؤمن الطاهر, أن يسلَّط عليه إنسان آخر؟ إنَّ الأمر بيد الله عزَّ وجل.
أحكام البيع.
والآن إلى فقرة من فقرات البيوع، نحن في درس سابق, تحدّثنا على أنَّ شروط البيع: هناك شروط انعقاد، وهناك شروط صحة، واليوم نتحدث عن شروط النفاذ، إنَّ البيع قد يكون منعقداً ليس باطلاً، وقد يكون صحيحاً ليس فاسداً، ولكنه موقوف لا ينفذ أو ينفذ، قد يكون منعقداً، وقد يكون صحيحاً، ولكنه موقوف.
شروط نفاذ البيع:
فما الشروط التي إذا توافرت جعلته نافذاً؟ قال: لا بدَّ من نفاذ البيع من تحقق شرطين اثنين:
عدم تعلّق حق بغير المتبايعيَن للمبيع، يعني قد يبيع الإنسان هذا البيت وليس له, فهو ليس وليِّ هذا البيت، ليس له الحق أن يبيعه، فهذا البيع صحيح منعقد وصحيح، ولكنه موقوف حتى يجيز المالك، وقد يبيع إنسان بيتاً, والبيع منعقد وصحيح، ولكن على هذا البيت إشارة رهن لجهة ثالثة، فالبيع لا يعدُّ نافذاً, إلاَّ إذا تحقق شرطان اثنان:
إن توافر هذان الشرطان, فالبيع صحيح نافذ، وإن اختل أحد هذين الشرطين, أو انعدم الشرطان معاً, يصبح البيع متوقفاً, البيع موقوف مع عدم التنفيذ.
ما هي الولاية وأنواعها؟.
ما هي الولاية؟. الولاية: سلطة يسٌّوغ لصاحبها التصرف بالشيء، إمَّا بتفويض من المالك, أو بتفويض من المشرِّع، وهذا يعني أن معي سلطة, أن أبيع هذا الكتاب، هذه السلطة في بيع الكتاب اسمها الولاية، وهذا يعني إمَّا أن أملكه، فالمالك مسلَّط على ملكه، وإمَّا أن أكون موَكَلاً من مالكه بوكالة عامة أو خاصة، وإمَّا أن يوكلني القاضي في بيع هذا البيت، إمَّا وكالة من قاضي, أو وكالة من مالك، أو أن تكون أنت المالك، وهذا يعني إذا كنت تملك سلطة التصرف بهذا الشيء, فهذه هي الولاية.
لذلك هي قسمان:
أو أن تكون أنت المالك، فأنت مالك الولاية, لأنَّ كل مالك مسلَّط على ملكه، إنَّ الأصل هو كل مالك هو ولي، الأصل أن تتفق الولاية مع الملكية، لكن أحياناً يفترقان، كيف يفترقان؟ في الأصل كل مالك وليُّ على ما يملك، وكل ولي مالك لما تولى عليه، إلا أن هذا غير مطَّرد، فأحياناً تنقص الأهلّية، هذا البيت لفلان هو مالكه، ولكنه لا يملك التصرف فيه بنقصان الأهلية.
شيء آخر: وقد يكون المالك لا يستطيع البيع، مسافر أو أصابه مرض, يمنعه من أن يبيع، عندئذ ينيب مكانه، إذاً: توجد حالات نقصان الأهلية, أو السفر, أو المرض, أو السفه, تنفصل الملكية عن الولاية, يصبح مالك, ولكنه لا يملك الولاية.
هذا الذي دعانا إلى هذا البحث شروط نفاذ البيع، يجب أن يتوفر في المبيع شرطان: أن يكون المالك مالك الولاية، أن يكون البائع مالك الولاية، وأن لا يكون لهذا المبيع تعلق بحق لغير المتبايعَين.
تعريف بيع الفضولي:
الفضولي: هذا الذي يبيع ما لا يملك، اسمه عند العلماء والفقهاء: الفضولي، حول الفضولي بحث طويل ملخّصه، ورأي العلماء فيه: بين أن يكون باطلاً, وبين أن يكون موقوفاً ، على اختلاف في المذاهب، ولكنَّ بيع الفضولي لا يعدُّ بيعاً نافذاً إلا في حالات، ما هي هذه الحالات؟.
-أن يكون البيع في الأصل صحيحاً, حتى يجوز للمالك الأصلي, أن يجيز هذا البيع.
-أن يكون البائع والمشتري وقت الإجازة على قيد الحياة, لو أن البائع وقت الإجازة كان ميتاً، أو المشتري كان ميتاً، فالبيع باطلاً من أساسه.
يعني: لا ينقلب بيع الفضولي صحيحاً بإجازة الولي, إلاَّ إذا كان البائع والمشتري على قيد الحياة وقت الإجازة، والمالك على قيد الحياة وقت الإجازة، والمبيع موجوداً وقت الإجازة، هذه الشروط إذا توافرت يمكن لهذا البيع؛ بيع الفضولي, أن ينقلب إلى بيع صحيح نافذ, عندما يجيز مالك المبيع.
الآن بيع القاصر:
إذا كان المالك فاقد الأهلية تماماً، مَن هو فاقد الأهلية تماماً؟ الصبي غير المميِّز، هذا فاقد الأهلية تماماً، لذلك بيعه باطل، والمجنون بيعه باطل، وهناك حالات فيها نقص للأهلية، لا انعدام لها، من هو ناقص الأهلية؟ القاصر المميِّز، الشاب الذي لم يبلغ سن البلوغ، ولكنه مميِّز يبيع ويشتري، فهذا بيعه موقوف وليس باطلاً، أو معتوه ليس مجنوناً، وليس عاقلاً، أقرب للغباء منه للذكاء، فهذا بيعه موقوف وليس باطلاً، لكن هذا الناقص للأهلية إذا باع واشترى, هناك ثلاث حالات:
إذا تصرف تصرفاً ضاراً، إذا وهب ماله كله لإنسان، قدَّم له بيته، أو تصدَّق بماله كله عن غير وعي، أو ضاع بيته بغبن فاحش, فهذا التصرف من قاصر, من ناقص الأهلية, يعدُّ باطلاً لا ينفذ البيع، باطل البيع، باع بيعة فيها غبن فاحش, أو وهب ماله, أو تصدَّق بكل ماله بلا سبب, وهو غير بالغ، هذا التصرُّف الذي فيه ضرر بالغ, يعدُّ باطلاً كليةً، أماَّ إذا كان صبي مميِّز، قاصر مميِّز، أو معتوه، وباع بيعة بسعر ممتاز, أو عمل عملاً كله نفع، مثلاً قبل هبة غير مشروطة، أو قبل مال بشكل صدقة, فهذا التصرف يعدُّ نافذاً حقيقةً، لأن فيه نفعًا له ، فإذا كان فيه ضرر فهو باطل، إذا كان فيه نفع نفذ، أمَّا إذا كان تصرفه بين النفع والضرر، أجَّر داراً بأجر المثل، باع بيعةً بسعر السوق، أي هل هو قد ربح أم لا؟ مثله مثل غيره، في مثل هذه الحالة, يعدُّ ماله موقوف إلا إذا أجازه الولي، إذا أجازه الولي ينقلب هذا البيع من موقوف إلى صحيح, هذا القاصر.
إذاً: القاصر نوعان: قاصر منعدم الأهلية بين التمييز أو مجنون, يعتبر بيعه باطلاً، أما قاصر ناقص الأهلية، أقل من سن البلوغ، مميِّز أو معتوه، هذا إذا كان عمله كله فيه نفع لحاله, فهو نافذ، كله ضرر فهو باطل، بين النفع والضرر, موقوف على إجازة الولي، مثل ما قلنا قبل قليل الولي: إمَّا من قبل المالك, أو من قبل المشرِّع، من قبل المالك يكون معه وكالة، والوكالة من عقود التفويض، وهي وكالة عامة، أي إذا أراد إنسان أن يعمل وكالة من الواجب, أن يكون منتبهاً، يعمل وكالة عامة، وهذه الوكالة العامة خطيرة جداً، يمكن هذا الذي وكلّته له, أن يطلِّق منك امرأتك, بهذه الوكالة العامة، يمكن له أن يبيع لك معملك، أن يبيع لك مسكنك الذي تسكنه، فإذا كانت القضية محدودة, وكِّل وكالة خاصة، هناك وكالة عامة ووكالة خاصة، إذاً: يجب على الإنسان ألاَّ يوقِّع على ورق أبيض, أن يقول: وقِّع لي وبعد ذلك نكتب السند، قد توقِّع له على بيع بيته، قد يكون السند بمئتين أو خمسمئة ليرة، وتوقِّع على ورق أبيض, فتستنتج أنه قد باع بيتك, فالإنسان من الواجب عليه, ألاّ يوقِّع على ورق أبيض، وعليه ألا يوقِّع بمكان, توجد فيه مسافة كبيرة بين التوقيع وبين الكلام، لأنه يُضاف، تضاف أشياء لا ترضى بها أنت .
إذاً: كانت لدينا وكالة عامة ووكالة خاصة، والوكالة: عقد غير لازم، ما معنى غير لازم؟ أي أن الموكل في أي لحظة, له الحق في أن يعزل الوكيل، والوكيل في أي لحظة, له أن يرفض هذه الوكالة, عقد غير لازم.
أحياناً: يولِّي القاضي الشرعي إنسانًا, الإشراف على الأيتام إشرافًا اجتماعيًا، يراقب ذهابهم, ومجيئهم, ودراستهم, ومدرستهم, وأخلاقهم، وأين يذهبون؟ ومن يصاحبون؟ هذه ولاية على النفس, وهناك ولاية على المال في البيع و الشراء.
والولاية إمَّا أن يكون مناطها القرابة؛ ولاية الأب, أو الجدّ, أو الأخ, أو العم، أو ولاية من قبل السلطان، والقاضي, ووصيّ القاضي، القاضي دائماً وليّ لمن لا وليَّ له، والقاضي نائب عن السلطان، والسلطان له ولاية عامة على المسلمين, هكذا النظام الإسلامي, أولي الأمر له ولاية على المسلمين، هذا ينيب القاضي، والقاضي وليّ مَن لا وليّ له.
إنسان يتيم ليس له أحد, فالقاضي وليّه, يتولى أموره, ويحرّك له أمواله, ويوافق على شراء البيوت، هذا فعل القاضي، وأقوى أنواع هذه الولايات: أن يكون المالك نفسه هو وليّ ماله، ولاية الملك، المالك هو الوليّ، أو ولاية قرابة, أو ولاية قاضي، والأولياء يرتبّون وفق الأقرب فالأقرب، بنوة, أبوة, أخوة, عمومة، هذه هي الولايات، والوالي يجب أن يكون حراً بالغاً عاقلاً مسلماً، أن يكون المولَّى عليه دون سن البلوغ, أو فيه جنون, أو عطل, أو غيبة مطلقة، أي غاب غياب مديد، يجب أن يكون له والي، ولي يتصرَّف بأمواله، والولي أيضاً إذا عمل عملاً فيه ضرر محض, فعمله باطل، وإذا عمل عملاً فيه نفع محض, فعمله صحيح و نافذ، وإذا عمل عملاً مثلاً؛ إذا باع بثمن المثل, فيه نفع وفيه ضرر, فتصرفه مقبول ونافذ أيضاً، إلاَّ إذا كان فيه غبن فاحش, يعدٌّ تصرفه موقوفاً.
الشرط الثاني من شروط نفاذ المبيع، الولاية شرط أول، والثاني خلو المبيع من تعلق حق لغير المتعاقدَين.
مرة طالعت في الصحيفة اليومية, أنَّه أكثر من أربعين شخصًا, عليهم ضريبة كبيرة جداً من المالية, تفوق حد الخيال، هؤلاء الأشخاص قد اشتروا بيوتاً من بناء، إلاَّ أنَّ هذا البناء تعلٌّق به حق الغير، فالإنسان عندما يشتري بيتًا, من الواجب أولاً: أن يعرف سجله العقاري، عليه رهن, أو ضريبة, أو مشكلة, أو قضية، فعندما يشتري الإنسان بعقد، ولا يطالب البائع بشهادة ملكية, أو ببيان عقاري للبيت، يكون هناك تعلّق حق الغير، فهذا حق الغير ينتقل من البائع إلى المشتري، وأنت لا تدري، إذا أنت الآن اشتريت بيتاً، ولم تبحث عن سجله العقاري, فمن السهل جداً: كل الالتزامات التي كانت على المالك الأول, تنتقل إليك بمجرد انتقال الملكية ، إلاَّ إذا كان في عقد الشراء, فيه نص على ذلك، فالمؤمن كما قيل: المؤمن كيس فطن حذر.
يعني: شراء بيت, قضية ليست سهلة، قضية مصيرية، فأول شيء اطلب منه، أحيانا البائع يحيطك بجو أنَّ معك ساعة, لا نريد هذه البيعة, إذا ما قبلت فهناك من يدفع أكثر, هذه أساليب ذكية جداً، يحيطون المشتري إذا لم تقبل, فهناك مدفوع أكثر، أساليب ذكية جداً، يحيطون بها المشتري، إذا ما قلت: الآن اشتريت, فلن تحصل على هذا البيت، فأنت تشتري، فتواجه بعدئذ مبلغًا ضخمًا جداً مترتبًا عليك، لأنك قد اشتريت بيتًا, ولم تبحث عن سجله العقاري، فهنا إذا تعلق بالمبيع حق الغير, فالبيع موقوف غير نافذ، هنا إذا اشترى إنسان شيئًا ، ولم يبلغَه، اشتريت بيتًا، وأصبح مستأجَرًا، لم يبلّغك البائع بأنه مستأجَر, فلك الحق بأن توقف العقد، وأن تفسخه، إذا بلَّغك ورضيت, ليس لك حق، فالبيت المرهون أو المستأجَر, لو أنَّه بيع متعلِّقًا بحق الآخرين لم ينفذ.
هذا مجمل الكلام, شرطين: الولاية، وعدم تعلُّق حق الغير بهذا المبيع، فإذا توافر هذان الشرطان فالبيع نافذ، وإلاَّ فالبيع موقوف أو باطل، هذا ملخص الدرس.
إن شاء الله ننتقل في درس قادم إلى شروط لزوم البيع, أنت لست بالخيار، إذا كان البيع منعقدًا صحيحًا نافذًا، أنت ملزَم أمام القاضي أن تدفع الثمن، وأن تأخذ المبيع شئت أم أبيت، هناك شروط للزوم البيع, نأخذها في درس قادم إن شاء الله تعالى.
لقطات من سيرة سيدنا عمر بن عبد العزيز.
والآن إلى سيِدِّنا عمر بن عبد العزيز, خامس الخلفاء الراشدين، كما يصفه المؤرّخون.
نشأته.
سيدِّنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، كان أبوه عبد العزيز بن مروان، والياً على مصر لأخيه عبد الملك بن مروان، حيث لبث عبد العزيز في هذه الولاية عشرين عاماً، أم عاصم أمّه، غادرت المدينة المنوّرة, حيث كانت تقيم لاحقة بزوجها عبد العزيز, مصطحبة معها ولدها الحبيب عمر، انتقل سيدِّنا عمر من المدينة إلى مصر, حيث يقيم أبوه، أبوه اختار مدينة حلوان بمصر، يبدو أنَّ أباه اكتشف أن هذه المدينة ذات مناخ جميل، فجعلها مركزاً لإقامته.
وذات يوم دخل عمر حظيرة الخيل, فركله جواد, فشجه وأدماه، وحُمِل الطفل إلى داره، وما كادت أمه تراه, حتى أخذها الروع، وفجعها المشهد، واستُدعي الأب، ورأى الدم يغطّي وجه ابنه، وقبل أن يغشاه الأسى, طّوفت بخاطره ذكرى, ألقت على محياه بِشراً وابتساماً، لمَّا فرغ أبوه من تضميد جراحه, ربط على كتف زوجته, والبسمة تعلوه، وقال: أبشري يا أم عاصم، إن تكن يا عمر أشّجَّ بني أمية، إنك إذاً لسعيد.
هكذا قال له, ما قصة هذا الكلام؟ هذا الكلام له قصة.
وقبل أن نأتي على هذه القصة، لهذا الخليفة الخامس قصة أساسها: أنَّ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, خرج مرة وحده في الليل يتعسَّس, أي يتفقد رعيته, فلعلَّ هناك جائعاً, أو مريضاً, أو مقهوراً, أو ابن سبيل، لعلَّ هناك شأناً من شؤون الناس، وفيما هو يتعسَّس, وكان متكئاً، سمع حواراً داخل دار، كان الحوار يجري على الشكل التالي:
الأم تقول لابنتها:
يا بنيَّتي, امذقي اللبن في الماء -أي اخلطيه في الماء- البنت قالت : كيف أمذق، وقد نهى أمير المؤمنين عن المذق؟ تقول لها الأم: إنَّ الناس يمذقون فامذقي، فما يدري عمر بنا إن مذقنا أو لم نمذق؟ فقالت الفتاة: يا أمّاه, إن كان أمير المؤمنين لا يرانا, فرَبُّ أمير المؤمنين يرانا، ولكن أين الله؟ -هذا هو الدِّين كله- واغرورقت عينا عمر بالدموع، وسارع إلى المسجد، فصلَّى الفجر بأصحابه، وعاد إلى داره، ودعا ابنه عاصماً، وأمره أن يأتيه بحقيقة أهل هذا الدار، وعاد عاصم إلى أبيه بمعلومات وافية، فقال: يا بنيّ, اذهب فتزوجها, فما أراها إلاَّ مباركة، ولعلَّها تلد رجلاً يسود العرب.
فتزوّج عاصم هذه الفتاة الفقيرة الشريفة الورعة، وأنجبت له فتاة أسموها ليلى، وكنُّوها أم عاصم، أم عاصم كانت شابة تقية، نقية، ورعة، تزوجها عبد العزيز بن مروان، فولدت منه عمر بن عبد العزيز.
هذه قصة عمر.
لكن أين قصةُ: إن تكن أشجّ بني أمية, إنك إذاً لسعيد؟.
القصة: أنَّ سيدِّنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه, رأى رؤيا، ماذا رأى؟ رأى رؤيا، وقال بعد أن أفاق منها:
من هذا الأشجّ من بني أمية, ومن ولد عمر، يسمى عمر, ويسير بسيرة عمر، ويملأ الأرض عدلاً ، هذه يسمونها: الإرهاصات, يعني علائم مبكرة لعبقرية، وتفوق هذا الخليفة.
سيدِّنا عبد الله بن عمر, ولِد له ولد اسمه: بلال، تفاءل أهله أن يكون هذا أشجِّ بني أمية، ولكنه لم يكن، إنَّ أشجَّ بني أمية, هو عمر بن عبد العزيز.
هذا الشاب أو هذا الطفل, مرة قال: لقد رأيتني بالمدينة غلاماً مع الغلمان، ثمَّ تاقت نفسي للعلم، فأصبت منه حاجتي.
تاقت نفسي للعلم، هنيئاً لأخ كريم, طاقت نفسه للعلم، فحضر مجالس العلم، وإنَّ رتبة العلم أعلى الرتب، والعالِم يحبه الله ورسوله، والده حينما رأى منه هذا النبوغ, وهذا الإلحاح في الطلب، جعل له فقيهاً من كبار فقهاء المدينة معلِّماً له, هو: صالح بن كيسان، كان أستاذ عمر بن عبد العزيز.
ومرة سيدِّنا عمر بن عبد العزيز, وكان فتىً رجي، لأنه هو يقيم في مصر، وأبوه والي مصر، توجد بحبوحة وخير وعزّ وهو أمير، قال:
يا أبت، دعن أذهب إلى المدينة فأجلس إلى فقهائها، وأتأدَّب بآدابهم.
كانت هذه رغبته.
مرة فاجأته أمه، وهو يبكي، وكان طفلاً صغيراً، فألقت نفسها عليه تسأله:
ما الأمر؟ فقال: لا شيء يا أماه، إنَّما ذكرت الموت.
كان صغيراً، وكان أميراً، وكان أبوه والياً، وكان في بحبوحة، وكان وسيم المنظر، قال:
إنَّما أخاف الموت.
يقول مُعلِّمه صالح بن كيسان فقيه المدينة:
ما خبرت أحداً, الله أعظم في صدره, من هذا الغلام.
لذلك من علامات آخر الزمان: أنَّ الناس يهون الله عليهم، يعني يهون أمره، تهون عليهم معصيته، تهون عليهم مخالفته، يهون عليهم خرق حدوده، لا يعبؤون أكان دخلهم حراماً أو حلالاً؟ هان الله عليهم, فهانوا على الله.
كان سيَّدنا عمر يقول:
تعرفين يا أماه, لأكونن مثل خالي عبد الله بن عمر.
كان توَّاقًا أن يكون إنسانًا متفوقًا, كأصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم.
يقول سيدِّنا عمر عن نفسه:
والله ما كذبت مذ شددت عليَّ إزاري، وعلمت أن الكذب يضرَّ أهله.
أيام تلتقي بإنسان ما صدق في حياته مرة، هذه لقطة من لقطات السلف الصالح.
ذات مرّة تأخّر بعض الوقت عن صلاة إحدى الفرائض مع جماعة المصلين في مسجد رسول الله, سأله معلِّمه ومؤدِّبه صالح بن كيسان عن سبب تأخره، فأجاب الغلام:
كنت أرجِّل شعري -أمشِّط شعري- قال له أستاذه في عتاب: أوَ تقدِّم تصفيف شعرك على الصلاة؟ وكان عبد العزيز قد أوصى صالحًا, أن يكتب له دوماً بكل أخباره، كتب له: أن ابنك البارحة تأخر عن الصلاة، لأنه كان يرجّل شعره، فجاء أمر أبيه أن يحلق شعر رأسه كله، جاء أمر الأب من مصر إلى المدينة, أنْ يا عمَر احلق كل شعر رأسك، واستجاب الابن، وحلق كل شعر رأسه.
لأنه أخّر الصلاة، سبحان مبدّل الأحوال، إذا صلّى ابنك, تفرح به كثيراً، في أي وقت صلّى, بأي وقت, تأخر عن الصلاة قليلاً، استحقّ عقاباً، يأتي برسالة من بلد إلى بلد.
مرّة سيدنا عمر تكلم كلمة, لا تليق بحق بعض أصحاب رسول الله، فذات يومٍ ذهب لزيارة شيخه، أعرض عنه شيخه، ولم يغمره بما عوّده من ودّ، أدرك الغلام أنّ في نفس شيخه شيئاً، سأله، فقال له شيخه:
متى علمت أنّ الله سخط عن أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟ -مَن أنت حتى تنتقد أهل بدر؟ فليس من حق أي إنسان, أن يتكلم كلمة عن أحد أصحاب رسول الله، كائناً مَن كان، عندما ربنا عز وجل في القرآن قال:
هذه لقطات من طفولة هذا الخليفة العظيم، هذا الفصل متعلّق بطفولته، إن شاء الله في درسٍ قادم, ننتقل إلى فصلٍ آخر, حينما قال: تاقت نفسي للإمارة، فلمّا بلغتُها تاقت نفسي للخلافة، فلمّا بلغتُها تاقت نفسي إلى الجنّة.
و الحمد لله رب العالمين